آخر الأخبار
موضوعات

الجمعة، 2 ديسمبر 2016

- الرقى الاجتماعى

عدد المشاهدات:
الرقي كلمة تحمل في رحمها جبّة من أجنّة الدلائل والمعاني السامية، التي تضفي شيئًا من تحامل النفس للتعالي عن كل ما هو سخيف دنيء لا تستسيغه النفس البشرية بفطرتها، تحمل العلوّ والسموّ، وترفض مرادفات الدنوّ، كيف لا وقد آنسنا بها رب العزة بآية فيها قبس من وقعٍ يؤنسُ قارئها ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ﴾ [الإسراء: 93]، فالله تعالى ربط الرقي بالسماء لنفهمَ تمامًا أننا دائمًا أمة تتسم بكل ما هو سماوي السمة، وترفض كل حضيضيّ الوَسم، فالرقي سماوي الشرط.

مجتمعات الله في أرضه كثيرة، من المشرق إلى المغرب، ومن الهند إلى السند، وقد حبا الله كل مجتمع منها بتكتيكات وَسْمية تتبناها تلك المجتمعات تبعًا واستنادًا لأيديولوجية ما، بشكل أو بآخر فلكلٍ منها موسيقاه الحياتية، فطريقة عزف النوتات تختلف باختلاف حنكة العازف، ولكن مع شيء من التمييز فإنّ مجتمعات الإسلام ميّزها الله بأيديولوجية ربانية تستنبط شعاعَ نورِ مبادئها من السماء، نعم أقول: من السماء، فهي إذن محقِّقَة لذات الرقي بشتى أبعاده وصوره، كيف لا وقوامُ سقياها من السماء؟ أتفق وإياكم وكل المحققين من أهل العلم والمعرفة أننا أمة سماوية راقية ذات نفحة عُلوية فوق الثرى بنص دستوري قرآني.

الرقي مولود العقيدة والدين، فهو سراج سماوي يضيء حنايا كل بيت حتى لو كان ترابيًّا قديمًا، هو بذاته لمسة فنية ساحرة تنبض بالجمال في كل موجودات الكون، الرقي صوتُ بلبل شادٍ يغرّد على حافة ساقية، هو عصفور يزقزق على مآذن كل مجتمع، إنه حناجر تصدح بسيمفونيات الأخلاق والفكر.

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملًا  ببردةٍ كاد طول العهد يبليها

بهذه الكلمات وصف شاعر النيل حافظ إبراهيم رقي حضارة عمر مقارنًا بحقارة ودنو حضارة كسرى، عمر الذي علّمنا أنّ الرقي شجرةُ فكرٍ نسقيها بماء المعرفة لتنمو ثم تنمو لتثمر حياة وحرية وسعادة وتقدمًا وازدهارًا، لله درُّك يا عمر، حكمت فعدلت فأمنت فنمت قرير العين هانيها بلا جند وحراس، علمتنا أن الرقي لا تجسده قصور مزركشة تلبس طرابيش القرميد معانقة قمم الجبال، ولا أبراج تناطح السحاب تبرق بحللٍ من الزجاج والمعادن، أقنعتنا سيدي أن الرقي لا تمثله تلك البدلة التي تغطي كرشًا تتدلى على سطحه ربطة عنق طويلة مجمّلةً بحذاء يلمع، الرقي ليس في سيارة فارهة المنظر تقف في فناء منزل تترامى فيه حدائق وأشجار، ولا قطارات ولا طائرات تمخر بحار الفضاء بلا قيد أو حدود، لا يتحقق الرقي البتة بأسواق ومهرجانات تقودها أيدي تجار ماسونيين لتسويق وترويج بضاعتهم، عنوان الرقي لا يكون أبدًا لكتاب يتضمن أساليب جمع أموال ومصالح مادية يستنكرها شياطين الجن لو نظروا.

الرقي يعني كل شيء ينتج الحضارة فكريًّا وروحيًّا وماديًّا، أبٌ يخدم البشرية وأمنَها وسلامَها وسموَّها وتقدمَها في شتّى مناحي الحياة الاجتماعية منها والاقتصادية والعقَدية وسياسات الحكم، هو أمٌّ تغرس في أبنائها بذور العلم لتزهر ورودًا تعبق الأجواء برائحة التقدم والازدهار، فكل قوة في العالم لا تسخّر لتحقيق سموّ وسعادة البشرية ليست رقيًّا يؤول لحضارة، بل هي حقارة وكذب وهيمنة وجشع يُخضعُ رقابَ الأمم لنزواتٍ عمياءَ، وتجعل منها قطعان ماشية يسوسها تيوسٌ مستعارة كاسرة، تقتل وتحتل وتنتهك وتسلب، تصادر معتقدات وآراء، وتسبي فكرَ التقدم وأحلام الحضارة، الرأسمالية العالمية المخصَّصَة المحتكرة، تتاجر بالإنسان المقدَّس، تشتري حريته لا بل حياته.. أهكذا رقي الأمم؟! جبروت وعجرفة تعيد التاريخ إلى ما قبل التاريخ، همجية وطغيان وفساد يؤول للكساد.

الرقي منحة إلهية، تنمو بالقراءة والفكر والمعرفة والجد في طلب كل أشكال العلم بكل مناحي حياة المجتمع؛ لنتصرف بعلم بحت، ونتكلم بكَلم لسانٍ لا يَنْكي بالآخر؛ ليعبِّر عن سموٍّ عقليٍّ وروحيٍّ يمتزج وقوانينَ الطبيعة والكون؛ ليعزِّز كلَّ معاني القيم والمُثُل العليا والأخلاق الربانية المحمّدية، الرقي قبس من نورٍ يحرِّر الإنسان من قوانين الاستعباد الاجتماعي، من الجهل والتخلف، هو آية تكنز في كواليسِها معاني الذوق الرفيع والطبع المنيع الذي ينبت حسن المعاملة وأدبَ لَبِقٍ في التصرف والكلام، الرقي صدق يزين الأقوال، وزينة تحلي الأفعال.

قد يسهب الكلام في الرقي، ولكنه سماوي المنشأ، محمدي الطبع، يقوم بسيادة القيم الإنسانية الإلهية المحمّدية، علينا أن نقرأ كثيراً لنفهم الفهم السليماني، ونعلم العلم الإبراهيمي، حينئذ نحقق حياة الرقي في أوْجها؛ ليكون في أسمى وجوه رقي الحياة، وليس ذلك لأحد إلا للذين يعيشون مع الحرف، ويصاحبون المعاني، بهذا يكون رقي الأمم والحضارة المحمّدية التي ترقى بنا إلى السماء. سيدي، سيدتي، كن أنت إلى حيث السماوية راقيًا بذاتك، مزيّنًا بثوبِ العلم والمعرفة، صاحبَ ذوقٍ بأدبك، ترنو لحضارةٍ تبدأ من ذاتك وعلاقاتك وتصرفاتك وتعاملاتك، وإيّاك أن تكون سرابًا خادعًا، أو إمّعة تساق كما يساق القطيع إلى حيث لا يدري، كن ميتافيزيقيًّا بفكرك، عملاقًا في رقيك المعرفي، ولتكن صاحب نفس توّاقة، كعمر بن عبد العزيز الذي قال: "إن لي نفسًا توّاقة ، ما تمنت شيئًا إلا نالته، تمنّت الإمارة فنالتها، وتمنت الخلافة فنالتها، وأنا الآن أتوق للجنة وأرجو الله أن أنالها"، كن رئبالًا ولا تقنع بما دون النجوم.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير