عدد المشاهدات:
الصدق في الإرادة
( 3 )
قوله رضي الله عنه:
(مع
اللذة بالآلام والطرب عند فوات ما يلائم تلك القوى مما حرصت على نيله )
والذي يلائم هذه القوى، وتلك الأخلاق الحيوانية
والإبليسية، من الحصول على الشهوات واللذات، والحظوظ والمتع الفانية، من المآكل
والمشارب، والملابس والرياش، والأثاث والزينة، واللذة الجنسية، وغيرها مما يلائم
ويوافق الطباع والغرائز البهيمية في الإنسان،وكذلك الشره والحرص، والطمع والأمل،
ومما تفرح بنواله النفس من غريزة حب التملك والتسلط، والسيطرة والرياسة، والتعالي في
الأرض على عباد الله، وكذلك ما يناسب ويوافق القوى الإبليسية في الإنسان، من
الأثرة والأنانية، وكراهية الخير للناس، والتكبر والتجبر، والخيلاء والرياء،
والنفاق والشرك الخفي والأخفى، وحب التغلب والخصام، والجدال والنزاع، والمراء
والغل، والكيد والحسد، والمداهنة والمكر وكل ما يلائم تلك القوى الشريرة، من حب
المال والغنى، والجاه والسلطان وزخرف الحياة الدنيا، فإن أهل الوصول إلى الله عزَّ وجلَّ، عشاق الفضيلة والكمال، المتشوقون
والمتلهفون على التخلق بأخلاق الله ورسوله، إن هؤلاء يتلذذون، ويفرحون ويسرون،
بفوات ما يلائم الطباع الحيوانية والقوى الإبليسية، التي يجاهدونها في أنفسهم،
ويحاربونها في هياكلهم انتصاراً لله ورسوله، متلذذين بما يصيبهم من الآلام الفادحة،
والمجاهدات الكادحة في سبيل قهر هذه القوى وإضعافها، والتغلب عليها، بل وتبديلها
وتغييرها بما هو أحسن وأكرم، وأجل وأعظم، من أخلاق الروحانيين، وآداب الواصلين،
وصفات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
مع العلم أن القوى الحيوانية والإبليسية، حريصة
كل الحرص، ومتنبهة كل التنبه على تحصيل ما تتلذذ به وتأنس به، من عاجل زهرة الحياة
الدنيا ومتعها الفانية، وشهواتها ولذاتها الزائلة، لأن ذلك يرضي عناصرها، ويوافق
غرائزها، ويحقق مطامعها وآمالها الفانية، ولو كان ذلك على حساب الآخرين، وفي ضرر
الغير، لأن تلك القوى كادحة في غيها، جاهدة في طيشها وغرورها، ولا بد من مجاهدتها،
مجاهدة فوق جهاد الأبطال، حتى ترعوي عن غيها وفسادها، وتستقيم على حفظ مكانتها
ومنزلتها، من القرب من الله تعالى، ومواجهته في دار كرامته وفي هذه الحياة الدنيا،
لأنها مؤهلة للترقي والكمال، والحظوة بنعيم القرب والوصال. قال الحكيم:
والنفس
كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن
تفطمه ينفطـم
فجاهد
هواها وحاذر أن توليــه إن الهوى ما
تولى يصم أو يصم
يصم أي يصمه عن الحق، بحيث يكون في أذنيه صمم
عن سماع الخير ومعنى يصم يشينه ويلحق به العار والهلاك.
قال
الإمام أبو العزايءم رضي الله عنه:
هي
نفس إن طهرت وتزكت تتهنى بحظوة بالـــولي
وهى
حيوان أو أضل سـبيلا إن تسلت عن حسنها
بالدني
وهى
إبليس إن أبت وتعالت وتعامت عن سرها
الآدمي
ولقد فطر الله الإنسان وابتلاه بهذه القوى، لأن
الإنسان هو المخلوق الوسط، الذي جمع الله فيه كل عناصر العوالم العالية، بما فيها
من الجمالات والروحانيات، والبهاء والنور والضياء، والكمال والرحمة، والصفاء
والوفاء، وكل العوالم السافلة بما فيها من العناصر المتضادة، والكثافة والظلام،
والغرائز والشهوات، فهو ملتقى جميع العوالم ومحور ارتكازها، وفلك مدارها، فهو
المخلوق العجيب، والصنع الغريب، الذي أسجد الله له عوالم عالين، وحير فيه عوالم
سافلين، قال الإمام على رضي الله عنه:
وتحسب
أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وقال الرجل الحكيم:
والذي
حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
ومن هنا كانت قضية تكريم هذا الإنسان وتبجيله
واحترامه، وحمله على رفارف العناية الإلهية في البر والبحر، والسهل والوعر، والرمل
والصخر والهواء والأرض.
قال الله
تعالى:﴿وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم
مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً﴾.[70،
الإسراء].
وهذه الآية الكريمة رفعت قدر الإنسان، وكرمته
على سائر مخلوقات الله، ولو لمن ينزل من السماء قرآناً على الإنسان غير هذه الآية،
لكان واجباً على الإنسان وجديراً به، أن يشكر الله عزَّ وجلَّ، ويثني عليه ويذكره ويسبحه ويعظمه،
ويمجده ويكبره، ويقدسه ويحمده آناء الليل وأطراف النهار، قياماً له سبحانه وتعالى ببعض ما يجب عليه لله عزَّ وجلَّ من فرائض الولاء والعبادة والشكر
والوفاء على تكريم الله له، وتشريفه إياه، ورفع مقداره بهذه الآية الشريفة، بل
يتحقق الإنسان بكمال عجزه عن القيام لله بما هو أهله، وبما يستحقه من الشكر
والعرفان على ما أولاه من الرفعة والسناء، بإنزال هذه الآية الشريفة، تبياناً لقدر
الإنسان، وإعلاء لذكره. وقد قال الإمام أبو العزائم:
خل
يا إنسان حظاً شهوة تشهد الوجه الجميل
ترى الدليل
وقال رضي الله عنه:
جاهد
نفوسا فيك بالشرع الأمـين واحذر قوى
الشيطان في القلب كمـين
غل
وكيد من حسود ماكــــر ظلم العباد بنية
في كل حيـــــن
هذا
اللعين به الهلاك فخلـــه أسرع إلى
القرآن في الركن المتيـــن
والنفس
شهوة مطعم أو مشـرب أو ملبس فاحذر بها
الداء الدفيـــن
إلا
الضرورة فالإباحة إن دعـت فيها الضرورة
فاطلبنها من معيـــن
جع
أضعفنها واحذرن من غيها غض الجفون
وحاذرن فتك الكمـين
والنفس
داعية الرياسة فاحذرن فرعونها تنجو من
الداء الدفيـــن
فالإنسان هو المراد لذات الله جل جلاله من بين هذه العوالم، والمطلوب
لحضرته من الوجود كله، ولذلك سخر الله له جميع العوالم وجعلها تسعى إليه بالتسخير
والقهر الإلهي.
والإنسان سيد مطاع، وملك لهذه المملكة، ولكن
جهل الإنسان هذه الحقائق، ونسي نفسه وغفل عن مركزه وشرفه ومكانته، فأدركه الله
بعنايته ورعايته، فأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وأقام له العلماء وورثة الرسل
حفظاً لرسالات الله في الأرض، ورحمة بهذا الإنسان، وهداه النجدين، فسعد بالتوفيق والهداية
من جاهد نفسه وخالف حظه وهواه، واتبع هدى الله، واقتدى برسل الله وورثتهم من بعدهم،
وشقي والله من عمى عن نور الله واتبع حظه وهواه.
قال الله
تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا
يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنسَى﴾.[123_126، طه].
قال الشيخ
أحمد بن شرقاوى رضي الله عنه:
يا هادى القلب الكئيب اللاجي
حقق بعذب وصلك ابتهاجي
والواصل إلى الله عزَّ وجلَّ،
والمجاهد لكل ما فيه من الغرائز والقوى والفطر والعادات والصفات البشرية،
والحيوانية والإبليسية، إنما يفرح فرحاً شديداً بل ويطرب ويتلذذ بما فاته من
الأمور التي تعين هذه القوى على تحصيل متعها وشهواتها، وما يناسبها ويلائمها من
زهرة هذه الحياة الدنيا وبهجتها، لأن الواصل في مقام يوجه فيه كل عزمه وهمه
وإرادته، وكل خواطره وملكاته وقواه جميعها في الوصول إلى مقصوده،والحصول على
مطلوبه، وهو تبديل أخلاقه وأحواله وأرضه وسمائه، بصفات الله ورسوله، وآداب الله
ورسوله، حتى يكون عبداً نورانياً قرآنياً، طاهراً زكياً، بل عبدًا ربانيًا يمنح
الخير، ويفيض البر والنفع على أهله ورفاقه، وعلى كل المسلمين، من غير أن يطلب منهم
أجراً ولا شكراً، سر قول الله تعالى: ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا
شُكُورًا﴾. [9، الإنسان].
وإنما يرجو بذلك رضاء الله ورسوله، والقيام بما
أوجبه الله عليه ووصاه به رسول الله، حبا لله ولرسوله، وإيثاراً لله ورسوله على كل
شيء، والله نسأل أن يكاشفنا بهذه الجمالات، ويمنحنا تلك الكمالات، إنه كريم مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.