آخر الأخبار
موضوعات

الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

_ الحكمة السادسة والأربعون بعد المئة : إذا أردت أن يفتح لك باب الرجاء فاشهد ما منه إليك،

عدد المشاهدات:
الحكمة السادسة والأربعون بعد المئة :
إذا أردت أن يفتح لك باب الرجاء فاشهد ما منه إليك، وإذا أردت أن يفتح لك باب الخوف فاشهد ما منك إليه

إذا توجهت لتشهد ما يفد من الله إليك، رأيت نفسك في خضم بحر مائج لا شطآن ولا قرار له من نعم الله ومنحه.. من ذلك ما يفد إليك من العالم العلوي، كواكبه وأفلاكه ونظام سيره وخدماته النوعية العجيبة لك، ومن ذلك ما يفد إليك من الأرض التي تحتضنك وتعيش فوقها، من الناباتات والأقوات والأطعمة الكثيرة المتنوعة التي تنمو على وجهها، والذخر المتكاثر في داخلها، ونظامها الذي يجعلك تستقر فوقها والمياه المتفجرة في جنباتها.. ومن ذلك ما يقبل إليك من الجوّ الذي يعلوك ويحيط بك متمثلاً في الغلاف الجوي الخاضع لشروط استمرارية حياتك، والرياح الهابة من حولك والماضية مع السحب في أداء خدماتها الكثيرة المتنوعة لتحقيق المزيد من أسباب رغد عيشك. ومن ذلك النظام الدقيق والعجيب الساري في كل جزء، بل جزيئة في كيانك من فرقك إلى قدمك، محققاً لك شروط الحياة الآمنة، واقياً لها من سائر المخاوف والأخطار.

تلك عناوين مجملة لمصادر الرحمة الإلهية الوافدة منه إليك.

ولو أنك تجاوزت العناوين إلى التفاصيل الزاخرة تحتها، لاستغرق الحديث عن كل مصدر منها العمر كله.

تأمل فيما ينطوي عليه علم الفلك من الآلاء والنعم التي أكرم الله بها الإنسان ليجد أمنه وطمأنينته في الأرض وليتعامل مع الزمن على نحو يسعفه في إقامة معايشه، تجد نفسك أمام دنيا من النعم لا حد لها، داخل دنياك التي تتقلب فيها.

وتأمل فيما تنطوي عليه الأرض من عوامل استقرارها، والأسباب التي جعلت منها مهاداً، وأنواع الذخر الذي أُودِعَ لك في باطنها، ومظاهر الخير الذي تفجر لك في ظاهرها، وملايين الأنواع من النباتات المخضرة على وجهها، من كل ما هو قوت وألوان شتى من الأطعمة والفاكهة للأناسي. وما هو دواء وعلاج لكل ما قد يبتلى به الإنسان من الأمراض، وما هو غذاء صالح للأنعام، ثم تأمل في انحناءاتها الممتدة بحيث لا تواجهك منها أي حافة في أي من الجهات، وفي نوعي دورانها الدائبين حول ذاتها وحول الشمس، ثم عد فعدّد ما يمكن أن تحصيه من ذلك كله، من النعم العجيبة التي تدور على محور الخدمة الدائبة للإنسان، تجد نفسك أمام دنيا أخرى من النعم لا حدّ لها، تجوب داخل دنياك التي أقامك الله فيها.

ثم تأمل في جو السماء المحيط بك والذي يعلوك صاعداً، بدءاً من الغلاف الجوي وما فيه من مظاهر وأنواع الحماية لك، ووصولاً إلى ما وراء ذلك من الشهب والنيازك والقطع النارية الملتهبة، التي أقامك الله منها في وقاية تامة وحرز حصين، بأسباب ووسائل اسمها ((العلم)) ومسماها ((اللطف الإلهي بالعباد)). ثم حاول أن تحصي ما قد تراه في ذلك من مظاهر اللطف الإلهي والنعم الربانية التي تطوف هي الأخرى دائبة على خدمة الإنسان، تجد نفسك في مخاضة كبرى لا قعر لها ولا شطآن.

ثم عد إلى نفسك، وقم بسياحة علمية داخل ذاتك، بدءاً من مفرق رأسك، ومروراً بما دونه إلى أخمص قدمك، تجد نفسك أمام جرم صغير انطوى فيه العالم كله.. عالم من الخدمات التي لا يمكن أن تخضع لأي حساب أو حصر، كله ساهر على رعايتك مسؤول عن حمايتك، مكلف بتحقيق رغد عيشك.

وحصيلة القول: إذن أن الله تعالى أقام ملكوته الذي تراه من فوقك ومن تحتك ومن حولك خادماً لك أيها الإنسان، ومن ثم فهو أبلغ مظهر لرحمة الله بك وبالغ تكريمه لك، وحسبك بياناً لهذه الحقيقة هاتان الآيتان من كتاب الله عز وجل:
أولاهما قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} [إبراهيم: 34/14].

والأخرى قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي االْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70/17].

ولقد رأيت كلاماً عجيباً لحجة الإسلام الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين)، يلفت فيه نظر القارئ إلى عينة صغيرة جداً من بحر النعم الإلهية، وفصّل القول في هذه العيّنة وإذ هي وحدها عالم من النعم لا يكاد يحيط الإنسان منه بحدّ، فكيف بك لو تجاوزت هذه العيّنة إلى عالم لا حدّ له، اسمه عالم النعم التي يجوب في أنحائها المترامية الإنسان دون شعور منه ولا إدراك.

ولقد وددت أن أنقل لك كلام الإمام الغزالي عن هذه ((العينة))، على طوله، ولكن رأيت أن من الأولى، لأكثر من سبب، أن أحيلك إلى كلامه هذا، في كتابه الإحياء، اقرأ، بأناة وصبر، ما كتبه في الجزء الرابع تحت عنوان: ((الطرف الثاني من أصناف النعم في خلق الإرادات)) ثم: ((الطرف الثالث في نعم الله تعالى في خلق القدرة وآلات الحركة)).

فما الذي ينتابك عندما تتأمل في كل هذه النعم والرحمات التي تفد إليك من الله عز وجل هابطة إليك من علياء سمائه أو صاعدة إليك من طوايا أرضه، أو مغروسة داخل كيانك؟
إن الذي ينتابك عندئذ، هو شعور غامر بأن الإنسان لن يفاجئه من الله إذا رحل إليه ووقف بين يديه يوم القيامة إلا الإكرام الوفير والإحسان الجزيل، إذ تلك هي سيرته في عباده وهذا هو نموذج شأنه معهم اليوم في دار الدنيا، ولا ريب أنه سيكون أكثر رحمة بهم وأكثر تفضلاً عليهم، في الحياة الآخرة.

وهذا هو معنى قول ابن عطاء الله في الشطر الأول من هذه الحكمة: ((إذا أردت أن يفتح لك باب الرجاء فاشهد ما منه إليك)).

هذا الذي قاله سليم ودقيق، فإن الذي يتأمل في مظاهر رعاية الله وحمايته له، من خلال الأجهزة المعقدة الكثيرة التي تعمل عملها الذي أقامها الله عليه داخل جسمه، يعلم أن الله أرأف بعبده هذا من رأفة الأم بوليدها، ومن ثم لا بدَّ أن يزدهر الرجاء بصفح الله وعفوه عن عباده الذين هذا هو شأنه اليوم في رعايته لهم وكلاءته إياهم. فكيف إذا تأمل في المظاهر والأنظمة الكونية الأخرى التي تطوف كلها حوله بالخدمة والعناية، بأمر من الله عز وجل لها بذلك؟

فأما إن توجهت لتشهد ما يفد منك إلى الله عز وجل، وتأملت ملياً في ذلك، فلسوف تجد ما يخجل.

لسوف تجد أن الله أخبرك بتكريمه لك عندما أسجد الملائكة لك في شخص أبيك آدم، وعندما طرد إبليس في سبيلك من جنته ورحمته، إذ استكبر عليك وأبى أن يسجد لك، ثم حذرك من أن تعصيه فيما قد ينصحك ويوصيك به، مؤثراً طاعة عدوّك هذا. ولكنك أعرضت عن نصائحه ووصاياه وعن مقتضيات تكريمه لك، واتخذت من إبليس الذي طرده الله من رحمته في سبيلك، وليّاً لك من دونه، يوسوس بخداعه إليك فتنقاد إليه ويأمرك بما يرديك فتستجيب له!..

وتقرأ أو تسمع بين الحين والآخر هذا العتاب الرقيق من الله لك على ذلك، إذ يقول: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50/18]... فتمضي مستمراً في انقيادك لأوامر عدوك هذا، وفي الإعراض عن وصايا إلهك الذي خلقك وكرّمك.

وتعود إلى النعم التي أسداها الله إليك، وإلى واجب شكرك له، في مثل قوله: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152/2] تجد أنك قد انشغلت بالتمتع بنعمه عن التوجه إلى شكره!..

وتتأمل في حديثه لك عن الدنيا، وتحذيره لك من الاغترار بها والركون إليها، وفي تأكيداته لك بأنها في الحقيقة مجرد ظل زائل وبرق خلّب، وألق لا دوام له، وفي أمره لك باتخاذها بُلْغَةً توصلك إلى مرضاة الله ومطية توصلك إلى جنانه، لتعود إلى نفسك فترى كيف افتُتِنْتَ بها وركنْتَ إليها وألقيت عصا التسيار فيها شأن من يجزم بأنه مخلّد فيها لا حِوَل له عنها، ونسيت في غمار اهتمامك بها وسكونك إليها الوصايا التي أمرك الله بها والنهاية التي أنت آيل إليها.. وهكذا، عمرت دنياك التي حذرك الله من الاغترار بها بقصور الشهوات والأهواء، وخربت آخرتك التي حذرك الله من إهمالها بالركون إلى المعاصي والموبقات.

ألم يقل لك: {وَما هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64/29].

ألم يقل لك مؤكداً: {يا أَيُّها النّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5/35].

ألم يقل لك محذراً: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء: 18/17].

لعلك تقول: أما أنا فلقد عدت إلى العتاب الرباني الرقيق لمن يتخذون الشيطان ولياً لهم من دون الله تعالى، وعدت إلى الآيات التي يحذر الله فيها الناس من الركون إلى الدنيا ومن الاغترار بها، والتي يحذرهم فيها من إهمال وصاياه والإعراض عن أوامره وشرائعه. فوجدتُني متحرراً من ولاية الشيطان واتباعه، متسامياً عن الاغترار بالدنيا، مستجيباً لأوامر الله وشرائعه، شاكراً لعطاياه وأنعمه.

فاعلم أنك إن قلت هذا وكنت جاداً فيما تقول، فأنت إذن في مقدمة من نسوا أو تناسوا حقوق الله، وأوغلوا في اللحاق وراء شهواتهم وأهوائهم وركنوا إلى العاجل من دنياهم.. ليس في الناس كلهم نبي ولا رسول يزعم أنه قد أدى حقوق الله كاملة، وأنجز كل ما عليه من واجبات وتبعات، فضلاً عن الأولياء والصالحين، فضلاً عن أمثالنا من عامة الناس.. وإنما يزعم هذا من جهل أو تجاهل النعم التي طوق الله بها عنقه وغمر بها حياته، ومن ثم راح يدعي أنه قد أنجز سائر حقوق الله عليه، وهذه بحدّ ذاتها كبيرة من أشنع الكبائر، وقد مرّ بك بيان الدليل على ذلك.

أين أنت إذن من قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلَى ظَهْرِها مِنْ دابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً} [فاطر: 45/35].

وقد حدثتك من قبل، في مناسبة مرت، عن الكرب الذي حاق بأصحاب رسول الله -وهم النخبة المتميزة من عباد الله الصالحين- عندما نزل قول الله تعالى:{لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123/4] وقول أبي بكر لرسول الله وقد جاءه مثقلاً بالهم: ما الخلاص بعد اليوم؟.

أفتكون أنت اليوم أصلح حالاً مع الله منهم؟
إن النعم التي أغدقها الله عليك أجلّ  وأكثر من أن تؤدي حق واحدة منها، وإن عشت تعبد الله العمر كله. كيف وإن عبادتك التي تنهض بها واحدة من نعم الله عليك!.. فكيف تمتنّ بما تفضل الله به عليك، على ذاته العلية، وتجعل من تفضله عليك أداء لسابغ حقه عليك؟..

عد إلى ذاتك وتأمل في عظيم فضل الله عليك، ثم انظر إلى تقصيرك في جنب الله وإهمالك لكثير من حقوقه عليك ومن الواجبات التي أنهضك إليها والآثام التي تورطت فيها، تجد أن ما يفد إلى الله منك مبعث للخوف من عقابه والحذر من حسابه.. أياً كنت ومهما أوهمتك نفسك أنك من الصالحين والمقربين.

ولكن، فما الموقف الذي يجب علينا اتخاذه؟ أن ننظر إلى ما يفد إلينا من الله، فنكون مع الرجاء والأمل بكرم الله وصفحه دائماً، أم ننظر إلى ما يفد إلى الله منا فنكون مع الخوف والحذر من عقاب الله دائماً؟
إن النهج التربوي الذي يأخذنا القرآن به، أن نخضع أنفسنا ومشاعرنا لمزيج من النظرتين دائماً، فنعيش عندئذ بين جاذبين متكافئين من الأمل بصفح الله وعفوه والخوف من عقاب الله وسطوته.

ألا ترى كيف يذكرك القرآن دائماً من مولاك جل جلاله بهاتين الصفتين؟ ألا ترى أنه لا يحدثك عما أعدّه للصالحين من عباده من مظاهر الصفح والتكريم إلا ويحدثك من قبل أو من بعد عما أعدّ للتائهين والضالين من النكال والعقاب.

ألا ترى كيف يصف االله الصالحين من عباده بأعلى صفات الاستقامة والالتزام بسائر الأوامر والآداب، فإذا تأملت فيها قلت متحسراً أين عملي من أعمالهم؟ وكيف يصف الآخرين بأسوأ أعمالهم المنكرة والقبيحة، فإذا تأملت فيها قلت متفائلاً: إنني لأرجو ألّا أكون منهم، ثم تعود لتتبين موقعك ومصيرك من الفريقين، فلا تجد نفسك إلا بين جاذبي الأمل برحمته والخوف من عقابه، وتلك هي التربية المثلى التي يأخذ الله بها عباده في قرآنه العظيم وكلامه القديم.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير