عدد المشاهدات:
تنمية مهارات
الذكاء والفهم والإدراك
القرآن
بوصفه مصدراً معرفياً يحترم عقل الإنسان، وبالتالي يستمد منه العقل قوة الإدراك
والفهم والذكاء، قال تعالى: ] آتَيْنَاهُ حُكْماً
وَعِلْماً[ [يوسف
: 22] أي فقهاً، وقال تعالى: ] وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [ [لقمان : 12] أي علماً وفقهاً، وقال تعالى: ] قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ [ [هود : 91] أي ما نفهم؛ فالفهم منحة ربانية يقذفها الله في قلب
الإنسان المداوم على تلاوة القرآن، المتدبر لمعانيه ، وهو الأقرب -بطبيعة
الحال-إلى الفهم والحفظ؛ لأن القرآن يحثّه على التفكر والتدبر والتأمل، وبالتالي
ينمي فيه احتداد القريحة، وتوهج الفكر، واشتعال الذكاء، وسلوك طريق المعرفة
بمعناها الواسع، وحسبنا في ذلك أن كلمة اقرأْ أول ما نزل من القرآن جاءت بها
المعنى الواسع للعلم والمعرفة، بدون تقسيم للعلم كما فعل المسلمون في عصر
الانحطاط، فقط أن تقرأ باسم الله لقوله تعالى: ] اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ [العلق : 1] .
فهنا
يقول القرآن لقارئه إقراء في كتاب الله المسطور ، والمنظور ، ما شاء لك أن تقرأ ،
وتعلّم ما شاء لك أن تتعلم ، فقط أن يكون باسم الله ، والفهم (هو المعيار للحكم
على كثير من القضايا)[1] كفهم الشريعة
وحقيقتها ، وفهم أحكامها ومصطلحاتها ، وفهم التصور الإسلامي للكون والأنفس والآفاق
، ولذلك نجد (أن بعض الباحثين – نتيجة استقراء آيات القرآن بهذا الشأن قد أكد أن
المعرفة في الإسلام شرط الإيمان . على أساس أن الإيمان الحق هو الذي ينشأ عن دليل
وعن فهم واختيار ، وليس الموروث ، أو الناشئ عن الاضطرار أو عن التقليد المجرد .
إن القصد من الاعتقاد الحق ليس تدريب المرئ على فعل الخير فحسب ، ولكن النهوض كذلك
بعقله وروحه عن طريق الفهم والإدراك، ليكون قادراً على فعل الخير)[2] إن أول ما يجب
أن توظف فيه مهارة الفهم هو توظيفها في سبيل فهم كتاب الله جل وعلا . (إن هذا
القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح إنه لم يجئ ليكون متاع عقل ،
ولا كتاب أدب وفن ، ولا كتاب قصة وتاريخ .. إنما جاء ليكون منهاج حياة ، منهاجاً
إلهياً خالصاً )[3].
ومن هنا فإن هذه المهارة لا بد أن تساعد المتعلم
على ( فهم الألفاظ والتراكيب من السياق القرآني ، ما تسنى ذلك )[4]؛ لأن اللغة هي
أهم ما يميز ذكاء الإنسان، خاصة اللغة العربية وما تمتلكه من خصوبة وثراء وإنتاج
للأصوات باستخدام المهارات السمعية لاختراق مستويات الإدراك والتأثير في المشاعر
الوجدانية العميقة ، قال تعالى: ]إِنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [ [يوسف
: 2] . وهنا يكمن سر الاختيار للغة من حيث التأثير ، ما يسمى بالذكاء الصوتي ذِيْ
الإيقاع الموزون والتناسق والانسجام بين الآيات ، أو الذكاء البصري أو التصويري من
خلال المشاهد والصور الذهنية التي تنمي الخيال ، وهذا كله يؤدي إلى تطوير الذكاء
الشخصي.
والقرآن
عندما يحُّث على استخدام العقل والفكر يرمي إلى تنمية مهارة الفهم والإدراك ،
والإنسان لا يستطيع أن يطلق العقل من عقاله إلا بترويضه وتنميته وإعطائه القدرة
على الاستيعاب ، من خلال النظر والتدبر والتأمل في معاني القرآن وآياته ، التي
يستشعر فيها المؤمن عظمة الله وقدرته على الخلق والإبداع ، فينتفع وينفع غيره بكل
ما في الكون من أشياء سخرها الله له ودعاه إلى البحث والنظر والتفكر والتأمل فيها،
من خلال كتابه المسطور والمنظور في الكون والأنفس والآفاق. ( وينعى القرآن الكريم
على الكفار أنهم إذا دعوا للإيمان احتجوا بأنهم لا يستطيعون ذلك لأن آباءهم لم
يفعلوه ، فهم يستهدون بهم ويسيرون على منوالهم فيتساءل في إنكار وتعجب ، قال
تعالى: ] أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [ [البقرة : 170] وفي هذه الآية استنكار واضح للتقليد دون تحكيم
العقل والتفكير.
ومن مهارة الفهم معرفة اللغة التي نزل بها القرآن
الكريم ، ذلك أن اللغة العربية باب واسع ، ومعرفتها وفهمها يعين المتعلم على فهم
كتاب الله .... ومن أهم مجالات تنمية مهارة الفهم : ( فهم معنى الآيات المحكمة
والآيات المتشابهة ) و ( فهم مواقع الآيات المتشابهة )[5] ومنها كذلك (فهم مخارج الحروف ومحلها ، وعدد كل
مخرج من المخارج وحروف كل مخرج) إن تنمية مهارة الفهم ، من خلال القرآن الكريم ،
يمكن أن تتم من خلال جميع مواد التربية الإسلامية التي يتلقاها المتعلم )[6].
إن الإنسان في نظر القرآن مخلوق يحمل أهم وأخطر
وظيفة من بين سائر مخلوقات الكون منحها الله إيَّاه ألا وهي وظيفة العقل وما يتفرع
منها، أو يلازمها من صفات العلم والفهم والإدراك وهي من أكبر نعم الله على
الإنسان؛ فيجب عليه أن يعطيها حقّها الذي منحها الله إياهُ من حيث تنميتها بالفهم
والإدراك، لا أن يعطلها أو يجمّدها فتخبو وبالتالي تتّعطل وظيفتها الأساسية التي
من أجلها خلقت أو وجدت قال تعالى: ] إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [
[الإسراء : 36] . فكن مستمعاً جيداً ، متمعناً ومتأملاً في حقائق الكون والأنفس
والآفاق ، توقف على خواتيم الآيات ، وتأمل . ثم استرسل في القراءة ، ثم توقف عند
القصة أو الحوار أو المشهد الذي يثير الوجدان ، استدرك الآيات التي فيها تنبيه
لعقاب ، أو تحفيز أو التي تعالج موضوعات معينة ، فكر بقدر ما تقرأ ، وحاول استعادة
ذلك ، وانظر ماذا ترى، كرِّر ذلك مرة ومرات في أثناء القراءة ، ستكتشف أشياء لم
تكتشفها من قبل ، وعندها ستجد أن خيالك –حتما- قد توسع ، وفهمك قد زاد ، وبهذه
الطريقة تنمي قدراتك الذهنية (ومهما يكن من أمر فالحّق أنه حينما تضعف المواهب
العقلية ، وتمحل الاستعدادات الفكرية ، يتولد الجمود الممقوت ، الذي يقضي شيئاً
فشيئاً على نمو القدرات التي تنطلق بالفرد نحو الرقي والتقدم ، مما إذا حدث وجد
الناس أنفسهم صفر الأيدي ، من كل استعداد فكري )[7].
ولهذا جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت
: قلت يا رسول الله ، بم يتفاضل الناس في الدنيا ؟ فقال يا عائشة بالعقل . قالت
وبم يتفاضلون في الآخرة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم أو يعملون إلا بقدر ما في
عقولهم.)[8].
فالسنة
تحث على إعمال العقل ، بل تؤكد ما أكده القرآن . ولهذا أقول للذين يعانون من صعوبة
في الفهم ، أو عدم القدرة على التركيز ، أو الذين يعانون من ضعف في الاستيعاب ،
فعليهم أن يستعينوا بالله ، ويراجعوا أنفسهم ، ويلازموا القرآن ملازمة دقيقة،
ويقرؤه بتأمل ، ويقفوا على مدلول قوله تعالى : ] وَاتَّقُواْ اللّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ [البقرة : 282] ولعل
الربط هنا بين تقوى الله والعلم ، هو نور الهداية الرباني ومعرفة الحق ، كما في
قوله تعالى : ] يِا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً [ [الأنفال : 29] نفرق بين الحق والباطل ، أو بين الصحيح والفاسد ،
أو بين نور العلم وظلام الجهل ، كما في قوله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن
رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [ [الحديد : 28] وكما في قوله تعالى : ] نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ
مَن يَشَاءُ [
[النور : 35] نور الوحي مع نور العلم والمعرفة يحققان الهداية بإذن الله تعالى ،
قال تعالى: ] وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ
فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [ [النساء : 113] فنور العلم مع نور الهداية ، هو الذي يكسب النفس
الإنسانية قوة الفهم ، ومعاني الإدراك ، وتنمية الفكر ؛ لأن القرآن يخاطب مكنونات
النفس التي تفهمه ، والنفس التي تفهمه هي النفس التي تحبه ، والنفس التي تحبه ، هي
النفس التي تتلوه بفهم وإدراك ، وهنا يكون التلاقي بين نور الهداية ونور العلم ،
فيكتسب الإنسان منهما هذه الحاسة الشعورية الانتقائية المرهفة ، التي تلامس شغاف
القلب قال تعالى: ] إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ[ [ق : 37] قلب حي واعٍ يستمد منه الإنسان الصفاء الروحي والذهني
ويحقق له معاني الاستجابة ، قال تعالى: ] إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ[ [الأنعام : 36] ولعل المقصود بالسمع هنا هو الإنصات والاستيعاب
الذي يحقق الاستجابة ، ويعين بدوره على الإدراك ، وترسيخ الفهم ( إن مهارة الفهم
من المهارات التي لا يمكن أن يتطور تفكير المتعلم بدونها وبدون توظيفها والاهتمام
بها ، ذلك أن الفهم مهارة يحتاجها المتعلم في جميع العمليات العقلية التي يقوم بها
، فهي تساعد المتعلم أن يكون مستقلاً في تفكيره ، كما تجنبه الوقوع في التقليد
الأعمى ، وتساعد –كذلك- على تنمية جميع المهارات الأخرى التي يحتاجها )[9].
والفهم بطبيعة الحال ليس عملية اختزان للمعلومات
فقط، وإنما هو علمية اختزال لها والقرآن يحمل كل المعاني التي تشكل مركز الرؤية
بالنسبة للعقل ، وينمي بالتالي مستوى الاستيعاب لقارئه؛ لأن الشيء الوحيد الذي
يجمد العقل ويخمد الفهم هو التوقف عن
القراءة.
[1]- محمود السيد مسيرة
الفكر التربوي عبر التاريخ دار الشروق جدة ، ص 114.
[2]- انظر : د. سعيد إسماعيل
، أصول التربية الإسلامية ص 31 . موقف الإسلام من المعرفة والتقدم الفكري ، ضمن
بحوث الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة أ. حمود حب الله ، ص 31.
[3]- د. عبد الرحمن المالكي
مصدر سابق 98.
[4]- د. عبد الرحمن المالكي مصدر سابق ص
98
[5]- سراج محمد عبد العزيز ،
كيف ندرس القرآن لأبنائنا ، ص 43.
[6]- د. عبد الرحمن المالكي ، مصدر سابق ، ص 100.
[7]- الإسلام والتحدي
الحضاري إصدار دار الكتاب العربي ، مقال بعنوان دعوة القرآن الكريم إلى إعمال
الفكر والعقل ، ص 90.
[8]- أخرجه ابن المجبر والترمذي الحكيم في النوادر
نحوه ، كتاب تخريج أحاديث الإحياء ، كتاب العلم باب العقل ، ص 2.
[9]- د. عبد الرحمن المالكي
مصدر سابق ، ص 100.