عدد المشاهدات:
انها معادلة الصراع الداخلي غير المرئي في النفس البشرية , بين الثوابت والمنافع , نتيجتها دائما تكون السبب الكامن وراء ما نراه من قرارات وسلوكيات مفصلية ومصيرية .
فالمرء يتنازعه داعيان , داع يجذبه إلى القيم العليا , والمبادىء الراقية , والمعاني الفاضلة , والمثل السامية , تدعمه في ذلك معاني الإيمان , ومفاهيم الخير , ورؤى الإصلاح , ونوايا الصدق والإخلاص , ومحبة الغير , والبحث عن الجزاء في قابل الأيام , وفيما بعد الحياة كذلك ..
وداع يجذبه نحو ما خلق عليه من المصالح والرغبات , تدعمه في ذلك قوة جذب الأرض , وثقلة الطين الذي منه خلق , وطبيعة تكوينه , من الضعف والعجلة , وسرعة الاستجابة للجواذب .
وما بين هذين الداعيين , يتناوب السلوك الإنساني , ويميل حيث يكون الوزن النسبى لأحدهما بداخله أكبر وأعمق وأكثر تجذراً , بفضل تكوينه القيمي والعقدي والتربوي .
بالطبع قد يحصل أن تتفق المصلحة مع المبدأ اتفاقا عشوائيا , بل قد تصير المصلحة عند البعض مبدأ وقيمة , وقد يذوب الإنسان في مصالحه حتى ينسى قيمه ومبادئه وثوابته !
إنه الإنسان إذن , الضعيف لكنه يحب القوة والسيطرة والغلبة والانتصار, وقد يقبل الظلم والأذى والضرر , المريض لكنه يحب الصحة والعافية وقد يهمل في معونة غيره وفك كربته , القريب من الموت لكنه محب للخلود , غافل عن نهايته , مهمل للجزاء الذي سيلقاه إن هو قصر أو أساء , قصير العمر مفارق للحياة لكنه جَموع للمال محب له , كثير الرغبات والحاجات , مصارع على المتاع !
التقاء الصواب بالخطأ , والاستقامة بالانحراف , والإرادة بالغرائز، والعقلِ بالدوافع ، والعقيدة بظُلمات النفس ، ونورِ الإيمان بقساوة القلب , هو مجال عمل المنهج الصحيح , وتبيان السبيلين ومعرفة الحق فيهما هو رسالة الأخيار .
وهذا التفسير البسيط فيه حل لإشكالية السؤال المتداول حول قوة تأثير الأفكار على الناس , وقوة تأثير الدعاة لهذه الأفكار , ومدى القدرة على التأثير في طبيعة الناس بعد تبنيهم لرؤى ومذاهب مختلفة .
فالناس بعد عمر معين , تترسخ فيهم المعاني والقيم التي نشأوا فيها , وتربوا عليها , وفهموها و وذاقوا آثارها , وتشربوا معانيها عبر الايام .
فعندئذ تكون القدرة على تغييرهم هي قدرة نسبية متغيرة , تعتمد على مدى قوة ما ترسخ فيهم , ومدى تجذره في قلوبهم ونفوسهم , كما تعتمد على مدى قوة الفكرة الجديدة , والرؤية القادمة , ومدى إقناع حاملها , ومدى تهيئة البيئة لها , كما تعتمد من جانب آخر على ضعف داعي الخصومة لها , سواء سلبا أو إيجابا , فكلما ضعف داعي الخصومة قويت الدعوة للفكرة الجديدة وكبرت فرصة تقبلها وتشربها .
ولذلك فإننا بالفعل نستطيع تصنيف الناس – بحسب مدى ترسخ القيم فيهم – إلى درجات , وأنواع , ومستويات , بل إن شئت فقل : معادن مختلفة .
هؤلاء يمكن أن تجدهم في مواقع مؤثرة , وأماكن متباينة من المجتمع المحيط بنا , سواء أكانوا في قمة هرمه أو في قاعه أو وسطه , وسواء أكانوا تنفيذيين أو تنظيريين , مؤدلجين أو غير مؤدلجين , منتمين لرؤى وتحزبات وجماعات أوغير منتمين , لكنهم في النهاية معادن مختلفة منها المتدني الرخيص , ومنها القيم الثمين , منهم النبلاء , ومنهم الأخساء .
النبي صلى الله عليه وسلم أشار لهذا المعنى العميق في تكوين الإنسان بقوله في الحديث :" تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه " متفق عليه
والمناوي يشرح الحديث فيقول :" وجه الشبه أن اختلاف الناس في الغرائز والطبائع كاختلاف المعادن في الجواهر، وأن رسوخ الاختلاف في النفوس كرسوخ عروق المعادن فيها، وأن المعادن كما أن منها ما لا تتغير صفته فكذا صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، .. ثم لما أطلق الحكم خصه بقوله (إذا فقهوا) أي صاروا فقهاء "
الأصل ألا يكون هناك صراع في نفوس الشرفاء بين المصالح والمبادىء , بل إن مصالحهم لتدور في فلك المبادىء , ويوم تخرج المصالح التي أمامهم عن إطار قيمهم ومبادئهم يرفضونها رفضا باتا , ويسجلون في سجلاتهم تلك المواقف بأحرف راسخة , لتكون نبراسا لمن بعدهم .
ربما يكون هناك إشكال في تحديد الفارق بين المصالح الحقيقية والمصالح المتوهمة , وقد تكون نتيجة وجود هذا الإشكال اضطراب الوعي تجاه معنى المصلحة الحقيقية وكيفية التفريق بينها وبين المصلحة المتوهمة .
والحقيقة أنه يصعب للغاية تعريف الإنسان بهذا الفارق تعريفا حقيقيا تاما لأسباب كثيرة منها حاجته وغرائزه ورغباته , وقصر نظره , وخفاء المستقبل عنه , وتأثره ببريق العاجلة , وغير ذلك .السبيل الوحيد لمعرفة المصلحة الحقيقية هو البصيرة النافذة التي تتولد في قلب الإنسان نتيجة سلامة ذلك القلب وتوحيده لربه , وهيمنة المنهج الرباني عليه , وقبوله له وتسليمه لقانونه .
المنهج الإسلامي يمنحنا الفرصة لتكوين هذا النوع من البصيرة , عبر الاستمساك به , فالشريعة الإسلامية جاءت بالمصالح كلها , ووضعت لها قانونها , واستطاعت أن تلاشي أي نوع من الصراع بين المبادىء والمصالح , إذ إنها جميعا تسير في ذات السبيل وتسعى لنفس الهدف .
كما يستطيع هذا المنهج أن يحل إشكالية أخرى عقيمة فيما يتعلق بأولويات المصالح عند تعارضها , وماذا يقدَم وماذا يتأخر .
إن نظرة منهجية صائبة لتأمر أصحاب المناهج المستقيمة أن يقفوا على جادة وسط , يقيمون مصالحهم , ويقدرونها جيدا , ويعرفون حاجاتهم , ثم ينظرون إلى قوانينهم وثوابتهم وشريعتهم , فيعرفون من خلالها ما يمكن إنفاذه والحصول عليه مما لا يمكن , ويدركون الجائز والممنوع .
هذا ينطبق على الأفراد كما ينطبق على المجتمعات , وهكذا كان منهج النبوة .. فحين جاءت قريش لتساوم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعبدوا إلهه عاما ويعبد إلههم عاما أنزل الله سبحانه عليه: " قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون "
رغم أن الناظر لأول وهلة يمكن أن يرى في هذا العرض مصلحة جيدة تمكنه من نشر دعوته , وتقوية شوكته , لكنها المبادىء الراسخة من التوحيد والعبودية تأبى الإقرار بعبودية غير الله مهما كانت المصالح .
وقريب من هذا المعنى ما ورد من حديث سلمان رضي الله عنه : « قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذباباً. فقرب ذباباً، فخلوا سبيله فدخل النار.
وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله ـ عز وجل ـ فضربوا عنقه فدخل الجنة». رواه أحمد , وهو صحيح موقوفا على سلمان .
وحين جاء قوم ليسلموا وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة أجابهم: "لا خير في دين لا صلاة فيه" , على الرغم من أن ناظرا قد يرى أن قبول إسلامهم فيه مصلحة , فإذا دخلوا الغسلام عرفوا ما فيه فربما يصلون بعد ذلك ..وهكذا , لكن المبادىء الإيمانية ههنا تعلمنا أن الصلاة من ثوابت هذا الدين ومبادئه فلا يتنازل عنها .
بل قد أنزل الله سبحانه قرآنا خالدا يتلى في سورة عبس , عتابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما التفت لكبار القوم طامعا في دعوتهم إلى الإسلام , ملتفتا عن الأعمى الذي جاء ليتعلم ويتذكر .
وحين قام مانعوا الزكاة قال أبو بكر رضي الله عنه : "أينقص الدين وأنا حي؟ " ( قال في جامع الأصول : أخرجه النسائي في الكبرى ) ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يعاقب ابن واليه على مصر لما ضرب القبطي لأنه سبقه وقال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟!".
في هذا العصر الذي نحيا أوقاته , ضلت الرؤى الإنسانية عن تلك المعادلة , وبعدت عن جادة السبيل بعدا شاسعا .
ففي معادلة القوى الدولية والمواقف العالمية تتفق المواقف كلها مع المصالح وتغض الطرف عن المبادىء مهما كانت , لكنهم يغطون هذه السوأة بالحديث الإعلامي الخبير الذي يبدي التوازن والتكافؤ,( صورة البي بي سي أنموذجا (
ولست ههنا في سياق الاستدلال على تناقض القوى الدولية بين حديثهم عن المبادىء والقيم , وبين تطبيقهم للمواقف التي لا ترعى سوى مصالحهم مهما كانت النتائج والأضرار على الشعوب المختلفة ومناحي الحياة .
نعم قد يكون في الغرب بعض الأفراد الشرفاء ممن يقدمون المبادىء على المصالح , لكن ثوابتهم لعدم انطباقها مع ثوابت الآخر يحصل الفرق , إضافة إلى ضعف القدرة على توصيل الصورة الإيجابية الصائبة من الآخرين إليهم ..
في المنهج الإسلامي لا صراع بين المصالح والقيم والمبادىء .. لأنها كلها في سياق واحد هو إرضاء الله .
لذلك فنحن بحاجة ماسة للإعلان عن هذا المنهج للبشرية جميعا , كمنهج للحياة , تتوافق فيه المثل والقيم مع المتطلبات والحاجات كأحسن ما يكون , كما أننا بحاجة إلى من يحمل هذا الإعلان حملا يليق به , ويتدرب عليه تدريبا عالي المستوى , دقيق الأداء , يتناسب مع علو شأو ما يدعو إليه ورسالته .
على جانب آخر , فهناك لحـظات الحاجة الماسة وبعض حالات الضرورة , قد تعلو فيها المطالبات بالتنازل عن بعض القيم لتحقيق المصالح الضرورية التي تقوم معها الحياة المستقرة , كمثل أن تكون ضرورات الحياة وحاجاتها الماسة التي لا تقوم الحياة بدونها على المحك , ولا وصول لها إلا بالتراجع خطوة عن معنى القيم العظمى المستمسك بها .
عندئذ تتباين المواقف , فالبعض يرفض , والبعض يقبل , وكلاهما دافعه نقي شريف .
فالبعض يأخذ بالعزيمة , والبعض يأخذ بالرخصة , والمرء مخير بين العزيمة والرخصة مادام الأمر في ذات نفسه , غير متعد لغيره , وما دام في إطار عدم الإضرار بنفسه أيضا ولا بغيره .
والرخص - في مواطنها وبشروطها - مستحبة التطبيق , فالله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه .
فالاتفاق على أن المبادىء يمكن أن تتراجع خطوة لأجل الإبقاء على المصلحة الضرورية المأخوذ من معنى قول الشافعي : ( إذا ضاق الأمر اتسع ) والمستأنسة بقاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات ) , يمكن أن يطبق كضابط يمكن تنفيذه بشروطه ومحدداته , وبحسب كل حالة بذاتها .
لكن التوسع في هذا المعنى لحظي دقيق , ولا يمكن أن ينطلق من رغبة فردية ولا جماعية , بل من تأصيل بحثي علمي واتفاق اجتهادي جماعي واسع .. وهو ما عبر عنه في القاعدة ( الضرورة تقدر بقدرها) .
فالمرء يتنازعه داعيان , داع يجذبه إلى القيم العليا , والمبادىء الراقية , والمعاني الفاضلة , والمثل السامية , تدعمه في ذلك معاني الإيمان , ومفاهيم الخير , ورؤى الإصلاح , ونوايا الصدق والإخلاص , ومحبة الغير , والبحث عن الجزاء في قابل الأيام , وفيما بعد الحياة كذلك ..
وداع يجذبه نحو ما خلق عليه من المصالح والرغبات , تدعمه في ذلك قوة جذب الأرض , وثقلة الطين الذي منه خلق , وطبيعة تكوينه , من الضعف والعجلة , وسرعة الاستجابة للجواذب .
وما بين هذين الداعيين , يتناوب السلوك الإنساني , ويميل حيث يكون الوزن النسبى لأحدهما بداخله أكبر وأعمق وأكثر تجذراً , بفضل تكوينه القيمي والعقدي والتربوي .
بالطبع قد يحصل أن تتفق المصلحة مع المبدأ اتفاقا عشوائيا , بل قد تصير المصلحة عند البعض مبدأ وقيمة , وقد يذوب الإنسان في مصالحه حتى ينسى قيمه ومبادئه وثوابته !
إنه الإنسان إذن , الضعيف لكنه يحب القوة والسيطرة والغلبة والانتصار, وقد يقبل الظلم والأذى والضرر , المريض لكنه يحب الصحة والعافية وقد يهمل في معونة غيره وفك كربته , القريب من الموت لكنه محب للخلود , غافل عن نهايته , مهمل للجزاء الذي سيلقاه إن هو قصر أو أساء , قصير العمر مفارق للحياة لكنه جَموع للمال محب له , كثير الرغبات والحاجات , مصارع على المتاع !
التقاء الصواب بالخطأ , والاستقامة بالانحراف , والإرادة بالغرائز، والعقلِ بالدوافع ، والعقيدة بظُلمات النفس ، ونورِ الإيمان بقساوة القلب , هو مجال عمل المنهج الصحيح , وتبيان السبيلين ومعرفة الحق فيهما هو رسالة الأخيار .
وهذا التفسير البسيط فيه حل لإشكالية السؤال المتداول حول قوة تأثير الأفكار على الناس , وقوة تأثير الدعاة لهذه الأفكار , ومدى القدرة على التأثير في طبيعة الناس بعد تبنيهم لرؤى ومذاهب مختلفة .
فالناس بعد عمر معين , تترسخ فيهم المعاني والقيم التي نشأوا فيها , وتربوا عليها , وفهموها و وذاقوا آثارها , وتشربوا معانيها عبر الايام .
فعندئذ تكون القدرة على تغييرهم هي قدرة نسبية متغيرة , تعتمد على مدى قوة ما ترسخ فيهم , ومدى تجذره في قلوبهم ونفوسهم , كما تعتمد على مدى قوة الفكرة الجديدة , والرؤية القادمة , ومدى إقناع حاملها , ومدى تهيئة البيئة لها , كما تعتمد من جانب آخر على ضعف داعي الخصومة لها , سواء سلبا أو إيجابا , فكلما ضعف داعي الخصومة قويت الدعوة للفكرة الجديدة وكبرت فرصة تقبلها وتشربها .
ولذلك فإننا بالفعل نستطيع تصنيف الناس – بحسب مدى ترسخ القيم فيهم – إلى درجات , وأنواع , ومستويات , بل إن شئت فقل : معادن مختلفة .
هؤلاء يمكن أن تجدهم في مواقع مؤثرة , وأماكن متباينة من المجتمع المحيط بنا , سواء أكانوا في قمة هرمه أو في قاعه أو وسطه , وسواء أكانوا تنفيذيين أو تنظيريين , مؤدلجين أو غير مؤدلجين , منتمين لرؤى وتحزبات وجماعات أوغير منتمين , لكنهم في النهاية معادن مختلفة منها المتدني الرخيص , ومنها القيم الثمين , منهم النبلاء , ومنهم الأخساء .
النبي صلى الله عليه وسلم أشار لهذا المعنى العميق في تكوين الإنسان بقوله في الحديث :" تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه " متفق عليه
والمناوي يشرح الحديث فيقول :" وجه الشبه أن اختلاف الناس في الغرائز والطبائع كاختلاف المعادن في الجواهر، وأن رسوخ الاختلاف في النفوس كرسوخ عروق المعادن فيها، وأن المعادن كما أن منها ما لا تتغير صفته فكذا صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، .. ثم لما أطلق الحكم خصه بقوله (إذا فقهوا) أي صاروا فقهاء "
الأصل ألا يكون هناك صراع في نفوس الشرفاء بين المصالح والمبادىء , بل إن مصالحهم لتدور في فلك المبادىء , ويوم تخرج المصالح التي أمامهم عن إطار قيمهم ومبادئهم يرفضونها رفضا باتا , ويسجلون في سجلاتهم تلك المواقف بأحرف راسخة , لتكون نبراسا لمن بعدهم .
ربما يكون هناك إشكال في تحديد الفارق بين المصالح الحقيقية والمصالح المتوهمة , وقد تكون نتيجة وجود هذا الإشكال اضطراب الوعي تجاه معنى المصلحة الحقيقية وكيفية التفريق بينها وبين المصلحة المتوهمة .
والحقيقة أنه يصعب للغاية تعريف الإنسان بهذا الفارق تعريفا حقيقيا تاما لأسباب كثيرة منها حاجته وغرائزه ورغباته , وقصر نظره , وخفاء المستقبل عنه , وتأثره ببريق العاجلة , وغير ذلك .السبيل الوحيد لمعرفة المصلحة الحقيقية هو البصيرة النافذة التي تتولد في قلب الإنسان نتيجة سلامة ذلك القلب وتوحيده لربه , وهيمنة المنهج الرباني عليه , وقبوله له وتسليمه لقانونه .
المنهج الإسلامي يمنحنا الفرصة لتكوين هذا النوع من البصيرة , عبر الاستمساك به , فالشريعة الإسلامية جاءت بالمصالح كلها , ووضعت لها قانونها , واستطاعت أن تلاشي أي نوع من الصراع بين المبادىء والمصالح , إذ إنها جميعا تسير في ذات السبيل وتسعى لنفس الهدف .
كما يستطيع هذا المنهج أن يحل إشكالية أخرى عقيمة فيما يتعلق بأولويات المصالح عند تعارضها , وماذا يقدَم وماذا يتأخر .
إن نظرة منهجية صائبة لتأمر أصحاب المناهج المستقيمة أن يقفوا على جادة وسط , يقيمون مصالحهم , ويقدرونها جيدا , ويعرفون حاجاتهم , ثم ينظرون إلى قوانينهم وثوابتهم وشريعتهم , فيعرفون من خلالها ما يمكن إنفاذه والحصول عليه مما لا يمكن , ويدركون الجائز والممنوع .
هذا ينطبق على الأفراد كما ينطبق على المجتمعات , وهكذا كان منهج النبوة .. فحين جاءت قريش لتساوم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعبدوا إلهه عاما ويعبد إلههم عاما أنزل الله سبحانه عليه: " قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون "
رغم أن الناظر لأول وهلة يمكن أن يرى في هذا العرض مصلحة جيدة تمكنه من نشر دعوته , وتقوية شوكته , لكنها المبادىء الراسخة من التوحيد والعبودية تأبى الإقرار بعبودية غير الله مهما كانت المصالح .
وقريب من هذا المعنى ما ورد من حديث سلمان رضي الله عنه : « قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذباباً. فقرب ذباباً، فخلوا سبيله فدخل النار.
وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله ـ عز وجل ـ فضربوا عنقه فدخل الجنة». رواه أحمد , وهو صحيح موقوفا على سلمان .
وحين جاء قوم ليسلموا وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة أجابهم: "لا خير في دين لا صلاة فيه" , على الرغم من أن ناظرا قد يرى أن قبول إسلامهم فيه مصلحة , فإذا دخلوا الغسلام عرفوا ما فيه فربما يصلون بعد ذلك ..وهكذا , لكن المبادىء الإيمانية ههنا تعلمنا أن الصلاة من ثوابت هذا الدين ومبادئه فلا يتنازل عنها .
بل قد أنزل الله سبحانه قرآنا خالدا يتلى في سورة عبس , عتابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما التفت لكبار القوم طامعا في دعوتهم إلى الإسلام , ملتفتا عن الأعمى الذي جاء ليتعلم ويتذكر .
وحين قام مانعوا الزكاة قال أبو بكر رضي الله عنه : "أينقص الدين وأنا حي؟ " ( قال في جامع الأصول : أخرجه النسائي في الكبرى ) ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يعاقب ابن واليه على مصر لما ضرب القبطي لأنه سبقه وقال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟!".
في هذا العصر الذي نحيا أوقاته , ضلت الرؤى الإنسانية عن تلك المعادلة , وبعدت عن جادة السبيل بعدا شاسعا .
ففي معادلة القوى الدولية والمواقف العالمية تتفق المواقف كلها مع المصالح وتغض الطرف عن المبادىء مهما كانت , لكنهم يغطون هذه السوأة بالحديث الإعلامي الخبير الذي يبدي التوازن والتكافؤ,( صورة البي بي سي أنموذجا (
ولست ههنا في سياق الاستدلال على تناقض القوى الدولية بين حديثهم عن المبادىء والقيم , وبين تطبيقهم للمواقف التي لا ترعى سوى مصالحهم مهما كانت النتائج والأضرار على الشعوب المختلفة ومناحي الحياة .
نعم قد يكون في الغرب بعض الأفراد الشرفاء ممن يقدمون المبادىء على المصالح , لكن ثوابتهم لعدم انطباقها مع ثوابت الآخر يحصل الفرق , إضافة إلى ضعف القدرة على توصيل الصورة الإيجابية الصائبة من الآخرين إليهم ..
في المنهج الإسلامي لا صراع بين المصالح والقيم والمبادىء .. لأنها كلها في سياق واحد هو إرضاء الله .
لذلك فنحن بحاجة ماسة للإعلان عن هذا المنهج للبشرية جميعا , كمنهج للحياة , تتوافق فيه المثل والقيم مع المتطلبات والحاجات كأحسن ما يكون , كما أننا بحاجة إلى من يحمل هذا الإعلان حملا يليق به , ويتدرب عليه تدريبا عالي المستوى , دقيق الأداء , يتناسب مع علو شأو ما يدعو إليه ورسالته .
على جانب آخر , فهناك لحـظات الحاجة الماسة وبعض حالات الضرورة , قد تعلو فيها المطالبات بالتنازل عن بعض القيم لتحقيق المصالح الضرورية التي تقوم معها الحياة المستقرة , كمثل أن تكون ضرورات الحياة وحاجاتها الماسة التي لا تقوم الحياة بدونها على المحك , ولا وصول لها إلا بالتراجع خطوة عن معنى القيم العظمى المستمسك بها .
عندئذ تتباين المواقف , فالبعض يرفض , والبعض يقبل , وكلاهما دافعه نقي شريف .
فالبعض يأخذ بالعزيمة , والبعض يأخذ بالرخصة , والمرء مخير بين العزيمة والرخصة مادام الأمر في ذات نفسه , غير متعد لغيره , وما دام في إطار عدم الإضرار بنفسه أيضا ولا بغيره .
والرخص - في مواطنها وبشروطها - مستحبة التطبيق , فالله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه .
فالاتفاق على أن المبادىء يمكن أن تتراجع خطوة لأجل الإبقاء على المصلحة الضرورية المأخوذ من معنى قول الشافعي : ( إذا ضاق الأمر اتسع ) والمستأنسة بقاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات ) , يمكن أن يطبق كضابط يمكن تنفيذه بشروطه ومحدداته , وبحسب كل حالة بذاتها .
لكن التوسع في هذا المعنى لحظي دقيق , ولا يمكن أن ينطلق من رغبة فردية ولا جماعية , بل من تأصيل بحثي علمي واتفاق اجتهادي جماعي واسع .. وهو ما عبر عنه في القاعدة ( الضرورة تقدر بقدرها) .