آخر الأخبار
موضوعات

الأحد، 4 ديسمبر 2016

- الاسوة الحسنة .. والحياة الطيبة

عدد المشاهدات:
 يقول الله تعالى  لنا جميعاً: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }  (21الأحزاب)
وجهنا الله عزَّ وجلَّ فى الآيات التى استمعنا إليها الآن توجيهات سديدة، لو مشى الإنسان على هديها فإنه يفوز فى الدنيا والآخرة، ويكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.  والعجب فى هذا الخطاب - الذى وجهه الله عزَّ وجلَّ لأولى الألباب - أنه لكل المسلمين منذ زمن بعثته صلوات ربى وسلامه عليه إلى يوم الدين. فيقول الله لأصحابه المعاصرين له وأتباعه اللاحقين بهم ، وأتباع أتباعهم وكل من سار على طريقتهم - ونحن منهم إن شاء الله – إلى يوم الدين، يقول لنا جميعاً: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }  (21الأحزاب). لكم جميعاً أسوة حسنة وقدوة طيبة فى إمام الأنبياء والمرسلين، وهو مظهر الكمال الذى أظهره الله عزَّ وجلَّ للخلق أجمعين.
فإن أردت جمـال الأخلاق فهو صلى الله عليه وسلم تاج جميع الأخلاق، لأن الله عزَّ وجلَّ يقول له مبيناً قـدره:{  وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (5القلم). ولم يقل: (لذو) يعنى: صاحب، وإنما قال: (أنت على) يعنى تعلو على الأخلاق العظيمة. الأخلاق العظيمة منك استمدت وبك أُمِدَّت، لأنك الأصل الذى تفرعت منه جميع الأصول، أو كما يقول رب العزة فى الآية على القراءة الأخرى: (وإنَّكَ لَعَلى خُلُقِ عَظِيم) والعظيم هو الله عزَّ وجلَّ، يعنى أنت على خلق الله عزَّ وجلَّ. فمن أراد أن ينظر إلى أخلاق مولاه فليوجه نظره إلى حبيب الله ومصطفاه، فإنه ما صدر عنه خلق إلا بعد أن جمله الله وكمله بنوره وبهاه.
أما إذا أردنا جانب السلوكيات فهو الجمال بعينه، فقد قال سيدنا الإمام على رضى الله عنه وكرم الله وجهه: (ما رآه أحد إلا أحبه)، لماذا؟ لأحواله وخلاله وسلوكياته التى يعجز عنها البشر، إلا إذا أمدهم بالقوى والقدر خالق البشر عزَّ وجلَّ. يكفى أن الله قال لنا أجمعين:{  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }  (107الأنبياء).
فهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، فى كل حركاته وسكناته، وكلماته وأفغاله، وارشاداته وتوجيهاته ونظراته. كله رحمة من الله عزَّ وجلَّ لخلق الله، فإذا نظر لأحد من البشر كان نظره رحمة، وإذا نطق كان نطقه حكمة، وإذا لمس بيده شيئاً أزال الله براحته كل ضر، وجعل فى كفهكل ندى وبركة وخير.
كَمْ أَبْرَأَتْ وَصَباً بِاللَّمْسِ رَاحَتُهُ           .
كم مريض ساعة ما يضع يده عليه يبرأ ويشفى ببركة الله عزَّ وجلَّ، وإياكم أن تظنوا أن ذلك كان فى زمانه صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما إلى وقتنا هذا. ومن يعجز فيه الأطباء ويستغيث إلى الله بسيد الأنبياء،إذا جاءه فى المنام ووضع يده عليه بدر التمام، تزول منه جميع الأسقام والآلام، وإذا أردتم فى هذا روايات، نريد أن نجلس مع بعضنا شهور وأعوام، لسرد ما حدث مع الصالحين ومع المؤمنين والمسلمين الصابرين، من فضل يمناه صلى الله عليه وسلم، حتى قال القائل:
يُمْنَاكَ تَهْمِى بِالعَطَا وَتَجُـودُ   وَسَمَا بِنِسْبَتِهِ إِليْكَ الجـُـودُ
يداه فيها البركة الظاهرة والباطنة.
فنحن وجَّهَنَا الله، وأمرنا الله فى هذه الآية أننا نستحضر فى كل أحوالنا - فى حِلِّنا وفى ترحالنا، فى يقظتنا وفى منامنا، عند أكلنا وعند شربنا، عند صلاتنا، عند وضوئنا، عند حديثنا - عند كل عمل أو فعل، نستحضر كيف كان يعمل هذا العمل صلى الله عليه وسلم؟ حتى نمشى على المنوال والصراط، وعلى المنهاج. لماذا يريد ربُّنا منا هكذا؟ أولاً لصالحنا فى الدنيا – والآية لم تذكرها لأنه أمر مفروغ منه – ولو أننا سرنا على هدى الحبيب صلى الله عليه وسلم لن يكون عندنا مرض فى الأجسام، ولا آفات فى الزرع، ولا مصائب فى الأنعام والضرع، ولا يختلف اثنان فى بيت واحد، ولا تحدث مشكلة بين زميل وزميله. فنكون كأننا نحيا فى الجنة، لأن الجنة ليس فيها شئ مما ذكرناه.
وعلى باب الجنة عينان، { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } (66الرحمن). ولماذا نضاختان؟!! لأنها تخرج لكل من يقترب منها ويدخل إلى الجنة، فيشرب من العين الأولى شربةً يذهب عنه كلُّ هَمٍّ وغَمٍّ وحَزَنٍ، فيقول - كما قال ربُّ العزة عزَّ وجلَّ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (34فاطر)، يذهب عنه كُلُّ هَمٍّ، وكُلُّ غَمٍّ، وكُلُّ حَزَنٍ. ويشرب من العين الثانية فتظهر عليه نضرة النعيم: { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } (24المطففين). النبىُّ صلى الله عليه وسلم قال فيها: (لا يشيبون، ولا يهرمون، ولا يتبولون ولا يتغوطون – بل شباب دائم – لا يَبْلَى شَبَابُهُم)، يكونون شباب إلى ما شاء الله.
هذه الحالة لأهل الجنة تكون للمؤمنين فى الدنيا إذا ساروا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً فى صدورهم، وحاضر فى قلوبهم، ويهتدوا به فى كل شئونهم. ما الذى يجلب الشاكل، ويشغل القلب بالمشاغل؟ البعد عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان عليه. وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لنا منهجين: منهج للضعفاء أمثالى، وهذا الذى قال فيه ربُّنا: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (7الحشر). يعرف تعاليم الدين ويسير، ولا يعمل أى شئ لنفسه أو لأهله، أو لحقله، أو لجيرانه أو لذوى رحمه، أو لنفر من المسلمين أو غير المسلمين، إلا إذا رأى بيان خير المرسلين فى هذا الأمر كيف أسير، وإذا لم أعرف، قال: اسأل {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43النحل).
ليس منا مَنْ له عذر، لأن ديننا ليس فيه جاهل، اسأل، وإذا لم تجد منا واحداً تسأله تذهب إلى أقرب بلدة، وإذا لم يكن فى البلدة القريبة تذهب إلى الأبعد حتى القاهرة، لأنك إذا مرض جِسْمُك تذهب أولاً إلى طبيب فى بلدتك، وإذا لم  يكن ففى بلدة أكبر، وإذا لم يكن ففى القاهرة، وإن لم يكن ففى الخارج، حتى يتم العلاج ليخف الألم. فأنت تريد أن تشفى من جميع الآلام والأسقام، وربنا قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (82الإسراء)، أى آلام؟ آلام الأجسام - إذا سارت على منهج الحبيب نبىِّ الختام، ولو سرنا على قول الله:  {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} (31الأعراف) من أين يأتى المرض؟!! كيف نسير على ذلك؟ كما قال صلى الله عليه وسلم: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، فمن أين يأتينا المرض؟).
معظم الأمراض لا تأتى إلا من المعدة، والأخطر أن الرجل يكون شبعاناً، ويرى الطعام فيعجبه فيأكل، يدخل الطعام على الطعام، علماً بأن خط الانتاج بالمعدة لم ينته من هضم الطعام السابق، فيعطل هذا الخط، وربما يعجز لساعات، ويريد مساعدات – أشياء للهضم وأخرى للتسكين، ويجرى على الأطباء- ويعجز جزء من هذا الخط، فيستمر على الدواء على الدوام. ولكن القرآن علاجه الأشمل والأكمل:  { قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ } (57يونس).
إننا نعجب كيف تظهر فينا الأمراض النفسية - هذا عنده انفصام، والآخر عنده انفصال، والثالث انطواء وانعزال - لأنهم لا يمشون على منهج حبيب الله ومصطفاه!! أما من يمشى على منهج الله، وعنده خمس جلسات فى اليوم نورانية فى الصلاة، وإذا أراد الاستزادة فتح كتاب الله وتلا كلام الله، من أين تأتيه الأمراض النفسية؟ لا همٌّ ولا غمّ، ولا حَزَنٌ ولا أَرَق، ولا تَعَبٌ ولا قَلَق، ولا مَلَلٌ ولا نَكَد.
ولذلك فى هذه الفترة نجد أبناءنا فى الثانوية من ليس له نفس للمذاكرة، والذى يقول: خلاص، أنا لن أدخل الامتحان، والآخر يقول: أنا ناسى كل شئ. لأنهم اعتمدوا على المذاكرة، ونسوا الاعتماد على فضل الله عزَّ وجلَّ، وليس هناك أنفع من الاستقامة إذا حافظ على صلاة الفجر. يسهر الطالب منهم إلى الساعة الثانية أو الثالثة وينام، ويصلى الصبح بعد طلوع الشمس، من أين يأتيه الفتح؟ إن الله عزَّ وجلَّ يقول فيه: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (78الإسراء). وأنا وأنت أو أى انسان منا ماذا نفعل؟ أفضل حل، وأحسن حل، وأسرع حل، أن أصلى الفجر وأحافظ عليه ثلاثة أو أربع أيام، تجد على الفور ينطبق عليك قول الله عزَّ وجلَّ العزيز الغفور: { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } (22الزمر).
فتجد نور الله يعمر صدرك، ويكشف كل الأسقام والآلام العظام، والهموم والغموم تبعد بعيداً عنك، لأنك تتمتع بنور الله فى صلاة الفجر، والحبيب صلوات الله وسلامه عليه يوضح نور الفجر يدخل القلب فيقول: (إن النور إذا دخل القلب اتسع وانفسح. فقيل يا رسول الله: هل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله) (خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن عمر).
إذاً من يحافظ على منهج المصطفى فى الطعام لن تأتيه فى جسمه العلل والأسقام، والذى يحافظ على ما جاء به من عبادات وأذكار يبرئه الله من أمراض النفوس وأثقال الصدور، ويكون فى حياة راقية إيمانية قرآنية. والذى يسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من يريد أن يعيش فى سلام ويضمن الجنة والأمن والأمان يوم الزحام - يمشى على منهج رسول الله بالتمام.          
لكن من يريد أن يكون له شئ أعلى من ذلك - مقام كريم – ويريد أن يكون من الوجهاء والعظماء يوم العرض والجزاء، ماذا يفعل؟ ليس فقط ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يرى النبىَّ بذاته ماذا كان يعمل؟ وماذا كان يفعل؟ ويقتدى به ظاهراً وباطناً صلوات ربِّى وسلامه عليه. ولذلك هذا هو المنهج: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ - والسلاح الذى يصل به إلى هذا المقام -  وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (21الأحزاب).
إذاً لدينا منهجان: منهج العمل فيه بما جاء به رسول الله، لكن الإنسان يعمل بهذا المنهج ولا يستحضر – أثناء العمل – جميل طلعته وكمال محياه، وهو منهج عظيم، وهو سبب السعادة فى الدنيا، وهو أسُّ السعادة يوم لقاء الله. ولكن المنهج الأعظم والأكرم والأكمل: أن نستحضر حبيب الله ومصطفاه عند كل عمل، ويعمل كما كان يعمل صلى الله عليه وسلم. حتى أن أصحاب هذا المقام من شدَّة استحضارهم لحضرته، قد ينكشف عنهم الغطاء فيرونه فى عالم المثال، ويقتدون بالفعل كما يرونه بعين البصيرة وأنوار السريرة، لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
لماذا هذا كان أكرم وكان أعظم؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بالأيسر فى أمور دِينهم ودُنياهم، ويأخذ نفسه بالأشد. فمن يعمل بما يقوله سيأخذ بالتخفيف، وهذا أيضاً منهج لطيف، ليس فيه شدة ولا تعنيف، وفيه رَوْحٌ وريحان فى الدنيا، وسعادة غامرة يوم لقاء الله. أما من يعمل كما كان يعمل رسول الله، فيتطلب منه عزيمة أشدّ، ونفساً لا تتردد طرفة عين ولا أقل، ويحتاج عزيمة لا تلين، وهمَّة لا تعرف الراحة، لأن صاحبها يطمع فى مقام عظيم، ويريد أن يكون هناك مع الحبيب، وهنا على الأقل مستحضلاً صورة الحبيب، حتى يكون: { مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ } (69النساء).
ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المنهج الوسط، وإذا رأينا أحداً ترك الخَلْقَ وجَلَسَ فى الجبل، لا نقول أن هذا على المنهج الصحيح السليم، وإنما مثل هذا أخذ جزءاً من المنهج، ولكن المنهج الصحيح الذى يقول فيه: (إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس مِنِّي) (رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه).
أقول هذا لأن الكثير منا يعتقد أن الجماعة المجاذيب أفضل الوجود، نقول له: لا، أفضل الوجود الذى على منهج سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، والذى يعطى كلَّ ذى حقٍّ حقَّه، والذى يسعى على كسبه حتى لا يمدَّ يده إلى أحد. الذى يتزوج حتى يعلمنا معاملة الزوجات، والذى له أولاد ليعلمنا كيف نربى الأولاد على منهج الحبيب الجواد، والذى يخالط الناس ليعلمنا كيف نخالط الناس، نمشى مع هذا ونصاحب ذلك. كيف كل ذلك؟ هذا هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما من يجلس فى جبل ووقف على نفسه، وترك مقابلة الناس، ولم أتعلم منه إلا الزهد والعبادة – والزهد يكون أكمل إذا النعم فى يد العبد، وهو يزهد فيها لله عزَّ وجلَّ - لكن هذا ليس معه وهو زاهد، ويمكن إذا صار الشئ فى يده ربما يتغيَّر، ولكن الزهد الأكمل هو ما كان عليه السيد الأكمل صلوات الله وسلامه عليه.
وقد اختاروا رجلاً فى عهد سيدنا عمر للإمارة، وأقامه رضى الله عنه، ثم فى اليوم التالى خرج حاملاً معه البضاعة التى كان يبيعها – وكان تاجراً – فقال له أمير المؤمنين: ارجع فإنا نجعل لك من بيت المال راتباً فرجع، وعندما وافته المنية جمع أولاده وقال لهم: كم أخذنا من بيت المال؟ قالوا: كذا، قال لهم: ردوه إلى بيت المال. فقال سيدنا عمر رضى الله عنه: (لقد أتعبت مَنْ بعدك)، كيف يحكم من بعدك؟!!
هذا هو المنهج الذى علمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يُعطِى لكلِّ ذى حقٍّ حقَّه. منهج سيدنا أبى بكر الصديق رضى الله عنه، هل هناك ما أعلى منه فى الأمة؟ ومثله كان سيدنا عمر، ومثله كان سيدنا عثمان، ومثله كان سيدنا على، وكذلك أصحاب رسول الله رضى الله عنهم أجمعين؟ هل سمع منكم أحد أن رجلاً من أصحاب رسول الله ترك الدنيا وذهب إلى جبل؟ أبداً.
ألا قرأتم أن رجلاً كان يمشى مع حضرة النبى صلى الله عليه وسلم وهم فى غزوة من الغزوات فقال: يا رسول الله ائذن لى أن أمكث فى هذا المكان – والمكان فيه عينُ ماءٍ عذبٍ وزرعٌ طيِّب – أشرب من هذه العين، وآكل من هذ الزرع، وأَعْبُدُ ربِّى. فقال صلى الله عليه وسلم: (لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) (رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه).
أنت تريد أن تجلس هنا تتعبد، ونحن نريد منك أن تفيد الإسلام، ونفعك يتعداك إلى غيرك من المسلمين. فعَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ قَالَ: (لَقِيَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا ، فَقَالَ لَهُ : مَا تَصْنَعُ ؟ قَالَ : أَتَعَبَّدُ . قَالَ : مَنْ يَعُولُكَ ؟ قَالَ : أَخِي. قَالَ: أَخُوكَ أَعْبَدُ مِنْكَ) (المجالسة وجواهر العلم للدينوري). لماذا؟ لأنه يسعى ويجاهد لإظهار منهج الله، والكمال الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بماذا أثنى الله عليهم؟ { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ } (37النور). وهو يَعِدُّ الفلوس، ويناول هذا وذاك، ويكيل، والتجارة لم تشغله عن ذكر الله. لم يُثْنِ عليهم لأنهم تركوا الزراعة والتجارة وتفرَّغُوا لعبادة الله. وديننا لا يأمرنا أن نترك الدنيا للآخرة، بل نحول الدنيا إلى الآخرة بالنيَّات الفاخرة. كل الموضوع أننى أقدم نيَّة طيِّبة، أنا ذاهب للزرع: أن أعفَّ نفسى وأولادى عن سؤال الناس، وكل هذا عبادة. ( إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها الصوم ولا الصلاة. قيل فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: ( الهموم فى طلب المعيشة ) (رواه الطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم فى الحلية).
رايح إلى زيارة قريب لصلة الأرحام، وهذه عبادة أفضل من الخلوة الى الله عزَّ وجلَّ !! قد يكون محتاجاً فأساعده، أو عنده مشكلة وأحلها بفضل الله تعالى، ولكن إذا جلست وحدى وأقول: (يا لطيف .. يا لطيف)، وأنا بمفردى، ماذا استفاد المسلمون منى؟ صحيح هذه عبادة لها أجرها ولها حسناتها، ولكن العبادة الأرقى منها، والأعظم منها، العبادة التى تتعدانى إلى الخلق، والتى يشترك معى فيها الناس، والتى أقدم فيها منفعة للناس. هذا هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا كمال اتباعه، وأن يجملنا بجمال أخلاقه وآدابه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الموقع الرسمى لفضيلة الشيخ فوزى محمد ابوزيد.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير