عدد المشاهدات:
مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي
ما أكرم
العتاب إذا كان من الحبيب لحبيبه، ومن الله عزَّ وجلَّ لرسوله صلى الله
عليه وسلم، فإنه كما يقولون العتاب أدوم للوداد، وأعذب حديث بين
الأحباب، ولقد عاتب الله رسوله صلى الله علي وسلم، بقوله سبحانه
وتعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى﴾، [1-2، عبس]. ما أرق هذا العتاب وألطفه
حيث أن الله عزَّ وجلَّ لم يقل لحبيبه عبست وتوليت
أن جاءك الأعمى، وإنما خاطبه صلى الله عليه وسلم،بهذه العبارات الكريمة،
حتى كأن هذه الأعمال لم تصدر منه صلى الله عليه وسلم لأنه خطاب للغائب، وإخبار من الله عن فعل وقع من إنسان لم تعرف
هَوِيَّتُه بعد، حتى لا يذهب ذهن السامع ابتداءا أن هذا الفعل وقع من رسول الله
عليه الصلاة والسلام، وحتى يشعرنا الحق جلَّ وعلا أن هذا الذي وقع لم يكن من شأنه ولا من خلقه صلى الله
عليه وسلم وإنما حدث ذلك تحت ظروف
ملحة وملابسات قوية، وقد كان العتاب عليه من الله لحبيبه لعلو مقامه صلى الله
عليه وسلم، وجلالة قدره عن الله عزَّ
وجلَّ، ولأن رسول الله أكبر من أ، يشغله أمر الدعوة إلى الله عن حاجة هذا
السائل المسترشد، ولم يعرف أحد أن العتاب كان مع رسول الله إلا بعد أن وجه الله
إليه الخطاب مباشرة بقوله سبحانه: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى ﴾، [3، عبس]. فعلمنا جميعًا أن الأمر في هذه السورة الشريفة يتعلق برسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأنه هو الْمَعْنُّي بهذا العتاب الرقيق، ومعنى: ﴿عَبَسَ﴾، قّطَّبَ جبينه وتغير وجهه إلى صورة ظهر فيها الاستياء والامتعاض،
ومعنى: ﴿َتَوَلَّى﴾، تركه وأشاح عنه بوجهه،
وهذان الأمران لو وقعا من أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مثل هذا الظرف الذي كان فيه رسول الله آنذاك لم يتُمْهُ أحد ولم
يعتب عليه أحد، إذ أنه أمر فطري وبَدَهِي، لأن الإنسان العظيم إذا كان مشغولاً
بمهمة كبرى من مهامه ثم تعرض له أحد ليشغله عنها تجهم ونهره بشدة، وأعرض عنه
ماضيًا في تحقيق مهمته الكبرى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير جميع البشر فهو فوق العوارض البشرية والفطر النفسية والبديهات
الأولية فهو صلى الله عليه وسلم، أعلى من كل المستويات
والقيم. ومن هنا كان لا يليق بمن هذا شأنه من الرفعة والعلو أن يشغله أمر عن أمر
آخر لأن وستعته صلى الله عليه
وسلم، تستوعب جميع الشؤون والأمور، وتحتوي كل الناس والمستويات.
وإنني أرى
أن في هذه السورة الكريمة (سورة عبس)، إبراز لبعض كمالات المصطفى صلى الله عليه
وسلم، بما لا
تتسع له هذه الأوراق، ولا يفي المقام بذكره ولكنني سأشير إليها باختصار فهذه
السورة معجزة تؤيد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وتقول للناس جميعا لو كان هذا القرآن من عند محمد كما يدعي
المفترون لما تحدث عن نفسه بهذا الحديث الذي
يتخذ منه أعداؤه مادة للنيل منه، وخاصة أن صاحبه كان كفيفا لم ير شيئا مما أخبر به
القرآن من أمر العبوس والتولي، ولكن الله لم يرض أن تقع هفوة من حبيبه من غير أن
يلفت نظره إليها، حتى لا يَتَقَوَّل أحد بأن الله يجامل رسوله على حساب الناس،
وتلك هي غاية النزاهة الإلهية، وغاية الوداد من الله عزَّ
وجلَّ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كان الواجب على سيدنا عبد الله بن أم مكتوم أن ينتظر بعض
الوقت حتى ينتهي رسول الله من حديثه مع القوم، لأن ذلك من أدب الحديث، وخصوصا إذا
كان ذلك مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سيدنا عبد الله لم يفعل، وكذلك لم يوجه إليه القرآن أي مؤاخذة
وذلك لنعلم أن أمر المؤمن السائل المسترشد أعظم بكثير من دعوة الكافرين إلى الله
حيث أن المؤمن تتزكى نفسه ويتذكر قلبه بما يتلقاه من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، بخلاف الكفار الذين لم
تنشرح صدورهم للإسلام بعد، فإن الحديث معهم يؤجل إلى ما بعد إجابة السائل المؤمن
المسترشد، وإن هذا الموقف من القرآن أدهش أفكار أعداء الإسلام وحير ألبابهم وبهتوا
أمام نزاهته الرائعة، وفي هذه القصة الشريفة من العبر والآداب والحكم والأحكام ما
تقر به العينان، وما يربو عن الحصر والبيان، وإنني سأذكرها لك يا أخي المسلم لتزداد
بها علمًا، وتجني من ثمارها، وترتشف من معينها، وذلك أن رؤوس المشركين وكبراءهم
بمكة كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوما من الأيام، فأخذ الرسول يدعوهم إلى الله، ويعرض عليهم الإسلام
ويبين لهم محاسنه رجاء أن يسلموا فيدخل أتباعهم وعشائرهم في الإسلام، وقد اهتم
الرسول بهم أيما اهتمام لأنها فرصة سانحة، فقد اجتمعوا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم، لأمر ما وربما لا يجتمعون
عنده بهذه الصورة مرة أخرى، والرسول في غاية الحرص على تبليغ رسالة ربه خصوصًا في
مثل هذه الظروف المواتية وبينما هو مشغول بالقوم ومتوجه إليهم بكل عناية، إذ جاءه
سيدنا عبد الله بن أم مكتوم يطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يعلمه ما نزل من القرآن، وأن يعلمه مما علمه الله، وألح في طلبه
ولم ير القوم الذين شُغل بهم رسول الله عنه لكنه كان يسمع حديث رسول الله إليهم
وقد تغاضى عنه رسول الله ولم يحفل به لانشغاله بدعوة القوم للإسلام، ومع ذلك فقد
عاتبه الله في شأنه، كما ذكرنا.
وكان رسول
الله صلى الله
عليه وسلم كلما لقيه بعد ذلك يَهَشُ له ويَبَشُّ، ويقول له: {مرحبا بمن
عاتبني فيه ربي، هل لك من حاجة نقضا لك؟}. ولمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستخلفه على أهل المدينة أثناء خروجه إلى الغزو والجهاد،
وقد استخلفه عليهم رسول الله مرتين وكان هذا القول والترحيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكرر لسيدنا عبد الله كلما لقيه، ولو تعدد هذا اللقاء في اليوم
الواحد مرات كثيرة، وذلك لتذكير المسلمين بحق أصحاب هذه العاهة عليهم، فإن المسلم
إذا لقي إنسانًا فقد عينيه، وجب عليه أن يلزمه، وأن يكون في حاجته حتى يقضيها له،
فإن ذلك من آداب الإسلام وخلائقه.
هذا وإن (سورة
عبس)، من السور التي أنزلت بمكة المكرمة ثم أخذت السورة تقص بقية هذه الحادثة
فيقول الله تعالى: ﴿وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾، [3، عبس]. يعني وأي شيء يعلمك بحال بن أم مكتوم، وبشأنه الذي دفع به إليك في
هذه الساعة، وإن الذي حمله على ذلك هو رجاؤه في تزكية نفسه، وتطهيرها على يديك عند
سماعه لإرشادك وتوجيهاتك، وتلقيه لعلومك ومعارفك التي تصقل نفسه وترقيها: ﴿أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾، [4، عبس]. وكذلك فإن الذي حمل ابن أم مكتوم على ما فعله إنما هو رجاؤه وأمله في
تذكير قلبه، وارعواء نفسه، ورجوعها عن قصورها وتقصيرها، وتوبته إلى الله عزَّ
وجلَّ وانتفاعه بما تُذَكِّرُهُ به وتبينه له قال الله تعالى: ﴿وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾، [63، النساء]. أي قولاً يبلغ شغاف قلوبهم، ويؤثر في نفوسهم،
وقد كانت مواعظ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ككُلُّها كذلك، ومن هنا كان تهافت أصحابه رضي الله عنهم على السماع
منه صلى الله عليه وسلم، والتلقي عنه والاسترشاد
بتوجيهاته، فقد كان حديثه إليهم يفعل في نفوسهم ما لا تفعله المعجزات في نفوس من
كان قبلهم من أصحاب الرسل السابقين عليهم السلام.
وعليه فإنني أرى أن ابن أُمِ
مكتوم كان معذورا فيما أتاه وأرى كذلك أنه قد ألم به خطر كبير وأمر شديد ففزع إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجد عنده الأمان والسكينة
والخلاص والنجاة، ولأجل هذا فقد كان العتاب من الله عزَّ
وجلَّ لرسوله صلى الله عليه
وسلم، والعتاب لا يكون إلا بين الأحباب، لاستبقاء الحب وازدياده فيما
بينهم أما المحاسبة والمؤاخذة فإنما تكون بين صاحب العمل وبين العامل المكلف بأداء
هذا العمل عند قصوره أو تقصيره فيه، وكذلك إثابته عليه عند القيام به على الوجه
المطلوب. رزقنا الله فهم كتابه إنه مجيب الدعاء وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم.
للعارف بالله فضيلة الشيخ محمد على سلامة
مدير عام أوقاف بورسعيد