آخر الأخبار
موضوعات

السبت، 3 ديسمبر 2016

- دورة الماء والحياة الكونية

عدد المشاهدات:
التعريف العلمي للماء
الماء هو سائل شفاف لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وهو ضروري لجميع أشكال الحياة، وهو تلك المادة العجيبة التي تغطي ثلثي مساحة سطح الكرة الأرضية، وتتركب جزيئة الماء من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، يرتبط بعضها مع بعض بروابط كيميائية قوية. ويرمز له بالرمز H2O، فالرمز  H2 يعني ذرتي هيدروجين، والحرف O يعني ذرة أكسجين.
والجزيئات هذه ترتبط أيضاً لتكوّن الماء، فكل خمسة آلاف مليون جزيئة ماء ترتبط لتشكل قطرة ماء واحدة!
 الماء هو العنصر الأهم لجميع الأحياء على هذه الأرض، وتتألف جزيئة الماء من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، وتحوي كل قطرة ماء خمسة آلاف مليون جزيء، فتأملوا معي كم تحوي بحار الدنيا!!
خصائص الماء
والماء هو المادة الوحيدة في الطبيعة التي توجد بحالاتها الثلاثة: الصلبة والسائلة والغازية. وتبلغ كثافة الماء 1000 كيلو غرام على المتر المكعب، أي أننا إذا أخذنا خزاناً من الماء سعته متر مكعب (أي طول كل ضلع من أضلاعه متر واحد) فإنه سيزن 1000 كيلو غرام، وذلك عند درجة الحرارة 4 درجات مئوية.
أما عندما يتحول هذا الماء إلى جليد فإنه يخفّ وزنه وتنخفض كثافته لتصبح 917 كيلو غرام على المتر المكعب، ويتجمد الماء عند الدرجة صفر مئوية، أما درجة غليانه فهي 100 درجة مئوية.
ويعتبر الماء مادة مذيبة ممتازة لكثير من المواد الصلبة، ولذلك فقد وصفه الله تعالى في كتابه المجيد بالماء الطَّهور، يقول تبارك وتعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان: 48].
والطَّهور هو ما يتطهر به، وكلمة (طَهَرَ) في اللغة تعني أبعد، أي أن الماء يبعد ويزيل المواد غير المرغوب فيها، وبالتالي وصفه الله تعالى بالطَّهور.
ويغطي الماء بحدود 71 % من مساحة الكرة الأرضية أي ما يقارب 361 مليون كيلومتر مربع.
97 % من الماء على الأرض هو ماء مالح، و 3 % هو ماء عذب، وأكثر من ثلثي هذا الماء العذب يتوضع في القطبين الشمالي والجنوبي على شكل جليد وجبال جليدية.
أي أن الماء العذب الموجود في البحيرات والأنهار والينابيع والآبار (المياه الجوفية) لا يشكل إلا أقل من 1 % من الماء على هذا الكوكب[1].
وللماء قدرة عالية على تخزين الحرارة، ولذلك فهو يلعب دوراً مهماً في تغيرات المناخ والتوازن البيئي.
يأخذ الماء أشكالاً متعددة في الطبيعة، فهو يظهر على شكل مياه في الحالة السائلة كما في البحار والأنهار، ويمكن أن يظهر بشكل صلب كما في الجبال الجليدية والمحيطات المتجمدة، ويمكن أن يظهر على شكل غاز، كما في بخار الماء الموجود في الجوّ، أو الغيوم الموجودة في طبقات الجو. كما يمكن أن يظهر الماء على شكل رطوبة أو قطيرات صغيرة من الماء مختزنة في تراب الأرض.
ميزة رائعة للماء
هنالك ميزة رائعة أودعها الله تعالى في الماء، فالماء في الحالة الصلبة أخف من الماء في الحالة السائلة، وهذا بعكس بقية السوائل في الطبيعة.
ولذلك فإن تبريد الماء يؤدي إلى تقلص حجمه حتى تصبح درجة حرارة الماء 4 درجات مئوية، ولكنه بعد ذلك ينعكس هذا الوضع إلى تمدد فيزداد حجم الماء تحت هذه الدرجة حتى الدرجة صفر مئوية والتي عندها يتحول الماء إلى جليد صلب ذي كثافة أقل.
شكل (2) جميع السوائل تتقلص باستمرار عندما تنخفض درجة حرارتها حتى تتجمد، أما الماء فيستمر في التقلص مع انخفاض درجة حرارته حتى الدرجة 4 مئوية، يبدأ بعدها بالتمدد حتى يتجمد. ولولا وجود ميزة تمدد الماء تحت الدرجة 4 مئوية، لانعدمت الكثير من أشكال الحياة في أعماق البحار، ولأدى ذلك على مدى ملايين السنين لانعدام الحياة بأكملها على وجه الأرض.
شكل (3) رسم يمثل توزع الشحنات السالبة والشحنات الموجبة في جزيء الماء[2]، ونلاحظ أن الذرات تتوضع على ذراع مفتوح بشكل حرف V.
وتنعكس هذه الظاهرة على الحياة في البحار العميقة والمتجمدة، حيث نلاحظ أن الطبقة العليا من البحر قد تجمدت وعندما نغوص في هذا البحر نجد أن الأسماك والحيوانات البحرية والكائنات الحية تعيش حياة طبيعية، فسبحان الله الذي لم ينسَ هذه الحيوانات في أعماق البحار وظلماتها وبرودة مائها!
يقول تبارك وتعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: 6].
ويعرِّف العلماء هذه المادة كمذيب عالمي، فالماء هو المادة الوحيدة في الطبيعة التي تتمتع بقدرة عالية على إذابة معظم المواد في الطبيعة.
الماء والحياة
يربط العلماء الحياة بالماء، ولذلك حيث توجد الحياة يوجد الماء والعكس صحيح. حتى إن العلماء بعدما عثروا على آثار للماء على كوكب المريخ بدأوا يفكرون جدياً بوجود حياة على سطح الكوكب الأحمر. لأن لديهم اعتقاد جازم بأن وجود الماء لابد أن يرتبط بوجود الحياة.
إن الخلايا الإنسانية والحيوانية والنباتية تحوي كميات من الماء دائماً، وعند نقصان هذه الكمية إلى حدود حرجة فهذا يعني الجفاف والموت.
يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: 30 ].
يشكل الماء 90 % من وزن بعض الكائنات الحية، أما في الإنسان فيشكل الماء أكثر من 60 % من وزن جسمه، إن الدماغ البشري يحوي 70 % من وزنه ماءً، الرئتان تحويان نسبة 90 بالمئة ماء، ونسبة الماء في الدم 83 %، ولذلك فإن الإنسان لا يستطيع العيش بصحة جيدة من دون ماء أكثر من يوم واحد[3].

ولو تأملنا اليوم تصريحات العلماء نجدهم يؤكدون أن الحياة بالشكل الذي نعرفه لا يمكن أن تكون إلا بوجود الماء، حتى عندما نتأمل أكبر مواقع الفضاء في العالم وهو موقع وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» نجدهم يعرضون العنوان التالي: «Water is Life» وهذه العبارة تعني: «الماء هو الحياة»[4].

ولذلك قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ﴾ [النور: 45]. وهذا يدل على أن القرآن قد سبق العلماء المعاصرين لتقرير حقيقة علمية مفادها أن كل ما نراه من أحياء أصله من الماء.

الماء في الفضاء الخارجي
هنالك إثباتات علمية قوية لوجود الماء في النيازك وبين النجوم وفي كوكب المريخ وعلى أقمار كوكب المشتري[5].
وتشير كل الدراسات إلى وجود الماء في الكون، حتى إن العلماء اليوم يعتبرون أن وجود الحياة مرتبط بالماء، وهذا ما دفعهم للذهاب إلى المريخ بعدما حصلوا على دلائل تؤكد وجود الماء على سطحه[6].
وإذا ما تأملنا كتاب الله تبارك وتعالى فإننا نجد إشارة إلى وجود حياة خارج الأرض! يقول تعالى: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29].
وتأملوا معي قوله تعالى: ﴿ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا ﴾ أي في السموات والأرض، وتشير الآية أيضاً إلى إمكانية اجتماع مخلوقات من الفضاء الخارجي مع سكان الأرض، وهذا تابع لمشيئة الله تعالى.
شكل (4) صورة تخيلية لكوكب المريخ قبل ملايين السنين، ومن المحتمل أن كوكب المريخ كان ذات يوم مليئاً بالبحار. ولكن الضغط الجوي على المريخ منخفض جداً وهو أقل بمئة مرة من الضغط في الغلاف الجوي للأرض، وهذا يعني أن الماء لا يمكن أن يوجد بشكله السائل، ولكن من المحتمل أن يوجد الجليد في قطبي المريخ.


أصل الماء
يخبرنا العلماء أنه قبل أكثر من 13 بليون سنة بدأ خلق الكون من خلال انفجار كبير، لقد كانت درجة الحرارة بحدود 10 بليون درجة مئوية، ثم بدأ الكون بالتوسع وبدأت العناصر بالتشكل، وكان الهيدروجين هو أول العناصر تشكلاً باعتباره الأخف بين جميع العناصر في الكون.
فذرَّة الهيدروجين هي عبارة عن بروتون يدور حوله إلكترون وحيد. ثم تشكل الهيليوم الذي تتألف ذرته من بروتونين وإلكترونين. وتشكلت أيضاً العناصر المشعة التي تحوي ذراتها نيوترونات عديمة الشحنة.
بالنسبة لذرات الأكسجين فقد تشكلت في فترة لاحقة لأنها أثقل من الهيدروجين. فذرة الأكسجين تحوي ثمانية إلكترونات في مداراتها الإلكترونية.
وقد وجد العلماء أن الماء على الأرض قد تشكل منذ بدايات تشكل الأرض، مع أن بعض الدراسات قد تشير إلى أن الأرض قد قُذفت بالمذنبات التي تحوي كميات كبيرة من الجليد[7].
الماء مادة مطهرة
يتميز الماء بسهولة التفكك إلى أيونات موجبة وهي أيون الهيدروجين «H+» وأيون سالبة هي الهيدروكسيد «-OH»، وبسبب صغر حجم أيون الهيدروجين فإنه يستطيع التغلغل إلى كثير من المواد والقيام بالكثير من العمليات الكيميائية المهمة.
وهذا ما يجعل الماء من أفضل المذيبات في الطبيعة. والعجيب أن للماء قدرة كبيرة على إذابة أي مادة حتى الذهب[8]!!
لماذا يتماسك الماء؟
وبسبب التركيب المميز لجزيء الماء فإن الماء يبدي تماسكاً جيداً، فلو تأملنا جزيء الماء نجد أن ذرتي الهيدروجين تتوضعان على أحد أطراف ذرة الأكسجين، وبالتالي يبقى الطرف الآخر أكثر سلبية مما يجذب إليه جزيئاً آخر وهكذا تكون قوى التماسك بين جزيئات الماء كبيرة.
ولذلك يتميز الماء بقوة الشد السطحي الكبيرة، وهذا ما يجعل قطرات الماء متماسكة وتستطيع التسلق عبر الأنابيب الضيقة ولمسافات كبيرة.
ولولا هذه الميزة لماتت جميع الأشجار والنباتات وتوقفت الحياة على هذا الكوكب. فالنباتات والأشجار تستمد ماءها من التربة عبر امتصاص الماء ونقله في الأوعية النباتية. وينتقل الماء من التراب إلى النبات ويسير عبر أوعية النبات ويتحرك للأعلى بعكس الجاذبية الأرضية.

