عدد المشاهدات:
طريقة الإسلام فى تربية العقل
التأمل والتفكيروهما ضروريان لتنمية العقل واستقلاله بالفهم والإدراك، والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعو الإنسان إلى التأمل وإيقاظ النفس، واستشعارها لعظمة الله وقدرته في الكون،
لقوله{ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة_164)
ويبدأ الإسلام التربية العقلية هنا بتحديد مجال النظر العقلي، فيصون الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها. وهو يعطي الإنسان نصيبه من هذه الغيبيات بالقدر الذي يلبي ميله للمجهول، ولكنه يَكِلُ أمر ذلك إلى الروح فهي القادرة على ذلك، المزودة بوسائل الوصول، أما العقل فوسيلته إلى الله وإلى معرفة الحق، هي تدبر الظاهر للحسِّ والمُدْرَكِ بالعقل.ثم بعد ذلك يأخذ في تدريب الطاقة العقلية على طريقة الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة، فيتخذ إلى ذلك وسيلتين كما يلى:
الوسيلة الأولى:
وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي فينعى على المقلدين القائلين:{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [23- الزخرف] وينعي على الذين يتبعون الظن: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [23- النجم]. ثم يأمر بالتثبت من كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ َْمسؤُولاً} [36- الإسراء].
والوسيلة الثانية:
هي تدبر نواميس الكون - تطبع العقل بطابع من الدقة والتنظيم، فيوجه الإسلام الطاقة العقلية أول ما يوجهها إلى التأمل في حكمة الله وتدبيره. وهذا التأمل غايته إصلاح القلب البشري، وإقامة الحياة على الأرض على أسس من الحق والعدل الأزليين الكامنين في بنية الكون وبنية الحياة، وفي ذلك يقول كريس موريسون [في كتابه العلم يدعو للإيمان]:4
(إنَّ وجود الخالق يدلُّ عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة، وإن وجود الإنسان على ظهر الأرض، والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ الكون).
ويوجِّه الإسلام الطاقة العقلية كذلك إلى النظر في حكمة التشريع، ولذلك فقد عنى القرآن في آيات التشريع بأن يوقظ العقل البشري لتدبر هذه الآيات، وفهمها ووعيها، حتى يستطيع تطبيقها على خير وجه.
ومنذ العصر الأول ظهرت حتى في التشريعات التفصيلية الثابتة المحكمة، حالات تستدعي إعمال الفكر، وفهم الحكمة، وفهم الترابط العام بين جميع التشريعات، ومن ذلك: عدم تطبيق عمر لحدِّ السرقة على غلمان حاطب بن أبي بلتعة الذين سرقوا ناقة رجل من مزينة، لأنه اعتبر الجوع الذي يقاسونه شُبْهَةً تدرأ عنهم الحدَّ وقال لعبدالرحمن بن حاطب:
{أما والله لولا أني أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى لو أنّ أحدهم يجد ما حرم الله عليه لأكله، لقطعت أيديهم }(1) .
ومن جانب آخر فإن التشريعات المتعلقة بأمور متغيرة في الحياة البشرية، وهي سياسة الحكم وسياسة المال، قد اقتضت حكمة الله فيها أن يشمل التشريع الأسس والمبادئ دون التفصيلات والأشكال، لأن أية تفصيلات وأية أشكال ستكون موقوته بفترة معينة، بينما الأسس والمبادئ هي الإطار الذي ينبغي أن تسير الأمور في حدوده، متجددة بتجدد كل عصر ودرجته من العلم، ودرجته من التفاعل من الكون المادي، وصورة المجتمع الذي يعيش فيه.
ففي سياسة الحكم؛ مثلاً: ورد أساسان شاملان هما العدل والشورى:
{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [58- النساء]{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }[38- الشورى}
ولكنه لم يبيِّن أي طريقة تكون عليها الشورى؟ أهي مجمع من رؤساء القبائل والعشائر؟ أم مجلس برلماني منتخب أو معين، أو خلافة، لأن هذه صورة متغيرة بتغير صورة المجتمع وإمكانياته.
وجاء في سياسة المال: { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ }[7- الحشر]. فقرر كراهية حصر المال في يد فئة قليلة يتداولونه بينهم وبقية الأمة محرومة منه. أما طريقة الاشتراك في هذا الخير فقد تركها لكل جيل يصوغا في الصورة التي تلائم ظروفه وعلمه وإمكانياته، بحيث لا يخرج على تلك القاعدة الكبرى.
لهذا وذاك طلب اليقظة من الإنسان لحكمة التشريع الإلهي، ووعيه وتدبره، ضماناً لسير الأمور في الأرض على نهج من العدالة والحق المستمدين من العقيدة في الله. ومن هنا يمتزج التشريع بالتوجيه، وتمتزج الأحكام بالتقوى التي تضئ الوجدان.
يوجِّه الإسلام الطاقة العقلية لضمان سير الأمور في المجتمع على منهج صحيح. فكل فرد في الأمة المسلمة مطالب بالرقابة على المجتمع، ومسئول عن كل ما يقع فيه، وإلاَّ أصابه جزاء غفلته ولو لم يكن هو ذاته من الظالمين
{ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [25- الأنفال]،
وإنما تصيبكم جميعًا جزاء قعودكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا التكافل في المجتمع والرقابة على سير الأمور فيه، يقتضيان وعياً كافياً، ويستلزمان عقولاً ناضجة، ولا بد من توجيه الطاقة العقلية للعمل في هذا الميدان، فهذا هو الضمان لحسن سير الأمور.
والقرآن يوجه المسلمين في ذلك توجيهات شتى:
فهو مرَّةً يبصرهم بأعدائهم الذين يتربصون بهم لِيَحْذَرُوهم، ويكونوا على الدوام متيقظين لهم، واعين لمؤامراتهم ودسائسهم. وتارة يوجههم لطريقة تلقي الأنباء والتصرف في الأمور حين تشيع الشائعات حول أمر من الأمور. وتارة يوجههم إلى حسن الحكم على الأشياء والأشخاص، وعدم التسرع في إصدار حكم على أمر لم تتبين كل خطوطه. وتارة يوجههم إلى طاعة أولي الأمر في حدود طاعة هؤلاء لله والرسول صلى الله عليه وسلم . وهكذا مع ملاحظة أن كل توجيه تنظيمي يصحبه ويلزمه التوجيه إلى الله والدعوة إلى تقواه.
ويوجِّه القرآن الطاقة العقلية إلى النظر في سنة الله في الأرض وأحوال الأمم والشعوب على مدار التاريخ فقد قال الله فى (109_يوسف):{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
ثم يوجِّه الإسلام العقل البشري إلى استخلاص الطاقة المادية والمكونات والعناصر الأرضية وتذليلها لخدمة الإنسان:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}[10- الأعراف]
فيوجهه إلى استخلاص الطاقة المادية، وقد وجَّه رُوحَه من قبل إلى الارتباط بالله وخشيته وتقواه؛ ومن ثم يعمل العقل البشري في استخلاص هذه الطاقة غير مفتون بها ولا شاعر بأنها خلاصة الحياة وجوهرها الأوحد؛ فينتفع بثمارها وهو مالك لأمره منها، غير مستعبد لها ولا منجرف في طريقها، وهذا فارق حاسم فيما بين الإسلام وغيره من النظم والعقائد والأفكار.ولذلك فإن المسلمين لم يفتنهم التقدم المادي فينقطعوا عن الله ومنهجه وعبادته والسير على هداه، ولم يفتنهم فينقطعوا عن عالم الروح، ولم يفتنهم فيستغلوا علمهم في سبيل الشر، ولم يفتنهم فيُحَوِّلُهم إلى المادية الكريهة التى تسيطر اليوم على الغرب، ولم يفتنهم فينبذوا أخلاقهم جانباً بحُجَّةِ أنهم تقدُّميُّون. بل سار العلم في ظلال العقيدة يكشف ويصل كل يوم إلى جديد، وهو ماض في طريق الخير، لأنه سائر في طريق الله، ولذلك يحرص الإسلام أشد الحرص على ربط القلب دائمًا بالله، وتوجيه العقل - وهو يعمل في استنباط الطاقة المادية في الأرض - إلى حكمة الله من الخلق، وآياته في رحاب الكون.
والعلاقة بن العقل والروح قائمة أبدًا لا تنفصم في منهج الإسلام. ومن ثم لا يضل العقل - وهو يتعلم - ولا ينحرف عن طريق الخير، ولا يستخدم معلوماته في سبيل الشر.
والعلاقة بين الروح والمادة قائمة: فلا يستعبد الإنسان المادة، ولا يقع فريسة للآلة تستعبده وتسيطر عليه، لأنه حافظٌ لكيانه المتكامل، مستمدٌ قوته من الله، من ثم يظل هو المسيطر وهو العنصر الإيجابي الفعال.تلك طريقة الإسلام في تربية العقل:{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } [138- البقرة].
==========================================
منقول من كتاب (تربية القرآن لجيل الإيمان) لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
التأمل والتفكيروهما ضروريان لتنمية العقل واستقلاله بالفهم والإدراك، والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعو الإنسان إلى التأمل وإيقاظ النفس، واستشعارها لعظمة الله وقدرته في الكون،
لقوله{ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة_164)
ويبدأ الإسلام التربية العقلية هنا بتحديد مجال النظر العقلي، فيصون الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها. وهو يعطي الإنسان نصيبه من هذه الغيبيات بالقدر الذي يلبي ميله للمجهول، ولكنه يَكِلُ أمر ذلك إلى الروح فهي القادرة على ذلك، المزودة بوسائل الوصول، أما العقل فوسيلته إلى الله وإلى معرفة الحق، هي تدبر الظاهر للحسِّ والمُدْرَكِ بالعقل.ثم بعد ذلك يأخذ في تدريب الطاقة العقلية على طريقة الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة، فيتخذ إلى ذلك وسيلتين كما يلى:
الوسيلة الأولى:
وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي فينعى على المقلدين القائلين:{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [23- الزخرف] وينعي على الذين يتبعون الظن: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [23- النجم]. ثم يأمر بالتثبت من كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ َْمسؤُولاً} [36- الإسراء].
والوسيلة الثانية:
هي تدبر نواميس الكون - تطبع العقل بطابع من الدقة والتنظيم، فيوجه الإسلام الطاقة العقلية أول ما يوجهها إلى التأمل في حكمة الله وتدبيره. وهذا التأمل غايته إصلاح القلب البشري، وإقامة الحياة على الأرض على أسس من الحق والعدل الأزليين الكامنين في بنية الكون وبنية الحياة، وفي ذلك يقول كريس موريسون [في كتابه العلم يدعو للإيمان]:4
(إنَّ وجود الخالق يدلُّ عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة، وإن وجود الإنسان على ظهر الأرض، والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ الكون).
ويوجِّه الإسلام الطاقة العقلية كذلك إلى النظر في حكمة التشريع، ولذلك فقد عنى القرآن في آيات التشريع بأن يوقظ العقل البشري لتدبر هذه الآيات، وفهمها ووعيها، حتى يستطيع تطبيقها على خير وجه.
ومنذ العصر الأول ظهرت حتى في التشريعات التفصيلية الثابتة المحكمة، حالات تستدعي إعمال الفكر، وفهم الحكمة، وفهم الترابط العام بين جميع التشريعات، ومن ذلك: عدم تطبيق عمر لحدِّ السرقة على غلمان حاطب بن أبي بلتعة الذين سرقوا ناقة رجل من مزينة، لأنه اعتبر الجوع الذي يقاسونه شُبْهَةً تدرأ عنهم الحدَّ وقال لعبدالرحمن بن حاطب:
{أما والله لولا أني أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى لو أنّ أحدهم يجد ما حرم الله عليه لأكله، لقطعت أيديهم }(1) .
ومن جانب آخر فإن التشريعات المتعلقة بأمور متغيرة في الحياة البشرية، وهي سياسة الحكم وسياسة المال، قد اقتضت حكمة الله فيها أن يشمل التشريع الأسس والمبادئ دون التفصيلات والأشكال، لأن أية تفصيلات وأية أشكال ستكون موقوته بفترة معينة، بينما الأسس والمبادئ هي الإطار الذي ينبغي أن تسير الأمور في حدوده، متجددة بتجدد كل عصر ودرجته من العلم، ودرجته من التفاعل من الكون المادي، وصورة المجتمع الذي يعيش فيه.
ففي سياسة الحكم؛ مثلاً: ورد أساسان شاملان هما العدل والشورى:
{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [58- النساء]{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }[38- الشورى}
ولكنه لم يبيِّن أي طريقة تكون عليها الشورى؟ أهي مجمع من رؤساء القبائل والعشائر؟ أم مجلس برلماني منتخب أو معين، أو خلافة، لأن هذه صورة متغيرة بتغير صورة المجتمع وإمكانياته.
وجاء في سياسة المال: { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ }[7- الحشر]. فقرر كراهية حصر المال في يد فئة قليلة يتداولونه بينهم وبقية الأمة محرومة منه. أما طريقة الاشتراك في هذا الخير فقد تركها لكل جيل يصوغا في الصورة التي تلائم ظروفه وعلمه وإمكانياته، بحيث لا يخرج على تلك القاعدة الكبرى.
لهذا وذاك طلب اليقظة من الإنسان لحكمة التشريع الإلهي، ووعيه وتدبره، ضماناً لسير الأمور في الأرض على نهج من العدالة والحق المستمدين من العقيدة في الله. ومن هنا يمتزج التشريع بالتوجيه، وتمتزج الأحكام بالتقوى التي تضئ الوجدان.
يوجِّه الإسلام الطاقة العقلية لضمان سير الأمور في المجتمع على منهج صحيح. فكل فرد في الأمة المسلمة مطالب بالرقابة على المجتمع، ومسئول عن كل ما يقع فيه، وإلاَّ أصابه جزاء غفلته ولو لم يكن هو ذاته من الظالمين
{ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [25- الأنفال]،
وإنما تصيبكم جميعًا جزاء قعودكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا التكافل في المجتمع والرقابة على سير الأمور فيه، يقتضيان وعياً كافياً، ويستلزمان عقولاً ناضجة، ولا بد من توجيه الطاقة العقلية للعمل في هذا الميدان، فهذا هو الضمان لحسن سير الأمور.
والقرآن يوجه المسلمين في ذلك توجيهات شتى:
فهو مرَّةً يبصرهم بأعدائهم الذين يتربصون بهم لِيَحْذَرُوهم، ويكونوا على الدوام متيقظين لهم، واعين لمؤامراتهم ودسائسهم. وتارة يوجههم لطريقة تلقي الأنباء والتصرف في الأمور حين تشيع الشائعات حول أمر من الأمور. وتارة يوجههم إلى حسن الحكم على الأشياء والأشخاص، وعدم التسرع في إصدار حكم على أمر لم تتبين كل خطوطه. وتارة يوجههم إلى طاعة أولي الأمر في حدود طاعة هؤلاء لله والرسول صلى الله عليه وسلم . وهكذا مع ملاحظة أن كل توجيه تنظيمي يصحبه ويلزمه التوجيه إلى الله والدعوة إلى تقواه.
ويوجِّه القرآن الطاقة العقلية إلى النظر في سنة الله في الأرض وأحوال الأمم والشعوب على مدار التاريخ فقد قال الله فى (109_يوسف):{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
ثم يوجِّه الإسلام العقل البشري إلى استخلاص الطاقة المادية والمكونات والعناصر الأرضية وتذليلها لخدمة الإنسان:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}[10- الأعراف]
فيوجهه إلى استخلاص الطاقة المادية، وقد وجَّه رُوحَه من قبل إلى الارتباط بالله وخشيته وتقواه؛ ومن ثم يعمل العقل البشري في استخلاص هذه الطاقة غير مفتون بها ولا شاعر بأنها خلاصة الحياة وجوهرها الأوحد؛ فينتفع بثمارها وهو مالك لأمره منها، غير مستعبد لها ولا منجرف في طريقها، وهذا فارق حاسم فيما بين الإسلام وغيره من النظم والعقائد والأفكار.ولذلك فإن المسلمين لم يفتنهم التقدم المادي فينقطعوا عن الله ومنهجه وعبادته والسير على هداه، ولم يفتنهم فينقطعوا عن عالم الروح، ولم يفتنهم فيستغلوا علمهم في سبيل الشر، ولم يفتنهم فيُحَوِّلُهم إلى المادية الكريهة التى تسيطر اليوم على الغرب، ولم يفتنهم فينبذوا أخلاقهم جانباً بحُجَّةِ أنهم تقدُّميُّون. بل سار العلم في ظلال العقيدة يكشف ويصل كل يوم إلى جديد، وهو ماض في طريق الخير، لأنه سائر في طريق الله، ولذلك يحرص الإسلام أشد الحرص على ربط القلب دائمًا بالله، وتوجيه العقل - وهو يعمل في استنباط الطاقة المادية في الأرض - إلى حكمة الله من الخلق، وآياته في رحاب الكون.
والعلاقة بن العقل والروح قائمة أبدًا لا تنفصم في منهج الإسلام. ومن ثم لا يضل العقل - وهو يتعلم - ولا ينحرف عن طريق الخير، ولا يستخدم معلوماته في سبيل الشر.
والعلاقة بين الروح والمادة قائمة: فلا يستعبد الإنسان المادة، ولا يقع فريسة للآلة تستعبده وتسيطر عليه، لأنه حافظٌ لكيانه المتكامل، مستمدٌ قوته من الله، من ثم يظل هو المسيطر وهو العنصر الإيجابي الفعال.تلك طريقة الإسلام في تربية العقل:{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } [138- البقرة].
==========================================
منقول من كتاب (تربية القرآن لجيل الإيمان) لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد