عدد المشاهدات:
إذا كان الإسلام يمثل أكمل المراحل في تاريخ الديانات مصداقا لقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ( المائدة: 4) فإنه دين الشريعة العادلة المنظمة لعلاقة الإنسان مع الآخر والعالم، ودين عقيدة سامية بنيت أحكام وأحوال التوجه إلى الله ومحبته ومعرفته، ودين أخلاق لما دعا إليه في أحكامه وعقائده من ضرورة التمسك بقيم الفضيلة والتسامح والرحمة، ودين جمال لأنه أرشد في كل ما سبق إلى الإتقان والإحسان والإجادة.
ويعد القرآن أعظم مظهر نتلمس فيه مظاهر هذا الكمال الجمالي، إذ نظمت معاني ألفاظه في صورة بيانية فاقت كل ألوان وصور الجمال المعبر عنه في الأكوان، فكان كتابا معجزا.
ولا غرو أن يكون هذا وصف القرآن العظيم لأنه كلام الله، وهو صفته، ومن صفاته وأسمائه "الجميل"، وترك تعالى الإخبار عنه بهذه الصفة لأكمل وأجمل هيكل بشري في الوجود ألا وهو سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق وغمط الناس"(1).
وفي مثل هذه الأحاديث النبوية الشريفة من المعاني ما لا يعد ولا يحصى، لأن المتكلم صلى الله عليه وسلم أوتي مفاتيح الكلم وجوامعه، فقد ربط عليه الصلاة والسلام جمال الله تعالى بالحديث عن جمال الإنسان، وهو ربط معرفي عميق، إذ الإنسان هو أعظم صورة ومثال لتجلي الجمال الإلهي.
ولقد أخبر الحق تعالى عن هذه الحقيقة بقوله تقدس اسمه: (الله الذي جعل لكم الاَرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) (غافر: 64).
وزاد، صلى الله عليه وسلم، في بيان هذا المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته"(2).
فالمعتقد الصحيح بالنسبة لهذا الحديث إذا كان الضمير في "صورته" يعود إلى الله تعالى، أن الله تعالى منزه عن الخلق مباين لهم، متعال عن الكيف والمثال عز اسمه وتقدست صفاته، وإنما المراد كما ذهب إلى ذلك الحافظ بن حجر فيما رواه عن بعضهم أن "المراد بالصورة الصفة، والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر، وإن كانت صفات الله لا يشبهها شيء"(3).
وإلى ذلك ذهب الإمام الشعراني؛ إذ قال: "وإنما المراد به صورة الأفعال والأخلاق مع تباين الحقائق، فإن الله تعالى جعل لآدم وبنيه الأمر والنهي، والتولية والعزل بإذن الله عز وجل، إذ الصورة تطلق ويراد بها الشأن والأمر، والحكم"(4).
وهكذا تتبدى معاني المعرفة الإلهية في هذا الهيكل الآدمي الذي هو بنيان الرب، إذ هو الصورة التي رسمت عليها عظمة هذا الخالق، وظهر فيها جماله تعالى.
وبذلك نفهم سجود الملائكة لآدم عليه السلام، فقد ربط الله تعالى بين الخلق والتصوير المتعلق بالإنسان، وأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، في قوله عز اسمه: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اِسجدوا ءَلادم فسجدوا) (الأعراف: 10).
فسجود الملائكة هو خضوع لأمر الخالق المصور الجميل، إنه شهود الجمال الإلهي في هذا المظهر العجيب الذي هو آدم أبو البشرية.
ولأجل ذلك جعله الله تعالى خليفة في الأرض، قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة) (البقرة: 29). والخليفة كما هو معلوم آية المستخلف، وإذا كان من أوصافه تعالى أنه جميل، فلا يمكن أن يكون هذا الخليفة إلا جميلا، لأنه الدال على صفة الجمال الإلهي، فمن رآه عظم اللهَ الجميل، وأثنى على جميل صفاته ونعوته.
إن هذا المعنى يتجاوز الرسوم والحدود والمحسوس، إنه الشعور الباطني العميق الذي تشهده الروح، فتشاهد صور الجمال وتدرك بعين الحقيقة والبصيرة معاني الجمال الإلهي الظاهر في العوالم.
الجمال في الذكر الحكيم
ولقد ارتبط إطلاق الجمال في القرآن الكريم بآية من أعظم آيات الله في الوجود وهي "الأنعام" إذ بين منافعها في قوله تعالى: (والاَنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تَسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الاَنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون، وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) (النحل: 5- 9).
إن ارتباط الجمال بصورة الأنعام في هذه الآيات الكريمة، مرجعه إلى اعتماد البشر عليها في أغلب حاجياته الحياتية اليومية، فهي مصدر عيش وتغذية وستر ودفء، وطاقة ووسيلة نقل لا غنى عنها، وفوق كل هذا فإنها تقدم متعة ولذة وشعورا بالجمال عند إراحتها أي ردها بالعيش إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا، وتسريحها، أي إخراجها بالغداة إلى المرعى(5).
ولكن المقصود من هذه الصورة الجمالية التي قدمها الخالق عز وجل لخلقه هي إرجاعها إلى أصلها، ومعرفة صاحبها ألا وهو الله الجميل، لذلك ختم الله هذه الآيات بالحكمة المقصودة، والغرض المنشود من ذلك كله، قال تعالى: (وعلى الله قصد السبيل). ويذكرنا هذا المعنى بقصة نبي الله سليمان، عليه الصلاة والسلام، إذ حكى الله تعالى عنه تجربة معرفية كبيرة كان سببها عرض خاص لخيل غنمها من جهاده، والخيل من أجمل الظهور وأقواها، حتى قال فيها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"(6).
قال تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب، اِذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب، رُدُّوها علي فطفق مسحا بالسوق والاَعناق) (ص: 29-32).
فقد نقل المفسرون أن خيلا كثيرة باهرة الجمال والقوة عرضت على نظر سليمان عليه السلام، فظل ينظر إليها ويتمتع بجمالها حتى فاته وقت صلاة العصر، فأمر بها فعقرت، وهو الذي عبر عنه بقوله تعالى: (فطفق مسحا بالسوق والاَعناق) ومن دلالات المسح في اللغة "القطع بالسيف"(7).
فإن لذة الاتصال بالله والوقوف بين يديه لا تعادلها لذة في الوجود، إنه استشعار الجمال الإلهي في النفوس، إنه الراحة الروحية التي عبر عنها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بقوله عندما كان يتأهب للقاء ربه في الصلاة: "أرحنا بها يا بلال"(8).
فلما شعر نبي الله سليمان عليه السلام بهذا الأمر رجع إلى الحقيقة الأصلية الأولى، التي منها تفرعت كل الحقائق الوجودية، وهذا المقام هو المعبر عنه بقوله تعالى: (إنه أواب) أي الكثير الرجوع والأوبة إلى الله، فلما رجع إليه تعالى، وغاب عن رؤية جمال الخيل في رؤية جمال محبوبه وربه، أبدله الله بخير وأسرع منها، إنها الريح التي سخرها الله له، قال تعالى: (ولقد فتنَّا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب، قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وءاخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن اَو اَمسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب) (ص: 33-39).
وأطلقت على الجمال في القرآن الكريم نعوت دالة عليه من حيث المعنى والمقصد كالزينة والبهجة وفي كل سياق يذكر الله تعالى المقصود من ذلك، وهو الرجوع إليه والتوجه إليه لأنه أصل الجمال.
قال تعالى: (اَفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والاَرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) (ق: 6-8].
وقال تعالى: (وترى الاَرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اَهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) (الحج: 5-7).
فإذا خلق الله هذا العالم بهذا الجمال، وجعله في خدمة هذا الخليفة الجميل، وجب تعظيمه واحترامه والحفاظ عليه، لأن الحفاظ عليه هو الحفاظ على آيات الله، وصفة الله التي هي الجمال، لذلك حرم قتله بغير حق، أو إيذاؤه أو احتقاره.
والقرآن الكريم مليء بهذه المعاني الجليلة، والوصايا الجسيمة الموجبة لاحترام هذا النموذج الإلهي، قال تعالى: (من اَجل ذلك كتبنا على بني إسرآءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس اَو فساد في الاَرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن اَحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) (المائدة: 34).
وقال تعالى: (قل تعالوا اَتل ما حرم ربكم عليكمُ ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من اِملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) (الأنعام: 152).
وفي أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، الزخم الهائل من الوصايا التي توجهت إلى هذه الأمة المختارة لتكون خير الأمم، ولتعي حقيقتها ومقاصد رسالتها العالمية.
قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة"(9).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا"(10).
فالمفهوم الظاهر الأول من هذه النصوص أن الشرع الحنيف الذي ينظم العلاقة بين المسلمين، يجعلها قائمة على الأخلاق والفضائل، أما المعنى الباطن الثاني، وهو أن احترام الخلق وتوقيره ومحبته، إنما هو تعظيم للباري المصور تعالى، لأن الخلق مرآة الحق ترى فيها صنائع الرب؛ وبهذا المستوى نستجيب لمظهر عرفاني دقيق يمكنه أن يشكل أحد دعائم الوجود الذي تحفظ به مادته وصوره.
الجمال.. والتجربة الروحية الإسلامية
إن ما وصل إليه العالم اليوم من تراجع في القيم الأخلاقية دفعته إلى مستنقع الحروب، ونفق الصراعات، وهدم لهذا البناء الإلهي العظيم، إذ أصبح قتل النفس من أهون الأمور، إنما لغياب هذا المعنى العرفاني السامي.
فالإنسان على اختلاف أديانه ومذاهبه وطبقاته ومستوياته يرجع إلى أصل واحد، وهو المعبر عنه في قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الاَيات لقوم يفقهون) (الأنعام: 99).
فالفقه المقصود في هذه الآية، هو العلم بقدرة الله على الإيجاد والصنع والإبداع، ومن فقه هذه القاعدة واستوعبها فهو العارف العالم بالله الجميل، فلا يعتدي على حرمة هذه النفس، بل يعمل على خدمتها والرأفة بها، لأنها أمانة من الله.
وهكذا يصبح الوجود كله صورة للجمال الإلهي الذي تجلى في مظاهر أكوانه، وإلى هذا مال أصحاب التجربة الروحية المعرفية في الإسلام، وهم الصوفية إذ علموا من قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة: 114) أن المراد بالوجه "هو ما به الشيء حقا، إذ لا حقيقة لشيء إلا به تعالى، فهو عين الحق المقيم لجميع الأشياء، فمن رأى قيومية الحق للأشياء، فهو الذي يرى وجه الحق في كل شيء"(11).
فمن معاني الوجه في اللغة "حقيقة الشيء"، وحقيقة الأشياء في الوجود، أنها تستمد وجودها من الله، وإلا فالله منزه عن المكان، إن العارفين الذين عرفوا الله لا ينظرون إلى العالم من حيث هو صور ومظاهر جميلة فقط، بل إلى أنه لا وجود له ولا روح إلا بوجود الله تعالى، إنه عالم فقير محتاج إلى ربه، وهذه هي المعرفة الكاملة.
ولقد عبرت القصة القرآنية الحاكية عن حال سيدنا إبراهيم في معرفته بربه، عن هذا المقصد العرفاني السامي، في قالب تعليمي رائع، وهو يدعو قومه إلى ترك عبادة الأوثان والكواكب. قال تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والاَرض وليكون من الموقنين، فلما جنَّ عليه اليل رءَا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الاَفلين، فلما رءَا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضالين، فلما رءَا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والاَرض حنيفا وما أنا من المشركين) (الأنعام: 76-80]. إن عصمة الأنبياء، وخاصة إبراهيم (أبو الأنبياء)، تقتضي ألا يكون قصده بقوله (هذا ربي) أن في عقيدته تجسيما أو تشبيها، وهو المسلم الحنيفي، لذلك اقتضى الأمر أن يؤول على الوجه الذي لا يناقض مبدأ العصمة، وهو أن مراد إبراهيم عليه السلام، بـ (هذا ربي) على وجه الاستفهام، وكأنه يريد أن يبين لهم فساد مقالتهم وضلالتهم، فإذا كان هذا ربي فلماذا يغيب ويأفل، وهو نهج استدلالي حجاجي أوتيه إبراهيم عليه السلام أثناء دعوة قومه إلى توحيد الله وإفراد العبادة له.
ولكن النجوم والكواكب والشمس والقمر هي من مظاهر الجمال التي زين الله بها السماء، فَلِعُلُوِّها وقوتها وجمالها عبدها الجاهلون بحقيقة الأشياء، وهي أنها ليست إلا صورة للجمال الإلهي المطلق الباقي القديم، فجاء التعبير عن هذه الحقيقة المعرفية التي يجب أن يسلكها الناس، وهي قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والاَرض حنيفا...) وكأن إبراهيم عليه السلام يقول لقومه، لا تنظروا ببصركم إلى الصورة الحسية لجمال هذه الكواكب، ولكن انظروا ببصائركم إلى الحقيقة المعنوية التي يقوم عليها الوجود كله، فالوقوف مع الظواهر تحجب عن رؤية البواطن، ومن حجب عن الباطن حجب عن الحقيقة.
ولا يقصد بقوله تعالى: (إني وجهت وجهي) وجه الجسم، وإنما وجه الروح وهو القلب؛ لأن وجه الجسم محصور محدود بالجهات، والله لا تحصره الجهات، أما القلب فلا حد لانتشاره وسعة نظره.
إن إدراك أسرار الجمال لا يتم بالحس والبصر فقط، بل يتعداه إلى القلب الذي يمثل جوهر وحقيقة الإنسان، فهو محل نظر الله منا، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"(12).
وهو محل تنزل القرآن الكريم، قال تعالى: (نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) (الشعراء: 193-195).
وهو يبصر، قال تعالى: (فإنها لا تعمى الاَبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: 44).
وهو يصغي وينصت، قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (التحريم: 4).
وهو يعقل، قال تعالى: (اَفلم يسيروا في الاَرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (الحج: 44).
وهو يفقة، قال تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) (الأعراف: 179).
وهو يتذكر ويعتبر، قال تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) (ق: 37].
وهو يطمئن، قال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد: 29).
وهو يقسو، قال تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) (الزمر: 21).
وهو يأثم، قال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه) (البقرة: 282).
وهو يكسب، قال تعالى: (لا يواخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يواخذكم بما كسبت قلوبكم) (البقرة: 223).
ولقد صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين جمع كل هذه المعاني في قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"13. ولقد أشار البخاري في صحيحه إلى هذه المسألة، في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله"، أضاف قوله: "وأن المعرفة فعل القلب"14.
فالقلب أداة معرفية خارقة تستعمل في القضايا الكبرى، والحقائق العالية، خاصة إذا تعلقت بصفات الله المتجلية في الوجود.
إن ميزان النظر إلى الحقائق إنما يتم بالقلب الصافي النقي من شوائب الغفلة والالتفات عن الله، والبصيرة النافذة، وهو ما يفسره قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) (الأنفال: 29)، وقوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله) (البقرة: 281)، وقوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا واِن الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"15، ثم قرأ (اِن في ذلك ءلايات للمتوسمين) (الحجر: 75).
ومن عجيب المناسبة أن الله تعالى ربط بين التوجه إلى الله والإقبال عليه بالقلب والروح، وبين أن يكون صاحب هذا المقام في حال الإحسان والإجادة التي هي من نعوت الجمال، فقال عز من قائل: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد اِستمسك بالعروة الوثقى) (لقمان: 21) فمن أراد أن يرى الجمال الحقيقي بعين قلبه، فلابد أن يجمل أحواله وصفاته، إن هذا المستوى من المعرفة والشعور بالجمال عبر عنه في الحديث النبوي الشريف بالذوق، قال صلى الله عليه وسلم: "ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا"16، وعبر عنه أيضا بالوجدان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"17.
إن تذوق معاني الجمال الإلهي المنتشر في الأكوان نور يقذفه الله في قلوب أوليائه يقفون به على حقائق معاني الجمال الوجودي، وهذا ما أكدته تعريفاتهم للجمال، فقالوا: "الجمال هو تجليه بوجهه لذاته فلجماله المطلق جلال هو قهارتيه للكل عند تجليه بوجهه فلم يبق أحد حتى يراه، وهو علو الجمال، وله دنو يدنو به منا، وهو ظهوره في الكل كما قال القائل:
جمالك في كل الحقائق سافر وليس له إلا جلالك ساتر
ولهذا الجمال جلال هو احتجابه بتعينات الأكوان، فلكل جمال جلال، ووراء كل جلال جمال، ولما كان في الجلال ونعوته معنى الاحتجاب والعزة لزمه العلو والقهر من الحضرة الإلهية والخضوع والهيبة منها، ولما كان في الجمال ونعوته معنى الدنو والسفور لزمه اللطف والرحمة والعطف من الحضرة الإلهية والأنس بها"18.
ولقد استلهم أهل المحبة الإلهية من المتصوفة هذا الأصل الرفيع من أصول المعرفة، فتوجهوا إلى الله بصدق وإخلاص، وخالفوا عوائد نفوسهم، وعمروا أوقاتهم بصالح الأعمال، وأناخوا على باب الجميل فلم يبرحوه، فلما علم صدقهم أمدهم وتفضل عليهم، وتجلى لهم فشهدوه ببصائرهم يقينا، فعبروا عن هذه التجربة الروحية الفريدة في أدب مثل أسمى وأرقى مستويات الإبداع في تاريخ الأدب العربي.
يقول سلطان المحبين، ابن الفارض.
زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا وارحم حشى بِلَضَى هواك تسَعَّرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي: لن ترى
يا قلب! أنت وعدتني في حبهم صبرا فحاذر أن تضيق وتضجرا
إن الغرام هو الحياة فمت به صبّا فحقُّك أن تموت وتُعذرا
.................
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سرٌّ أرقُّ من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها فغدوت معروفا وكنت منكَّرا
فدهشتُ بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عني مخبرا
فأدر لحاظك في محاسن وجهه تلقى جميع الحسن فيه مصورا
لو أن كل الحسن يكمل صوره ورآه، كان مهللا ومكبرا19
ويقول محمد الحراق:
جمعت في حُسنك المطالب فما لنا للسِّوى نَظَرْ
وكل شيء نراه غائب لما بدا وجهك الأغر
يا سيدا كلما تجلى إلى محِّب له خضع
أنت بعزِّ الكمال أعلى من كل من في العُلى ارتفع
وكل حسن بكم تحلى طوبى لمرء بك اجتمع
مشارق الكون والمغارب كلٌّ إلى نورك فافتقر
وأنت فوق الجميع غالب لأنك العينُ والأثر
يا نور عين العيون طُرّا يا غايةِ القصد والمُراد
إن الرؤية الجمالية للأشياء تقوم على أساس توحيدي معرفي عميق، يرجع الفروع إلى الأصول، ومظاهر الوجود إلى حقيقتها، والوصول إلى هذا المستوى مرتبط بتربية روحية أخلاقية معرفية عالية، تضمن للعالم توازنه واستمراره ، فبقاء صورة جمال العالم رهين ببقاء تصور عرفاني صحيح.
ويعد القرآن أعظم مظهر نتلمس فيه مظاهر هذا الكمال الجمالي، إذ نظمت معاني ألفاظه في صورة بيانية فاقت كل ألوان وصور الجمال المعبر عنه في الأكوان، فكان كتابا معجزا.
ولا غرو أن يكون هذا وصف القرآن العظيم لأنه كلام الله، وهو صفته، ومن صفاته وأسمائه "الجميل"، وترك تعالى الإخبار عنه بهذه الصفة لأكمل وأجمل هيكل بشري في الوجود ألا وهو سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق وغمط الناس"(1).
وفي مثل هذه الأحاديث النبوية الشريفة من المعاني ما لا يعد ولا يحصى، لأن المتكلم صلى الله عليه وسلم أوتي مفاتيح الكلم وجوامعه، فقد ربط عليه الصلاة والسلام جمال الله تعالى بالحديث عن جمال الإنسان، وهو ربط معرفي عميق، إذ الإنسان هو أعظم صورة ومثال لتجلي الجمال الإلهي.
ولقد أخبر الحق تعالى عن هذه الحقيقة بقوله تقدس اسمه: (الله الذي جعل لكم الاَرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) (غافر: 64).
وزاد، صلى الله عليه وسلم، في بيان هذا المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته"(2).
فالمعتقد الصحيح بالنسبة لهذا الحديث إذا كان الضمير في "صورته" يعود إلى الله تعالى، أن الله تعالى منزه عن الخلق مباين لهم، متعال عن الكيف والمثال عز اسمه وتقدست صفاته، وإنما المراد كما ذهب إلى ذلك الحافظ بن حجر فيما رواه عن بعضهم أن "المراد بالصورة الصفة، والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر، وإن كانت صفات الله لا يشبهها شيء"(3).
وإلى ذلك ذهب الإمام الشعراني؛ إذ قال: "وإنما المراد به صورة الأفعال والأخلاق مع تباين الحقائق، فإن الله تعالى جعل لآدم وبنيه الأمر والنهي، والتولية والعزل بإذن الله عز وجل، إذ الصورة تطلق ويراد بها الشأن والأمر، والحكم"(4).
وهكذا تتبدى معاني المعرفة الإلهية في هذا الهيكل الآدمي الذي هو بنيان الرب، إذ هو الصورة التي رسمت عليها عظمة هذا الخالق، وظهر فيها جماله تعالى.
وبذلك نفهم سجود الملائكة لآدم عليه السلام، فقد ربط الله تعالى بين الخلق والتصوير المتعلق بالإنسان، وأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، في قوله عز اسمه: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اِسجدوا ءَلادم فسجدوا) (الأعراف: 10).
فسجود الملائكة هو خضوع لأمر الخالق المصور الجميل، إنه شهود الجمال الإلهي في هذا المظهر العجيب الذي هو آدم أبو البشرية.
ولأجل ذلك جعله الله تعالى خليفة في الأرض، قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة) (البقرة: 29). والخليفة كما هو معلوم آية المستخلف، وإذا كان من أوصافه تعالى أنه جميل، فلا يمكن أن يكون هذا الخليفة إلا جميلا، لأنه الدال على صفة الجمال الإلهي، فمن رآه عظم اللهَ الجميل، وأثنى على جميل صفاته ونعوته.
إن هذا المعنى يتجاوز الرسوم والحدود والمحسوس، إنه الشعور الباطني العميق الذي تشهده الروح، فتشاهد صور الجمال وتدرك بعين الحقيقة والبصيرة معاني الجمال الإلهي الظاهر في العوالم.
الجمال في الذكر الحكيم
ولقد ارتبط إطلاق الجمال في القرآن الكريم بآية من أعظم آيات الله في الوجود وهي "الأنعام" إذ بين منافعها في قوله تعالى: (والاَنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تَسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الاَنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون، وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) (النحل: 5- 9).
إن ارتباط الجمال بصورة الأنعام في هذه الآيات الكريمة، مرجعه إلى اعتماد البشر عليها في أغلب حاجياته الحياتية اليومية، فهي مصدر عيش وتغذية وستر ودفء، وطاقة ووسيلة نقل لا غنى عنها، وفوق كل هذا فإنها تقدم متعة ولذة وشعورا بالجمال عند إراحتها أي ردها بالعيش إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا، وتسريحها، أي إخراجها بالغداة إلى المرعى(5).
ولكن المقصود من هذه الصورة الجمالية التي قدمها الخالق عز وجل لخلقه هي إرجاعها إلى أصلها، ومعرفة صاحبها ألا وهو الله الجميل، لذلك ختم الله هذه الآيات بالحكمة المقصودة، والغرض المنشود من ذلك كله، قال تعالى: (وعلى الله قصد السبيل). ويذكرنا هذا المعنى بقصة نبي الله سليمان، عليه الصلاة والسلام، إذ حكى الله تعالى عنه تجربة معرفية كبيرة كان سببها عرض خاص لخيل غنمها من جهاده، والخيل من أجمل الظهور وأقواها، حتى قال فيها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"(6).
قال تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب، اِذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب، رُدُّوها علي فطفق مسحا بالسوق والاَعناق) (ص: 29-32).
فقد نقل المفسرون أن خيلا كثيرة باهرة الجمال والقوة عرضت على نظر سليمان عليه السلام، فظل ينظر إليها ويتمتع بجمالها حتى فاته وقت صلاة العصر، فأمر بها فعقرت، وهو الذي عبر عنه بقوله تعالى: (فطفق مسحا بالسوق والاَعناق) ومن دلالات المسح في اللغة "القطع بالسيف"(7).
فإن لذة الاتصال بالله والوقوف بين يديه لا تعادلها لذة في الوجود، إنه استشعار الجمال الإلهي في النفوس، إنه الراحة الروحية التي عبر عنها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بقوله عندما كان يتأهب للقاء ربه في الصلاة: "أرحنا بها يا بلال"(8).
فلما شعر نبي الله سليمان عليه السلام بهذا الأمر رجع إلى الحقيقة الأصلية الأولى، التي منها تفرعت كل الحقائق الوجودية، وهذا المقام هو المعبر عنه بقوله تعالى: (إنه أواب) أي الكثير الرجوع والأوبة إلى الله، فلما رجع إليه تعالى، وغاب عن رؤية جمال الخيل في رؤية جمال محبوبه وربه، أبدله الله بخير وأسرع منها، إنها الريح التي سخرها الله له، قال تعالى: (ولقد فتنَّا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب، قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وءاخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن اَو اَمسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب) (ص: 33-39).
وأطلقت على الجمال في القرآن الكريم نعوت دالة عليه من حيث المعنى والمقصد كالزينة والبهجة وفي كل سياق يذكر الله تعالى المقصود من ذلك، وهو الرجوع إليه والتوجه إليه لأنه أصل الجمال.
قال تعالى: (اَفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والاَرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) (ق: 6-8].
وقال تعالى: (وترى الاَرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اَهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) (الحج: 5-7).
فإذا خلق الله هذا العالم بهذا الجمال، وجعله في خدمة هذا الخليفة الجميل، وجب تعظيمه واحترامه والحفاظ عليه، لأن الحفاظ عليه هو الحفاظ على آيات الله، وصفة الله التي هي الجمال، لذلك حرم قتله بغير حق، أو إيذاؤه أو احتقاره.
والقرآن الكريم مليء بهذه المعاني الجليلة، والوصايا الجسيمة الموجبة لاحترام هذا النموذج الإلهي، قال تعالى: (من اَجل ذلك كتبنا على بني إسرآءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس اَو فساد في الاَرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن اَحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) (المائدة: 34).
وقال تعالى: (قل تعالوا اَتل ما حرم ربكم عليكمُ ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من اِملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) (الأنعام: 152).
وفي أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، الزخم الهائل من الوصايا التي توجهت إلى هذه الأمة المختارة لتكون خير الأمم، ولتعي حقيقتها ومقاصد رسالتها العالمية.
قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة"(9).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا"(10).
فالمفهوم الظاهر الأول من هذه النصوص أن الشرع الحنيف الذي ينظم العلاقة بين المسلمين، يجعلها قائمة على الأخلاق والفضائل، أما المعنى الباطن الثاني، وهو أن احترام الخلق وتوقيره ومحبته، إنما هو تعظيم للباري المصور تعالى، لأن الخلق مرآة الحق ترى فيها صنائع الرب؛ وبهذا المستوى نستجيب لمظهر عرفاني دقيق يمكنه أن يشكل أحد دعائم الوجود الذي تحفظ به مادته وصوره.
الجمال.. والتجربة الروحية الإسلامية
إن ما وصل إليه العالم اليوم من تراجع في القيم الأخلاقية دفعته إلى مستنقع الحروب، ونفق الصراعات، وهدم لهذا البناء الإلهي العظيم، إذ أصبح قتل النفس من أهون الأمور، إنما لغياب هذا المعنى العرفاني السامي.
فالإنسان على اختلاف أديانه ومذاهبه وطبقاته ومستوياته يرجع إلى أصل واحد، وهو المعبر عنه في قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الاَيات لقوم يفقهون) (الأنعام: 99).
فالفقه المقصود في هذه الآية، هو العلم بقدرة الله على الإيجاد والصنع والإبداع، ومن فقه هذه القاعدة واستوعبها فهو العارف العالم بالله الجميل، فلا يعتدي على حرمة هذه النفس، بل يعمل على خدمتها والرأفة بها، لأنها أمانة من الله.
وهكذا يصبح الوجود كله صورة للجمال الإلهي الذي تجلى في مظاهر أكوانه، وإلى هذا مال أصحاب التجربة الروحية المعرفية في الإسلام، وهم الصوفية إذ علموا من قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة: 114) أن المراد بالوجه "هو ما به الشيء حقا، إذ لا حقيقة لشيء إلا به تعالى، فهو عين الحق المقيم لجميع الأشياء، فمن رأى قيومية الحق للأشياء، فهو الذي يرى وجه الحق في كل شيء"(11).
فمن معاني الوجه في اللغة "حقيقة الشيء"، وحقيقة الأشياء في الوجود، أنها تستمد وجودها من الله، وإلا فالله منزه عن المكان، إن العارفين الذين عرفوا الله لا ينظرون إلى العالم من حيث هو صور ومظاهر جميلة فقط، بل إلى أنه لا وجود له ولا روح إلا بوجود الله تعالى، إنه عالم فقير محتاج إلى ربه، وهذه هي المعرفة الكاملة.
ولقد عبرت القصة القرآنية الحاكية عن حال سيدنا إبراهيم في معرفته بربه، عن هذا المقصد العرفاني السامي، في قالب تعليمي رائع، وهو يدعو قومه إلى ترك عبادة الأوثان والكواكب. قال تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والاَرض وليكون من الموقنين، فلما جنَّ عليه اليل رءَا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الاَفلين، فلما رءَا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضالين، فلما رءَا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والاَرض حنيفا وما أنا من المشركين) (الأنعام: 76-80]. إن عصمة الأنبياء، وخاصة إبراهيم (أبو الأنبياء)، تقتضي ألا يكون قصده بقوله (هذا ربي) أن في عقيدته تجسيما أو تشبيها، وهو المسلم الحنيفي، لذلك اقتضى الأمر أن يؤول على الوجه الذي لا يناقض مبدأ العصمة، وهو أن مراد إبراهيم عليه السلام، بـ (هذا ربي) على وجه الاستفهام، وكأنه يريد أن يبين لهم فساد مقالتهم وضلالتهم، فإذا كان هذا ربي فلماذا يغيب ويأفل، وهو نهج استدلالي حجاجي أوتيه إبراهيم عليه السلام أثناء دعوة قومه إلى توحيد الله وإفراد العبادة له.
ولكن النجوم والكواكب والشمس والقمر هي من مظاهر الجمال التي زين الله بها السماء، فَلِعُلُوِّها وقوتها وجمالها عبدها الجاهلون بحقيقة الأشياء، وهي أنها ليست إلا صورة للجمال الإلهي المطلق الباقي القديم، فجاء التعبير عن هذه الحقيقة المعرفية التي يجب أن يسلكها الناس، وهي قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والاَرض حنيفا...) وكأن إبراهيم عليه السلام يقول لقومه، لا تنظروا ببصركم إلى الصورة الحسية لجمال هذه الكواكب، ولكن انظروا ببصائركم إلى الحقيقة المعنوية التي يقوم عليها الوجود كله، فالوقوف مع الظواهر تحجب عن رؤية البواطن، ومن حجب عن الباطن حجب عن الحقيقة.
ولا يقصد بقوله تعالى: (إني وجهت وجهي) وجه الجسم، وإنما وجه الروح وهو القلب؛ لأن وجه الجسم محصور محدود بالجهات، والله لا تحصره الجهات، أما القلب فلا حد لانتشاره وسعة نظره.
إن إدراك أسرار الجمال لا يتم بالحس والبصر فقط، بل يتعداه إلى القلب الذي يمثل جوهر وحقيقة الإنسان، فهو محل نظر الله منا، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"(12).
وهو محل تنزل القرآن الكريم، قال تعالى: (نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) (الشعراء: 193-195).
وهو يبصر، قال تعالى: (فإنها لا تعمى الاَبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: 44).
وهو يصغي وينصت، قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (التحريم: 4).
وهو يعقل، قال تعالى: (اَفلم يسيروا في الاَرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (الحج: 44).
وهو يفقة، قال تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) (الأعراف: 179).
وهو يتذكر ويعتبر، قال تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) (ق: 37].
وهو يطمئن، قال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد: 29).
وهو يقسو، قال تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) (الزمر: 21).
وهو يأثم، قال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه) (البقرة: 282).
وهو يكسب، قال تعالى: (لا يواخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يواخذكم بما كسبت قلوبكم) (البقرة: 223).
ولقد صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين جمع كل هذه المعاني في قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"13. ولقد أشار البخاري في صحيحه إلى هذه المسألة، في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله"، أضاف قوله: "وأن المعرفة فعل القلب"14.
فالقلب أداة معرفية خارقة تستعمل في القضايا الكبرى، والحقائق العالية، خاصة إذا تعلقت بصفات الله المتجلية في الوجود.
إن ميزان النظر إلى الحقائق إنما يتم بالقلب الصافي النقي من شوائب الغفلة والالتفات عن الله، والبصيرة النافذة، وهو ما يفسره قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) (الأنفال: 29)، وقوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله) (البقرة: 281)، وقوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا واِن الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"15، ثم قرأ (اِن في ذلك ءلايات للمتوسمين) (الحجر: 75).
ومن عجيب المناسبة أن الله تعالى ربط بين التوجه إلى الله والإقبال عليه بالقلب والروح، وبين أن يكون صاحب هذا المقام في حال الإحسان والإجادة التي هي من نعوت الجمال، فقال عز من قائل: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد اِستمسك بالعروة الوثقى) (لقمان: 21) فمن أراد أن يرى الجمال الحقيقي بعين قلبه، فلابد أن يجمل أحواله وصفاته، إن هذا المستوى من المعرفة والشعور بالجمال عبر عنه في الحديث النبوي الشريف بالذوق، قال صلى الله عليه وسلم: "ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا"16، وعبر عنه أيضا بالوجدان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"17.
إن تذوق معاني الجمال الإلهي المنتشر في الأكوان نور يقذفه الله في قلوب أوليائه يقفون به على حقائق معاني الجمال الوجودي، وهذا ما أكدته تعريفاتهم للجمال، فقالوا: "الجمال هو تجليه بوجهه لذاته فلجماله المطلق جلال هو قهارتيه للكل عند تجليه بوجهه فلم يبق أحد حتى يراه، وهو علو الجمال، وله دنو يدنو به منا، وهو ظهوره في الكل كما قال القائل:
جمالك في كل الحقائق سافر وليس له إلا جلالك ساتر
ولهذا الجمال جلال هو احتجابه بتعينات الأكوان، فلكل جمال جلال، ووراء كل جلال جمال، ولما كان في الجلال ونعوته معنى الاحتجاب والعزة لزمه العلو والقهر من الحضرة الإلهية والخضوع والهيبة منها، ولما كان في الجمال ونعوته معنى الدنو والسفور لزمه اللطف والرحمة والعطف من الحضرة الإلهية والأنس بها"18.
ولقد استلهم أهل المحبة الإلهية من المتصوفة هذا الأصل الرفيع من أصول المعرفة، فتوجهوا إلى الله بصدق وإخلاص، وخالفوا عوائد نفوسهم، وعمروا أوقاتهم بصالح الأعمال، وأناخوا على باب الجميل فلم يبرحوه، فلما علم صدقهم أمدهم وتفضل عليهم، وتجلى لهم فشهدوه ببصائرهم يقينا، فعبروا عن هذه التجربة الروحية الفريدة في أدب مثل أسمى وأرقى مستويات الإبداع في تاريخ الأدب العربي.
يقول سلطان المحبين، ابن الفارض.
زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا وارحم حشى بِلَضَى هواك تسَعَّرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي: لن ترى
يا قلب! أنت وعدتني في حبهم صبرا فحاذر أن تضيق وتضجرا
إن الغرام هو الحياة فمت به صبّا فحقُّك أن تموت وتُعذرا
.................
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سرٌّ أرقُّ من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها فغدوت معروفا وكنت منكَّرا
فدهشتُ بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عني مخبرا
فأدر لحاظك في محاسن وجهه تلقى جميع الحسن فيه مصورا
لو أن كل الحسن يكمل صوره ورآه، كان مهللا ومكبرا19
ويقول محمد الحراق:
جمعت في حُسنك المطالب فما لنا للسِّوى نَظَرْ
وكل شيء نراه غائب لما بدا وجهك الأغر
يا سيدا كلما تجلى إلى محِّب له خضع
أنت بعزِّ الكمال أعلى من كل من في العُلى ارتفع
وكل حسن بكم تحلى طوبى لمرء بك اجتمع
مشارق الكون والمغارب كلٌّ إلى نورك فافتقر
وأنت فوق الجميع غالب لأنك العينُ والأثر
يا نور عين العيون طُرّا يا غايةِ القصد والمُراد
إن الرؤية الجمالية للأشياء تقوم على أساس توحيدي معرفي عميق، يرجع الفروع إلى الأصول، ومظاهر الوجود إلى حقيقتها، والوصول إلى هذا المستوى مرتبط بتربية روحية أخلاقية معرفية عالية، تضمن للعالم توازنه واستمراره ، فبقاء صورة جمال العالم رهين ببقاء تصور عرفاني صحيح.