 شكل (5) يتركب جزي الماء من ذرة أكسجين O ذات شحنة سالبة، وذرتي هيدروجين H بشحنة موجبة، وترتبط ذرتا الهيدروجين بذرة الأكسجين عند أحد طرفيها، فيتشكل جزيء ماء، يرتبط هذا الجزيء مع جزيء آخر وفق الطريقة التي نراها في الرسم، بحيث يكون هنالك تعادل في توزيع الشحنات الموجبة والسالبة.

ولذلك قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾ [ق: 9]. فهذه نعمة من الله ينبغي علينا أن نتذكرها كلما أكلنا طعاماً أو شربنا شراباً، لأنه لولا الميزات الرائعة التي أودعها الله في هذه المادة العجيبة لما كنا موجودين اليوم على ظهر هذه الأرض!
ألوان الماء
إن الماء يمتص الأشعة تحت الحمراء بشدة، وبما أن الأشعة تحت الحمراء قريبة من الأشعة الحمراء في الطيف الضوئي، فإن الماء يمتص قسماً من الأشعة الحمراء، وهذا ما يجعل الماء يبدو مائلاً إلى اللون الأزرق عندما ننظر إليه في البحيرات والمحيطات. وعندما ننظر إلى البحر في يوم غائم فإننا نلاحظ أن لون الماء يميل للأزرق، وهذا يعني أن اللون الأزرق ليس ناتجاً عن انعكاس لون السماء.


إن وجود الصخور الكلسية في مجرى النهر مثلاً تحول لون الماء إلى الفيروزي، بينما وجود صخور حديدية تجعل لون الماء يميل للأحمر والبني، أما الصخور التي تحوي مركبات نحاسية فإنها تلون الماء بالأزرق، وأخيراً فإن وجود الطحالب في الماء يميزه بلون أخضر.
هنالك مواد تذوب في الماء بسهولة مثل الأملاح وتسمى المواد المحبة للماء hydrophilic، وهنالك مواد لا تذوب جيداً في الماء مثل الشحوم والزيوت، وتسمى المواد غير المحبة للماء hydrophobic[10].
الحالات الثلاث لماء
كما قلنا من قبل، تبلغ كثافة الماء في الحالة السائلة 1000 كيلو غرام لكل متر مكعب، وعندما يصبح جليداً تصبح كثافته 917 كيلو غرام لكل متر مكعب.
ويتميز الماء بحرارة نوعية عالية، أي أن الماء يحتاج لكمية حرارة كبيرة لرفع درجة حرارته، فالماء إذن يسخُن ببطء ويبرد ببطء. فكل غرام من الماء يحتاج إلى وحدة حرارية «كالوري[11]» لرفع درجة حرارته درجة مئوية واحدة.
وهذا يعني أن كمية الحرارة اللازمة لرفع درجة حرارة غرام واحد من الماء من الدرجة صفر إلى الدرجة مئة مئوية، هي مئة وحدة حرارية.
هنالك ميزة أخرى مهمة وهي أن الماء يحتاج لحرارة كبيرة حتى يتحول من حالة لأخرى. فإذا أردنا أن نحول غراماً من الماء إلى بخار ماء، أي من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية فإننا نحتاج إلى 600 كالوري، وذلك عند الدرجة 100 مئوية. 


أما إذا أردنا أن نحول غراماً من الماء إلى جليد، أي من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة فإنا نحتاج إلى 80 كالوري، وذلك الدرجة صفر[12].
كذلك فإن درجة غليان الماء ودرجة تجمده تتأثران بالمحيط. فإذا ما أردنا أن نغلي الماء على قمة جبال الهملايا فإن الماء سيغلي عند الدرجة 70 مئوية فقط. وإذا نزلنا إلى أعماق المحيط فإن الماء لن يغلي قبل الدرجة 650 مئوية[13]
النظام المائي المتوازن
لقد اختار الله تعالى برحمته نظاماً متوازناً لكل شيء على هذه الأرض لضمان استمرار الحياة على ظهرها. وقال في ذلك: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21]. ففي هذه الآية أسرار إذا ما تأمَّلناها بشيء من التدبر.
فقد أنزل الله كل شيء بقدر وقانون ونظام، وقال: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]. وقال أيضاً: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2]. وفي اللغة (القَدَرُ) هو القضاء والحكم ومبلغ الشيء، و(قَدَرَ) الرزقَ: قَسَمَه[14].
وكأن الله تبارك وتعالى يريد أن يعطينا إشارة لطيفة إلى أنه هو من خلق الماء ووزعه بنظام محكم، وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الفرقان: 48-50].
ففي قوله عز من قائل: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ﴾ إشارة رائعة إلى النظام المتوازن للماء على سطح الأرض، فكل قطرة ماء لها طريق محددة تسلكها، فهذه القطرة قد تكون في البحر ثم تتبخر ثم تسوقها الرياح لتتكثف وتتساقط على أرض ميتة فيحيي بها الله هذه الأرض، أو تختزن على شكل مياه جوفية أو تسقط كقطعة ثلج فوق القطب المتجمد، لقد قدَّر الله تعالى كل هذه الأشياء بنظام محكم.
ولذلك قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ﴾ [المؤمنون: 18]. يقول ابن كثير: يذكر الله تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تُحصى في إنزاله القَطر من السماء بقدَر، أي بحسب الحاجة، لا كثيراً فيُفسد الأرض والعمران، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به[15].
فمثلاً لو تأملنا إنزال الماء من الغيوم نجده بقَدَر، أي بكميات محسوبة لا تختل أبداً، ولو تأملنا كميات المياه المتبخرة كل عام نجدها ثابتة أيضاً ومساوية للكميات الهاطلة.
ولو تأملنا نسبة الملوحة في ماء البحر نجدها ثابتة أيضاً ولا تتغير إلا بحدود ضيقة جداً ومحسوبة، بل هنالك نظام دقيق تتغير فيه ملوحة البحار كل ألف عام. وهكذا يتجلَّى النظام في كل شيء نراه من حولنا[16].
ولذلك نجد العلماء اليوم يدرسون قوانين حركة السوائل، وقوانين حركة الهواء والقوانين التي تحكم الكون وكل ما فيه، ويمكن القول بأنه لكل شيء في هذا الكون نظام وميزان، ولو اختل هذا الميزان لاختل النظام الكوني وفسدت السموات والأرض[17].
ومن هنا ندرك الحكمة من قوله تعالى مخاطباً المشككين بالقرآن والذين يتبعون شهواتهم وأهواءهم: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: 71].
لو تأملنا كل قطرة ماء من حولنا نجد النظام يتجلى في وجودها بما يؤكد عظمة الخالق ودقة صنعه وإتقانه، يقول تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88].
تخزين الماء
يصرح العلماء اليوم بأن المحيطات هي عبارة عن خزانات ضخمة للماء! وتبلغ كمية المياه المختزنة في المحيطات 1338 مليون كيلو متر مكعب.
هنالك حركة دائمة لمياه المحيطات تؤدي إلى تحريك كميات ضخمة من المياه المالحة حول العالم. وكمثال على ذلك تيار الماء الدافئ في شمال المحيط الأطلسي الذي يقوم بدفع المياه في أعماق المحيط من خليج المكسيك باتجاه بريطانيا، وتبلغ سرعة هذا التيار 4 كيلو متر في الساعة وسطياً [18].
الغلاف الجوي خزان للمياه
يحتوي الغلاف الجوي على نسبة من بخار الماء والغيوم بشكل دائم، وتبلغ كميات المياه الموجودة في الغلاف الجوي بحدود 12900 كيلو متر مكعب.
خزانات ماء في الأنهار والكتل الجليدية
تعتبر الأنهار خزانات جيدة للماء، وعلى الرغم من مضي ملايين السنين على وجود هذه الأنهار فإن الماء لا يزال عذباً وصالحاً للشرب، والسرّ في ذلك هو أن هذا الماء في حالة حركة مستمرة، فالنهر هو وسيلة الاتصال بين الينابيع العذبة والمياه السطحية الناتجة عن الأمطار من جهة، وبين وماء البحر من جهة ثانية!
إذن هنالك تحول دائم من الماء العذب إلى الماء المالح وعلى الرغم من ذلك تبقى كميات المياه العذبة والمالحة متوازنة ولا يطغى هذا الماء على ذاك مع مرور آلاف الملايين من السنين[19]!
إن الكتل الجليدية على سطح الأرض تشكل خزانات مياه عذبة تذوب  وتتدفق من خلال الأنهار. وقد يتسبب تدفق هذه المياه في حدوث الفيضانات والكوارث مثل حدوث بعض الانزلاقات الأرضية.
وتختلف كمية المياه المذابة من فصل لآخر حسب درجة حرارة الجو، وتكون كبيرة في أشهر الربيع. ولذلك فإن كمية المياه المذابة تؤثر على تدفق الأنهار وعلى كمية المياه الجوفية.
خزانات مياه تحت الأرض!
عندما نزل أحد العلماء إلى منجم للفحم يبلغ عمقه تحت سطح الأرض أكثر من ألف متر اكتشف وجود مياه تعود لملايين السنين! هذه المياه تسكن تحت الأرض منذ ملايين السنين وفيها أحياء لا زالت تعيش وتتكاثر بقدرة الله تعالى.
والعجيب أن القرآن العظيم عندما حدثنا عن الماء استخدم كلمة دقيقة جداً من الناحية العلمية، يقول تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18].
وتأمل معي أخي القارئ كلمة ﴿فَأَسْكَنَّاهُ﴾ والتي تدل على المكوث لفترة طويلة، وهو ما نراه في المياه الجوفية ومياه الآبار والتي تبقى فترة طويلة ساكنة في الأرض دون أن تفسد أو تذهب أو تتفاعل مع صخور الأرض[20].
وهناك آية ثانية تشير إلى وجود خزانات ماء في الأرض، وهذه الخزانات لم يتم اكتشافها إلا حديثاً. يقول تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر: 22].
 يقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: ﴿فأسكنَّاه في الأرض﴾: أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية له تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى
وصدق الله تعالى القائل: ﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ فمن الذي أودع في الماء خصائص تجعله قابلاً للتخزين في الأرض آلاف السنين؟ ومن الذي أعطى لقشرة الأرض ميزات تجعلها تحتضن هذه الكميات الضخمة من المياه وتحتفظ بها؟ أليس هو الله عزّ وجلّ؟!
إن الأمطار المتساقطة على الأرض تتسرب إلى مسامات التربة والفراغات بين الصخور، وتُختزن لآلاف السنين. لذلك نرى العلماء حديثاً يهتمون بالمياه الموجودة تحت سطح الأرض كخزانات ضخمة وموارد محتملة للمستقبل. وهذا ما حدثنا عنه القرآن بقوله تعالى: ﴿وما أنتم له بخازنين﴾.
فصدق الله تعالى وصدق رسوله الذي بلَّغنا هذا القرآن الذي هو معجزة له ودليل قاطع وساطع أنه أُرسل خاتماً للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

