آخر الأخبار
موضوعات

الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

_ الحكمة السابعة والأربعون بعد المئة :ربّما أفادك في ليل القبض، ما لم تستفده في إشراق نهار البسط

عدد المشاهدات:
الحكمة السابعة والأربعون بعد المئة :
ربّما أفادك في ليل القبض، ما لم تستفده في إشراق نهار البسط ، {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفَعاً}

يقول الإمام القشيري في رسالته، في تعريفه لكل من القبض والبسط: ((هما حالتان تعرضان بعد ترقي العبد عن حالتي الخوف والرجاء))
ثم ذكر الفرق بين كل من القبض والخوف والبسط والرجاء، فقال: ((إن الخوف إنما يكون من شيء في المستقبل، وكذلك الرجاء إنما يكون بتأمّل بمحبوب في المستقبل، وأما القبض فإنما يكون لمعنى حاصل في الوقت وكذلك البسط، فصاحب القبض والبسط أخيذ وقته، بواردٍ غلب عليه في عاجله)).

أقول: وإن المسلم أياً كانت درجته في سلّم الالتزام، معرّض لكل من هاتين الحالتين اللتين اصطلح القوم بتسميتهما: القبض والبسط، حسب هذا التعريف الذي ذكره الإمام القشيري.

فقد تعتريك على غير توقع حالة من الضيق والانكماش، تغيب فيها مشاعر الأنس من نفسك، وتنتشر في مكانها مشاعر الوحشة من كل ما قد يحيط بك، دون أن يكون الدافع إلى ذلك خوفاً من مآل أو توقعاً لعقاب، وربما أثر ذلك على ما قد تتمتع به في العادة، من لذة الحضور في الصلاة ومجالس الذكر ونحوها.

وقد تعتريك على غير توقع أيضاً حالة من السرور والانشراح يستخفك فيها الأنس، فلا ترى في كل ما يحيط بك إلا ما يبعث في نفسك الرضا والابتهاج أياً كانت حقيقته ومظهره. دون أن يكون الباعث إلى ذلك بشرى تلقيتها في آية مثلاً من كتاب الله، أو في حديث مفرح من كلام رسول الله.

ولا نجد تحليلاً لهاتين الحالتين وسبباً لتعرض الإنسان لكل منهما، إلا ما يقوله أكثر علماء هذا الشأن، من أنه لا يعدو أن يكون أثراً لتجلّي الله على فؤاد العبد، قد يتجلى عليه تجلّي لطف وجمال، فيستخفه الطرب وتسري في دخائله النشوة، فلا يبصر بعينيه إلا ما يبعث في نفسه مزيداً من البهجة والحبور، ولا يسمع بأذنيه من كل ما يطرق سمعه إلا أناشيد الحب وأنغام الصفاء.. وقد يتجلى الله عليه تجلّي سطوة وجلال، فيستوحش من الدنيا بكل ما فيها، ولا يبصر في كل ما حوله منها إلا ما هو مبعث هم وغم، ومهما تألقت أمامه المبهجات والمفرحات على اختلافها، فإنها لا تخفف شيئاً من الوحشة التي تطوف بنفسه.

وأنت تعلم أن الحديث هنا خاص بالمسلم، بل بالمسلم الملتزم الذي سلك طريق الوصول إلى الله، فلا جرم أنا لسنا معنيين هنا بما قد يعرض للتائهين والضالين من الناس أيضاً، من حالات السرور والكرب. إنها حالات خاصة أخرى لها أسبابها الدنيوية التي تناسب أحوالهم وتقلباتهم.

الآن، وقد عرفنا خلاصة لمعنى هاتين الحالتين اللتين تسميان القبض والبسط في مصطلح علماء السلوك، ينبغي أن نتلمس إجابة صحيحة عن السؤال التالي:
ما الحكمة في أن يتعرض السالك لهاتين الحالتين، الواحدة بعد الأخرى وأيهما خير له؟ وإذا كانت إحداهما خيراً له من الثانية، فلماذا لا تكون هذه الحالة المفضلة هي الملازمة له دائماً؟
والجواب أن أياً من هاتين الحالتين لا يصح أن توصف بأنها هي الخير للسالك دائماً، كما لا يصح أن توصف الأخرى بأنها شرٌّ له دائماً.

فالبسط إذا سيطر على نفس السالك، ولازمه دائماً، فإنه يوشك أن يخرجه من ضوابط الأدب مع الشرع، وأن ينسيه حقائق عبوديته لله، فيقع في ألوان من الشطط والشطح.

والقبض إذا احتل جوانب النفس، وغدا هو الملازم للسالك، ناله من ذلك هم قد يتحول بسبب الاستمرار إلى كرب فقنوط ويأس..

ولكن كلاً من الحالتين يعدّ علاجاً إذا وافق وقت الحاجة إليه، وإذا تأملت، تبينت حكمة الله تعالى في تعرض السالك للقبض في حالات، وللبسط في حالات أخرى.

ولما كانت حالة البسط، هي الأكثر انسجاماً مع الرغبة، وهي الأكثر دلالة -في الظاهر- على رضا الله عن العبد، إذ تكون في الغالب هي مبعث الحضور والخشوع والتجليات، في العبادات والأذكار، وهي العامل على الأنس بها والتلذذ بأدائها، ركز ابن عطاء الله على حالة القبض، ونبه إلى ما لا يتوقعه السالك من الفوائد التربوية التي فيها. فقال: ((ربما أفادك في ليل القبض، ما لم تستفده في إشراق نهار البسط)).

