عدد المشاهدات:
اعلم أن الحق سبحانه لما أراد أن يتجلى بأسرار ذاته وأنوار صفاته ، أظهر بقدرته قبضة من نوره الأزلي ، فأقتضت القدرة ظهور آثارها وشهود أنوارها ، وأقتضت الحكمة إسدال حجابها وإظهار أستارها، فلما فرغت القدرة نورها في مظاهر الكون ، أسدلت عليها الحكمة رداء الصون ، فصارت الأكوان كلها نوراً في حجاب مستور ، ثم إن الحق سبحانه قسم الخلق على قسمين ، وفرقهم فرقتين ، قسم اختصهم بمحبته،وجعلهم من أهل ولايته، ففتح لهم الباب وكشف لهم الحجاب، فأشهدهم أسرار ذاته، ولم يحجبهم عنه بأثار قدرته، وقسم أقامهم لخدمته وجعلهم من أهل حكمته، أسدل عليهم حجاب الوهم وغيب عنهم نور العلم والفهم، فوقفوا مع ظواهر القشور ولم يشهدوا بواطن النور، مع شدة الظهور، فسبحان من أخفى سره بحكمته، وأظهر نوره بقدرته، فأما أهل المحبة وهم أهل الولاية والعرفان من أهل الشهود والعيان، فهم يستدلون بالنور على وجود الستور، فلا يرون إلا النور، وبالحق على وجود الخلق، فلا يجدون إلا الحق، وبقدرته على حكمته، فوجدوا قدرته عين حكمته ،وحكمته عين قدرته، فغابوا بشهود الحق عن رؤية الخلق،إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه، وأما أهل الخدمة من أهل الحكمة، فهم يستدلون بظهور الستور على وجود النور، وبالخلق على وجود الحق، غابوا عنه في حال حضوره، وحجبوا عنه بشدة ظهوره،قال بعض العارفين: "أثبت الله تعالى للعامة المخلوق، فأثبتوا به الخالق وأثبت للخاصة نفسه فأثبتوا به المخلوق" فشتان بين من يستدل به على ظهور أثره،وبين من يستدل بظهور أثره على وجوده، لأن من يستدل به عرف الحق وهو الوجود الحقيقي لأهله أي لمن هو أهل له ويستحقه وهو الله الواجب الوجود الملك المعبود، وأثبت الأمر وهو القدم للوجود الحقيقي من وجود أصله وهو الجبروت
الأصلي القديم الأزلي، يعني أن من عرف الله حتى صار عنده ضرورياً،عرف الوجود إنما هو الله وانتفى عنه وجود ما سواه ، وأثبت القدم لأوله ومنتهاه والله تعالى أعلم.
وأما من يستدل عليه فلبعده عنه في حال قربه منه ، ولغيبته عنه في حال حضوره معه بَعَّدَهُ الوَهْم وغَيَّبَهُ عَدَم الفهم،وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه،إذ هو أقرب إليك من حبل الوريد، ومتى بعد حتى تكون الآثار الوهمية هي التي توصل إليه، وهو معكم أينما كنتم، إذ أثر القدرة هو عينها، فالصفة لا تفارق الموصوف، إذ لا قيام لها إلا به،ولا ظهور لها إلا منه،والله تعالى أعلم.
ولما كان المستدلون بالله قد وسع الله عليهم دائرة العلوم،وفتحت لهم مخازن الفهوم،بخلاف المستدلين عليه، قد قتر الله عليهم أرزاق العلم بوجود حجاب الوهم،أشار إلى ذلك بقوله:{ لينفق ذو سعة من سعته } الواصلون إليه { ومن قدر عليه } السائرون إليه السعة هي الغنى، وقدر عليه ضيق عليه.
قلت أما الواصلون إليه، فلأنهم لما نفذت أرواحهم من ضيق الأكوان إلى قضاء الشهود والعيان،أو تقول لما عرجت أرواحهم من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، أو من عالم الملك إلى عالم الملكوت،اتسعت عليها دائرة أرزاق العلوم،وفتحت لها مخازن الفهوم،فأنفقوا من سعة غناهم جواهر العلم المكنون، ومن مخازن كنوزهم يواقيت السر المصون،وما أعظم فتح من لحظته منهم الرعاية، "إن لله رجالاً من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً" وهم أهل السر والحال، وأما السائرون إلى الله،فلأنهم باقون في ضيق الأكوان، وفي عالم الأشباح مسجونون، في سجن الوهم لم يفتح لهم شيء من مخازن الفهم، مشغولون بجهاد نفوسهم ومعاناة تصفية قلوبهم ، مضيق عليهم في العلوم ومقتر عليهم في سائر الفهوم، فإن جدوا في السير وصلوا، وانتقلوا من ضيق الأكوان، ورحلوا وتبختروا في رياض العلوم،ورفلوا فظفروا بما أملوا وإستغنوا بعدها أن ملوا، وإن رجعوا من الطريق أو قصروا فقد خابوا وخسروا.
تنبيه : إن أردت أن يتسع عليك علم الأذواق، فاقطع عنك مادة الأوراق، فما دمت متكلاً على كنز غيرك لا تحفر على كنزك أبداً، فاقطع عنك المادة وافتقر إلى الله،تفيض عليك المواهب من الله "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" إن أردت بسط المواهب عليك، صحح الفقر والفاقة لديك وبالله التوفيق.
ثم ذكر سبب اتساع العلوم على الواصلين دون السائرين، وهو أن الواصلين لم يقفوا مع شهود الأنوار، بل نفذوا إلى نور الأنوار، بخلاف السائرين،فإنهم واقفون مع الأنوار، مفتقرون إليها مملوكون في يدها،فقال : "اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه والواصلون لهم أنوار المواجهة فالأولون للأنوار".
وهؤلاء الأنوار لهم لأنهم لله، لا لشيء دونه، "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون".
قلت أنوار التوجيه هي أنوار الإسلام والإيمان، وأنوار المواجهة هي أنوار الأحسان، أو تقول أنوار التوجيه أنوار الطاعة الظاهرة والباطنة، وأنوار المواجهة هي أنوار الفكرة والنظرة،أو تقول أنوار التوجه أنوار الشريعة والطريقة، وأنوار المواجهة أنوار الحقيقة، أو تقول أنوار التوجه أنوار المجاهدة والمكابدة، وأنوار المواجهة هي أنوار المشاهدة والمكالمة، وبيان ذلك أن الحق سبحانه إذا أراد أن يوصل عبده إليه، توجه إليه أولا بنور حلاوة العمل الظاهر، وهو مقام الإسلام،فيهتدي إلى العمل ويفنى فيه،ويذوق حلاوته،ثم يتوجه إليه بنور حلاوة العمل الباطن، وهو مقام الإيمان من الإخلاص والصدق والطمأنينة والأنس بالله والتوحش مما سواه، فيهتدي إليه ويفنى فيه ويذوق حلاوته،ويتمكن من المراقبة،وهذا النور أعظم من الأول وأكمل، ثم يتوجه إليه بنور حلاوة المشاهدة وهو عمل الروح وهو أول نور المواجهة، فتأخذه الدهشة والحيرة والسكرة، فإذا أفاق من سكرته وصحا من جذبته وتمكن من الشهود وعرف الملك المعبود ورجع إلى البقاء كان الله وبالله فأستغنى عن النور بمشاهد نور النور، لأنه صار عين النور، فصار مالكاً للأنوار بعد أن كانت مالكة له لأفتقاره لها قبل وصوله إلى أصلها،فلما وصل صار عبداً لله حراً مما سواه، ظاهره عبودية وباطنه حرية، والحاصل أن المريد ما دام في السير فهو يهتدي بأنوار التوجه مفتقراً إليها لسيره بها، فإذا وصل إلى مقام المشاهدة حصلت له أنوار المواجهة فلم يفتقر إلى شيء لأنه لله لا لشيء دونه.
فالراحلون وهم السائرون للأنوار لإفتقارهم إليها وفرحهم بها،وهؤلاء الواصلون الأنوار لهم لإستغنائهم عنها بالله، فهم لله وبالله لا لشيء دونه، ثم تلى الشيخ هذه الآية على طريق أهل الأشارة "قُلِ اللَّهُ" بقلبك وروحك وغب عما سواه ثم ذر الناس في خوضهم يلعبون، أي يخوضون في السوى لاعبين في الهوى، وقد أعترض بعض المفسرين على الصوفية استشهادهم بهذه الآية،ولم يفهم مرادهم، قد علم كل أناس مشربهم، وكان الشيخ ابن عباد: "يقول لا تجعلوا أهل الظاهر حجة على أهل الباطن" أي لأن أهل الباطن نظرهم دقيق وغزلهم رقيق لا يفهم أشارتهم غيرهم، نفعنا الله بهم وخرطنا في سلكهم آمين.
الأصلي القديم الأزلي، يعني أن من عرف الله حتى صار عنده ضرورياً،عرف الوجود إنما هو الله وانتفى عنه وجود ما سواه ، وأثبت القدم لأوله ومنتهاه والله تعالى أعلم.
وأما من يستدل عليه فلبعده عنه في حال قربه منه ، ولغيبته عنه في حال حضوره معه بَعَّدَهُ الوَهْم وغَيَّبَهُ عَدَم الفهم،وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه،إذ هو أقرب إليك من حبل الوريد، ومتى بعد حتى تكون الآثار الوهمية هي التي توصل إليه، وهو معكم أينما كنتم، إذ أثر القدرة هو عينها، فالصفة لا تفارق الموصوف، إذ لا قيام لها إلا به،ولا ظهور لها إلا منه،والله تعالى أعلم.
ولما كان المستدلون بالله قد وسع الله عليهم دائرة العلوم،وفتحت لهم مخازن الفهوم،بخلاف المستدلين عليه، قد قتر الله عليهم أرزاق العلم بوجود حجاب الوهم،أشار إلى ذلك بقوله:{ لينفق ذو سعة من سعته } الواصلون إليه { ومن قدر عليه } السائرون إليه السعة هي الغنى، وقدر عليه ضيق عليه.
قلت أما الواصلون إليه، فلأنهم لما نفذت أرواحهم من ضيق الأكوان إلى قضاء الشهود والعيان،أو تقول لما عرجت أرواحهم من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، أو من عالم الملك إلى عالم الملكوت،اتسعت عليها دائرة أرزاق العلوم،وفتحت لها مخازن الفهوم،فأنفقوا من سعة غناهم جواهر العلم المكنون، ومن مخازن كنوزهم يواقيت السر المصون،وما أعظم فتح من لحظته منهم الرعاية، "إن لله رجالاً من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً" وهم أهل السر والحال، وأما السائرون إلى الله،فلأنهم باقون في ضيق الأكوان، وفي عالم الأشباح مسجونون، في سجن الوهم لم يفتح لهم شيء من مخازن الفهم، مشغولون بجهاد نفوسهم ومعاناة تصفية قلوبهم ، مضيق عليهم في العلوم ومقتر عليهم في سائر الفهوم، فإن جدوا في السير وصلوا، وانتقلوا من ضيق الأكوان، ورحلوا وتبختروا في رياض العلوم،ورفلوا فظفروا بما أملوا وإستغنوا بعدها أن ملوا، وإن رجعوا من الطريق أو قصروا فقد خابوا وخسروا.
تنبيه : إن أردت أن يتسع عليك علم الأذواق، فاقطع عنك مادة الأوراق، فما دمت متكلاً على كنز غيرك لا تحفر على كنزك أبداً، فاقطع عنك المادة وافتقر إلى الله،تفيض عليك المواهب من الله "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" إن أردت بسط المواهب عليك، صحح الفقر والفاقة لديك وبالله التوفيق.
ثم ذكر سبب اتساع العلوم على الواصلين دون السائرين، وهو أن الواصلين لم يقفوا مع شهود الأنوار، بل نفذوا إلى نور الأنوار، بخلاف السائرين،فإنهم واقفون مع الأنوار، مفتقرون إليها مملوكون في يدها،فقال : "اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه والواصلون لهم أنوار المواجهة فالأولون للأنوار".
وهؤلاء الأنوار لهم لأنهم لله، لا لشيء دونه، "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون".
قلت أنوار التوجيه هي أنوار الإسلام والإيمان، وأنوار المواجهة هي أنوار الأحسان، أو تقول أنوار التوجيه أنوار الطاعة الظاهرة والباطنة، وأنوار المواجهة هي أنوار الفكرة والنظرة،أو تقول أنوار التوجه أنوار الشريعة والطريقة، وأنوار المواجهة أنوار الحقيقة، أو تقول أنوار التوجه أنوار المجاهدة والمكابدة، وأنوار المواجهة هي أنوار المشاهدة والمكالمة، وبيان ذلك أن الحق سبحانه إذا أراد أن يوصل عبده إليه، توجه إليه أولا بنور حلاوة العمل الظاهر، وهو مقام الإسلام،فيهتدي إلى العمل ويفنى فيه،ويذوق حلاوته،ثم يتوجه إليه بنور حلاوة العمل الباطن، وهو مقام الإيمان من الإخلاص والصدق والطمأنينة والأنس بالله والتوحش مما سواه، فيهتدي إليه ويفنى فيه ويذوق حلاوته،ويتمكن من المراقبة،وهذا النور أعظم من الأول وأكمل، ثم يتوجه إليه بنور حلاوة المشاهدة وهو عمل الروح وهو أول نور المواجهة، فتأخذه الدهشة والحيرة والسكرة، فإذا أفاق من سكرته وصحا من جذبته وتمكن من الشهود وعرف الملك المعبود ورجع إلى البقاء كان الله وبالله فأستغنى عن النور بمشاهد نور النور، لأنه صار عين النور، فصار مالكاً للأنوار بعد أن كانت مالكة له لأفتقاره لها قبل وصوله إلى أصلها،فلما وصل صار عبداً لله حراً مما سواه، ظاهره عبودية وباطنه حرية، والحاصل أن المريد ما دام في السير فهو يهتدي بأنوار التوجه مفتقراً إليها لسيره بها، فإذا وصل إلى مقام المشاهدة حصلت له أنوار المواجهة فلم يفتقر إلى شيء لأنه لله لا لشيء دونه.
فالراحلون وهم السائرون للأنوار لإفتقارهم إليها وفرحهم بها،وهؤلاء الواصلون الأنوار لهم لإستغنائهم عنها بالله، فهم لله وبالله لا لشيء دونه، ثم تلى الشيخ هذه الآية على طريق أهل الأشارة "قُلِ اللَّهُ" بقلبك وروحك وغب عما سواه ثم ذر الناس في خوضهم يلعبون، أي يخوضون في السوى لاعبين في الهوى، وقد أعترض بعض المفسرين على الصوفية استشهادهم بهذه الآية،ولم يفهم مرادهم، قد علم كل أناس مشربهم، وكان الشيخ ابن عباد: "يقول لا تجعلوا أهل الظاهر حجة على أهل الباطن" أي لأن أهل الباطن نظرهم دقيق وغزلهم رقيق لا يفهم أشارتهم غيرهم، نفعنا الله بهم وخرطنا في سلكهم آمين.