) اكتشف العلماء أن الأرض تحوي خزانات ضخمة جداً من المياه على أعماق مختلفة، وهذه المياه تم تخزينها خلال آلاف السنين، وهذا ما حدثنا عنه كتاب الله تعالى بقوله: ﴿فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر: 22].


 توزع الماء في الأرض
هناك نظام معقد ودقيق لتوزع المياه في الأرض، وقد وجد العلماء أن الماء موزع بين ماء ملح وماء عذب على الشكل الآتي: 
تبلغ كمية الماء على الأرض 1385 مليون كيلو متر مكعب، وتتوزع هذه الكمية كما يلي[21]:
1338 مليون كيلو متر مكعب في البحار والمحيطات Oceans, Seas, & Bays.
24 مليون كيلو متر مكعب في الجبال الجليدية والبحار المتجمدة Ice caps, Glaciers, & Permanent Snow.
23.4 مليون كيلو متر مكعب مياه جوفية Groundwater.
16.5 ألف كيلو متر مكعب رطوبة في التربة Soil Moisture.
300 ألف كيلو متر مكعب جليد أرضي Ground Ice & Permafrost.
176.4 ألف كيلو متر مكعب بحيرات Lakes، وتنقسم هذه البحيرات إلى بحيرات عذبة كمية المياه فيها 91 ألف كيلو متر مكعب، وبحيرات ملحة تحوي 85.4 ألف كيلو متر مكعب من الماء المالح.
12.9 ألف كيلو متر مكعب من المياه موجودة في الغلاف الجوي Atmosphere على شكل بخار ماء.
11.47 ألف كيلو متر مكعب من الماء موجودة في المستنقعات Swamp Water.
2.12 ألف كيلو متر مكعب أنهار Rivers.
1.12 ألف كيلو متر مكعب في أجسام الكائنات الحية Biological Water.
إن البحار والمحيطات والأنهار والبحيرات تنتج بعملية التبخير أكثر من 90 % من الرطوبة في الهواء المحيط بنا. أما الـ 10 % الباقية من الرطوبة في الجو فتنتج من تعرق النباتات، حيث يأخذ النبات حاجته من الماء من التربة، ثم يطرح قسماً من هذا الماء على شكل بخار ماء.
إن بخار الماء سوف يصعد إلى الأعلى بفعل التيارات الهوائية ثم عندما يعجز التيار الهوائي عن حمل جزيئات البخار وبسبب درجة الحرارة المنخفضة يتكثف هذا البخار متحولاً إلى غيوم، والتي بدورها تقوم بإنتاج المطر.
إن ماء المطر سوف يسقط على المحيطات والأنهار والبحيرات، وقسم منه سوف يستخدمه النبات، أما القسم الباقي فيتسرب إلى الأرض ويسكن هنالك.


 أن المياه المالحة تشكل 97 بالمئة، والمياه العذبة 3 بالمئة، وذلك حسب وكالة الجيولوجيا الأمريكية[22].

والذي يسبب بقاء الماء في الأرض لفترات طويلة هو وجود منطقة لا يمكن للماء أن يتسرب منها وتسمى منطقة الاشباع zone of saturation ولولا وجود هذه المنطقة لذهب الماء عميقاً ولم يعد لديه القدرة على الصعود إلى السطح على شكل ينابيع[23].
دراسة إحصائية لتوزع المياه على الأرض
وهذه إحدى الدراسات الخاصة بتوزع المياه على سطح الأرض[24]. ونلاحظ أن جميع الدراسات تؤكد وجود نظام مقدَّر للماء على الأرض. ونلاحظ من خلال هذا الجدول أن كمية المياه الإجمالية في الأرض تبلغ 1,386,000,000 كيلو متر مكعب، وتتوزع هذه الكمية توزيعاً دقيقاً بين مياه مالحة وأخرى عذبة.
مصدر الماء
حجم الماء بالكيلومترات المكعبة
نسبة المياه العذبة
نسبة الماء بأكملها
المحيطات والبحار
1,338,000,000
--
96.5
الكتل الجليدية والثلوج
24,064,000
68.7
1.74
مياه جوفية
23,400,000
--
1.7
    عذب
10,530,000
30.1
0.76
    مالح
12,870,000
--
0.94
رطوبة التربة
16,500
0.05
0.001
أرض دائمة التجمد
300,000
0.86
0.022
البحيرات
176,400
--
0.013
      عذب
91,000
0.26
0.007
    مالح
85,400
--
0.006
الغلاف الجوي
12,900
0.04
0.001
مياه المستنقعات
11,470
0.03
0.0008
الأنهار
2,120
0.006
0.0002
المياه البيولوجية
1,120
0.003
0.0001
الإجمالي
1,386,000,000
-
100

دورة الماء
إن كمية الماء المدوّرة كل عام هي 495000 كيلو متر مكعب. ولذلك فإن كمية بخار الماء الموجودة في الغلاف الجوي تبقى ثابتة باستمرار وتقدر بـ 12900 كيلو متر مكعب.
يوجد عدد لا نهائي للطرق التي يمكن أن تسلكها قطرة ماء واحدة. ولذلك فإن قطرة الماء التي تسقط عليك من خلال المطر، قد تكون هي ذاتها التي سقطت على رؤوس أجدادك قبل مئات السنين! 
تخزين الماء
يتميز الماء بلزوجة منخفضة تساعده على الولوج في مسام الصخور مهما كانت دقيقة، وبالتالي يتم تخزين كميات ضخمة من الماء تحت سطح الأرض.
وهذه الحقيقة العلمية لها إشارة قرآنية رائعة في قوله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22].
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ أي وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننَزّله ونحفظه عليكم ونجعله معيناً وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به[25].
ولو تأملنا ما يقوله العلماء اليوم عن تخزين الماء في باطن الأرض لرأينا أن هذه الظاهرة من الظواهر المحيرة للعلماء، إذ كيف يتم تخزين الماء تحت سطح الأرض، لسنوات طويلة دون أن يفسد، ولكن هناك نظام دقيق تنقى المياه بموجبه ويتم تخزينها وحفظها بطريقة طبيعية رائعة[26]!
حتى إن العلماء اليوم من أمثال الدكتور Simon Toze الذي يقول إن الماء السطحي يكون ملوثاً عادة، بسبب وجود العديد من الكائنات الدقيقة الممرضة. ويمكن تنقية هذا الماء بسهولة من خلال تخزينه تحت سطح الأرض لعدة شهور، فإن تخزين المياه على أعماق محددة في الطبقات الجوفية للأرض يساهم في قتل ما يحويه من جراثيم وبكتريا وتنقية المياه من الزيوت والمواد الدهنية وغير ذلك من الملوثات[27].
ويقول الدكتور Simon Toze: «إن الأبحاث تشير إلى أن المياه الملوثة بشدة يمكن أن تُنقّى بسهولة من خلال ضخها تحت الأرض وتركها لمدة كافية»[28].
ويؤكد هذا العالم أن الناس لم يفهموا أهمية تخزين المياه إلا في مطلع القرن الحادي والعشرين. فقد تبين أن التنقية الطبيعية geopurification يمكن أن تزيل الكثير من المواد والشوائب العالقة في المياه وبعض المواد الكيميائية الضارة.
ولذلك فإن تخزين المياه في خزانات ضخمة تحت الأرض هو من نعم الله علينا ورحمته وفضله، لأنه أودع خصائص تطهيرية في الأرض لتعقم الماء باستمرار، فسبحان القائل: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 32-34].
سلوك الماء تحت الأرض
عندما يسقط الماء على الأرض من خلال المطر فإنه يتحرك باستمرار، فيتسرب قسم منه إلى داخل الأرض ويتسرب خلال الفراغات في التربة أو الصخور ويهتز ويتأرجح حتى يصل إلى منطقة الإشباع التي لا يمكنه أن ينفذ منها، وهي عبارة عن طبقة من الصخور الصلبة التي لا تسمح للماء بالمرور خلالها.
ويمكن أن يمكث الماء في طبقات الأرض عدة قرون، وتعتبر هذه العملية بمثابة إعادة «شحن» الأرض بالماء[29].
إقامة الماء في الأرض
يدرس العلماء اليوم المدة التي يسكن فيها الماء في الأرض، وهذه المدة تختلف حسب عمق الماء ونوع الصخور المحيطة به، ويتراوح زمن بقاء الماء في الأرض من 4 سنوات إلى أكثر من 50 سنة.




يمثل عملية تخزين الأرض وإقامته تحت سطح الأرض، حيث أننا نجد مناطق يبقى فيها الماء سنة ومناطق يقيم فيها الماء سنتين، ومناطق يسكن فيها الماء لمدة خمسين عاماً أو أكثر، وتتم هذه العملية بنظام طبيعي شديد الدقة.


والعجيب أن العلماء يستخدمون مصطلحاً علمياً للتعبير عن هذه الحقيقة وهو residence times  [30] أي «زمن
الإقامة أو السَّكن» وهو التعبير ذاته في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18].
دورة الماء
لقد قدّر الله برحمته نظاماً عجيباً يتحول الماء فيه باستمرار من سائل إلى بخار أو جليد ومن ثم إلى سائل في دورة لا تزال تعمل منذ بلايين السنين دون أي خلل أو تعطل، ولولا هذه الدورة لأصبحت الأرض كوكباً خرباً لا حياة فيه.
في هذه الدورة تتحرك المياه على سطح الأرض وفي الغلاف الجوي وفي المحيطات وتحت سطح الأرض وفي الأنهار والبحيرات وحتى في أجسام الكائنات الحية بنظام شديد التعقيد يدلّ على عظمة الصانع سبحانه وتعالى الذي يقول عن بديع صنعه: ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88].
تعتبر الشمس المحرك الأساسي لدورة الماء على الأرض، حيث تقوم بتسخين الماء في المحيطات والبحار فيؤدي ذلك إلى تبخر كميات كبيرة من المياه وتحولها إلى بخار ماء خفيف يصعد إلى ارتفاعات عالية بفعل الرياح.
وعندما يصل بخار الماء إلى ارتفاعات مناسبة حيث درجات الحرارة المنخفضة يبدأ بالتكثف والتجمع والتراكم مشكلاً الغيوم. هذه الغيوم سوف تُدفع بواسطة الرياح ومن ثم تتساقط الأمطار والثلوج.
إن معظم الأمطار تعود فتسقط فوق المحيطات، أما الثلوج فتسقط بكميات كبيرة فوق الجبال والمياه الجليدية، وبعد ذلك يذوب قسم منها في بداية فصل الربيع ويعود إلى مياه البحر.
بالنسبة للأمطار التي تسقط على اليابسة فإنها تتسرب إلى داخل الأرض بفعل الجاذبية الأرضية، ومن ثم تتحول إلى ينابيع وأنهار.
تتحرك مياه الأنهار باتجاه المحيطات وتصب فيها، ويبقى جزء كبير من الماء مختزناً تحت الأرض كمياه جوفية تشكل خزانات ضخمة تسكن في الأرض لفترات طويلة من الزمن.
وتقوم النباتات بامتصاص الماء المختزن في التربة السطحية ومن ثم ترشح هذه المياه من أسطح الأوراق وتتحرك في الغلاف الجوي لتصعد وتتكثف وتشكل غيوماً وأمطاراً.
 هناك دورة دقيقة للماء على سطح الكرة الأرضية، ونلاحظ من خلال هذا الشكل (المعتمد من قبل وكالة الجيولوجيا الأمريكية) كيف تتوزع كميات المياه المتبخرة والمتساقطة بنسب محددة، وتتحول من منطقة لأخرى بنظام دقيق يشهد على صدق قول الحق تبارك وهنا يتجلى قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ [المؤمنون: 18].

يقول العلماء إن جميع الكائنات الحية من أصغر خلية وحتى أكبر كائن حي، جميعها مخلوق من الماء[31]، وهذا ما حدثنا عنه القرآن بقوله تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ[الأنبياء: 30].
دورة الماء في القرآن
إن قانون الجاذبية والذي يعني أن الأثقل ينْزِل للأسفل والأخف يصعد للأعلى، هذا القانون يحافظ على وجود الماء تحت سطح الأرض وضمان تدفقه على شكل ينابيع.
ولو أن كثافة الماء كانت أعلى مما هي عليه الآن لغار الماء في الأرض ولم يتمكَّن من التدفق من خلال الينابيع والأنهار. وهنا يتجلى قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30].
ولو أن كمية المياه المتساقطة على شكل أمطار كانت أقل مما هي عليه، لغار الماء في الأرض. فكمية الأمطار الهاطلة مناسبة تماماً لطبيعة القشرة الأرضية وسماكتها ونوعية صخورها وترابها.
ولو أن كثافة الماء كانت أقل مما هي عليه الآن لم يستطع الماء المكوث في الأرض وذهب إلى السطح وتبخر. وهنا أيضاً نقف عند قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18]. ونذكِّر هنا أن كلمة ﴿بقَدَر﴾ تشير إلى التقدير والحساب والمقادير الدقيقة.
ويقول العلماء اليوم إن هنالك دورة للماء منتظمة ودقيقة وحساسة جداً تتكرر كل عام. ويكون في هذه الدورة كمية المياه المتبخرة من سطح الأرض مساوية لكمية الأمطار المتساقطة[32].
لقد قدّر الله برحمته نظاماً مُحكماً لتوزع الماء على الأرض وفق دورة دقيقة وبمقادير محسوبة، ولو أن كمية المياه المتبخرة كل عام من البحار نقصت قليلاً لأدى ذلك بمرور الزمن إلى ذهاب الماء وانعدام الحياة.
ولذلك يقول تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ أي بقوانين مقدرة ودقيقة وبكميات محسوبة ومضبوطة، ألا ترى أخي القارئ أن هذه الآية الكريمة تحمل إشارة إلى دورة الماء والتي اكتشفها العلماء في العصر الحديث؟
ولو فرضنا أن هذه الدورة المائية اختلت قليلاً فإن هذا سيؤدي إلى ذهاب الماء من الأرض. ولو أن هذا الماء المختزن بين صخور الأرض كان له قابلية التفاعل مع هذه الصخور، إذن لنقصت كمية المياه المختزنة كل عام، وبالنتيجة سوف يذهب الماء ولن نستفيد منه شيئاً، أي ستتوقف الحياة على الأرض.
ملوحة البحار
هنالك الكثير من الينابيع العذبة التي تنبع من قاع المحيطات والبحار، وتضخ هذه الينابيع كميات معتبرة من الماء باستمرار، وهذا يؤدي إلى تعديل ملوحة البحار باستمرار والحفاظ على درجة ملوحة ثابتة.
إن الكميات التي تتبخر من البحار كل سنة لا تعود جميعها إلى البحار مباشرة، بل إن الأمطار المتساقطة يذهب قسم منها إلى الأنهار وقسم آخر يتسرب ويُختزن في الأرض.
إن المياه الجوفية لا تبقى في الأرض إلى الأبد، بل تتجدد وتنبع في اليابسة لتشكل الأنهار، وتنبع تحت قاع البحار لتشكل الينابيع العذبة التي تغذي البحر المالح بالماء العذب.
ولولا هذه الينابيع في قاع المحيطات والبحار، لارتفعت نسبة الملوحة في البحار بالتدريج حتى يصبح ماء البحر ملحاً أجاجاً، وتصبح الحياة مستحيلة[33].
ماذا يحدث لو كان ملح البحر قادراً على التبخر مثله مثل ماء البحر؟ إن هذا سيؤدي بلا شك إلى انعدام الحياة بكافة أشكالها على سطح الأرض.
إن الله تعالى قد وضع قانون الجاذبية، وعلى أساسه تستمر الحياة على الأرض. فالملح أثقل بكثير من الماء ولذلك لا يستطيع الصعود في الهواء، بينما الماء يستطيع ذلك لأن كثافة بخار الماء أقل من كثافة الهواء.
وهذا يعني أن ذرات البخار سوف تصعد للأعلى، تماماً مثل قطعة الخشب عندما تطفو على سطح الماء، لأن كثافة الخشب أقل من كثافة الماء. وهذا ما يدفع الخشب للصعود لأعلى الماء. ولو حاولنا إنزاله للأسفل فإنه سيصعد إلى الأعلى، وهذا ما يسميه العلماء بدافعة "أرخميدس".
إن هذا القانون المتعلق بكثافة المواد يضمن تبخر الماء وبقاء الملح في البحار، وبالتالي يضمن نزول الماء النقي من السماء.
وهنا تتجلى رحمة الله بعباده عندما يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة: 68-70]. ويقول أيضاً: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [فاطر: 12].

  إن الله تعالى برحمته اختار نسبة محددة لملوحة البحار بحيث تستمر الحياة على ظهر الأرض. وبسبب هذه الملوحة فإن هناك نسبة محددة من الماء تتبخر، ولو زادت هذه النسبة أو نقصت اختل النظام المتوازن الذي قدره الله. كذلك فإن درجة حرارة الأرض مناسبة لتبخر الكمية المحددة كل عام، ولو كانت الأرض أكثر حرارة لتبخرت محيطات العالم، ولو كانت الحرارة أقل لم تتبخر إلا كميات قليلة لا تكفي لتشكيل الغيوم والمطر.
أوجه الإعجاز العلمي في البحث
لقد ورد ذكر الماء في القرآن في عشرات المواضع، ولا نبالغ إذا قلنا إنه في كل آية من هذه الآيات معجزة تستحق الوقوف طويلاً! ولكن نكتفي بما رأيناه في هذا البحث ونعيد تلخيص المعجزات المائية:
1- تحدث القرآن عن الخزانات المائية الضخمة المختزنة تحت سطح الأرض والتي تزيد كميتها عن المياه العذبة في الأنهار، وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحِجر: 22].
فهذه الآية تتضمن إشارة إلى عمليات تخزين المياه في الأرض، وأن هذه الخزانات الطبيعية من المياه هي نعمة من نعم الله حيث تتم تنقية الماء فيها باستمرار، وهذا الأمر لم يكن معلوماً زمن نزول القرآن.
2- تحدث القرآن عن المدَّة الزمنية الكبيرة التي يمكث فيها الماء في الأرض دون أن يفسد أو يختلط ويتفاعل مع صخور الأرض، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18].  ففي هذه الآية إشارة إلى أن الماء يسكن في الأرض ويقيم فترة طويلة من الزمن.
وعلى الرغم من وجود الأحياء الدقيقة والفطريات والأملاح والمعادن والمواد الملوثة تحت سطح الأرض، إلا أن الماء يبقى نقياً وماكثاً لا يذهب، أليس الله تبارك وتعالى هو من أودع القوانين اللازمة لبقاء الماء بهذا الشكل الصالح للحياة؟
3- تحدث القرآن عن العمليات المنظمة والمقدرة التي تحكم نزول الماء ودورته في قوله تعالى:  ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الزخرف: 11] أي بنظام مقدّر ومضبوط ومحسوب.
وهذا الأمر لم يكن معروفاً زمن حياة النبي عليه الصلاة والسلام، بل كان الناس يجهلون مصدر المياه ويجهلون دورتها ويجهلون وجود أية قوانين تحكمها.
فسبحان الذي أحكم آيات كتابه وكلماته وكل حرف من حروفه. وتبارك الله القائل عن كتابه المجيد: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42].







الخاتمة
وفي ختام هذا البحث نودّ أن نؤكد أنه توجد آيات كثيرة وكثيرة إذا ما بحثنا فيها فسوف نجد إعجازاً مبهراً. ويمكنني القول: إنني لم أبحث عن علم من العلوم أو حقيقة من الحقائق إلا وجدتها في كتاب الله تعالى جلية واضحة! وهذا يعني أن القرآن الكريم هو كتاب هداية ودستور إلهي، وكذلك هو كتاب علوم وحقائق علمية. وهذا الأمر ليس مستغرباً، فالكتاب كتاب الله تبارك وتعالى، وهو أعلم بما ينَزّل، وقد وضع فيه تفصيلاً لكل شيء.
وأخيراً عزيزي القارئ ألست معي في أن القرآن قد تحدث عن كل شيء وفصّله وبيّنه لنا؟ يقول تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]. ويقول أيضاً: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع العربية
1- القرآن الكريم.
2- الإمام ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت 2004.
3- الفيروز آبادي، القاموس المحيط، دار المعرفة _ بيروت 2005.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير