عدد المشاهدات:
الحكمة الثالثة والأربعون بعد المئة :
الزهاد إذا مُدحوا انقبضوا، لشهودهم الثناء من الخلق، والعارفون إذا مُدحوا انبسطوا، لشهودهم ذلك من الملك الحق
أبدأ فأذكرك بما قلته لك في تعريف ((العارف)) في شرحي للحكمة الخامسة والسبعين، قلت: ((العارف من بلغ من توحيده لله وتوكله على الله وتفويضه إلى الله، درجة تفنى فيها إرادته فيما يريده الله، وتنطوي فيها الأسباب تحت سلطان الله، وتذوب فيها المشهودات في وهج من شهود الله)).
والزاهد من عزفت نفسه عن الدنيا، كما قال ذلك عن نفسه الحارث بن مالك، في الحديث الذي مرّ بك في شرح الحكمة الثانية والخمسين.
ومن خلال النظر في هذين التعريفين تدرك أن بين الزاهد والعارف عموماً وخصوصاً مطلقاً، ذلك لأن كل عارف زاهد، ولكن ليس كل زاهد عارفاً بالضرورة، فالزاهد إذناً عام دائماً إذ هو يشمل العرف وغيره ممن تحقق فيه معنى الزهد، والعارف خاص دائماً إذ هو لا يكون إلّا زاهداً.
إذا تبين لك هذا، فاعلم أن مراد ابن عطاء الله بالزهاد هنا من لم يصلوا إلى درجة العرفان، حسب التعريف الذي ذكرته لك.
أي مراده بالزهاد هنا من عزفت نفوسهم عن الدنيا، ولكنهم لم يبلغوا تلك الدرجة التي فنيت فيها إرادتهم وطويت فيما يريده الله، وغابت عنهم الأسباب تحت سلطان المسبب الذي لم يعودوا يشهدوا سواه.
فهؤلاء الزهاد إذا مُدحوا انقبضوا، أي ضاقوا ذرعاً بمدح الناس لهم. ذلك لأن علاقتهم بعالم الأسباب قائمة ومستمرة، ومن ثم فإن إرادتهم ورغباتهم هي التي تقودهم إلى السلوك، وعزوف أنفسهم عن الدنيا لا يعني غيابهم أو انصرافهم عن التعامل معها.
ورب زاهد في الدنيا يظل يمارس تخوفه منها، ويستديم عزوفه عنها عن طريق الحذر من مغرياتها ومكائدها، والشأن فيه أن يقيم علاقاته مع الناس ويمدّ جسور التعامل والتعاون معهم، يحسب لتصرفاتهم حساباً ويقيم لأفكارهم وأحكامهم وزناً، مع الحذر منهم على نفسه والحيطة لدينه.
فإذا تلقى أحدهم من الناس ثناء عليه لما قد رأوه من حسن سيرته أو دلائل عفته وزهده، أو لغير ذلك من المزايا المحببة، غاب عن شعوره الملهِمُ الذي أوحى إلى عباده بأن يتوجهوا إليه بهذا الثناء، إذ إن شعوره لا يزال محاطاً بعالم الأسباب وصورها، فيرى أن هذا الثناء الذي يتلقاه من الناس إنما هو فتنة له، وأنهم إنما يثنون عليه لما يرون من ظاهر أمره، ويجهلونه من خفي أحواله، فينقبض لذلك ويستوحش من هذا الذي يتحدث به الناس عنه.
أما العارفون -وقد عرفت صفاتهم- فإنهم لا يتلقون ثناء الناس عليهم، على أنه صادر من رؤاهم وأفكارهم، وإنما يتلقونه ثناء آتياً إليهم من الله عز وجل. إذ إن الأسباب الكونية كلها مطوية عن شهودهم. ومن ثم فإنهم لا يشعرون بما قد يبعث في نفوسهم ضيقاً أو انزعاجاً من ذلك، كيف وهم لا يرون ذلك آتياً إلا من عند الله عز وجل؟
والسؤال الذي ينبعث من هذا الذي يقرره ابن عطاء الله، هو: أليس الرضا عن ثناء الناس ومدحهم مصدر زهو وإعجاب أو أثراً من آثارهما؟
وكيف يتفق هذا مع ما قاله من قبل: ((المؤمن إذا مدح استحيا من الله أن يُثنى عليه بوصف لا يشهده من نفسه))، ومع قوله: ((أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس)).
والجواب عن الشطر الأول من السؤال: إن الإعجاب أو الزهوّ بالثناء إنما هو شأن من غاب عن شهود الله، بملاحظة ذاته والاهتمام بنفسه وتخيّل أنها ذات فاعلية، وأن إليها الفضل فيما قد يصدر عنها من صالح الأعمال. وقد علمت أن العارف هو ذاك الذي غاب عن نفسه وفنيت إرادته فيما يريده الله عز وجل، فمن أين يتسرب إليه الإعجاب بنفسه لثناء الناس عليه، وهو ذاهل بل غافل عن نفسه بشهود الله؟
إن مصدر أنسه أو انبساطه بالثناء الذي يتلقاه، إنما هو سروره بما دل على رضا الله بقطع النظر عن نفسه أو حاله التي هو غائب عنها.
أما الجواب عن الشطرالثاني من هذا السؤال، فهو أن حياء العارف من الله تعالى أن يُثنى عليه بما لا يراه أهلاً له، لا يتنافى مع سروره بهذا الثناء، عندما يغيب شخص المثني عليه ويرى الثناء آتياً إليه من الله عز وجل.
فالسرور إنما هو لما دل على رضا الله عنه، بقطع النظر عن كونه أهلاً له أم لا، والحياء إنما هو لما يعلم من تقصيره في القيام بحقوق ربه، والعارفون أكثر الناس يقيناً بتقصيرهم في النهوض بحقوق الله عليهم.
ولقد تلقى العشرة المبشرون بالجنة، من تلك البشارة ما أبهجهم وأدخل إلى أفئدتهم السرور، ولكن ذلك لم يكن ليحجبهم عن شعورهم بعظيم تقصيرهم في القيام بحقوق الله وفي أن الله إنما تجاوز عنهم ذلك كله تفضلاً منه وإحساناً. ولا ريب أن من شأن ذلك أن يملأ أفئدتهم إلى جانب السرور بمغفرته وكرمه، بالحياء الشديد منه، بل بالخوف أيضاً من أن يصدر عنهم من السوء والتقصير ما يحيل صفح الله عنهم وعفوه إلى عقوبة ونكال.
وأما أن ((أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس)) فذلك ينطبق على الزهاد الذين يرون أن الثناء آت إليهم من الخلق لا من الخالق. فالشأن فيهم أن يعودوا إلى اليقين الذي يعرفونه من أنفسهم، وألّا يخدعوا بالظنون التي يعتمد عليها المادحون لهم.
أما أولئك الذين يرون فاعلية واحدة في الكون كله، تذوب وتنمحي فيها صور الأسباب وعلاقة ما بينها وبين المسببات، ألا وهي فاعلية الله وسلطانه، فقد علمت أنهم إذا سمعوا الثناء عليهم، لا يتلقونه من الناس، وإن بدا أنه كذلك، وإنما يتلقونه من الله إذ أنطق عباده بما ألهمهم إياه، ولا بدَّ أن يثقوا عندئذ بالثناء الذي يتلقونه أكثر من ثقتهم بما يعرفونه من أنفسهم.
ومن أوضح الأدلة على هذا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض... )) [رواه مسلم من حديث أو هريرة].
ثم إن لهذا الكلام بسطاً لا بدَّ من عرضه بالقدر الذي يزيل عنه اللبس.
إن مما لا ريب فيه أنك لا تتلقى ثناء من أحدٍ عليك، إلا بإلهام من الله له أن يثني عليك، ولو داخلتك ريبة في ذلك لما كنت متشبعاً بعقيدة التوحيد التي هي الدعامة الأولى للإيمان.
ولكن ربما كان هذا الإلهام الآتي من الله عز وجل، فتنة لك، أي منزلقاً إلى هاوية العجب والاستكبار والاعتداد بالنفس، وربما كان تحبباً إليك وثمرة حبه لك.
والمؤشر الذي يفَرِّق بين كلا هذين الاحتمالين اللذين قد تتعرض لهما، يتمثل في الرجوع إلى نفسك وحالك.
فإن كنت صاحب اعتداد بنفسك وإعجاب بشأنك، وكانت لك زلّات وانحرافات عن صراط الله وتعاليمه، فاعلم أن ما تلقيته من الثناء فتنة لك، فكن على حذر منه، وإياك أن تستسلم له فتزلّ منك القدم، وتهوي إلى وادي الضيعة والهلاك.
وإن كنت بحمد الله وتوفيقه لا ترى لنفسك حولاً ولا قوة، ولا قدرة على نفع ولا عصمة من ضعف، موقناً أنك في قبضة الله وحكمه هو المتصرف بك وهو الموفق لك. فلك أن تستبشر بالثناء الذي تتلقاه، موقناً أنه من مؤشرات حب الله لك وتحببه إليك.
ولن يكون في استبشارك هذا أي خطر عليك، لأنك موقن بأن المتفضل عليك بالثناء وأسبابه هو الله، ليس لك في شيء من ذلك أي جهد ذاتي أو فضل شخصي. هو الذي وفقك، وهو الذي أثنى عليك بما قد وفقك إليه، فلا جرم أن هذا يزيدك استغراقاً في شكره ويزيدك محواً عن نفسك.
فانظر، من أي الفريقين أنت. وعندئذ تستطيع أن تنسب نفسك إلى من سماهم ابن عطاء الله بالزهاد، أو أن تنسب نفسك إلى من سماهم العارفين، وأعيذك بالله أن تكون من أي فريق ثالث.
ولكن لا تنس أن عنوان كونك من العارفين أن تعلم أنك لا شيء، ومن ثم فأنت لا تملك شيئاً، ولا يتأتى منك شيء ولا تنسب إلى نفسك أي شيء، وبكلمة موجزة: أن تغيب عن نفسك في شهود الله عز وجل، وأن تنمحي إرادتك في سلطان حكمه وإرادته.
وعندما تكون كذلك، تكون من العارفين، دون أن تشعر أنك منهم.
الزهاد إذا مُدحوا انقبضوا، لشهودهم الثناء من الخلق، والعارفون إذا مُدحوا انبسطوا، لشهودهم ذلك من الملك الحق
أبدأ فأذكرك بما قلته لك في تعريف ((العارف)) في شرحي للحكمة الخامسة والسبعين، قلت: ((العارف من بلغ من توحيده لله وتوكله على الله وتفويضه إلى الله، درجة تفنى فيها إرادته فيما يريده الله، وتنطوي فيها الأسباب تحت سلطان الله، وتذوب فيها المشهودات في وهج من شهود الله)).
والزاهد من عزفت نفسه عن الدنيا، كما قال ذلك عن نفسه الحارث بن مالك، في الحديث الذي مرّ بك في شرح الحكمة الثانية والخمسين.
ومن خلال النظر في هذين التعريفين تدرك أن بين الزاهد والعارف عموماً وخصوصاً مطلقاً، ذلك لأن كل عارف زاهد، ولكن ليس كل زاهد عارفاً بالضرورة، فالزاهد إذناً عام دائماً إذ هو يشمل العرف وغيره ممن تحقق فيه معنى الزهد، والعارف خاص دائماً إذ هو لا يكون إلّا زاهداً.
إذا تبين لك هذا، فاعلم أن مراد ابن عطاء الله بالزهاد هنا من لم يصلوا إلى درجة العرفان، حسب التعريف الذي ذكرته لك.
أي مراده بالزهاد هنا من عزفت نفوسهم عن الدنيا، ولكنهم لم يبلغوا تلك الدرجة التي فنيت فيها إرادتهم وطويت فيما يريده الله، وغابت عنهم الأسباب تحت سلطان المسبب الذي لم يعودوا يشهدوا سواه.
فهؤلاء الزهاد إذا مُدحوا انقبضوا، أي ضاقوا ذرعاً بمدح الناس لهم. ذلك لأن علاقتهم بعالم الأسباب قائمة ومستمرة، ومن ثم فإن إرادتهم ورغباتهم هي التي تقودهم إلى السلوك، وعزوف أنفسهم عن الدنيا لا يعني غيابهم أو انصرافهم عن التعامل معها.
ورب زاهد في الدنيا يظل يمارس تخوفه منها، ويستديم عزوفه عنها عن طريق الحذر من مغرياتها ومكائدها، والشأن فيه أن يقيم علاقاته مع الناس ويمدّ جسور التعامل والتعاون معهم، يحسب لتصرفاتهم حساباً ويقيم لأفكارهم وأحكامهم وزناً، مع الحذر منهم على نفسه والحيطة لدينه.
فإذا تلقى أحدهم من الناس ثناء عليه لما قد رأوه من حسن سيرته أو دلائل عفته وزهده، أو لغير ذلك من المزايا المحببة، غاب عن شعوره الملهِمُ الذي أوحى إلى عباده بأن يتوجهوا إليه بهذا الثناء، إذ إن شعوره لا يزال محاطاً بعالم الأسباب وصورها، فيرى أن هذا الثناء الذي يتلقاه من الناس إنما هو فتنة له، وأنهم إنما يثنون عليه لما يرون من ظاهر أمره، ويجهلونه من خفي أحواله، فينقبض لذلك ويستوحش من هذا الذي يتحدث به الناس عنه.
أما العارفون -وقد عرفت صفاتهم- فإنهم لا يتلقون ثناء الناس عليهم، على أنه صادر من رؤاهم وأفكارهم، وإنما يتلقونه ثناء آتياً إليهم من الله عز وجل. إذ إن الأسباب الكونية كلها مطوية عن شهودهم. ومن ثم فإنهم لا يشعرون بما قد يبعث في نفوسهم ضيقاً أو انزعاجاً من ذلك، كيف وهم لا يرون ذلك آتياً إلا من عند الله عز وجل؟
والسؤال الذي ينبعث من هذا الذي يقرره ابن عطاء الله، هو: أليس الرضا عن ثناء الناس ومدحهم مصدر زهو وإعجاب أو أثراً من آثارهما؟
وكيف يتفق هذا مع ما قاله من قبل: ((المؤمن إذا مدح استحيا من الله أن يُثنى عليه بوصف لا يشهده من نفسه))، ومع قوله: ((أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس)).
والجواب عن الشطر الأول من السؤال: إن الإعجاب أو الزهوّ بالثناء إنما هو شأن من غاب عن شهود الله، بملاحظة ذاته والاهتمام بنفسه وتخيّل أنها ذات فاعلية، وأن إليها الفضل فيما قد يصدر عنها من صالح الأعمال. وقد علمت أن العارف هو ذاك الذي غاب عن نفسه وفنيت إرادته فيما يريده الله عز وجل، فمن أين يتسرب إليه الإعجاب بنفسه لثناء الناس عليه، وهو ذاهل بل غافل عن نفسه بشهود الله؟
إن مصدر أنسه أو انبساطه بالثناء الذي يتلقاه، إنما هو سروره بما دل على رضا الله بقطع النظر عن نفسه أو حاله التي هو غائب عنها.
أما الجواب عن الشطرالثاني من هذا السؤال، فهو أن حياء العارف من الله تعالى أن يُثنى عليه بما لا يراه أهلاً له، لا يتنافى مع سروره بهذا الثناء، عندما يغيب شخص المثني عليه ويرى الثناء آتياً إليه من الله عز وجل.
فالسرور إنما هو لما دل على رضا الله عنه، بقطع النظر عن كونه أهلاً له أم لا، والحياء إنما هو لما يعلم من تقصيره في القيام بحقوق ربه، والعارفون أكثر الناس يقيناً بتقصيرهم في النهوض بحقوق الله عليهم.
ولقد تلقى العشرة المبشرون بالجنة، من تلك البشارة ما أبهجهم وأدخل إلى أفئدتهم السرور، ولكن ذلك لم يكن ليحجبهم عن شعورهم بعظيم تقصيرهم في القيام بحقوق الله وفي أن الله إنما تجاوز عنهم ذلك كله تفضلاً منه وإحساناً. ولا ريب أن من شأن ذلك أن يملأ أفئدتهم إلى جانب السرور بمغفرته وكرمه، بالحياء الشديد منه، بل بالخوف أيضاً من أن يصدر عنهم من السوء والتقصير ما يحيل صفح الله عنهم وعفوه إلى عقوبة ونكال.
وأما أن ((أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس)) فذلك ينطبق على الزهاد الذين يرون أن الثناء آت إليهم من الخلق لا من الخالق. فالشأن فيهم أن يعودوا إلى اليقين الذي يعرفونه من أنفسهم، وألّا يخدعوا بالظنون التي يعتمد عليها المادحون لهم.
أما أولئك الذين يرون فاعلية واحدة في الكون كله، تذوب وتنمحي فيها صور الأسباب وعلاقة ما بينها وبين المسببات، ألا وهي فاعلية الله وسلطانه، فقد علمت أنهم إذا سمعوا الثناء عليهم، لا يتلقونه من الناس، وإن بدا أنه كذلك، وإنما يتلقونه من الله إذ أنطق عباده بما ألهمهم إياه، ولا بدَّ أن يثقوا عندئذ بالثناء الذي يتلقونه أكثر من ثقتهم بما يعرفونه من أنفسهم.
ومن أوضح الأدلة على هذا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض... )) [رواه مسلم من حديث أو هريرة].
ثم إن لهذا الكلام بسطاً لا بدَّ من عرضه بالقدر الذي يزيل عنه اللبس.
إن مما لا ريب فيه أنك لا تتلقى ثناء من أحدٍ عليك، إلا بإلهام من الله له أن يثني عليك، ولو داخلتك ريبة في ذلك لما كنت متشبعاً بعقيدة التوحيد التي هي الدعامة الأولى للإيمان.
ولكن ربما كان هذا الإلهام الآتي من الله عز وجل، فتنة لك، أي منزلقاً إلى هاوية العجب والاستكبار والاعتداد بالنفس، وربما كان تحبباً إليك وثمرة حبه لك.
والمؤشر الذي يفَرِّق بين كلا هذين الاحتمالين اللذين قد تتعرض لهما، يتمثل في الرجوع إلى نفسك وحالك.
فإن كنت صاحب اعتداد بنفسك وإعجاب بشأنك، وكانت لك زلّات وانحرافات عن صراط الله وتعاليمه، فاعلم أن ما تلقيته من الثناء فتنة لك، فكن على حذر منه، وإياك أن تستسلم له فتزلّ منك القدم، وتهوي إلى وادي الضيعة والهلاك.
وإن كنت بحمد الله وتوفيقه لا ترى لنفسك حولاً ولا قوة، ولا قدرة على نفع ولا عصمة من ضعف، موقناً أنك في قبضة الله وحكمه هو المتصرف بك وهو الموفق لك. فلك أن تستبشر بالثناء الذي تتلقاه، موقناً أنه من مؤشرات حب الله لك وتحببه إليك.
ولن يكون في استبشارك هذا أي خطر عليك، لأنك موقن بأن المتفضل عليك بالثناء وأسبابه هو الله، ليس لك في شيء من ذلك أي جهد ذاتي أو فضل شخصي. هو الذي وفقك، وهو الذي أثنى عليك بما قد وفقك إليه، فلا جرم أن هذا يزيدك استغراقاً في شكره ويزيدك محواً عن نفسك.
فانظر، من أي الفريقين أنت. وعندئذ تستطيع أن تنسب نفسك إلى من سماهم ابن عطاء الله بالزهاد، أو أن تنسب نفسك إلى من سماهم العارفين، وأعيذك بالله أن تكون من أي فريق ثالث.
ولكن لا تنس أن عنوان كونك من العارفين أن تعلم أنك لا شيء، ومن ثم فأنت لا تملك شيئاً، ولا يتأتى منك شيء ولا تنسب إلى نفسك أي شيء، وبكلمة موجزة: أن تغيب عن نفسك في شهود الله عز وجل، وأن تنمحي إرادتك في سلطان حكمه وإرادته.
وعندما تكون كذلك، تكون من العارفين، دون أن تشعر أنك منهم.