عدد المشاهدات:
( 2 ) قوله رضي الله عنه:
( بعظيم المجاهدة في التخلي عن الفطر والأخلاق الحيوانية والإبليسية )
قد بين الإمام رضي الله عنه بهذه الفقرة، أن التخلق بأخلاق الربوبية لا يكون إلا بعظيم المجاهدة، وفادح المكابدة، وبذل كل ما في الوسع في ترك صفات البهائم وأخلاق الشياطين، حتى يتحقق الإنسان بإنسانيته، وأن له مركزاً خاصاً بين العوالم، ومكانة رفيعة فوق كل المخلوقات، وهو مقام الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وكذلك يعتقد الإنسان أن الله قد ابتلاه بأخلاق البهائم وأوصاف الشياطين، ليحوز شرف الجهاد الدائم في ذات الله تعالى، ويكون له بجهاده هذا مقام لا يصل إليه ملك مقرب ولا ذي روح من الأرواح العالية.
وأخلاق البهائم، شهوة الأكل والشرب، والنكاح والراحة، وغيرها من الصفات الخاصة بالحيوانات العجماوات، كالجور والتعدي. وهذه الصفات وإن كان يشترك الإنسان فيها مع البهائم، لكن الإنسان المؤمن جاهد نفسه في تهذيبها وتزكيتها والتوسط والاعتدال فيها، فأخذ من هذه الصفات ما هو ضروري لحياته، ولبقاء نوعه الإنساني، فيكون أكله ضرورة، وشربه ضرورة، ونومه ضرورة، ونكاحه ضرورة، فلا تكون هذه الأشياء مقصودة لذاتها، ولا مطلوبة لملائمتها للميول ولأهواء، وموافقتها لطبيعة النفس، ولكن يأخذ المؤمن منها بقدر حاجته بحيث يتفرغ لمهمته العظمى، ورسالته الكبرى التي جاء من أجلها، وهى معرفة الله وعبادته، وحبه سبحانه، والتقرب إليه جلَّ جلاله، والمسارعة فيما يحبه ويرضاه، والبعد عما يبغضه الله ويكرهه، والقيام بعمارة هذه الحياة بالخير والعدل، والتسامح والصفاء والحب، والزراعة والتجارة والصناعة ونحوها.
وطالب الوصول إلى كمال معرفة الله، لا بد له من التخلي عن هذه الفطر التي فطر الإنسان عليها، وابتلاه الله بها، حتى يتخفف من تلك الأعباء التي تثقل كاهله عند مسارعته في محاب الله ومراضيه. وقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه في بيان فطرة البهائم وطبيعتها:
وابتهاج الحيوان أكل وشرب ونكاح وذاك قصد القصي
أما أخلاق الشياطين التي يجاهد طالب الوصول نفسه في البعد عنها، والإقلاع عنها، فهي الكبر والحسد، والظلم والكيد والفساد، والعداوة والشحناء والبغضاء، والكراهية والأحقاد والأضغان، والبغي والتفريق بين الناس، ومحاربة الله ورسوله، كما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
وابتهاج الشيطان حسد وكبر بفساد وفرقة وبغى
وغير ذلك من صفات الشياطين والمردة، التي أبتلى بها الإنسان، ليجاهد نفسه في التخلي عنها، وفي تركها جملة واحدة، حتى يرتفع عن منازعات نفسه وعنادها، ومكرها وسوء أخلاقها، إلى مقامات العبد الواصل، الطالب لرضوان الله الأكبر، المقبل على الله بكليته، الفار إليه جلَّ جلاله من كل عائق، المتخلق بـأخلاقه، المتأدب بآدابه، المتشبه بمعاني أسمائه وصفاته.
وهذا هو مقام التشبيه، الذي تقوى فيه عوامل المشابهة بين العبد وبين معاني صفات ربه، وتزكو فيها دواعي المقابلة والمواجهة، فإنه لن يواجه عبد ربه بفطره المذمومة، وصفاته الخبيثة، ولكن يواجهه، ويقابله بما فيه من صفات باريه، وأخلاق سيده ومربيه، ولديها تنمو المشابهة وتشتد الرغبة في التخلق بأخلاق الله، ولن يصل عبد إلى هذه المنزلة إلا ببذل المجهود في طلب الوصول إلى الملك المعبود.
وهذا هو حقيقة الوصول إلى الله عزَّ وجلَّ، وليس الله في مكان يصل عبد إليه، أو زمان ينتهي العبد إليه، ولكن الله عزَّ وجلَّ من وراء الزمان والمكان، ومع هذا البعد العظموتي، والكبرياء القدسي، فهو سبحانه قريب من العبد الطالب له حقا قرب القرابة، بل أقرب إليه من نفسه التي بين جنبيه، قال الله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.[16، ق].
ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى، لا يحل في الأجسام، ولا تحل فيه الأجسام، ولا يقارب الأجسام ولا يشابهها، ولا تشبهه الأجسام ولا تقاربه، فليس في الخلق إلا الخلق، وليس في ذات الله إلا الله جل جلاله. وهذا هو مقام التنزيه.
وأما قربه من العبد، وتنزله إليه، فهذا قرب معنوي، يكون بمعاني صفات الله، ومعاني أسمائه الحسنى، من الوداد والعواطف والعوارف، والرحمة والرأفة، والحنان والإحسان، والعبد الواصل قد لا حظ بسره هذه الحقائق فنزه الله وقدسه عن كل ما يجول بالأوهام والخواطر. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من أهل الوصل، وأن يكتبنا من أهل القرب، إنه سبحانه سميع قريب مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
وعظيم المجاهدة التي يقوم بها العبد الواصل، إنما تكون بمعرفة الأعداء الذين يجاهدهم الإنسان، ومعرفة قوتهم، ويجب على المجاهد في هذه الأحوال أن يستعد بكل القوى التي تمكنه من إحراز النصر على أعدائه. ومن أهم هذه القوى، التزام الإنسان بصحبة الإخوان، وحرصه على الاستمرار معهم، لأنهم حصن له، وأمان له من الزلل والمعصية، هذا بخلاف ما يتلقاه الإنسان منهم وما يأخذه عنهم من العلم النافع، والهدى الموصل لمحبة الله ورسوله، وبخلاف الاستعانة بهم على تقوى الله، والبر والمعروف، ولأن الإخوان صورة كاملة للأستاذ المرشد رضي الله تعالى عنه، فكل واحد منهم، أخذ شيئاً من معارفه وعلومه، وسيرته وسلوكه. قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾.[28، الكهف].
ومعنى قول الله تعالى ﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾. أي لا تصرف نظرك عنهم وهذا أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يوجه نظره إليهم، وأن يلاحظهم برأفته وحنانته ورحمته صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الصنف من عباد الله المقربين في أمس الحاجة إلى عطفه وشفقته وولايته عليه الصلاة والسلام.
الصدق في الإرادة
فضيلة الشيخ محمد على سلامة