عدد المشاهدات:
العذاب هو تجلي
العدالة الإلهية بعظمتها وسلطانها وقهرمانها يوم القيامة، على خلق الله الذين لم
تشملهم رحمة الله، ولم يدرهم عفو الله من الكافرين وعصاة المسلمين الذين لم يتوبو
من كبائرهم، والله سبحانه حكم عدل لا يظلم أحدًا مثقال
ذرة ولا أقل، ولأن الله ليس في حاجة لشيء حتى يظلم صاحبه ويأخذه منه، ولأن
الله لا تضره أوزار أحد من خلقه حتى ينتقم منه لنفسه.
والعذاب هو شدة
الآلام والمضار والأحزان المهلكة، إلا أن صاحبها لا يهلك فتنتهي حياته ولا يخفف
عنه هذا العذاب فيستريح، ولكنه أهوال متواصلة وفظائع متلاحقة قال الله تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا
يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾، [10-13، الأعلى]. والنار
الكبرى هي التي تعذب أعداء الله ظاهرًا وباطنًا وحسًا وجسمًا وروحًا ومعنى.
وإن عذابها هذا يستمر ولا يتوقف عند حد، أما
النار الصغرى وهي نار الدنيا فإنها لقضاء المآرب فقط في هذه الحياة الدنيا، وكذلك
فإن نار الدنيا بالنسبة لنار الآخرة لا تساوي شيئا لأن القوة الهائلة التي في نار
الآخرة جعلتها تفتت الأحجار والصخر وإن الله قد أوقدها بأعدائه وبالحجارة حيث قال
عزَّ من قائل: ﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، [24، البقرة].
وإن الذي يدقق النظر في
هذه الآية الشريفة يجد أن هذا الوقود وهو الناس والحجارة يصيران مادة ملتهبة
تُذَّكي هذه النار وتسعرها، وبذلك يصبحان هما النار بعينها، ومن عجب أن كل مادة
منهما لا تفقد خاصيتها بصيرورته إلى هذا المآل الفظيع، فيبقى الإنسان حيا بحسه
ومشاعره ومداركه وجسمانه ليذوق عذاب نفسه متقلبا بين هذه الأحجار والصخور
الجهنمية.
هذا وإن عذاب الآخرة أنواع كثيرة لا يحصيها
العد، ولا يحيط بها الوصف، وهذه الأنواع بقدر أحوال أهل النار وجناياتهم وبقدر
جحودهم وكفرهم، وبقدر عدائهم ومحاربتهم لرسل الله وأوليائه.
وإن الله عزَّ وجلَّ قد أقام العدالة الإلهية بين أهل النار جميعا فلا تظلم نفس شيئا:
﴿وَإِن كَانَ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾، [47، الأنبياء].
هذا وإن الكافر يرى يوم
القيامة أن النار أقل عقاب له على كفره وأن الله لم يظلمه شيئا. وأن الله قد فرض
علينا العدل، وجعله شريعة للناس في هذه الحياة، لينتظم شأنها، وليسعد أهلها حيث
قال جلَّ شأنه: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ
أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾، [58، النساء].
وفي آية أخرى يأمرنا
الله فيها بالعدل حتى مع أعدائنا فيقول عزَّ شأنه: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، [8، المائدة].
ولم يكن الله ليأمر
عباده بإقامة دعائم العدل وإرساء أسسه ويتركه جلَّ جلاله أو يحيد عنه حاش لله. فالله جلَّ شأنه هو الحق وهو العدل، وهو الذي لا تخفى عليه خافية وإن خفيت على أهل السموات
والأرض أو نسيها الخلق أجمعون، فإن الله لا ينسى ولا يغفل عن أي شيء كائن ما كان: ﴿اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾، [255، البقرة].
وقال جلَّ جلاله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن
مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ
وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، [61، يونس].
وإله هذا شأنه، قد اطمأن الناس جميعًا إلى
عدالته، وإلى قدرته على تحقيق هذه العدالة وإقامتها فيما بينهم وبين بعضهم وفيما
بينهم وبين الكائنات الأخرى من الجن والحيوانات والوحوش والملائكة، حتى إن الله
ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فسبحان من بيده الملك والملكوت، وسبحان
القائم على كل نفس بما كسبت، وسبحان من أحصى خلقه عددًا، وسبحان من أمد كل كائن
بما يحتاج إليه مددًا وهو القوي العزيز. قال الله تعالى:
﴿مَا
يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، [29، ق].
هذا وليس ذلك العذاب الذي أعده الله للكافرين
والمنافقين والفاسقين بواجب على الله عزَّ وجلَّ، ولا فرض عليه لأن أحدًا لا يستطيع أن يلزم الله بشيء، وإن الأمر كله مفوض
إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم، فليس لله شريك في ملكه، ولا وصي على
أمره، لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم في الأولى والآخرة،
وهو الحكيم الخبير. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صورة من عذاب الآخرة
قد ورد في حديث الإسراء والمعراج الذي رواه
ابن عباس رضي الله
عنهما، مُثلا من العذاب تشيب
لهولها الولدان، وذلك عندما كُشف الغطاء عن النار، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أعده الله فيها لأهل الكبائر، الذين
خرجوا من الدنيا ولم يتوبوا إلى الله من ذنوبهم، وماتوا وهم مصرون عليها، وبمشيئة
الله تعالى نذكر من هذه الصور ما يلى:
أولا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ورأيت رجالا ونساء
في النار ردت أقبالهم إلى أدبارهم وأدبارهم إلى أقبالهم والمقامع ترشقهم والملائكة
تسحبهم على وجوههم كلما ضربوا تلهب في أجسادهم النار فقلت من هؤلاء يا أخي يا
جبريل قال: هؤلاء الذين يستكبرون على الناس بغير حق}.[1]
ومعنى ارتداد أقبالهم إلى أدبارهم وارتداد أدبارهم إلى أقبالهم اختلاطها ببعضها،
وانعكاس خلقهم وتشويه منظرهم وبشاعة شكلهم حتى لا يميز من يراهم وجوههم من ظهورهم
ولا ظهورهم من وجوههم وذلك غاية في النكال والعذاب المهين، وهذا علاوة على الآلام
والمصائب التي وردت بشأنهم في هذا الحديث الشريف.
هذا والاستكبار على الناس بغير حق هو ازدراؤهم
واحتقارهم وعدم احترامهم، إما لفقرهم وإما لضعفهم وسقمهم وإما لصغر سنهم، وإما
لدمامة منظرهم وإما لخسة عملهم وحقارة مهنتهم وإما لهوان عشيرتهم ونسبهم وغير ذلك
من الأشياء التي يمهن بها المتكبر الناس.
والتكبر على الناس بأي سبب من هذه الأسباب
يَطْرُدُ الإنسان المتكبر من رحمة الله ورضوانه، ألم تر إلى إبليس لعنه الله لما
تكبر على آدم عليه السلام ولم يسجد له وقال:
﴿أَنَاْ
خَيْرٌ مِّنْهُ ﴾، [12، الأعراف].
مقته الله وطرده من
رحمته وإن الله قد أمرنا بالتواضع حيث قال عزَّ شأنه: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، [88، الحجر].
فإن الأمر وإن كان موجهًا لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه يشملنا لأنه أمر لنا في شخصه الكريم
عليه السلام.
وأدنى حالة من التكبر على الناس هي أن يقول
الإنسان لأخيه المسلم أنا خير منك، أو أعلم منك أو أنا أتقى منك، أو أنا أكثر منك
مالاً وولداً، أو أنا أكرم منك حسبًا ونسبًا، وما إلى ذلك مما يتكبر به الناس
الجهلاء على غيرهم، ولو تعلموا الدين الشريف لما وقعوا في هذه الأوزار الكبيرة.
وإن احترام الإنسان لأخيه الإنسان أمر يفرضه
الإسلام على كل مسلم حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليس منا من لم
يُوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه}.[2]
وقوله صلى الله عليه وسلم ما معناه:{المسلم
أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم}.[3]
ثانيا: قال صلى الله عليه وسلم: {ورأيت رجالاً
ونساءً سفافيد النار تدخل في أدبارهم وتخرج من أفواههم فقلت من هؤلاء يا أخي يا
جبريل؟. قال: هؤلاء الهمازون اللمازون الغمازون}.[4]
وسفافيد النار هي قطع النار الملتهبة
المستطيلة بعض الشيء ذات الأضلاع المسننة القوية، وهي تشبه إلى حد كبير السيخ الذي
يشوى عليه اللحم من ناحية الشكل والحجم، لكنها نار قاسية تدخل في أدبارهم كالسهم
المنطلق من القوس فيهري أمعاءهم وجهازهم الدوري والتَّنَفُسِي، ويخرج من أفواههم
ولا يفتر عنهم شيء من هذا العذاب الأليم.
إنها صورة مروعة حقًا تستدعي الوقوف طويلاً
عندها والاعتبار بها.
والغمازون هم المستهزئون بالناس الذين
يغمزونهم بأعينهم، أو يطعنون عليهم، واللمازون هم الذين يعيبون الناس ويسيئونهم
بالكلام البذئ والهمازون هم الذين يغتابون الناس، أو يبهتونهم أي يتهمونهم وينسبون
إليهم ما ليس فيهم، أما إذا تاب هؤلاء من شنائعهم وكبائرهم فإن الله يتوب عليهم
ويعف عنهم ويغفر لهم قال الله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾، [82، طه].
ثالثا:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ورأيت رجالا
ونساءً رؤوسهم مغمورة في نار جهنم ويصب عليهم الحميم والزمهرير يلفحهم فيهري
لحومهم فقلت: من هؤلاء يا أخي يا جبريل؟. فقال هؤلاء الذين يُلقُون العداوة بين
الناس}.[5]
منظر فظيع جدًا يهد الجبال الشامخات هدًا،
والحميم الذي يصب عليهم هو ماء عفن حار درجة غليانه فوق المائة بالدرجات المعروفة
علميًا إلى ما لا نهاية والزمهرير الذي يلفحهم فيهري لحومهم هو ريح نتن الرائحة
درجة برودته تحت الصفر بالدرجات المعروفة علميا إلى ما لا نهاية. ما أشد هذا
العذاب، وما أفظع هذه الأهوال، ما هي طاقة الإنسان الضعيف أمام هذه الصعائب
والشدائد. آه لو تصور من يلقي العداوة بين الناس هذا العذاب، واستحضره في خياله،
وظن أنه واقع فيه لسوء فعاله وقبيح خصاله لما تأخر لحظة في التوبة إلى الله
والرجوع إليه. كم من إنسان يتهاون بإلقاء العداوة بين الناس ويسعى في الإيقاع بهم،
وهو لا يدري عاقبة فعله ولا مغبة أمره، إن إلقاء الكراهية والعداوة والبغضاء بين
الناس فعل من أفعال إبليس اللعين، وعمل من أعمال الشيطان الرجيم، وعلى المسلم الذي
يرتكب هذا الإثم تحت أي شعار من الشعارات، ولو حتى باسم الدين أن يتصفح هذا الحديث
الشريف ويرى ما أعده الله لأمثاله من العذاب الأليم، فربما يقشعر جلده ويندم ويتوب
إلى الله عزًّ وجل، ويعتذر إليه ويستغفره مما جناه والله تواب
رحيم، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين إنه سبحانه
مجيب الدعاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
رابعًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ورأيت نساءً
معلقات بشعورهن في شجرة الزقوم والحميم يصب عليهن فيهري لحومهن، فقلت: من هؤلاء يا
أخي يا جبريل؟. قال: هؤلاء النساء اللاتي كن يشربن الأدوية حتى يقتلن أولادهن
خوفًا من مطعمهم ومشربهم وتربيتهم، ألم يعلمن أن الله يطعمهم ويسقيهم}.[6]
وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ
إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾، [6، هود].
وقد كان هذا الجزاء الفظيع لهؤلاء الناس لأنهن
قتلن أولادهن من غير ذنب ولا جريرة خوفًا من الفقر ومن المجهود في تربيتهم، والله عزَّ شأنه هو الذي يتولى تربيتهم كما رباهن من قبل
ويتولى رزقهم كما رزقهن من قبل. أما إذا عزل الرجال عن النساء، أو إذا استعمل
النساء وسلة لمنع استقرار النطفة في الرحم فذلك أمر جائز من أجل تنظيم مرات الحمل
على فترات من الزمن تستعيد فيها المرأة الصحة والعافية وتمنحها فرصة لتربية الطفل
السابق حتى إذا ما بلغ هذا الطفل سنتين كاملتين، واعتمد على نفسه بعض الشيء واشتد
عوده أخذت الأم في استقبال حمل جديد، قال صلى الله عليه وسلم:{لا تقتلوا أولادكم
سرًا}. وقتلهم سرًا إرضاعهم أثناء الحمل فإن اللبن فسد بالحمل، وإذا ما
تناوله الطفل أصيب بأمراض كثيرة قد تؤدي إلى موته وإن الطب أثبت ذلك وقرره هذا وإن
معظم حالات الاحتياج والفقر ناتجة من سوء التدبير في النفقات والمصاريف، وقد رأينا
كيف كان الآباء والأجداد يدبرون معايشهم، يلتزمون بالبساطة في كل شيء مما وفر
عليهم جهدهم ومالهم وعمروا الدنيا، وشيدوا صرح الحياة فيها على القناعة والرضى
وحسن التدبير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا عقل كالتدبير}.[7]
وقال أيضًا عليه السلام:{لا عال من اقتصد}.[8]
أي ما أصيب من يقتصد بفقر أبدًا، وقال الله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾، [19، لقمان].
أي اقتصد في كل أمورك
حتى في مشيك، فلا تكن متسرعًا فيه أكثر من طاقتك فيصيبك الإرهاق والتعب، ولا تكن
متباطئًا فيه فيسبقك الناس إلى الخير ولن تدرك غايتك. أما إذا استقرت النطفة في
الرحم فإنه لا يجوز التعرض لها بأي سوء لأنها زرع استقر في أرضه، ولا ينبغي التعرض
له بأي أذى إلا بمقدار الضرورة، والضرورة لها حكمها. قال الله تعالى:
﴿فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، [173، البقرة].
وإن النطفة إذا استقرت
في الرحم كانت من ضمن الدواب التي دبت إلى عالم الكون وصار الرحم أرضًا لها تدب
فيه، ويرزقها الله في الرحم كما يرزق باقي الدواب، وهي داخلة في قول الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ
إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾، [6، هود].
أسأل الله من فضله أن يحفظ المسلمين من الفتن
ما ظهر منها وما بطن، وأن يحرسهم من الشرور والأهوال وأن يفقهم في دينهم، وأن
يلهمهم الصواب والرشاد إنه مجيب الدعاء.
وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من عرض هذه المثلات
التي يعذب الله بها الظالمين في نار جهنم لتكون بيانًا وتذكرة لنفسي ولإخواني
المؤمنين نهتدي بها في لجج هذه الحياة المتلاطمة بالأمواج، والمفعمة بالمشاكل.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم