عدد المشاهدات:
الحكمة الثانية والأربعون بعد المئة :
إذا أطلق الثناء عليك ولست بأهل، فأثن عليه بما هو أهله
هذه تتمة الحكم الأربع التي يتناول من خلالها ابن عطاء الله، ثناء الناس عليك، ويبين فيها الموقف الذي ينبغي أن تقفه من ذلك، والمعنى الذي يجب أن تدركه من هذا الثناء، والسبل التي ينبغي أن تتخذها لتتقي بها مغبة ثنائهم عليك.
والمعنى الجديد الذي تضيفه هذه الحكمة إلى المعاني الثلاثة التي قبلها، هو أنك إذا رأيت أن الله قد أطلق ألسنة الناس بالثناء عليك، وأنت لست أهلاً لذلك، كما قد علمت، فما عليك إلا أن تتجه بالثناء على الله الذي هو أهل للمحامد كلها.
ذلك لأنه لم يطلق ألسنة الناس بالثناء عليك، على الرغم من أنك لست أهلاً لذلك، إلّا لأنه عز وجلّ أحب أن يستر قبائحك ويخفيها عنهم، وأن ينشر فيهم ما قد يتصورونه مزايا لك.
وهذا من مقتضى صفات لطفه وصفحه وكرمه، إذن فالفضل ليس للناس الذين خفيت عنهم قبائحك وعيوبك، فأثنوا عليك بما رأوه أو حسبوه فيك من المزايا والمكرمات، وإنما الفضل كله لمن ستر عن الناس قبائحك وعيوبك وهي كثيرة، وأبرز لهم في مكانها مزاياك، وهي، إن صدقت، قليلة..
إذن، فلتغيبك هذه الحقيقة عن الناس الذين يمدحونك ويثنون عليك، ولتشهد بدلاً عنهم مولاك الذي تفضل عليك، فأخفى عن الناس معايبك وأطلق ألسنتهم بالثناء عليك. وهذا معنى من معاني ثنائه جل جلاله عليك.
وعندئذ لا بدّ أن ينطلق لسانك بالثناء على الله بما هو أهل له، إذ ستر قبائحك ثم أثنى عليك بما لست أهلاً له.
فتأمل فرق ما بين إنسان يراقب الله تعالى ويعلم أنه المسير والمحرك والملهم، وإنسان غافل عن الله تعالى يرى الصور والمظاهر فيقف عندها ويُسجن في أقطارها.. ذاك يغيب عن نفسه وعن حديث الناس عنه وعن ثنائهم عليه، مستغرقاً في شهود الله تعالى، فينسب كل شيء إليه ويخصه هو بالشكر له والثناء عليه. وهذا يزداد بما يسمع ويرى غفلة عن الله وغياباً عنه، ويعود إلى نفسه مزهوّاً بها، ولا يساوره الشك في أنه، كما يقولون عنه، يتمتع بما يجعله أهلاً للثناء الذي يتلقاه.
ذاك يزيده الثناء عبودية لله، واعترافاً بتقصيره وعجزه وسوء حاله، ومن ثم يزيده الثناء توحيداً لله وقرباً منه. وهذا يزيده الثناء اعتداداً بنفسه وذهولاً عن قبائحه، وإعراضاً عن ربه، ومن ثم يزيده الثناء وقوعاً في براثن الشرك، وقد علمت أن الشرك أنواع كثيرة، يجمعها كلها وصف واحد، وهو أنها تحيل الإيمان بالله إلى مظاهر يتجمل بها اللسان وتزدهي بها الأعضاء، ثم لا حَظَّ للمشاعر والفؤاد منه، وصدق الله القائل: {وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106/12].