فما هي الفوائد التي يمكن أن ينالها السالك من حالات القبض إذ تهيمن عليه وتأخذ بمجامع نفسه؟
هي فوائد متنوعة، أشير إلى أهمها:
منها أن من شأن السالك إذ تهيمن عليه هذه الحالة، أن يعود إلى نفسه فيتهمها بما قد سبب له هذا القبض، من معصية، بل معاص، اجترحها، أو من غفلات عن الله استسلم لها، أو من شهوات عنّت له، فلاحقت فكره وراح يحدث نفسه بها. ولا ريب أن أياً من هذه العوارض، من شأنه إذا ران على النفس أن يبعث فيها بعض الضيق والكرب، وأن يحرمه إلى حين من صفاء المراقبة ولذة العبادة والإقبال على الله.

غير أن السالك قد يتعرض لهذه العوارض دون أن يتنبه إليها، أو دون أن يتنبه إلى أثرها في نفسه، فلا يوقظه إليها إلا هذا القبض إذ يعتريه، ويتلبث لديه إلى حين، وعندئذ، وتحت تأثير هذه الحالة التي يضيق بها، يضطر إلى أن يعود إلى نفسه فيتفحص شأنه ويتأمل فيما قد بدر منه، بل فيما قد حدثته به نفسه أيضاً، فإن عثر على شيء كان قد تورط فيه مما قد ضربت أمثلة به، استغفر الله وتاب وأكثر من الدعاء والالتجاء إليه أن يصفح عنه ويتجاوز عن ذنبه وتقصيره، وإن هو لم يعثر على شيء ولم يتذكر أنه قد تورط في معصية ما، فالمفروض أن يكون في هذه الحالة أكثر ألماً وإشفاقاً على نفسه، إذ يقدّر أن القسوة القلبية التي يعاني منها قد بلغت به مبلغاً جعله لا يحسّ بوقع المعاصي التي يتورط فيها، من ثم فهو لا يشعر بأنه عصى الله في أمر أو خالفه في نهي.

وفي كلا الحالين، فإن مقتضى حالة القبض هذه، أن تقوده إلى أعتاب الله، وأن تدفعه إلى الالتجاء إليه وطلب المغفرة منه، وأن تريه ذاته ضئيلاً ذليلاً، قد تاه الناس عن سوء حاله بالستر الذي أسبغه الله عليه.. وإذا بحالة القبض هذه جاءته خير علاج لأدوائه.

ومنها أن حالة القبض كثيراً ما تكون أكثر انسجاماً مع ما ينبغي أن يتحقق به السالك من سيما العبودية لله. وأقصد بسيما العبودية هنا أن يتبرأ العبد من أوهام حوله وقوته، ويعلم مستيقناً أنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً ولا يستطيع أن يحقق لها نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.. إذ لو كان بوسعه أن يحقق لنفسه شيئاً من ذلك، لخلّص نفسه من هذا القبض الذي هيمن عليه وأخذ بمجامع نفسه، وهو له كاره.

لا جرم أن استقباله لهذه الحالة من حيث لا يريدها ولا يتوقعها، ولا يتبين مصدراص لها، من أبرز مظاهر عجزه ودلائل كونه لا يملك من أمر نفسه شيئاً.. ومن أوضح الدلائل على أن ناصيته بيد الله وعلى أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله، يقلبه كما يشاء، وإنما العبودية أن يستسلم العبد لهذه الحقيقة بعد أن يدركها ويتبينها ماثلة في كيانه، ثم أن يفرّ من حقيقة عجزه هذا إلى الله يدعوه، لائذاً به، مستجيراً من ضعف نفسه بقوته وسلطانه، مستجدياً رحمته به وتوفيقه له.

وإنما الذي ينبه السالك إلى هذا، ثم يقوده إلى التبتل في هذا المحراب، حالة القبض هذه، إن لم أقل: دائماً، ففي كثير من الأحيان.

في حين أن البسط عرضة لدفع صاحبه إلى الذهول عن سوء حاله وعن مظاهر تقصيره في جنب الله عز وجل، بما هو منشغل به من مشاعر النشوة والزهو بتجليات الألطاف الإلهية عليه.

ولئن كانت حالة البسط هذه، لا خوف منها، على الربانيين والعارفين من عباد الله، لذهولهم بالله عن أنفسهم وما يمكن أن تعتريها أو تطوف بها من المشاعر، فإنها مصدر خوف كبير على السالكين الذين لم تتحرر أنفسهم بعد عن الشوائب والآفات.

إذن، فلا يوحشنك ليل القبض وإن اشتد ظلامه، فكم من ظلام ليل أسدل على مبهجات وعلى أسباب أنس. من أهمها هذه المبهجات التي حدثتك عنها. ولا تفرحنك إشراقة نهار  البسط، وإن سطع أمامك ألقه، فكم من ضياء نهار جاء عنواناً على ما تتحاشاه النفس من أنواع الكرب والبلاء.

بل علق نفسك وآمالك في كل الأحوال بكرم الله وصفحه، موقناً بأنه لو أسلمك إلى نفسك لهلكت، متفائلاً بأنه لن يسلمك إليها، بل سيكلؤك في كل أحوالك وتقلباتك بعين عنايته، وسيكرمك بالتوفيق لما يحبه مما فيه خير دنياك وآخرتك.

وعندئذ، لا القبض يخيفك ولا البسط يفرحك، إذ تكون حينئذ قد سموت إلى حالة أعلى من كل منهما، ألا وهي حالة الكينونة مع الله، مع التجرد كلياً من النفس والذات، والاستسلام لحكم الله فيك وقضائه عليك، وإعلان افتقارك الكلي إليه.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير