عدد المشاهدات:
يقول الحق جلّ جلاله: {الرحمنُ علَّمَ القرآنَ} عدّد في هذه الصورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نِعمه الدينية والدنيوية، الأنفسية والآفاقية، وأنكر عليهم إثر كل منها إخلالهم بموجب شكرها، وبدأ بتعليم القرآن؛ لأنه أعظمها شأناً، وأرفعها مكاناً، كيف لا وهو مدار السعادة الدينية والدنيوية؟ وإسناد تعليم القرآن إلى اسم {الرحمن} للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها.
ثم ثنَّى بنعمة الإيمان، فقال: {خَلَقَ الإِنسانَ} أي: جنس الإنسان، أو آدم، أو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بخلقه: إنشاؤه على ما هو عليه من القُوى الظاهرة والباطنة. {علَّمه البيانَ} وهو المنطق الفصيح، المُعْرِب عما في الضمير، وليس المراد بتعليمه: تمكينه من بيان ما في نفسه، بل منه ومِن فهم بيان غيره، إذ هو الذي يدور عليه التعليم. وأَخَّر ذِكر خلق الإنسان عن تعليم القرآن؛ ليعلم إنما خلقه للدين، وليُحيط علماً بوحي الله وكُتبه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان، وهو البيان والإفصاح عما في الضمير. والجمل الثلاث أخبار مترادفة للرحمن، وإخلاء الأخيرتين عن العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلك، كثَّرك بعد قِلَّة، فعل بك ما لم يفعل أحدٌ بأحدٍ، فما تُنكر إحسانه؟.
ثم ذكر النِعَم الآفاقية، فقال: {الشمسُ والقمرُ بحُسْبَانٍ} أي: يجريان بحساب معلوم، وتقدير سويِّ، في بُروجهما ومنازلهما، بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، ويُعلم منها عدد السنين والحساب، ولو كان الدهر كله نهاراً أو ليلاً لبطلت هذه الحكمة، ولم يَدْر أحدٌ كيف يحسب شيئاً، ولاختلّ نظام العالم بالكلية، وقال مجاهد: {بحُسْبان} كحسبان الرحا، يدوران في مثل قطب الرحا، وهو مُؤيِّدٌ لأهل التنجيم. قال بعضهم: إنَّ الشمس قدر الدنيا مائة وعشرون مرة، لأجل ذلك أن الإنسان يجدها قبالته حيث صار. وقال في شرح الوغليسية: إنَّ الشمس قدر الدنيا بمائة ونيف وستين مرة، والقمر قدر الدنيا ثمان مرات، ويُحيط بهما بصر أقل من حبة السمسم، الله أكبر وأعز وأعلا. اهـ. ويقال: مكتوب في وجه الشمس: «لا إله إلا الله محمد رسول الله، خلق الشمس بقدرته، وأجراها بأمره» وفي وجه القمر مكتوب: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، خالق الخير والشر بقدرته، يبتلي بهما مَن يشاء مِن خلقه، فطُوبى لمَن أجرى اللّهُ الخير على يديه، والويل لمَن أجرى اللّهُ الشر على يديه».
{والنجمُ والشجرُ يسجدان} النجم: النبات الذي ينجم، أي: يطلع من الأرض ولا ساق له، كالبقول، والشجر: الذي له ساق. وقيل: {النجم}: نجوم السماء وسجودهما: انقيادهما لما يُراد منهما، شُبّها بالساجدين من المكلّفين في انقيادهما، واتصلت هاتان الجملتان بالرحمن بالوصل المعنويّ، لِما علم أنَّ الحُسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له، ولم يذكر العاطف في الجُمل الأُولِ وجِيء به بعدُ؛ لأنّ الأُولَ وردت على سبيل التعديد كما تقدّم، ثم ردَّ الكلام إلى منهاجه في وصل ما يجب وصله؛ للتناسب والتقارب بالعطف وبيان والتناسب: أنَّ الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فعطف أحد المتقابلين على الآخر، وأيضاً: حُسبان الشمس والقمر نوع من الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر.
ثم قال تعالى: {والسماءَ رفَعها} أي: خَلَقها مسموكةً مرفوعةً، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومسكن ملائكته الذي يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبّه بذلك على كبرياء شأنه، ومُلكه وسلطانه، {وَوَضَعَ الميزانَ} أي: كل ما يُوزن به الأشياء ويعرف مقاديرها، من ميزان، وقَرَسْطون، ومكيال، ومعيار، والقرسطون- بفتحتين: العدلة التي توزن بها الفضة، أي: خَلَقه موضعاً على الأرض من حيث علّق به أحكام العباد على التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. وقيل: معنى الميزان، العدل، أي: شرع العدل وأمر به حتى يوفّى كل ذي حق حقه، حتى انتظم أمر العالم واستقام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بالعدل قامت السماوات والأرض»، والعدل: ما حكمت به الشريعةُ المحمدية، من كتاب، وسُنة، وإجماع، وقياس. وأمر بذلك {ألاَّ تَطْغَوْا في الميزانِ} أي: لئلا تجوروا في الميزان بعد الإنصاف في حقوق العباد، ف أن ناصبة، أو مُفَسِّرة، أو ناهية، {وأَقيموا الوزنَ بالقِسْطِ} وأقيموا أوزانكم بالعدل {ولا تُخْسِرُوا الميزانَ} ولا تنقصوه بالتطفيف، نهى عن الطغيان، الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران، الذي هو تطفيف ونقصان، وكرّر لفظ {الميزان} تشديداً للوصية، وتقويةً للأمر باستعماله الحثّ عليه.
ولمّا ذكر نعمة الإمداد المعنوي، وهو مدد الأرواح، ذكر مددَ الأشباح، فقال: {والأرضَ وضعها} خفضها مدحوّة على الماء {للأنام} للخلق، وهو ما على وجه الأرض من دابة. وعن الحسن: الجن والإنس، فهي كالمهاد، يتصرفن فوقها. {فيها فاكهةٌ} ضروب مما يُتفكّه به، {والنخلُ ذاتُ الأكمام} وهي أوعية الثمر، واحدها: كِمٌّ، بكسر الكاف، أو: كلّ ما يَكُم، أي: يُغطّى، من ليفه وسعفه وكُفُرَّاه، والكُفرّ: وعاء الطَّلْعِ، وكله مُنتفع به، كما يُنتفع بالمكموم من ثمره وجُمّاره وجّذوعه.
{والحبُّ ذو العَصْفِ} هو ورق الزرع، أو التبن، {والريحانُ} أي: الرزق وهو اللبّ، أي: فيها ما يتلذذ به، والجامع بين التلذُّذ والتغذّي، وهو تمر النخل، وما يتغذّى به فقط، وهو الحب المشتمل على علق الدواب وزرق العباد. وقرأ الأخَوان: {والريحانِ} بالجر، عطفاً على {العصف} والباقون بالرفع عطفاً على {الحب} على حذف مضاف، أي: وذو الريحان، فحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: معناه: وفيه الريحان الذي يُشم.
وقرأ الشامي بنصب الجميع، أي: خلق الحب والريحان.
{فَبأيّ آلاءِ رِّبكما} أي: نِعَمَه التي عَدَّدها من أول السورة، {تُكَذِّبان} والخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى: {للأنام} وينطق به قوله: {أيه الثقلان} والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصّل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء، الموجبة للإيمان والشكر، والتعرُّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية، مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ. ومعنى تكذيبهم آلائه تعالى: كفرهم بها، وإمّا بإنكار كونه نعمة في نفسه، كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإمّا بإنكاره كونه من الله تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى، اشتراكاً أو استقلالاً، صريحاً أو دلالة، فإنَّ إشراكهم لآلهتهم معه تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى. انظر أبا السعود. أي: إذا كان الأمر كما فصّل فبأيّ فرد من أفارد نعمه تعالى تُكذِّبان، مع أنّ كُلاًّ منها ناطق بالحق، شاهد بالصدق؟ والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أنَّ {الرحمن} من الأسماء الخاصة بالذات العلية، لا يُوصف به غيره تعالى، لا حقيقة ولا مجازاً؛ لأنها مقتضية لنعمة الإيجاد، ولا يصح مِن غيره، بخلاف الرحيم فإنه مقتضٍ لنعمة الإمداد، وقد يصح من غيره تعالى مجازاً، فلذلك يجوز أن يُوصف العبد بالرحيم، ولا يوصف بالرحمن، ثم إنَّ الرحمة المشتمل عليها الرحمن على قسمين: رحمة ذاتية لا تُفارق الذات، ورحمة صفاتية يقع بها الإمداد للخلق، فيرحَم بها مَنْ يشاء من عباده، وتسمى الرحمة الذاتية رحمانية، ولمَّا كانت لا تُفارق الذات وقع التعبير بها في الاستواء، فقال تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5]، {ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن} [الفرقان: 59]، وإليه أشار في الحِكَم بقوله: يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته... إلخ.
وأما الرحمة الصفاتية، وهي التي يقع بها الإمداد، فتتنوع بتنوُّع الأسماء الحسنى، وهي تسعة وتسعون. أمّا الأسماء الجمالية فالرحمة فيها ظاهرة، وأمّا الأسماء الجلالية فالرحمة فيها: عدم انفكاك لطف الله عن قدره، والرحمة الذاتية هي المُوفية مائة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ تعالى خَلَقَ مائةَ رحمة، أَمسك عنده تسعةً وتسعين، وأنزل واحدةً إلى الدنيا، بها يتراحم الخلقُ» الحديث، أو كما قال عليه السلام. ولمَّا كان القرآن من أجلّ النِعَم عبّر عن تعليمه بالرحمانية، التي هي من الصفات الخاصة؛ لأنّ القرآن مُظهر لأوصاف الذات وأسرارها وأفعالها، وكاشف لحقائقها، عند مَن فُتحت بصيرته.
وقوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسانَ} أي: أظهره من سر اللطافة إلى مظهر الكثافة جاهلاً به من جهة الجسمانية، ثم {علَّمه البيان} أي: بيان السير إلى معرفته، بأن ركّب فيه العقل المميز، ونَصَبَ له مظاهر يتعرّف بها، وبعث له دالاًّ يدله، ويُعلمه أسرار الربوبية وآداب العبودية، فلا يزال يُحاذيه، ويسير به حتى يستنير قمر توحيده، وتُشرق شمس عرفانه، وإليه الإشارة بقوله: {الشمس والقمر بُحسبان} أي: يجريان بحسب معلوم، في زيادة نور التوحيد ونقصانه، على حسب استعداد العبد وتوجهه.
قال القشيري بعد كلام: وكذلك شموس المعارف، وأقمار العلوم- في طلوعها في أوْج القلوبِ والأسرار- في حكم الله تعالى وتقديره حسابٌ معلومٌ، يُجْريهما على ما سبق به الحُكْمُ. اهـ. والنجم والشجر يسجدان، أي: ونجم نور العقل الطبيعي، وشجر الفكر الاعتباري يخضعان ويضمحلان عند سطوع شمس نهار العرفان، وأمَا نور العقل الوهبي، والفكر الاستبصاري، فيطويان الكونَ طيّاً؛ لانَّ نورهما مستمد من العقل الأكبر، وهو أول الفيض الإلهي، المتدفق من بحر الجبروت، وسماء الأرواح، رَفَعَا عن لوث عالم الأشباح، وهو محل شهود أسرار الذات وأنوار الصفات، وتجليات الأنبياء والرسل، فمَن ترقّى إليه لا تغيب عنه أرواح الأنبياء وذواتهم، فالمتجلي واحد. ووضع الميزان على النفوس الظلمانية، ألاَّ تَطْغَوا في الميزان، بتعديّ حدود الرياضة والمجاهدة، وأقيموا عليها الوزن بالقسط، ولا تُخسروا الميزان بإهمالها في هواها وحظوظها. والأرض، أي: أرض البشرية وضعها لقيام وظائف العبودية، اليت رتّبها للأنام، فيها فاكهة العلوم الوهبية إن صفت، ونَخْل علوم الشريعة ذات الأكمام، وهي البراهين التي تستخرج بها مسائلها، فمَن وقف مع قشر الأكمام كان مقلِّداً. ومَن نفذ إلى لُبها كان مجتهداً منِ نِحريراً.
وقال القشيري: {والنخلُ ذات الأكمام} من فواكه الوحدانيات المستورة عن الأغيار، المستورة عن غير أهلها. ثم قال: {والحب ذو العصف} من حبة المحبة الذاتية، غير القابلة للتغيُّر والاستبدلال، المشتملة على الأرزاق المكتنفة بالمعارف والحاقئق والحِكِم. اهـ. والريحان هو قوت الأرواح من اليقين، أو نسيم الأذواق والوجدان، {فبأي آلاء ربكما تُكذّبان} أيها الثقلان، أو أيها النفس والروح؛ إذ كل منهما فاز بأمنيته، ووصل إلى نهاية ما اشتهاه، إذا عمل بما تقدّم، وأصغى بأُذن قلبه إلى ما عددناه. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: {خَلَقَ الإِنسانَ} آدم {من صلصالٍ} من طين يابس، له صلصلة، أي: صوت {كالفَخَّار} كالطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. ولا تخالف بين هذا وبين قوله: {مِّنْ حَمإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] و{مِّن طِينٍ لاَّزِب} [الصافات: 11] لاتفاقهما معنىً، لأنَّ المعنى: أنَّ أصل خلقه من تراب، ثم جعله طيناً، ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالاً. {وخَلَقَ الجانَّ} أي: الجن، او أبا الجن إبليس، {من مَارجٍ من نار} والمارج هو اللهب الصافي، الذي لا دخان فيه، وقيل: المختلط بسواد النار، من: مَرجَ الشي: إذا اضطرب أو اختلط، و{مِن}: بيانية، كأ، ه قيل: مِن صاف النار، أو مختلط من النار، أو أراد: من نار مخصوصة.
{فبأي آلاءِ ربكما تُكَذِّبان} مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم. قال القشيري: وكرّر سبحانه هذه الآية في غير موضع، على جهة التقرير بالنعمة على التفاصيل. نعمة بعد نعمة، ووجه النعمة في خلق آدم من طين: أنه رقّاه إلى رتبةٍ بعد أن خلقه من طين، وكذلك القول في {مارج من نار}. اهـ. يعني: أنَّ آدم رقّاه إلى رتبة الروحانية والخلافة، والجن إلى رتبة التصرُّف الباطني في الآدمي وغيره.
{ربُّ المشْرِقَين وربُّ المغربين} أي: مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، ومَغْربيها. قال ابن الحشا: المشرق الشتوي: هو النقطة التي تطلع فيها الشمس فيها في الأفق في نصف دجنبر، أقصر ما يكون النهار من أيام السنة، والمشرق الصيفي: هو النقطة التي تطلع فيها الشمس في نصف يونية، أطول ما يكون من أيام السنة. والمغربان: حيث تغرب في هذين اليومين، ومشارق الشمس ومغاربها في سائر أيام السنة ليس هذين المشرقين والمغربين. اهـ. وقوله: في نصف دجنبر ونصف يونية، هذا في زمانه، وأمّا اليوم فهي على ثمانية أيام ونحوها، لزيادة حركة الإقبال. قال ابن عطية: متى وقع ذكر المشرق والمغرب فهو إشارة إلى الناحيتين، أي: مشرق الصيف والشتاء ومغربهما. ومتى وقع ذكر الشارق والمغارب فيهو إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه، ومتى ذكر المشرقان فهو إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب؛ لأنّ ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. اهـ.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} قال القشيري: ووجه النعمة في مشرق الشمس ومغربها: جريانه على ترتيب بديع؛ ليكمل انتفاع الخلق بذلك. اهـ.
{مَرَجَ البحرين يلتقيان} أي: أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين بإسماك أحدهما عن الآخر في مرأى العين. قال في الحاشية: ويُقرب ما ذكره ما هو مشهود في الريف مع الماء، فاعتبر به، وبالأبيض من البيضة مع الأصفر منها، وقيل: أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط؛ لانهما خلجان يتشعبان منه، {بينهما برزخٌ} حاجز من قدرة ا لله تعالى، {لا يَبغِيان} لا يتجاوزان حدّيهما، ولا يبغي أحدُهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، أو: لا يتجاوزان حدّيهما بإغراق ما بينهما، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} وليس شيء منها يقبل التكذيب.
{يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرجانُ} اللؤلؤ: الدرّ، والمَرجان: الخرزُ الأحمر المشهور. قلت: هو شجر ينبت في الحجر في وسط البحر، وهو موجود في بحر المغرب، ما بين طنجة وسبتة. وقال الطرطوشي: هو عروق حُمر يطلع من البحر كأصابع الكف، وشاهدناه بأرض المغرب مراراً. اهـ. وقيل: اللؤلؤ: كِبار الدر، والمرجان: صِغاره. وإنما قال: {منهما} وهما إنما يخرجان من الملح؛ لأنهما لمّا التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يُقال: يخرجان منهما. ونقل الأخفش عن قوم: أنهما يخرجان من المالح والعذب، وليس لِمن ردّه حجة قاطعة، ومَن أثبت أَولى ممن نفى. اهـ. قال أبو حيان: والظاهر خروجهما منهما، وحكاه الأخفش عن قوم. اهـ. {فبأي آلاء ربكما تُكَذَّبان} مع ظهور هذه النعمة.
{وله الجوارِ} أي: السفن، جمع: جارية، {المُنشَئاتُ} المرفوعات الشُرَّع، وقرأ حمزة ويحيى بكسر الشين، أي: الرافعات الشُروع، أي القلاع، أو: اللاتي يُنشئن الأمواج بمَخْرهن {في البحر كالأعلام} كالجبال الشاهقة، جمع عَلَم، وهو الجبل الطويل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مِن خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها، وكيفية تركيبها، وإجرائها في البحر، بأسباب لا يَقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه.
{كُلُّ مَن عليها} على الأرض {فانِ ويبقى وجهُ ربك} أي: ذاته، قال القشيري: وفي بقائه سبحانه خَلَفُ من كلِّ تلفٍ، وتسليةٌ للمؤمنين عما يُصيبهم من المصائب، ويفوتهم من المواهب. اهـ. {ذو الجلال} ذو العظمة والسلطان، {والإِكرام} أي: الفضل التام بالتجاوز والإحسان. وهذه الصفة من عظم صفات الله تعالى، وفي الحديث: «ألظوا- أي: تعلقوا- بيا ذا الجلال والإكرام» يعني: نادوه به، يُقال: ألظ بالمكان: إذا أدام به، وألظ بالدعاء: إذا لزمه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يُصلِّي، ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: «قد استُجيب لك» {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ إفناءهم وإخراجهم من ضيق هذه الدار الدنية، وإحياءهم وإبقاءهم في الدار الباقية في النعيم السرمدي من عظائم النِعم.
الإشارة: اختص مظهَر الإنسان عن سائر المظاهر باعتدال خلقته، لطافةً وكثافةً، معنىً وحسّاً، روحانيّاً وبشريةٌ، فلذلك فاقت معرفته إذا عرف سائر المخلوقات، بخلاف الجن والملائكة، اللطافةُ غالبة عليهم، فمَن كان منهم عارفاً لا تجده إلا متحرفاً، غالباً عليه الهيمان والسُكْر، وأمّا الآدمي فمَن غلبت رَوحانيتُه على صلصاليته، ومعناه على حسه، كان كالملائكة أو أفضل، ومَن غلبت طينتُه على روحانيته، وحسُّه على معناه، كان كالبهائم أو أضل.
وقوله تعالى: {رَبُّ المشرقين وربُّ المغربين} أي: رب مشرق شمس العرفان وقمر الإيمان، ومغربهما عند غين الأنوار والأغيار.
وقال القشيري: يُشير مشرق الروح والقلب، ومغرب النفس والهوى. اهـ. فإذا أشرق نور الروح والقلب غابت ظلمة النفس والهوى، وإذا استولت ظلمة النفس والهوى على الروح والقلب غربت شمسهما، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع ما في ذلك في اللطائف الغامضة، والغوامض الخفية، من عدم سكون الروح والقلب إلى التجلِّي الجمالي، وعدم اضطراب النفس والهوى بالتجلِّي القهري الجلالي؛ لأنَّ الكامل من هذه الطائفة هو الذي يُشاهد الجمالَ في الجلال، والجلالَ في الجمال، فلا يسكن إلى شيء، ولا يقف مع شيء.
وقوله تعالى: {مَرَجَ البحرين يلتقيان} يُشير إلى بحر علم الشريعة، وبحر علم الحقيقة، يلتقيان في الإنسان الكامل، {بينهما برزخ} وهو العقل، فإنه يحجز الشريعةَ أن تعدو محلها، والحقيقة أن تُجاوز محلها، فالشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، والعقل برزخ بينهما، يقوم بحُكم كل واحدة منهما، فمَن خفَّ عقله غلبت إحداهما عليه، إمّا الشريعة، فيكون يابساً جامداً لا يخلو من فسوق، وإمّا الحقيقة، فيكون إما سكراناً أو زنديقاً. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} حيث هَدى العبدَ إلى القيام بحقهما، وإنزال كل واحدة في محلها، {يَخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} فيخرج من بحر الحقيقة جواهرَ الحِكم ويواقيت العلوم، ومن بحر الشريعة مَرجان تحرير النقول، وتحقيق مبانيها، والإتيان بها من معادنها، {فبأي آلاء ربكما تُكذَّبان} حيث وفَّق غوّاص بحر الحقيقة إلى استخراج أسرارها، وغوّاص بحر الشريعة إلى إظهار أنوارها. {وله الجوارِ}، أي: سفن استخراج أسرارها، وغوّاص بحر الشريعة إلى أظهار أنوارها. {المنشأت} في بحر الذات، مع رسوخ عقلها، كالجبل الراسي، فتعوم سفنُ أفكار العارفين في بحر الجبروت وأنوار الملكوت، ثم ترسي في مرساة العبودية، للقيام بآداب الربوبية، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع عظيم هذا اللطف الكبير، والمنَّة الكريمة، حيث يتلاطم عليهم أموَاجُ بحر الذات، فيكونوا من المغرقين في الزندقة، أو ذهاب العقل بالكلية، لكن مَنْ صَحبَ رئيسا عارفاً لا يخاف من الغرق إن شاء الله.
{كلُّ مَن عليها فانٍ} كل مَنْ على بساط المملكة فَانٍ متلاشٍ، {ويبقى وجه ربك} أي: ذاته المقدسة، فلا موجود معها على الحقيقة، كما قال الشاعر:
فَالْكُلُّ دُونَ اللَّه إِنْ حَقَّقْتَه *** عَدمٌ عَلَى التَّفْصِيل والإجمال
وهذا معلوم عند أرباب الأذواق، مُقرر عند أهل الفناء والبقاء، فلا يجحده إلاَّ جهول، كما قال تعالى: {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}؟.
يقول الحق جلّ جلاله: {يَسْألُه مَن في السماوات والأرض} مِن ملَكٍ وإنسٍ وجن وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كل منهم يسأل حاجته، إما بلسان مقاله، أو بلسان حاله، أهل السموات يسأله قوت أرواحهم، وأهل الأرض قوتَ أشباحهم وأرواحهم. وقال أبو السعود: فإنهم كافة، من حيث حقائقهم الممكِنة، بمعزلٍ من استحقاق الوجود، وما يتفرّع عليه من الكمالات بأسره، بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشمُّوا رائحة الوجود أصلاً، فهم في كل أمر مستمدون على الاستدعاء والسؤال. اهـ.
ويُوقف على قوله: {والأرض} ثم يبتدأ بقوله: {كُلَّ يومٍ} فهو ظرف لقوله: {هو في شأن} أي: هو كائن كل وقت وحين في شأنٍ من شؤون خلقه، التي من جملتها: إعطاؤهم ما سألوا، فإنه تعالى لا يزال يُنشئ أشخاصاً، ويُفني آخرين، ويأتي بأحوالٍ ويذهب بأحوالٍ، حسبما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة، وسمعتُ شيخنا الفقيه العلاّمة، سيدي التاودي بن سودة- رحمه الله- يقول في تفسيرها: إنَّ من شؤونه تعالى أنه كل يوم يُجهّز ثلاثة جيوش: جيشاً إلى الأرحام، وجيشاً إلى الدنيا، وجيشاً إلى المقابر. اهـ. وعن ابن عيينة: الدهر عند الله يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة الدنيا، فشأنه فيه: الأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه: الجزاء والحساب.
ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه تلاها، فقيل له: ما هذا الشأن؟ فقال: «من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين» وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً، فردّ الله عليهم؛ والمراد بهذه الشؤون: أمور يُبديها ولا يبتديها، فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى ما لا نهاية له. ومنه: ما جاء في القضاء على الولد في الرحم، بسعادةٍ أو غيرها، ليس ذلك القضاء إنشاء وابتداء، وإنما هو إبداء وإظهار للملائكة ما سبق به قضاؤه وقدره، وهو مسطور في اللوح، ولذلك جاء: «إنه يُقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب، فينطلق، فيجد قصة ذلك فيه...» الحديث. وقيل: شأنه تعالى: سَوْق المقادير إلى المواقيت.
قال النسفي: قيل: إنَّ عبد الله بن طاهر دعا الحسينَ بن الفضل، وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي، قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] وقد صحّ: أن الندم توبة، وقوله: {كل يوم هو في شأنٍ} وقد صحّ أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله: {وَأَن لَّيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألاَّ يكون الندم توبة في تلك الآية.
وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله وتكلفه مشقته، وقوله: {وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى} مخصوص بقوم إبراهيم وموسى- عليهما السلام-، وأمَّا قوله: {كل يوم هو في شأن} فإنها شؤون يُبديها لا يبتديها، فقال عبدُ الله فقبَّل رأسه ووسّع خراجه. اهـ.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع مشاهدتكم لما ذكر من شؤون إحسانه تعالى.
{سَنَفْرُغ لكم أيه الثقلانِ} سنتجرّد لحسابكم وجزائكم، مستعار من قول الرجل لمَن يتهدّده: سأفرغ لك، أي: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، ويجوز أن يُراد: ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها، وينتهي عند ذلك شؤون الخلق، التي أرادها بقوله: {كل يوم هو في شأن} فلا يبقى إلاَّ شأن واحد، وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل، و{الثقلان}: الجن والإنس، سُمّيا بذلك؛ لثقلهما على الأرض، أو: لرزانة آرائهما، أو: لأنهما مُثقلان بالتكليف، {فبأي آلاء ربكما} التي من جملتها: التنبيه على ما يلقونه يوم القيامة، للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب، {تُكذِّبان} بأقوالكما أو بأعمالكما.
{يا معشرَ الجنِّ والإِنس} هو كالترجمة لقوله: {أيه الثقلان} {إِن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرضِ} بأن تهربوا من قضائي، وتخرجوا من ملكوتي، ومن أقطار سماواتي وأرضي، {فانفذوا} وخلِّصوا أنفسكم من عقابي، {لا تنفُذون} لا تقدرون على النفوذ {إِلاَّ بسلطانٍ} إِلاّ بقوةٍ وقهرٍ، وأنتم من ذلك بمعزل بعيد. قيل: يُقال لهم هذا يوم القيامة، حين تُحدق بهم الملائكة، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا، فلا يأتون وجهاً إلاّ وجدوا الملائكة أحاطت به. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} التي من جملتها: التنبيه والتحذير؛ ليقع التأهُّب لتلك الأهوال.
{يُرْسَلُ عليكم شُواظ من نارٍ} أي: لهب خالص منها. وفيه لغتان: ضم الشين وكسرها، {ونُحاسٌ} أي: دخان، مَن رفعه عطفه على {شواظ} ومَن جرّه فعلى {نار}، والمعنى، إذا خرجتم من قبوركم يُرسل عليكم لهب خالص من النار، ودخان يسوقكم إلى المحشر، {فلا تنتصرانِ} فلا تمنعان منهما، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ بيان العواقب لُطفٌ ونعمةٌ لمَن ينتبه.
{فإِذا انشقت السماءُ} أي: انصدعت يوم القيامة {فكانت وَرْدَةً} فصارت كلون الورد الأحمر {كالدِّهان} كدهن الزيت، كما قال: {كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8] وهو دُردِيّ الزيت، وهو جمع دهن، وقيل: الدهان: الأديم الأحمر. وجواب إذا محذوف، أي: يكون من الأهوال والأحوال ما لا يحيط به دائرة المقال.
قلت: وهذا الانشقاق يحصل للسموات والناسُ في المحشر، ثم تدنو الشمس من الخلائق، فيعظم الخطب والهول، إلاّ ما استثني في حديث السبعة. وقيل: يحصل قبل البعث، كما في البدور السافرة. والله أعلم بحقيقة الأمر.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع عِظم شأنها، {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إِنس ولا جانٌّ} لأنهم يُعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويُحشرون إلى الموقف أفواجاً على اختلاف مراتبهم، وأمّا قوله تعالى: {فوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] ونحوه؛ ففي موقف المناقشة والحساب، فيوم القيامة يوم طويل، وفيه مواطن، يُسألون في موطن، ولا يُسألون في آخر. وقال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم. وقيل: لا يُسأل ليَعلم من جهته، ولكن يُسأل للتوبيخ. وضمير {ذنبه} للإنس لتقدُّمه رتبة، وإفراده لأنّ المراد فرد من الإنس، والمراد بالجان الجن، فوضع الجان- الذي هو أبو الجن موضع الجن، كأنه قيل: لا يُسأل عن ذنبه أنسي ولا جني، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع كثر منافعها؛ فإنَّ الإخبار بما ذكر يزجركم عن الشر المؤدي إليه.
الإشارة: يسأله مَن في سماوات الأرواح ما يليق بروحانيته، من كشف الأسرار، وتوالي الأنوار، فهو دائم سائل مفتقر، لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، وسؤاله إما بلسان حاله أو مقاله، ويسأله مَن في أرض البشرية ممن لم يترقّ إلى عالم الروحانية ما يليق بضعف بشريته، من القوت الحسي، وما يلائمه من ضرورية البشرية، أو يكون سبب نجاته ونعيمه يوم القيامة، من الاستقامة الظاهرة.
وأشار بقوله: {كل يوم هو في شأن} إلى اختلاف تجلياته في كل لحظة، فيتجلّى في ساعة واحدة بقبض قوم وبسط آخرين، ورفع قوم وذلّ آخرين، وإعطاء قوم ومنع آخرين، وترقية قوم وخفض آخرين، إلى ما لا نهاية له، ولذلك تختلف الواردات على قلوب العارفين، ينسخ بعضها بعضاً، ولذلك أيضاً تجد العارفين لا يسكنون إلى شيء، ولا يقفون مع شيء ولا يُعولون على شيء، بل ينظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيسيرون معه، إذا أصبحوا نظروا ما يفعل الله بهم، وإذا أمسوا كذلك، قد هدمت المعرفة أركانَ عزائمهم، وحلّت عقدهم، فهم في عموم أوقاتهم لا يُريدون ولا يختارون ولا يُدبّرون؛ لعِلمهم أن الأمر بيد غيرهم، ليس لهم من الأمر شيء.
وقوله تعالى: {سنفرغ لكم أيه الثقلان} فسّر القشيري الثقلين بالروح وصفاتها الحميدة، وبالنفس وصفاتها الذميمة، أي: سنفرغ لإكرامكم، ورفع أقداركم يا معشر الأرواح المطهرة، بأن أتجلّى لكم، فتُشاهدوني في كل وقت وحين، وسنفرغ لكم أيتها النفوس الظلمانية بأنواع الامتحان بصُنوف المحن، فلا تدخلوا جنتي حتى تتهذبوا وتصفوا من كدرات الأغيار، ولا أتجلّى لكم إلاّ في وقت الاحتياج والاضطرار. والحاصل: أنَّ المدار كله على هذه الدار، فمَن صفا هنا صُفي له ثَمّ، ومَن كدر هنا كدر عليه هناك. ويُقال لأهل النفوس الظلمانية: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض} بفكرة بصائركم فانفذوا، ولا قدرة لكم على ذلك؛ لسجن أرواحكم في هياكل ذواتكم، وإحاطة دائرة الكون بكم، لا تنفذون إلاّ بسلطانٍ: إلاّ بقوة سلطان أرواحكم على نفوسكم، فتجذبها إلى عالم الروحانية، بصحبة طبيب ماهر، فحيئذ تنفذ بصيرتكم عن دائرة الأكوان، وتُفضوا إلى فضاء العيان، وإذا كان يوم القيامة خرقت أرواحُهم بأشباحهم محيطاتِ الأكوان، وأَفضوا في الهوى إلى سعة الجنان، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِين} [الشعراء: 90]، وقد تقدّم معناه.
{يُرسل عليكم شُواظ من نار ونُحاس...} إلخ، قال القشيري: يُخاطب معشر جن النفس بإرسال لهب البُعد والقطيعة عليهم، بواسطة انغماسهم وانهماكهم في استيفاء اللذات الجسمانية، والشهوات الحيوانية، على الدوام والاستمرار، ويُخاطب معشر إنس الروح بصب الصُفر المذاب على رؤوسهم، بسبب انحطاطهم من المقام الروحي العلوي، إلى المقام النفس السفلي بالتراجع، ولا يقدر أحدهما على نصرة الآخر. {فبأي آلاء ربكما تُكذّبان} فإنَّ تعذيب مستحق العذاب، وتنعيم متسحق النعيم، والتمييز بين جن النفس العاصي، وبين إنس الروح، من الآلاء العظيمة. اهـ. فإذا انشقت السماء الحسية، أي: ذابت وتلاشت بذكر اسم الله عليها من العارف، فكانت وردةً يهب بنسيم المعاني من أكنافها، كالدهان: كالزيت المُذاب، حين تذوب بالفكرة الصافية، والحاصل: أنَّ سائر الكائنات، تذوب وتتلطّف حين تستولي عليها المعاني القائمة بها، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع ظهور هذه النعمة العظيمة، التي خَفِيَتْ عن جُلّ الناس، {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان} ممن بلغ منهم إلى هذه المرتبة العظيمة، فأهل العيان لم يبقَ في حقهم طاعة ولا عصيان، فلا يتوجه إليهم سؤال ولا عتاب، وفي مناجاة الحق لسيدنا موسى عليه السلام: لا يا موسى إنما يُطيعني ويعصيني أهل الحجاب، وأما مَن لا حجاب بيني وبينه فلا طاعة في حقه ولا معصية. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: يبلغ الوليّ مبلغاً يُقال له: افعل ما شئت، أصحبناك السلام، وأسقطنا عنك الملامة. اهـ. وهذا بعد محق أوصاف النفس، وبعد التحقق بالفناء والبقاء. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: {يُغْرَفُ المجرمون} أي: الكفرة {بسيماهم} بسواد وجوههم، وزُرقة عيونهم، أو: بما يعلوهم من الكآبة والحزن. قيل: هو تعليل لقوله: {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان} أي: لا يُسألون لأنهم معروفون، {فيُؤخذُ بالنواصي والأقدام} أي: يُجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم، وقيل: تسحبهم الملائكةُ، تارة يُأخذ بالنواصي، وتارة بالأقدام، فالجار نائب الفاعل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ التخويف من هذه الأهوال قبل وقوعها من أجلّ النعم؛ ليقع الزجر عما يُؤدي إليها.
{هذه جهنمُ التي يُكذِّب بها المجرمون} أي: يُقال لهم: هذه جهنم التي كذبتم بها، توبيخاً وعقاباً، {يطوف بينهما وبين حميمٍ آنٍ} أي: بالغ من الحرارة أقصاها، فالحميم: المار الحار، والآنِ: البالغ في الحرارة، فهم يُعذّبون بين الحرق بالنار وشرب الحميم الحار. قال كَعْب: إن وادياً من أودية جهنم، يجتمع فيه صديد أهل النار، ينغمسون بأغلالهم فيه، حتى يخلع أوصالهم، ثم يُخرجون منها، وقد أحدث اللّهخ لهم خلقاً جديداً، فيُلقون في النار، فذلك قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميمٍ آنٍ}، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}، وقد تقدّم تفسير كون هذا نِعماً مراراً.
الإشارة: فسَّر القشيري {المجرمون} هنا بطائفتين، الأولى: المتشدقون من علماء الكلام، الذي يتكلمون في ذاته وصفاته وأفعاله بما ليس لهم به علم، ويُجادلون أربابَ الكشف والشهود بسبب علومهم الجدلية، ويفوهون بقوة الجبهة وصلابة الناصية، فلا شك أنهم يُجرون على ناصيتهم في نار البُعد والطرد عن مراتب أهل العرفان. الطائقة الثانية: المتصوفة الجاهلة، المنقطعون عن الطريق المستقيم، والمنهج القويم، بسبب دخولهم في هذه الطريق بالتقليد، من غير إذن شيخ كامل، واصِلٍ مُوصِل، فلا شك أنهم يخرجون بأقدامهم المُعْوَجة عن سلوك طريق الحق إلى نار البُعد والقطيعة. اهـ. بالمعنى. والسيما التي يُعرفون بها، إما علو النفس، وغِلظة الطبع، وطلب الجاه، وإما قلقة اللسان، وإظهار العلوم، فالعارف الكامل بعكس هذا كله، متواضع، سهل، لَيِّن، الخفاء أحب إليه من الظهور، لسان حاله أفصح من مقاله. ثم قال تعالى: {هذه جهنم التي يُكذِّب بها المجرمون} المتقدمون، لأنهم ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا. وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً، {يطوفون بينها} أي: بين نار القطيعة وحميم التدبير والاختيار، مِن هَمّ الرز، وخوف الخلق، وغم الحجاب: نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولِمَنْ خافَ مقامَ ربه} أي: قيامه بين يديه للحساب {يوم يقوم الناس لرب العالمين} أو: قيامه تعالى على أحواله، من: قام عليه، إذا راقبه، كقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]. قال مجاهد: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله تعالى، فيدعها من خوفه. قال السدي: شيئا، مفقودان: الخوف المزعج، والشوق المقلق. اهـ. أي: للخائف {جنتانِ} أي: بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، مسيرة كل بستان: مائة سنة. وقال صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما هاتان الجنتان؟ هما بستانان في بستانين، قرارهما لابث، وفرعهما ثابت، وشجرهما نابت»، أَكْرَم بهما المؤمن ليتكامل سروره بالتنقُّل لمن جنة إلى جنة، وقيل: جنة لخوفه وجنة لتركه شهوته، أو: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو: جنة لفعل الطاعة وجنة لتركه المعصية، أو: جنة يُثاب بها وجنة يُتفضل عليه بها، أو: روحانية وجسمانية، أو: جنة للسابقين وجنة لأهل اليمين، أو: جنة للإنس وجنة للجن؛ لأنّ الخطاب للثقلين، كأنه قيل: لكل خائف منكما جنتان. والأول أرجح، وسيأتي في الإشارة بقيته، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله: {ذَوَاتا أفَنانٍ} أغصان، جمع فَنن، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تُورق، ومنها تُجنى الثمار، وتعقد الظلال، أو جمع فَنّ، بمعنى النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} وليس فيها شيء يقبل التكذيب.
{فيهما} أي: في الجنتين {عينانِ تجريان} حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: التسنيم، والأخرى: السلسبيل، وقيل: بالماء والخمر، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}، {فيهما من كل فاكهةٍ زوجان} صنفان، صنف معروف وصنف غريب، أو رطب ويابس. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{متكئينَ} نصب على المدح للخائفين، أو: حال منهم؛ لأنّ مَن خاف في معنى الجمع، {على فُرُش بطائنُها من إِستبرقٍ} من ديباج ثخين، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظاهرها؟ وقيل: ظاهرها سُندس، وقيل: من نور، وقيل: لا يعلمها إلاّ الله. والبطائن: جمع بطانة، وهو: ما يلي الأرض، والإستبرق معرَّب، {وجَنَى الجنتين دانٍ} أي: ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب، يناله القائم والقاعد والمضطجع. قال ابن عباس رضي الله عنه: تدنو الشجيرة حتى يجنيها وليُّ الله، إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
قال القشيري: وفي الخبر المسند: مَن قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، غرس له بها ألف شجرة في الجنة، أصلها الذهب، وفرعها الدر، وطلعها كثدي الأبكار، ألين من الزبد، وأحلى من العسل، كلما أُخذ منها شيء عاد كما كان، وذاك قوله تعالى: {وجَنَى الجنتين دانٍ} إذا أرادوه أتى إلى أفواههم، حتى يتناولون من غير مشقة، ويقال: ينالها القائم والقاعد والنائم. اهـ.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}، {فيهن} أي: الجنتين؛ لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس، أو: في هذه الآلاء المعدودة، من الجنتين والعينين والفاكهة والغرس والجَنْي، {قاصراتُ الطَّرْفِ} جَوار قَصَرْنَ أبصارَهنّ على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، {لم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ} أي: لم يمس الإنسيات أحدٌ من الإنس، لا الجنيات أحدٌ من الجن. والطمث: الجماع بالتدمية. وفي الآية دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس. {فبأي آلاء رَبكما تُكذِّبان كأنهنَّ} أي: تلك الجوار {الياقوتُ} صفاءً {والمَرْجانُ} بياضاً، على أنَّ المرجان صغار الدر، أو: في الصفاء وحُمرة الوجه. قيل: إنَّ الجواري تلبس سبعين حلة، فيُرى مُخ ساقها من ورائها، كام يرى الشراب الأحمر في الزجاجة. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{هل جزاءُ الإِحسان إِلاَّ الإِحسانُ} هو استئناف مقرر لما فصّل قبله، أي: ما جزاء الإحسانِ في العمل إلاّ الإحسانُ في الثواب، قال أنس: قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال: هل جزاءُ مَن أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة» وفي لفظ آخر: «هل جزاء مَن أنعمت عليه بتوحيدي ومعرفتي إلاّ أن أُسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي» أو: هل جزاء مَن قال «لا إله إلا الله» إلاَّ الجنة. قال السدي: هل جزاء الذين أطاعوا في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة. وقال جعفر الصادق: هل جزاء مَن أحسنتُ إليه في الأزل إلاَّ حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الحسن: هي مسجلة- أي مطلقة- للبر والفاجر، للفاجر في دنياه، وللبَر في عُقباه. اهـ. {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}.
الإشارة: {ولمن خاف مَقام ربه} فرَاقَبه، ثم شاهَده، {جنتان} جنة المعارف مُعجّلة، وجنة الزخارف معها مُؤجلة، أو: جنة المعارف لأرواحهم، وجنة الزخارف لأشباحهم. قال القشيري: جنتان: جنة مُعَجَّلة من حلاوة الطاعة ورَوْح القرب، ومؤجَّلة في الآخرة، وهي جنة الثواب، وهم مختلفون في جنان الدنيا على قدر تفاوت مقادير أحوالهم، كما يختلفون في الآخرة في درجاتهم. اهـ. فجنة حلاوة الطاعة لأهل اليمين، وجنة روح القرب للمقربين. قال الورتجبي: جنتان: جنة المشاهدة وجنة المكالمة، جنة المحبة وجنة المكاشفة، جنة المعرفة وجنة التوحيد، جنة المقامات وجنة الحالات، جنة القلب وجنة الروح، جنة الكرامات وجنة المداناة. اهـ. أو: جنة الوصال وجنة الكمال، أو: جنة الكمال وجنة التكميل، أو جنة الفناء وجنة البقاء، أو جنة البقاء وجنة الترقِّي إلى غير انتهاء.
وقوله تعالى: {ذواتا أفنان} يُشير إلى ما في هاتين الجنتين من فنون العلوم والأذواق، والأسرار والأنوار، وتفنُّن الأفكار في بحار الأسرار، فيهما لكل واحدٍ عينان تجريان، إحداهما بعلوم الشريعة والمعاملة وآداب العبودية، وأخرى بعلوم الحقيقة والطريقة والتوحيد الخاص، فيهما من كل فاكهةٍ من فواكه الأذواق صنفان: صنف حاصل، وصنف يتجدّد بتجدُّد الأنفاس، أو: صنف لعالم الحكمة، وصنف لعالم القدرة، أو: صنف للذات وصنف للصفات، أو: صنف لحلاوة المشاهدة وصنف لآداب المعاملة.
متكئين على فُرش الأُنس، بطائنها من استبرق الروح والفَرح ودوام البِسط، وجنا الجنتين دانٍ لمَن تمكّن من الشهود؛ لأنّ ثمار المعارف من حلاوة الشهود والأُنس صارت طوع يده، فشُهوده دائم، وقُربه للحبيب لازم، فمهما أجال فكرته غاصت في بحار الأحدية، واستخرجت من يواقيت الحِكَم، وجواهر العلوم، ما لا يُحيط به المفهوم، بخلاف غير المتمكن، تعب الفكرة ينقص له من لذة الشهود. قال القشيري: إذ لا لذة في أوائل المشاهدة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزقني لذةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرة...» الحديث. اهـ. فِيهن قاصرات الطرف، أي: أبكار الحقائق خاصة بهم لا تنكشف لغيرهم. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يمس تلك الحقائق غيرهم، لأنها خاصة بأهل الأذواق، وكل واحد يمس من الحقائق ما لا يمس غيره، وينكشف له ما لا ينكشف لغيره، لأنها على حسب الاستعداد. كأنهن- أي: تلك الحقائق- الياقوتُ في صفاء معناها، والمرجان في حسن مبناها، هذا جزاء أهل مقام الإحسان.
{هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان} أي: هل جزاء أهل مقام الإحسان إلاَّ الإحسان والتقريب والتخصيص بهذه العلوم والحقائق، أو: هل جزاء الإحسان معنا إلا الإحسان بكشف ذاتنا، أو: هل جزاء الإحسان إلى عبادي إلاّ الإحسانُ بقربي وولايتي. قال ابن جزي: ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل عليه السلام «أن تعبد الله كأنك تراه» فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين، ويُقوي ذلك: انه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العَلي؛ وجعل جنتين وجعل جنتين دونهما لمَن كان دون ذلك، فالجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والمذكورتان بعد ذلك لأصحاب اليمين، حسبما ورد في الواقعة. انظر تمامه.
يقول الحق جلّ جلاله: {ومِن دونهما جنتانِ} أي: ومن دون تَيْنِك الجنتين الموعودتين للمقربين {جنتان} أخريان لِمن دونهم من أصحاب اليمين، ويؤيده حديث أبي موسى، قال في هذه الآية. {ولمن خاف مقام ربه} قال: «جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين» ورَفَعه، ولا شك أنَّ الذهب أرفع من الوَرِق، فلا يلتفت إلى الفضة مَن له الذهب، خلافاً لمن قال: يلزم حرمان أهل الطبقة الأولى- وهم السابقون- ما ذكر في الحديث من الفضة، واختار في نوادر الأصول أنَّ قوله: {ومن دونهما} أي: في القُرب إلى العرش، وأنَّ هذه أعلى وَصْفاً مما ذكر قبلُ، إلى العرش، وبَسَطَ القول في ذلك، ومثله ذكره ابن عطية عن ابن عباس، واحتج لذلك، ولكن الأكثرعلى خلاف ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
{فبأي آلاء ربكما تُكّذِبان مُدْهامَّتان} خضراوان تميلان إلى السواد، من شدة الخضرة، وفيه إشعار بأنَّ الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأُوليين الأشجار والفواكه، ومَن اشتهى فيها شيئاً يُعطاه، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} كرر التوبيخ مع ذكر الموصوف ومع صفته تنبيهاً على أنّ تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار، {فيهما عينان نَضَّاختان} فوّارتان بالماء، والنضخ أكثر من النضح- بالمهملة- وهو الرش، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}.
{فيهما فاكهةُ ونخلٌ ورمانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة عطف خاص على عام؛ لفضلهما، فإنَّ ثمر النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء. قال أبو حنيفة: مَن حَلَفَ لا يأكل فاكهة فأكل رُماناً أو رطباً لم يحنث، وقوفاً مع ظاهر العطف، وعندنا الأَيمان مبنية على الأعراف، وهي تختلف باختلاف الأقطار. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ولا شيء منها يقبل الإنكار.
{فيهنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ} أي: في الجنتين المشتملتين على قصور ومساكن نساء {خيرات} أي: فاضلات الخُلُق، حِسان الخَلْق، وهو مخفف من خير بالتشديد، وقرئ {خيِّرات} على الأصل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}. {حُورٌ} بدل من {خيرات} {مَقصوراتٌ في الخيام} قُصِرن في خدورهن. يقال: امرأة قصيرة وقَصُورة، ومقصورة، أي مخدّرة، أو: مقصورات الطرف على أزواجهن ساكنة في الخيام. قال القشيري: قصرن أنفسَهن وقلوبَهن وأبصارَهن على أزواجهن. اهـ. يقلن: نحن الناعماتُ فلا نبأس، الخالداتُ فلا نَبيدُ، الراضيات فلا نَسْخَط. وفي خبر: أن عائشة قالت: إنَّ المؤمنات أجَبْنَهُنَّ، نحن المُصلِّياتُ وما صلَّيْتُنَّ، نحن الصائمات وما صُمتُنَّ، نحن المتصدِّقاتُ وما تصدَّقْتنَّ، قالت عائشة: فغلبنهن. والخيام من الدر المجوف، {فبأي آلاء ربكنما تُكَذِّبان}. {لم يَطْمِثْهُن إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{متكئين} نصب على الاختصاص، {على رَفْرَفٍ} هو كل ثوب عريض، وقيل: هو الوسائد، والأظهر من الحديث أنه سرير مفروش بثياب خُضر، يركب فيه أهل الجنة، ويسير بهم حيث شاؤوا، وقوله: {خُضْرٍ}، وصف لرفرف؛ لأنه مُحلّى بثيابٍ خُضر، والرفرف: إما اسم جنس، أو اسم جمع، واحده: رفرفة.
{وعبقريٍّ حِسَانٍ} أي: طنافس، وهي جياد البُسط، كالزرابي وشبهها. والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن، يسبون إليه كل شيء عجيب. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يُعمل فيها الوَشي، فينسب إليها كل مبالغ في الوصف، وقال الخليل: كل جليل فاضل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبْقري، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمر: «فلم أرَ عَبْقريّاً من الناس يَفْرِي فَرْيَه» والمراد به الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} قال النسفي: وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: ومن دونهما لأنَّ {مدهامتان} دون {ذواتا أفنان}، و{نضّاختان} دون {تجريان}، و{فاكهة} دون {من كل فاكهة زوجان}، وكذلك صفة الحور والمتّكأ. اهـ.
{تبارك اسمُ ربك} أي: تنزّه وتقدّس، أو تكاثر خيره. وفيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام، {ذي الجلال} ذي العظمة. وقرأ الشامي بالرفع، صفة لاسم، {والإكرام} لأوليائه بالإنعام.
قيل: لمَّ ختم تعالى نِعم الدنيا بقوله: {ويبقى وجهُ ربك ذي الجلال والإِكرام} ختم نِعم الآخرة بقوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وناسب هذا ذكر البقاء والديمومية له تعالى، إذ ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر ما امتنّ به من البركة، وهي الخير والزيادة، إذ جاء ذلك عقب ما امتنّ به على المؤمنين، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته.
روَى جابر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن، فقال: «ما لي أراكم سكوتاً، لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم ردّاً، ما أتيتُ على قول الله: {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} إلاَّ قالوا: ولا شيء من نعمك ربنا نكذِّب، فلك الحمد ولك الشكر».
وكررت هذه الآية في هذه السورة إحد وثلاثين مرة، ذُكرت ثمانية منها عقب آيات فيها عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبوب جهنم، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها، على عدد أبوب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمَن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فُتحت له أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم. قاله النسفي.
الإشارة: ومن دون جنتي أهل المقربين جنتا أهل اليمين، وهما جنة حلاوة الطاعة وكمال الاستقامة، أو حلاوة المعاملات وظهور الكرامات، أو حلاوة المناجاة وحصول المداناة، أو: جنة مُعجَّلة في البرزخ لأرواحهم، وأخرى بعد البعث لأشباحهم، وهذا يجري أيضاً في حق المقربين.
وقوله: {مُدْهامتان} شديدة خضرتها؛ لانَّ النظر إلى الخضرة أمْيَلُ، وكذلك أهل العبادة الظاهرية حين يجدون حلاوتها، ويقفون معها، ترمُقهم أبصار العامة بالتعظيم والتكريم، فربما يجنون بعض جزاء أعمالهم، بخلاف أهل الباطن، أهل الفناء والبقاء، لا ترى منهم إلاّ النيران؛ لفرارهم من الخلق، ولخفاء عبادتهم بين فكرة ونظرة، فيهما عينان نضاختان فوارتان بالعلوم الظاهرة التي أثمرتها التقوى، لقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، وكثرة العلوم كمال عند أهل الظاهر، ولا يعتبره أهل الباطن؛ إذ المدار عندهم على الأذواق والوجدان، وتحقيق عين العيان. وفي كتاب شيخ شيوخنا، سيدي عليّ العمراني رضي الله عنه قال: علم الحرب وما جرى بينهم إنما يوجد عند المستشرف على المعركة، وأمّا المباشِر للحرب فهو في شغل شاغل عنه.
فيها فاكهة، أي: تفنُّن في تحقيق المسائل، ونخل؛ تضلُّع من علم الحديث، ورُمان؛ تغلغل في التفسير، أو: فيهما فاكهة تحقيق علم المعاملة، ونخل تحقيق علم الاعتقادات المجازية، ورمان تمسك بعلم التصوُّف، الذي هو دواء القلوب، فيهن خيرات حسان في تلك الجنان أخلاق حسان، وهي ثمرة العلم النافع، حور مقصورات في الخيام، أي: تلك الأخلاق الطيبة مقصورة على قلوب أهل الصفا، لا تظهر إلا لهم، أو: في تلك الجنان الذي هي القلوب، علوم غريبة، لم تكشف لغيرهم، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يفك انغلاقها أحد قبلهم. وفي التسهيل: وإذا كانت العلوم مِنحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لكثير من المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. اهـ. متكئين على رَفرفٍ، أي: بساط فكرة الاعتبار، يستخرج بها جواهر العلوم، ووصفه بالخضرة لظهور أثر فكرهة الاعتبار بما تجليه من العلوم، وفي الحديث: «ساعة من العالِم يتفكر في علمه خير من عبادة الجاهل ألف سنة» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك وصفه بالعبقرية والجَودة؛ لكماله في محله. {تبارك اسم ربك} أي: تعاظم قدره {ذي الجلال والإكرام} حيث مَنَّ بهذه النعم الجِسام على الفريقين، وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وصلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.
ثم ثنَّى بنعمة الإيمان، فقال: {خَلَقَ الإِنسانَ} أي: جنس الإنسان، أو آدم، أو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بخلقه: إنشاؤه على ما هو عليه من القُوى الظاهرة والباطنة. {علَّمه البيانَ} وهو المنطق الفصيح، المُعْرِب عما في الضمير، وليس المراد بتعليمه: تمكينه من بيان ما في نفسه، بل منه ومِن فهم بيان غيره، إذ هو الذي يدور عليه التعليم. وأَخَّر ذِكر خلق الإنسان عن تعليم القرآن؛ ليعلم إنما خلقه للدين، وليُحيط علماً بوحي الله وكُتبه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان، وهو البيان والإفصاح عما في الضمير. والجمل الثلاث أخبار مترادفة للرحمن، وإخلاء الأخيرتين عن العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلك، كثَّرك بعد قِلَّة، فعل بك ما لم يفعل أحدٌ بأحدٍ، فما تُنكر إحسانه؟.
ثم ذكر النِعَم الآفاقية، فقال: {الشمسُ والقمرُ بحُسْبَانٍ} أي: يجريان بحساب معلوم، وتقدير سويِّ، في بُروجهما ومنازلهما، بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، ويُعلم منها عدد السنين والحساب، ولو كان الدهر كله نهاراً أو ليلاً لبطلت هذه الحكمة، ولم يَدْر أحدٌ كيف يحسب شيئاً، ولاختلّ نظام العالم بالكلية، وقال مجاهد: {بحُسْبان} كحسبان الرحا، يدوران في مثل قطب الرحا، وهو مُؤيِّدٌ لأهل التنجيم. قال بعضهم: إنَّ الشمس قدر الدنيا مائة وعشرون مرة، لأجل ذلك أن الإنسان يجدها قبالته حيث صار. وقال في شرح الوغليسية: إنَّ الشمس قدر الدنيا بمائة ونيف وستين مرة، والقمر قدر الدنيا ثمان مرات، ويُحيط بهما بصر أقل من حبة السمسم، الله أكبر وأعز وأعلا. اهـ. ويقال: مكتوب في وجه الشمس: «لا إله إلا الله محمد رسول الله، خلق الشمس بقدرته، وأجراها بأمره» وفي وجه القمر مكتوب: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، خالق الخير والشر بقدرته، يبتلي بهما مَن يشاء مِن خلقه، فطُوبى لمَن أجرى اللّهُ الخير على يديه، والويل لمَن أجرى اللّهُ الشر على يديه».
{والنجمُ والشجرُ يسجدان} النجم: النبات الذي ينجم، أي: يطلع من الأرض ولا ساق له، كالبقول، والشجر: الذي له ساق. وقيل: {النجم}: نجوم السماء وسجودهما: انقيادهما لما يُراد منهما، شُبّها بالساجدين من المكلّفين في انقيادهما، واتصلت هاتان الجملتان بالرحمن بالوصل المعنويّ، لِما علم أنَّ الحُسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له، ولم يذكر العاطف في الجُمل الأُولِ وجِيء به بعدُ؛ لأنّ الأُولَ وردت على سبيل التعديد كما تقدّم، ثم ردَّ الكلام إلى منهاجه في وصل ما يجب وصله؛ للتناسب والتقارب بالعطف وبيان والتناسب: أنَّ الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فعطف أحد المتقابلين على الآخر، وأيضاً: حُسبان الشمس والقمر نوع من الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر.
ثم قال تعالى: {والسماءَ رفَعها} أي: خَلَقها مسموكةً مرفوعةً، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومسكن ملائكته الذي يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبّه بذلك على كبرياء شأنه، ومُلكه وسلطانه، {وَوَضَعَ الميزانَ} أي: كل ما يُوزن به الأشياء ويعرف مقاديرها، من ميزان، وقَرَسْطون، ومكيال، ومعيار، والقرسطون- بفتحتين: العدلة التي توزن بها الفضة، أي: خَلَقه موضعاً على الأرض من حيث علّق به أحكام العباد على التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. وقيل: معنى الميزان، العدل، أي: شرع العدل وأمر به حتى يوفّى كل ذي حق حقه، حتى انتظم أمر العالم واستقام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بالعدل قامت السماوات والأرض»، والعدل: ما حكمت به الشريعةُ المحمدية، من كتاب، وسُنة، وإجماع، وقياس. وأمر بذلك {ألاَّ تَطْغَوْا في الميزانِ} أي: لئلا تجوروا في الميزان بعد الإنصاف في حقوق العباد، ف أن ناصبة، أو مُفَسِّرة، أو ناهية، {وأَقيموا الوزنَ بالقِسْطِ} وأقيموا أوزانكم بالعدل {ولا تُخْسِرُوا الميزانَ} ولا تنقصوه بالتطفيف، نهى عن الطغيان، الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران، الذي هو تطفيف ونقصان، وكرّر لفظ {الميزان} تشديداً للوصية، وتقويةً للأمر باستعماله الحثّ عليه.
ولمّا ذكر نعمة الإمداد المعنوي، وهو مدد الأرواح، ذكر مددَ الأشباح، فقال: {والأرضَ وضعها} خفضها مدحوّة على الماء {للأنام} للخلق، وهو ما على وجه الأرض من دابة. وعن الحسن: الجن والإنس، فهي كالمهاد، يتصرفن فوقها. {فيها فاكهةٌ} ضروب مما يُتفكّه به، {والنخلُ ذاتُ الأكمام} وهي أوعية الثمر، واحدها: كِمٌّ، بكسر الكاف، أو: كلّ ما يَكُم، أي: يُغطّى، من ليفه وسعفه وكُفُرَّاه، والكُفرّ: وعاء الطَّلْعِ، وكله مُنتفع به، كما يُنتفع بالمكموم من ثمره وجُمّاره وجّذوعه.
{والحبُّ ذو العَصْفِ} هو ورق الزرع، أو التبن، {والريحانُ} أي: الرزق وهو اللبّ، أي: فيها ما يتلذذ به، والجامع بين التلذُّذ والتغذّي، وهو تمر النخل، وما يتغذّى به فقط، وهو الحب المشتمل على علق الدواب وزرق العباد. وقرأ الأخَوان: {والريحانِ} بالجر، عطفاً على {العصف} والباقون بالرفع عطفاً على {الحب} على حذف مضاف، أي: وذو الريحان، فحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: معناه: وفيه الريحان الذي يُشم.
وقرأ الشامي بنصب الجميع، أي: خلق الحب والريحان.
{فَبأيّ آلاءِ رِّبكما} أي: نِعَمَه التي عَدَّدها من أول السورة، {تُكَذِّبان} والخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى: {للأنام} وينطق به قوله: {أيه الثقلان} والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصّل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء، الموجبة للإيمان والشكر، والتعرُّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية، مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ. ومعنى تكذيبهم آلائه تعالى: كفرهم بها، وإمّا بإنكار كونه نعمة في نفسه، كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإمّا بإنكاره كونه من الله تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى، اشتراكاً أو استقلالاً، صريحاً أو دلالة، فإنَّ إشراكهم لآلهتهم معه تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى. انظر أبا السعود. أي: إذا كان الأمر كما فصّل فبأيّ فرد من أفارد نعمه تعالى تُكذِّبان، مع أنّ كُلاًّ منها ناطق بالحق، شاهد بالصدق؟ والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أنَّ {الرحمن} من الأسماء الخاصة بالذات العلية، لا يُوصف به غيره تعالى، لا حقيقة ولا مجازاً؛ لأنها مقتضية لنعمة الإيجاد، ولا يصح مِن غيره، بخلاف الرحيم فإنه مقتضٍ لنعمة الإمداد، وقد يصح من غيره تعالى مجازاً، فلذلك يجوز أن يُوصف العبد بالرحيم، ولا يوصف بالرحمن، ثم إنَّ الرحمة المشتمل عليها الرحمن على قسمين: رحمة ذاتية لا تُفارق الذات، ورحمة صفاتية يقع بها الإمداد للخلق، فيرحَم بها مَنْ يشاء من عباده، وتسمى الرحمة الذاتية رحمانية، ولمَّا كانت لا تُفارق الذات وقع التعبير بها في الاستواء، فقال تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5]، {ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن} [الفرقان: 59]، وإليه أشار في الحِكَم بقوله: يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته... إلخ.
وأما الرحمة الصفاتية، وهي التي يقع بها الإمداد، فتتنوع بتنوُّع الأسماء الحسنى، وهي تسعة وتسعون. أمّا الأسماء الجمالية فالرحمة فيها ظاهرة، وأمّا الأسماء الجلالية فالرحمة فيها: عدم انفكاك لطف الله عن قدره، والرحمة الذاتية هي المُوفية مائة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ تعالى خَلَقَ مائةَ رحمة، أَمسك عنده تسعةً وتسعين، وأنزل واحدةً إلى الدنيا، بها يتراحم الخلقُ» الحديث، أو كما قال عليه السلام. ولمَّا كان القرآن من أجلّ النِعَم عبّر عن تعليمه بالرحمانية، التي هي من الصفات الخاصة؛ لأنّ القرآن مُظهر لأوصاف الذات وأسرارها وأفعالها، وكاشف لحقائقها، عند مَن فُتحت بصيرته.
وقوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسانَ} أي: أظهره من سر اللطافة إلى مظهر الكثافة جاهلاً به من جهة الجسمانية، ثم {علَّمه البيان} أي: بيان السير إلى معرفته، بأن ركّب فيه العقل المميز، ونَصَبَ له مظاهر يتعرّف بها، وبعث له دالاًّ يدله، ويُعلمه أسرار الربوبية وآداب العبودية، فلا يزال يُحاذيه، ويسير به حتى يستنير قمر توحيده، وتُشرق شمس عرفانه، وإليه الإشارة بقوله: {الشمس والقمر بُحسبان} أي: يجريان بحسب معلوم، في زيادة نور التوحيد ونقصانه، على حسب استعداد العبد وتوجهه.
قال القشيري بعد كلام: وكذلك شموس المعارف، وأقمار العلوم- في طلوعها في أوْج القلوبِ والأسرار- في حكم الله تعالى وتقديره حسابٌ معلومٌ، يُجْريهما على ما سبق به الحُكْمُ. اهـ. والنجم والشجر يسجدان، أي: ونجم نور العقل الطبيعي، وشجر الفكر الاعتباري يخضعان ويضمحلان عند سطوع شمس نهار العرفان، وأمَا نور العقل الوهبي، والفكر الاستبصاري، فيطويان الكونَ طيّاً؛ لانَّ نورهما مستمد من العقل الأكبر، وهو أول الفيض الإلهي، المتدفق من بحر الجبروت، وسماء الأرواح، رَفَعَا عن لوث عالم الأشباح، وهو محل شهود أسرار الذات وأنوار الصفات، وتجليات الأنبياء والرسل، فمَن ترقّى إليه لا تغيب عنه أرواح الأنبياء وذواتهم، فالمتجلي واحد. ووضع الميزان على النفوس الظلمانية، ألاَّ تَطْغَوا في الميزان، بتعديّ حدود الرياضة والمجاهدة، وأقيموا عليها الوزن بالقسط، ولا تُخسروا الميزان بإهمالها في هواها وحظوظها. والأرض، أي: أرض البشرية وضعها لقيام وظائف العبودية، اليت رتّبها للأنام، فيها فاكهة العلوم الوهبية إن صفت، ونَخْل علوم الشريعة ذات الأكمام، وهي البراهين التي تستخرج بها مسائلها، فمَن وقف مع قشر الأكمام كان مقلِّداً. ومَن نفذ إلى لُبها كان مجتهداً منِ نِحريراً.
وقال القشيري: {والنخلُ ذات الأكمام} من فواكه الوحدانيات المستورة عن الأغيار، المستورة عن غير أهلها. ثم قال: {والحب ذو العصف} من حبة المحبة الذاتية، غير القابلة للتغيُّر والاستبدلال، المشتملة على الأرزاق المكتنفة بالمعارف والحاقئق والحِكِم. اهـ. والريحان هو قوت الأرواح من اليقين، أو نسيم الأذواق والوجدان، {فبأي آلاء ربكما تُكذّبان} أيها الثقلان، أو أيها النفس والروح؛ إذ كل منهما فاز بأمنيته، ووصل إلى نهاية ما اشتهاه، إذا عمل بما تقدّم، وأصغى بأُذن قلبه إلى ما عددناه. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: {خَلَقَ الإِنسانَ} آدم {من صلصالٍ} من طين يابس، له صلصلة، أي: صوت {كالفَخَّار} كالطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. ولا تخالف بين هذا وبين قوله: {مِّنْ حَمإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] و{مِّن طِينٍ لاَّزِب} [الصافات: 11] لاتفاقهما معنىً، لأنَّ المعنى: أنَّ أصل خلقه من تراب، ثم جعله طيناً، ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالاً. {وخَلَقَ الجانَّ} أي: الجن، او أبا الجن إبليس، {من مَارجٍ من نار} والمارج هو اللهب الصافي، الذي لا دخان فيه، وقيل: المختلط بسواد النار، من: مَرجَ الشي: إذا اضطرب أو اختلط، و{مِن}: بيانية، كأ، ه قيل: مِن صاف النار، أو مختلط من النار، أو أراد: من نار مخصوصة.
{فبأي آلاءِ ربكما تُكَذِّبان} مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم. قال القشيري: وكرّر سبحانه هذه الآية في غير موضع، على جهة التقرير بالنعمة على التفاصيل. نعمة بعد نعمة، ووجه النعمة في خلق آدم من طين: أنه رقّاه إلى رتبةٍ بعد أن خلقه من طين، وكذلك القول في {مارج من نار}. اهـ. يعني: أنَّ آدم رقّاه إلى رتبة الروحانية والخلافة، والجن إلى رتبة التصرُّف الباطني في الآدمي وغيره.
{ربُّ المشْرِقَين وربُّ المغربين} أي: مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، ومَغْربيها. قال ابن الحشا: المشرق الشتوي: هو النقطة التي تطلع فيها الشمس فيها في الأفق في نصف دجنبر، أقصر ما يكون النهار من أيام السنة، والمشرق الصيفي: هو النقطة التي تطلع فيها الشمس في نصف يونية، أطول ما يكون من أيام السنة. والمغربان: حيث تغرب في هذين اليومين، ومشارق الشمس ومغاربها في سائر أيام السنة ليس هذين المشرقين والمغربين. اهـ. وقوله: في نصف دجنبر ونصف يونية، هذا في زمانه، وأمّا اليوم فهي على ثمانية أيام ونحوها، لزيادة حركة الإقبال. قال ابن عطية: متى وقع ذكر المشرق والمغرب فهو إشارة إلى الناحيتين، أي: مشرق الصيف والشتاء ومغربهما. ومتى وقع ذكر الشارق والمغارب فيهو إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه، ومتى ذكر المشرقان فهو إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب؛ لأنّ ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. اهـ.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} قال القشيري: ووجه النعمة في مشرق الشمس ومغربها: جريانه على ترتيب بديع؛ ليكمل انتفاع الخلق بذلك. اهـ.
{مَرَجَ البحرين يلتقيان} أي: أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين بإسماك أحدهما عن الآخر في مرأى العين. قال في الحاشية: ويُقرب ما ذكره ما هو مشهود في الريف مع الماء، فاعتبر به، وبالأبيض من البيضة مع الأصفر منها، وقيل: أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط؛ لانهما خلجان يتشعبان منه، {بينهما برزخٌ} حاجز من قدرة ا لله تعالى، {لا يَبغِيان} لا يتجاوزان حدّيهما، ولا يبغي أحدُهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، أو: لا يتجاوزان حدّيهما بإغراق ما بينهما، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} وليس شيء منها يقبل التكذيب.
{يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرجانُ} اللؤلؤ: الدرّ، والمَرجان: الخرزُ الأحمر المشهور. قلت: هو شجر ينبت في الحجر في وسط البحر، وهو موجود في بحر المغرب، ما بين طنجة وسبتة. وقال الطرطوشي: هو عروق حُمر يطلع من البحر كأصابع الكف، وشاهدناه بأرض المغرب مراراً. اهـ. وقيل: اللؤلؤ: كِبار الدر، والمرجان: صِغاره. وإنما قال: {منهما} وهما إنما يخرجان من الملح؛ لأنهما لمّا التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يُقال: يخرجان منهما. ونقل الأخفش عن قوم: أنهما يخرجان من المالح والعذب، وليس لِمن ردّه حجة قاطعة، ومَن أثبت أَولى ممن نفى. اهـ. قال أبو حيان: والظاهر خروجهما منهما، وحكاه الأخفش عن قوم. اهـ. {فبأي آلاء ربكما تُكَذَّبان} مع ظهور هذه النعمة.
{وله الجوارِ} أي: السفن، جمع: جارية، {المُنشَئاتُ} المرفوعات الشُرَّع، وقرأ حمزة ويحيى بكسر الشين، أي: الرافعات الشُروع، أي القلاع، أو: اللاتي يُنشئن الأمواج بمَخْرهن {في البحر كالأعلام} كالجبال الشاهقة، جمع عَلَم، وهو الجبل الطويل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مِن خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها، وكيفية تركيبها، وإجرائها في البحر، بأسباب لا يَقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه.
{كُلُّ مَن عليها} على الأرض {فانِ ويبقى وجهُ ربك} أي: ذاته، قال القشيري: وفي بقائه سبحانه خَلَفُ من كلِّ تلفٍ، وتسليةٌ للمؤمنين عما يُصيبهم من المصائب، ويفوتهم من المواهب. اهـ. {ذو الجلال} ذو العظمة والسلطان، {والإِكرام} أي: الفضل التام بالتجاوز والإحسان. وهذه الصفة من عظم صفات الله تعالى، وفي الحديث: «ألظوا- أي: تعلقوا- بيا ذا الجلال والإكرام» يعني: نادوه به، يُقال: ألظ بالمكان: إذا أدام به، وألظ بالدعاء: إذا لزمه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يُصلِّي، ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: «قد استُجيب لك» {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ إفناءهم وإخراجهم من ضيق هذه الدار الدنية، وإحياءهم وإبقاءهم في الدار الباقية في النعيم السرمدي من عظائم النِعم.
الإشارة: اختص مظهَر الإنسان عن سائر المظاهر باعتدال خلقته، لطافةً وكثافةً، معنىً وحسّاً، روحانيّاً وبشريةٌ، فلذلك فاقت معرفته إذا عرف سائر المخلوقات، بخلاف الجن والملائكة، اللطافةُ غالبة عليهم، فمَن كان منهم عارفاً لا تجده إلا متحرفاً، غالباً عليه الهيمان والسُكْر، وأمّا الآدمي فمَن غلبت رَوحانيتُه على صلصاليته، ومعناه على حسه، كان كالملائكة أو أفضل، ومَن غلبت طينتُه على روحانيته، وحسُّه على معناه، كان كالبهائم أو أضل.
وقوله تعالى: {رَبُّ المشرقين وربُّ المغربين} أي: رب مشرق شمس العرفان وقمر الإيمان، ومغربهما عند غين الأنوار والأغيار.
وقال القشيري: يُشير مشرق الروح والقلب، ومغرب النفس والهوى. اهـ. فإذا أشرق نور الروح والقلب غابت ظلمة النفس والهوى، وإذا استولت ظلمة النفس والهوى على الروح والقلب غربت شمسهما، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع ما في ذلك في اللطائف الغامضة، والغوامض الخفية، من عدم سكون الروح والقلب إلى التجلِّي الجمالي، وعدم اضطراب النفس والهوى بالتجلِّي القهري الجلالي؛ لأنَّ الكامل من هذه الطائفة هو الذي يُشاهد الجمالَ في الجلال، والجلالَ في الجمال، فلا يسكن إلى شيء، ولا يقف مع شيء.
وقوله تعالى: {مَرَجَ البحرين يلتقيان} يُشير إلى بحر علم الشريعة، وبحر علم الحقيقة، يلتقيان في الإنسان الكامل، {بينهما برزخ} وهو العقل، فإنه يحجز الشريعةَ أن تعدو محلها، والحقيقة أن تُجاوز محلها، فالشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، والعقل برزخ بينهما، يقوم بحُكم كل واحدة منهما، فمَن خفَّ عقله غلبت إحداهما عليه، إمّا الشريعة، فيكون يابساً جامداً لا يخلو من فسوق، وإمّا الحقيقة، فيكون إما سكراناً أو زنديقاً. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} حيث هَدى العبدَ إلى القيام بحقهما، وإنزال كل واحدة في محلها، {يَخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} فيخرج من بحر الحقيقة جواهرَ الحِكم ويواقيت العلوم، ومن بحر الشريعة مَرجان تحرير النقول، وتحقيق مبانيها، والإتيان بها من معادنها، {فبأي آلاء ربكما تُكذَّبان} حيث وفَّق غوّاص بحر الحقيقة إلى استخراج أسرارها، وغوّاص بحر الشريعة إلى إظهار أنوارها. {وله الجوارِ}، أي: سفن استخراج أسرارها، وغوّاص بحر الشريعة إلى أظهار أنوارها. {المنشأت} في بحر الذات، مع رسوخ عقلها، كالجبل الراسي، فتعوم سفنُ أفكار العارفين في بحر الجبروت وأنوار الملكوت، ثم ترسي في مرساة العبودية، للقيام بآداب الربوبية، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع عظيم هذا اللطف الكبير، والمنَّة الكريمة، حيث يتلاطم عليهم أموَاجُ بحر الذات، فيكونوا من المغرقين في الزندقة، أو ذهاب العقل بالكلية، لكن مَنْ صَحبَ رئيسا عارفاً لا يخاف من الغرق إن شاء الله.
{كلُّ مَن عليها فانٍ} كل مَنْ على بساط المملكة فَانٍ متلاشٍ، {ويبقى وجه ربك} أي: ذاته المقدسة، فلا موجود معها على الحقيقة، كما قال الشاعر:
فَالْكُلُّ دُونَ اللَّه إِنْ حَقَّقْتَه *** عَدمٌ عَلَى التَّفْصِيل والإجمال
وهذا معلوم عند أرباب الأذواق، مُقرر عند أهل الفناء والبقاء، فلا يجحده إلاَّ جهول، كما قال تعالى: {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}؟.
يقول الحق جلّ جلاله: {يَسْألُه مَن في السماوات والأرض} مِن ملَكٍ وإنسٍ وجن وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كل منهم يسأل حاجته، إما بلسان مقاله، أو بلسان حاله، أهل السموات يسأله قوت أرواحهم، وأهل الأرض قوتَ أشباحهم وأرواحهم. وقال أبو السعود: فإنهم كافة، من حيث حقائقهم الممكِنة، بمعزلٍ من استحقاق الوجود، وما يتفرّع عليه من الكمالات بأسره، بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشمُّوا رائحة الوجود أصلاً، فهم في كل أمر مستمدون على الاستدعاء والسؤال. اهـ.
ويُوقف على قوله: {والأرض} ثم يبتدأ بقوله: {كُلَّ يومٍ} فهو ظرف لقوله: {هو في شأن} أي: هو كائن كل وقت وحين في شأنٍ من شؤون خلقه، التي من جملتها: إعطاؤهم ما سألوا، فإنه تعالى لا يزال يُنشئ أشخاصاً، ويُفني آخرين، ويأتي بأحوالٍ ويذهب بأحوالٍ، حسبما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة، وسمعتُ شيخنا الفقيه العلاّمة، سيدي التاودي بن سودة- رحمه الله- يقول في تفسيرها: إنَّ من شؤونه تعالى أنه كل يوم يُجهّز ثلاثة جيوش: جيشاً إلى الأرحام، وجيشاً إلى الدنيا، وجيشاً إلى المقابر. اهـ. وعن ابن عيينة: الدهر عند الله يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة الدنيا، فشأنه فيه: الأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه: الجزاء والحساب.
ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه تلاها، فقيل له: ما هذا الشأن؟ فقال: «من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين» وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً، فردّ الله عليهم؛ والمراد بهذه الشؤون: أمور يُبديها ولا يبتديها، فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى ما لا نهاية له. ومنه: ما جاء في القضاء على الولد في الرحم، بسعادةٍ أو غيرها، ليس ذلك القضاء إنشاء وابتداء، وإنما هو إبداء وإظهار للملائكة ما سبق به قضاؤه وقدره، وهو مسطور في اللوح، ولذلك جاء: «إنه يُقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب، فينطلق، فيجد قصة ذلك فيه...» الحديث. وقيل: شأنه تعالى: سَوْق المقادير إلى المواقيت.
قال النسفي: قيل: إنَّ عبد الله بن طاهر دعا الحسينَ بن الفضل، وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي، قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] وقد صحّ: أن الندم توبة، وقوله: {كل يوم هو في شأنٍ} وقد صحّ أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله: {وَأَن لَّيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألاَّ يكون الندم توبة في تلك الآية.
وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله وتكلفه مشقته، وقوله: {وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى} مخصوص بقوم إبراهيم وموسى- عليهما السلام-، وأمَّا قوله: {كل يوم هو في شأن} فإنها شؤون يُبديها لا يبتديها، فقال عبدُ الله فقبَّل رأسه ووسّع خراجه. اهـ.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع مشاهدتكم لما ذكر من شؤون إحسانه تعالى.
{سَنَفْرُغ لكم أيه الثقلانِ} سنتجرّد لحسابكم وجزائكم، مستعار من قول الرجل لمَن يتهدّده: سأفرغ لك، أي: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، ويجوز أن يُراد: ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها، وينتهي عند ذلك شؤون الخلق، التي أرادها بقوله: {كل يوم هو في شأن} فلا يبقى إلاَّ شأن واحد، وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل، و{الثقلان}: الجن والإنس، سُمّيا بذلك؛ لثقلهما على الأرض، أو: لرزانة آرائهما، أو: لأنهما مُثقلان بالتكليف، {فبأي آلاء ربكما} التي من جملتها: التنبيه على ما يلقونه يوم القيامة، للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب، {تُكذِّبان} بأقوالكما أو بأعمالكما.
{يا معشرَ الجنِّ والإِنس} هو كالترجمة لقوله: {أيه الثقلان} {إِن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرضِ} بأن تهربوا من قضائي، وتخرجوا من ملكوتي، ومن أقطار سماواتي وأرضي، {فانفذوا} وخلِّصوا أنفسكم من عقابي، {لا تنفُذون} لا تقدرون على النفوذ {إِلاَّ بسلطانٍ} إِلاّ بقوةٍ وقهرٍ، وأنتم من ذلك بمعزل بعيد. قيل: يُقال لهم هذا يوم القيامة، حين تُحدق بهم الملائكة، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا، فلا يأتون وجهاً إلاّ وجدوا الملائكة أحاطت به. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} التي من جملتها: التنبيه والتحذير؛ ليقع التأهُّب لتلك الأهوال.
{يُرْسَلُ عليكم شُواظ من نارٍ} أي: لهب خالص منها. وفيه لغتان: ضم الشين وكسرها، {ونُحاسٌ} أي: دخان، مَن رفعه عطفه على {شواظ} ومَن جرّه فعلى {نار}، والمعنى، إذا خرجتم من قبوركم يُرسل عليكم لهب خالص من النار، ودخان يسوقكم إلى المحشر، {فلا تنتصرانِ} فلا تمنعان منهما، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ بيان العواقب لُطفٌ ونعمةٌ لمَن ينتبه.
{فإِذا انشقت السماءُ} أي: انصدعت يوم القيامة {فكانت وَرْدَةً} فصارت كلون الورد الأحمر {كالدِّهان} كدهن الزيت، كما قال: {كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8] وهو دُردِيّ الزيت، وهو جمع دهن، وقيل: الدهان: الأديم الأحمر. وجواب إذا محذوف، أي: يكون من الأهوال والأحوال ما لا يحيط به دائرة المقال.
قلت: وهذا الانشقاق يحصل للسموات والناسُ في المحشر، ثم تدنو الشمس من الخلائق، فيعظم الخطب والهول، إلاّ ما استثني في حديث السبعة. وقيل: يحصل قبل البعث، كما في البدور السافرة. والله أعلم بحقيقة الأمر.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع عِظم شأنها، {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إِنس ولا جانٌّ} لأنهم يُعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويُحشرون إلى الموقف أفواجاً على اختلاف مراتبهم، وأمّا قوله تعالى: {فوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] ونحوه؛ ففي موقف المناقشة والحساب، فيوم القيامة يوم طويل، وفيه مواطن، يُسألون في موطن، ولا يُسألون في آخر. وقال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم. وقيل: لا يُسأل ليَعلم من جهته، ولكن يُسأل للتوبيخ. وضمير {ذنبه} للإنس لتقدُّمه رتبة، وإفراده لأنّ المراد فرد من الإنس، والمراد بالجان الجن، فوضع الجان- الذي هو أبو الجن موضع الجن، كأنه قيل: لا يُسأل عن ذنبه أنسي ولا جني، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع كثر منافعها؛ فإنَّ الإخبار بما ذكر يزجركم عن الشر المؤدي إليه.
الإشارة: يسأله مَن في سماوات الأرواح ما يليق بروحانيته، من كشف الأسرار، وتوالي الأنوار، فهو دائم سائل مفتقر، لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، وسؤاله إما بلسان حاله أو مقاله، ويسأله مَن في أرض البشرية ممن لم يترقّ إلى عالم الروحانية ما يليق بضعف بشريته، من القوت الحسي، وما يلائمه من ضرورية البشرية، أو يكون سبب نجاته ونعيمه يوم القيامة، من الاستقامة الظاهرة.
وأشار بقوله: {كل يوم هو في شأن} إلى اختلاف تجلياته في كل لحظة، فيتجلّى في ساعة واحدة بقبض قوم وبسط آخرين، ورفع قوم وذلّ آخرين، وإعطاء قوم ومنع آخرين، وترقية قوم وخفض آخرين، إلى ما لا نهاية له، ولذلك تختلف الواردات على قلوب العارفين، ينسخ بعضها بعضاً، ولذلك أيضاً تجد العارفين لا يسكنون إلى شيء، ولا يقفون مع شيء ولا يُعولون على شيء، بل ينظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيسيرون معه، إذا أصبحوا نظروا ما يفعل الله بهم، وإذا أمسوا كذلك، قد هدمت المعرفة أركانَ عزائمهم، وحلّت عقدهم، فهم في عموم أوقاتهم لا يُريدون ولا يختارون ولا يُدبّرون؛ لعِلمهم أن الأمر بيد غيرهم، ليس لهم من الأمر شيء.
وقوله تعالى: {سنفرغ لكم أيه الثقلان} فسّر القشيري الثقلين بالروح وصفاتها الحميدة، وبالنفس وصفاتها الذميمة، أي: سنفرغ لإكرامكم، ورفع أقداركم يا معشر الأرواح المطهرة، بأن أتجلّى لكم، فتُشاهدوني في كل وقت وحين، وسنفرغ لكم أيتها النفوس الظلمانية بأنواع الامتحان بصُنوف المحن، فلا تدخلوا جنتي حتى تتهذبوا وتصفوا من كدرات الأغيار، ولا أتجلّى لكم إلاّ في وقت الاحتياج والاضطرار. والحاصل: أنَّ المدار كله على هذه الدار، فمَن صفا هنا صُفي له ثَمّ، ومَن كدر هنا كدر عليه هناك. ويُقال لأهل النفوس الظلمانية: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض} بفكرة بصائركم فانفذوا، ولا قدرة لكم على ذلك؛ لسجن أرواحكم في هياكل ذواتكم، وإحاطة دائرة الكون بكم، لا تنفذون إلاّ بسلطانٍ: إلاّ بقوة سلطان أرواحكم على نفوسكم، فتجذبها إلى عالم الروحانية، بصحبة طبيب ماهر، فحيئذ تنفذ بصيرتكم عن دائرة الأكوان، وتُفضوا إلى فضاء العيان، وإذا كان يوم القيامة خرقت أرواحُهم بأشباحهم محيطاتِ الأكوان، وأَفضوا في الهوى إلى سعة الجنان، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِين} [الشعراء: 90]، وقد تقدّم معناه.
{يُرسل عليكم شُواظ من نار ونُحاس...} إلخ، قال القشيري: يُخاطب معشر جن النفس بإرسال لهب البُعد والقطيعة عليهم، بواسطة انغماسهم وانهماكهم في استيفاء اللذات الجسمانية، والشهوات الحيوانية، على الدوام والاستمرار، ويُخاطب معشر إنس الروح بصب الصُفر المذاب على رؤوسهم، بسبب انحطاطهم من المقام الروحي العلوي، إلى المقام النفس السفلي بالتراجع، ولا يقدر أحدهما على نصرة الآخر. {فبأي آلاء ربكما تُكذّبان} فإنَّ تعذيب مستحق العذاب، وتنعيم متسحق النعيم، والتمييز بين جن النفس العاصي، وبين إنس الروح، من الآلاء العظيمة. اهـ. فإذا انشقت السماء الحسية، أي: ذابت وتلاشت بذكر اسم الله عليها من العارف، فكانت وردةً يهب بنسيم المعاني من أكنافها، كالدهان: كالزيت المُذاب، حين تذوب بالفكرة الصافية، والحاصل: أنَّ سائر الكائنات، تذوب وتتلطّف حين تستولي عليها المعاني القائمة بها، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع ظهور هذه النعمة العظيمة، التي خَفِيَتْ عن جُلّ الناس، {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان} ممن بلغ منهم إلى هذه المرتبة العظيمة، فأهل العيان لم يبقَ في حقهم طاعة ولا عصيان، فلا يتوجه إليهم سؤال ولا عتاب، وفي مناجاة الحق لسيدنا موسى عليه السلام: لا يا موسى إنما يُطيعني ويعصيني أهل الحجاب، وأما مَن لا حجاب بيني وبينه فلا طاعة في حقه ولا معصية. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: يبلغ الوليّ مبلغاً يُقال له: افعل ما شئت، أصحبناك السلام، وأسقطنا عنك الملامة. اهـ. وهذا بعد محق أوصاف النفس، وبعد التحقق بالفناء والبقاء. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: {يُغْرَفُ المجرمون} أي: الكفرة {بسيماهم} بسواد وجوههم، وزُرقة عيونهم، أو: بما يعلوهم من الكآبة والحزن. قيل: هو تعليل لقوله: {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان} أي: لا يُسألون لأنهم معروفون، {فيُؤخذُ بالنواصي والأقدام} أي: يُجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم، وقيل: تسحبهم الملائكةُ، تارة يُأخذ بالنواصي، وتارة بالأقدام، فالجار نائب الفاعل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ التخويف من هذه الأهوال قبل وقوعها من أجلّ النعم؛ ليقع الزجر عما يُؤدي إليها.
{هذه جهنمُ التي يُكذِّب بها المجرمون} أي: يُقال لهم: هذه جهنم التي كذبتم بها، توبيخاً وعقاباً، {يطوف بينهما وبين حميمٍ آنٍ} أي: بالغ من الحرارة أقصاها، فالحميم: المار الحار، والآنِ: البالغ في الحرارة، فهم يُعذّبون بين الحرق بالنار وشرب الحميم الحار. قال كَعْب: إن وادياً من أودية جهنم، يجتمع فيه صديد أهل النار، ينغمسون بأغلالهم فيه، حتى يخلع أوصالهم، ثم يُخرجون منها، وقد أحدث اللّهخ لهم خلقاً جديداً، فيُلقون في النار، فذلك قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميمٍ آنٍ}، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}، وقد تقدّم تفسير كون هذا نِعماً مراراً.
الإشارة: فسَّر القشيري {المجرمون} هنا بطائفتين، الأولى: المتشدقون من علماء الكلام، الذي يتكلمون في ذاته وصفاته وأفعاله بما ليس لهم به علم، ويُجادلون أربابَ الكشف والشهود بسبب علومهم الجدلية، ويفوهون بقوة الجبهة وصلابة الناصية، فلا شك أنهم يُجرون على ناصيتهم في نار البُعد والطرد عن مراتب أهل العرفان. الطائقة الثانية: المتصوفة الجاهلة، المنقطعون عن الطريق المستقيم، والمنهج القويم، بسبب دخولهم في هذه الطريق بالتقليد، من غير إذن شيخ كامل، واصِلٍ مُوصِل، فلا شك أنهم يخرجون بأقدامهم المُعْوَجة عن سلوك طريق الحق إلى نار البُعد والقطيعة. اهـ. بالمعنى. والسيما التي يُعرفون بها، إما علو النفس، وغِلظة الطبع، وطلب الجاه، وإما قلقة اللسان، وإظهار العلوم، فالعارف الكامل بعكس هذا كله، متواضع، سهل، لَيِّن، الخفاء أحب إليه من الظهور، لسان حاله أفصح من مقاله. ثم قال تعالى: {هذه جهنم التي يُكذِّب بها المجرمون} المتقدمون، لأنهم ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا. وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً، {يطوفون بينها} أي: بين نار القطيعة وحميم التدبير والاختيار، مِن هَمّ الرز، وخوف الخلق، وغم الحجاب: نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولِمَنْ خافَ مقامَ ربه} أي: قيامه بين يديه للحساب {يوم يقوم الناس لرب العالمين} أو: قيامه تعالى على أحواله، من: قام عليه، إذا راقبه، كقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]. قال مجاهد: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله تعالى، فيدعها من خوفه. قال السدي: شيئا، مفقودان: الخوف المزعج، والشوق المقلق. اهـ. أي: للخائف {جنتانِ} أي: بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، مسيرة كل بستان: مائة سنة. وقال صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما هاتان الجنتان؟ هما بستانان في بستانين، قرارهما لابث، وفرعهما ثابت، وشجرهما نابت»، أَكْرَم بهما المؤمن ليتكامل سروره بالتنقُّل لمن جنة إلى جنة، وقيل: جنة لخوفه وجنة لتركه شهوته، أو: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو: جنة لفعل الطاعة وجنة لتركه المعصية، أو: جنة يُثاب بها وجنة يُتفضل عليه بها، أو: روحانية وجسمانية، أو: جنة للسابقين وجنة لأهل اليمين، أو: جنة للإنس وجنة للجن؛ لأنّ الخطاب للثقلين، كأنه قيل: لكل خائف منكما جنتان. والأول أرجح، وسيأتي في الإشارة بقيته، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله: {ذَوَاتا أفَنانٍ} أغصان، جمع فَنن، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تُورق، ومنها تُجنى الثمار، وتعقد الظلال، أو جمع فَنّ، بمعنى النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} وليس فيها شيء يقبل التكذيب.
{فيهما} أي: في الجنتين {عينانِ تجريان} حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: التسنيم، والأخرى: السلسبيل، وقيل: بالماء والخمر، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}، {فيهما من كل فاكهةٍ زوجان} صنفان، صنف معروف وصنف غريب، أو رطب ويابس. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{متكئينَ} نصب على المدح للخائفين، أو: حال منهم؛ لأنّ مَن خاف في معنى الجمع، {على فُرُش بطائنُها من إِستبرقٍ} من ديباج ثخين، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظاهرها؟ وقيل: ظاهرها سُندس، وقيل: من نور، وقيل: لا يعلمها إلاّ الله. والبطائن: جمع بطانة، وهو: ما يلي الأرض، والإستبرق معرَّب، {وجَنَى الجنتين دانٍ} أي: ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب، يناله القائم والقاعد والمضطجع. قال ابن عباس رضي الله عنه: تدنو الشجيرة حتى يجنيها وليُّ الله، إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
قال القشيري: وفي الخبر المسند: مَن قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، غرس له بها ألف شجرة في الجنة، أصلها الذهب، وفرعها الدر، وطلعها كثدي الأبكار، ألين من الزبد، وأحلى من العسل، كلما أُخذ منها شيء عاد كما كان، وذاك قوله تعالى: {وجَنَى الجنتين دانٍ} إذا أرادوه أتى إلى أفواههم، حتى يتناولون من غير مشقة، ويقال: ينالها القائم والقاعد والنائم. اهـ.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}، {فيهن} أي: الجنتين؛ لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس، أو: في هذه الآلاء المعدودة، من الجنتين والعينين والفاكهة والغرس والجَنْي، {قاصراتُ الطَّرْفِ} جَوار قَصَرْنَ أبصارَهنّ على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، {لم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ} أي: لم يمس الإنسيات أحدٌ من الإنس، لا الجنيات أحدٌ من الجن. والطمث: الجماع بالتدمية. وفي الآية دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس. {فبأي آلاء رَبكما تُكذِّبان كأنهنَّ} أي: تلك الجوار {الياقوتُ} صفاءً {والمَرْجانُ} بياضاً، على أنَّ المرجان صغار الدر، أو: في الصفاء وحُمرة الوجه. قيل: إنَّ الجواري تلبس سبعين حلة، فيُرى مُخ ساقها من ورائها، كام يرى الشراب الأحمر في الزجاجة. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{هل جزاءُ الإِحسان إِلاَّ الإِحسانُ} هو استئناف مقرر لما فصّل قبله، أي: ما جزاء الإحسانِ في العمل إلاّ الإحسانُ في الثواب، قال أنس: قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال: هل جزاءُ مَن أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة» وفي لفظ آخر: «هل جزاء مَن أنعمت عليه بتوحيدي ومعرفتي إلاّ أن أُسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي» أو: هل جزاء مَن قال «لا إله إلا الله» إلاَّ الجنة. قال السدي: هل جزاء الذين أطاعوا في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة. وقال جعفر الصادق: هل جزاء مَن أحسنتُ إليه في الأزل إلاَّ حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الحسن: هي مسجلة- أي مطلقة- للبر والفاجر، للفاجر في دنياه، وللبَر في عُقباه. اهـ. {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}.
الإشارة: {ولمن خاف مَقام ربه} فرَاقَبه، ثم شاهَده، {جنتان} جنة المعارف مُعجّلة، وجنة الزخارف معها مُؤجلة، أو: جنة المعارف لأرواحهم، وجنة الزخارف لأشباحهم. قال القشيري: جنتان: جنة مُعَجَّلة من حلاوة الطاعة ورَوْح القرب، ومؤجَّلة في الآخرة، وهي جنة الثواب، وهم مختلفون في جنان الدنيا على قدر تفاوت مقادير أحوالهم، كما يختلفون في الآخرة في درجاتهم. اهـ. فجنة حلاوة الطاعة لأهل اليمين، وجنة روح القرب للمقربين. قال الورتجبي: جنتان: جنة المشاهدة وجنة المكالمة، جنة المحبة وجنة المكاشفة، جنة المعرفة وجنة التوحيد، جنة المقامات وجنة الحالات، جنة القلب وجنة الروح، جنة الكرامات وجنة المداناة. اهـ. أو: جنة الوصال وجنة الكمال، أو: جنة الكمال وجنة التكميل، أو جنة الفناء وجنة البقاء، أو جنة البقاء وجنة الترقِّي إلى غير انتهاء.
وقوله تعالى: {ذواتا أفنان} يُشير إلى ما في هاتين الجنتين من فنون العلوم والأذواق، والأسرار والأنوار، وتفنُّن الأفكار في بحار الأسرار، فيهما لكل واحدٍ عينان تجريان، إحداهما بعلوم الشريعة والمعاملة وآداب العبودية، وأخرى بعلوم الحقيقة والطريقة والتوحيد الخاص، فيهما من كل فاكهةٍ من فواكه الأذواق صنفان: صنف حاصل، وصنف يتجدّد بتجدُّد الأنفاس، أو: صنف لعالم الحكمة، وصنف لعالم القدرة، أو: صنف للذات وصنف للصفات، أو: صنف لحلاوة المشاهدة وصنف لآداب المعاملة.
متكئين على فُرش الأُنس، بطائنها من استبرق الروح والفَرح ودوام البِسط، وجنا الجنتين دانٍ لمَن تمكّن من الشهود؛ لأنّ ثمار المعارف من حلاوة الشهود والأُنس صارت طوع يده، فشُهوده دائم، وقُربه للحبيب لازم، فمهما أجال فكرته غاصت في بحار الأحدية، واستخرجت من يواقيت الحِكَم، وجواهر العلوم، ما لا يُحيط به المفهوم، بخلاف غير المتمكن، تعب الفكرة ينقص له من لذة الشهود. قال القشيري: إذ لا لذة في أوائل المشاهدة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزقني لذةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرة...» الحديث. اهـ. فِيهن قاصرات الطرف، أي: أبكار الحقائق خاصة بهم لا تنكشف لغيرهم. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يمس تلك الحقائق غيرهم، لأنها خاصة بأهل الأذواق، وكل واحد يمس من الحقائق ما لا يمس غيره، وينكشف له ما لا ينكشف لغيره، لأنها على حسب الاستعداد. كأنهن- أي: تلك الحقائق- الياقوتُ في صفاء معناها، والمرجان في حسن مبناها، هذا جزاء أهل مقام الإحسان.
{هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان} أي: هل جزاء أهل مقام الإحسان إلاَّ الإحسان والتقريب والتخصيص بهذه العلوم والحقائق، أو: هل جزاء الإحسان معنا إلا الإحسان بكشف ذاتنا، أو: هل جزاء الإحسان إلى عبادي إلاّ الإحسانُ بقربي وولايتي. قال ابن جزي: ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل عليه السلام «أن تعبد الله كأنك تراه» فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين، ويُقوي ذلك: انه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العَلي؛ وجعل جنتين وجعل جنتين دونهما لمَن كان دون ذلك، فالجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والمذكورتان بعد ذلك لأصحاب اليمين، حسبما ورد في الواقعة. انظر تمامه.
يقول الحق جلّ جلاله: {ومِن دونهما جنتانِ} أي: ومن دون تَيْنِك الجنتين الموعودتين للمقربين {جنتان} أخريان لِمن دونهم من أصحاب اليمين، ويؤيده حديث أبي موسى، قال في هذه الآية. {ولمن خاف مقام ربه} قال: «جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين» ورَفَعه، ولا شك أنَّ الذهب أرفع من الوَرِق، فلا يلتفت إلى الفضة مَن له الذهب، خلافاً لمن قال: يلزم حرمان أهل الطبقة الأولى- وهم السابقون- ما ذكر في الحديث من الفضة، واختار في نوادر الأصول أنَّ قوله: {ومن دونهما} أي: في القُرب إلى العرش، وأنَّ هذه أعلى وَصْفاً مما ذكر قبلُ، إلى العرش، وبَسَطَ القول في ذلك، ومثله ذكره ابن عطية عن ابن عباس، واحتج لذلك، ولكن الأكثرعلى خلاف ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
{فبأي آلاء ربكما تُكّذِبان مُدْهامَّتان} خضراوان تميلان إلى السواد، من شدة الخضرة، وفيه إشعار بأنَّ الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأُوليين الأشجار والفواكه، ومَن اشتهى فيها شيئاً يُعطاه، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} كرر التوبيخ مع ذكر الموصوف ومع صفته تنبيهاً على أنّ تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار، {فيهما عينان نَضَّاختان} فوّارتان بالماء، والنضخ أكثر من النضح- بالمهملة- وهو الرش، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}.
{فيهما فاكهةُ ونخلٌ ورمانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة عطف خاص على عام؛ لفضلهما، فإنَّ ثمر النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء. قال أبو حنيفة: مَن حَلَفَ لا يأكل فاكهة فأكل رُماناً أو رطباً لم يحنث، وقوفاً مع ظاهر العطف، وعندنا الأَيمان مبنية على الأعراف، وهي تختلف باختلاف الأقطار. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ولا شيء منها يقبل الإنكار.
{فيهنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ} أي: في الجنتين المشتملتين على قصور ومساكن نساء {خيرات} أي: فاضلات الخُلُق، حِسان الخَلْق، وهو مخفف من خير بالتشديد، وقرئ {خيِّرات} على الأصل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}. {حُورٌ} بدل من {خيرات} {مَقصوراتٌ في الخيام} قُصِرن في خدورهن. يقال: امرأة قصيرة وقَصُورة، ومقصورة، أي مخدّرة، أو: مقصورات الطرف على أزواجهن ساكنة في الخيام. قال القشيري: قصرن أنفسَهن وقلوبَهن وأبصارَهن على أزواجهن. اهـ. يقلن: نحن الناعماتُ فلا نبأس، الخالداتُ فلا نَبيدُ، الراضيات فلا نَسْخَط. وفي خبر: أن عائشة قالت: إنَّ المؤمنات أجَبْنَهُنَّ، نحن المُصلِّياتُ وما صلَّيْتُنَّ، نحن الصائمات وما صُمتُنَّ، نحن المتصدِّقاتُ وما تصدَّقْتنَّ، قالت عائشة: فغلبنهن. والخيام من الدر المجوف، {فبأي آلاء ربكنما تُكَذِّبان}. {لم يَطْمِثْهُن إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{متكئين} نصب على الاختصاص، {على رَفْرَفٍ} هو كل ثوب عريض، وقيل: هو الوسائد، والأظهر من الحديث أنه سرير مفروش بثياب خُضر، يركب فيه أهل الجنة، ويسير بهم حيث شاؤوا، وقوله: {خُضْرٍ}، وصف لرفرف؛ لأنه مُحلّى بثيابٍ خُضر، والرفرف: إما اسم جنس، أو اسم جمع، واحده: رفرفة.
{وعبقريٍّ حِسَانٍ} أي: طنافس، وهي جياد البُسط، كالزرابي وشبهها. والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن، يسبون إليه كل شيء عجيب. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يُعمل فيها الوَشي، فينسب إليها كل مبالغ في الوصف، وقال الخليل: كل جليل فاضل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبْقري، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمر: «فلم أرَ عَبْقريّاً من الناس يَفْرِي فَرْيَه» والمراد به الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} قال النسفي: وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: ومن دونهما لأنَّ {مدهامتان} دون {ذواتا أفنان}، و{نضّاختان} دون {تجريان}، و{فاكهة} دون {من كل فاكهة زوجان}، وكذلك صفة الحور والمتّكأ. اهـ.
{تبارك اسمُ ربك} أي: تنزّه وتقدّس، أو تكاثر خيره. وفيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام، {ذي الجلال} ذي العظمة. وقرأ الشامي بالرفع، صفة لاسم، {والإكرام} لأوليائه بالإنعام.
قيل: لمَّ ختم تعالى نِعم الدنيا بقوله: {ويبقى وجهُ ربك ذي الجلال والإِكرام} ختم نِعم الآخرة بقوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وناسب هذا ذكر البقاء والديمومية له تعالى، إذ ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر ما امتنّ به من البركة، وهي الخير والزيادة، إذ جاء ذلك عقب ما امتنّ به على المؤمنين، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته.
روَى جابر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن، فقال: «ما لي أراكم سكوتاً، لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم ردّاً، ما أتيتُ على قول الله: {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} إلاَّ قالوا: ولا شيء من نعمك ربنا نكذِّب، فلك الحمد ولك الشكر».
وكررت هذه الآية في هذه السورة إحد وثلاثين مرة، ذُكرت ثمانية منها عقب آيات فيها عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبوب جهنم، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها، على عدد أبوب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمَن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فُتحت له أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم. قاله النسفي.
الإشارة: ومن دون جنتي أهل المقربين جنتا أهل اليمين، وهما جنة حلاوة الطاعة وكمال الاستقامة، أو حلاوة المعاملات وظهور الكرامات، أو حلاوة المناجاة وحصول المداناة، أو: جنة مُعجَّلة في البرزخ لأرواحهم، وأخرى بعد البعث لأشباحهم، وهذا يجري أيضاً في حق المقربين.
وقوله: {مُدْهامتان} شديدة خضرتها؛ لانَّ النظر إلى الخضرة أمْيَلُ، وكذلك أهل العبادة الظاهرية حين يجدون حلاوتها، ويقفون معها، ترمُقهم أبصار العامة بالتعظيم والتكريم، فربما يجنون بعض جزاء أعمالهم، بخلاف أهل الباطن، أهل الفناء والبقاء، لا ترى منهم إلاّ النيران؛ لفرارهم من الخلق، ولخفاء عبادتهم بين فكرة ونظرة، فيهما عينان نضاختان فوارتان بالعلوم الظاهرة التي أثمرتها التقوى، لقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، وكثرة العلوم كمال عند أهل الظاهر، ولا يعتبره أهل الباطن؛ إذ المدار عندهم على الأذواق والوجدان، وتحقيق عين العيان. وفي كتاب شيخ شيوخنا، سيدي عليّ العمراني رضي الله عنه قال: علم الحرب وما جرى بينهم إنما يوجد عند المستشرف على المعركة، وأمّا المباشِر للحرب فهو في شغل شاغل عنه.
فيها فاكهة، أي: تفنُّن في تحقيق المسائل، ونخل؛ تضلُّع من علم الحديث، ورُمان؛ تغلغل في التفسير، أو: فيهما فاكهة تحقيق علم المعاملة، ونخل تحقيق علم الاعتقادات المجازية، ورمان تمسك بعلم التصوُّف، الذي هو دواء القلوب، فيهن خيرات حسان في تلك الجنان أخلاق حسان، وهي ثمرة العلم النافع، حور مقصورات في الخيام، أي: تلك الأخلاق الطيبة مقصورة على قلوب أهل الصفا، لا تظهر إلا لهم، أو: في تلك الجنان الذي هي القلوب، علوم غريبة، لم تكشف لغيرهم، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يفك انغلاقها أحد قبلهم. وفي التسهيل: وإذا كانت العلوم مِنحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لكثير من المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. اهـ. متكئين على رَفرفٍ، أي: بساط فكرة الاعتبار، يستخرج بها جواهر العلوم، ووصفه بالخضرة لظهور أثر فكرهة الاعتبار بما تجليه من العلوم، وفي الحديث: «ساعة من العالِم يتفكر في علمه خير من عبادة الجاهل ألف سنة» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك وصفه بالعبقرية والجَودة؛ لكماله في محله. {تبارك اسم ربك} أي: تعاظم قدره {ذي الجلال والإكرام} حيث مَنَّ بهذه النعم الجِسام على الفريقين، وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وصلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.