عدد المشاهدات:
- الصـفاء بالمجاهــدة
لكن الإنسان يظل وراء طينة الأسباب حتى يجعلها ترقى من عوالم الطين إلى عوالم النور، وهـل الطين يمكن أن يصبح نوراً؟ نعم، فربنا أعطانا المثال ... فالزجاج مثلاً أصله رمل، ولكن عندما يدخل المعامل الحرارية ويتعرض للطاقة الحرارية بنفسه يشف ويظهر ما وراءه، كذلك الإنسان لما يدخل فرن القرآن متمثلاً فى المجاهدات التى فرضها على أهل القرآن سواء كانت المجاهدات الخاصة أو المجاهدات العامة فهذا هو الفرن أى فرن الجهاد الذى يقول الله فيه:
{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّه حَقّ جِهَاده }
بعد ذلك مباشرة يخرج من الفرن ..
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ } [78 الحج]
فيأخذ وسام الإجتباء فوراً.
يدخل فرن القرآن ويوقد النيران بالإقتداء التام بسيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم لأنه لا يستطيع أن يوقد نار المجاهدة بمفرده بل لابد وأن تكون على ضوء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الإنسان ممكن أن تتنابه حالة من اليأس أو حالة من القنوط يضيع فيها حاله، ولكن الذى يروح عنه أن يكون مجموعا على الحقيقة المحمدية فيراها ماثلة أمامه ويقيس بها أحوال نفسه، فكلما يتعرض لأمر من الأمور أو لمضيق من المضايق يزن حاله بحال السيد الأعظم صلوات الله وسلامه عليه فيمكث على هذه الحالة حتى تتبدل الطينة وتصبح زينة ويكون كما قال الله عزوجل:
[ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ] [31 الأعراف]
يعنى بهذه الطينة لن تعرفوا أن تصلوا ولن تعرفوا أن تقرأوا القرآن أو تقدموا أى عمل مقرب لله عزوجل إذا دخلتم بهذه الطينة.
- زينة الرحمــن
إذاً ما الذى ندخل به؟
ندخل بالزينة، وهذه الزينة من الذى زينها لك؟ حضرة الرحمن فى البداية فى الخلق الأول!!
فما الذى حصل؟
الغواش التى أتت هى التى ضيعت هذه الزينة، فمثلاً أنا بانى بيت، والبيت ما شاء الله مدهون بالزيت ومزين بستائر ونجف ولكن عليه تراب وعليه عنكبوت، أأتركه للضيف يأتى إلىَّ هكذا أم أنظفه أولاً؟!
وهذا المثل ينطبق عليك، فالبيت الذى فيك هو الحقيقة الإلهية التى فيك مزينة بزينة الله أى بنور الله وجمال الله وصفات الله والإيمان بالله كما قال الله عزوجل:
[حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ] . 7 الحجرات]
من الذى زينه؟
الله عزوجل !!
فالقلب موضع زينة الرحمن فى بنى الإنسان .. وقد زينه الله من البدء بحقائق الإيمان ومعانى الإحسان وأسرار الإيقان، ولكن ما الذى حدث؟
لما جاء الإنسان ومشى فى عالم الدنيا حصل أن الغواشى بالشهوات والحظوظ والأهواء لطخت هذه الزينة، لكن الزينة موجودة والحمد الله، والحارس والحافظ حضرة الله، لأن الشيطان لا يستطيع أن يمسها، يستطيع أن يضحك عليك ولكن لا يستطيع أن يسرق من بيت الرحمن الذى فيك، يسرق من خزينتك أنت لكن خزينة الله لا يستطيع أن يقربها:
(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (6) [الناس]
الصدور هى الأمور التى صدرت من القلب تطلع فى عالم الصدر لكى تنفذ!
لكنه لا يستطيع أن يقترب من القلب!!
عندما تخرج هذه التجليات أو الإلهامات أو الواردات من القلب للصدر حتى يعطى الأوامر للجوارح لتنفذ يدخل الشيطان، لكن هل يستطيع أن يقترب من القلب؟
لا ... لأنه بيت الله وقد زينه الله عزوجل!
فالقلب بيت حضرة الله الكريم الحنان ...
زينه بالإيقان وغرسه بآيات القرآن وآزره بسنة النبى العدنان وحفظه من الشيطان وجعل أهله يوم القيامة إن شاء الله فى أمان.
تأتى هذه الغواشى فتشغل الإنسان قليلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم واحفظوا الحديث:
{ لـولا أن الشياطين يحومون حول قلوب بنى آدم لنظروا فى ملكوت السموات }
ما الذى يمنعهم من النظر؟ ... هى تلك الأمور !!
الطفل أول ما يولد تجده يرى هذه الحقائق، وسأعطيك مثالاً:
عندما يجتهد الإنسان فى طاعة الله فإنه يبشر فى منامه فأين يجد نفسه؟ أليس فى مقام من مقامات الهناء العلى؟
إما مع أحد الصالحين، أو مع سيدنا رسول الله، أو حول بيت الله، أو فى ملكوت الله، أليس هذا صحيحاً يا إخوانى؟
وعندما يكون الإنسان مشغولاً طوال النهار بالشهوات والحظوظ!!
فعندما ينام يجد نفسه مع ما هو مشغول به!!
فالذى أنت مشغول به هو الذى تراه فى منامك، كيف يكون ذلك؟ فحقيقتك تظهر عندما تنام، وطالما أنت فى اليقظة فهى محبوسة، أما عندما تنام فينفك العقال عنها وتبدأ تظهر الحقيقة التى هى أنت بها إنسان، التى هى قلب الإنسان.
فلو أن هذه الحقيقة توفر لها فى عالم الأكوان التموين النورانى من الذكر والفكر والإقبال على حضرة الله، ستُهنيك فى المنام، فإذا اجتهدت أكثر تصير اليقظة كالمنام ولا يوجد فرق، لكن إذا كنت طوال النهار مشغول، فعندما تنام الذى كنت فيه يأتى إليك، وهذه الحالة هى التى حذرنا منها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا واتانا النفس الأخير، وقال فى ذلك:
يبعث المرء على ما مات عليه
أى فالذى هو مشغول به فى النفَس الأخير هو الذى يقوم عليه، كيف هذا؟ مثلما يحدث فى النوم، فالذى ينام به هو الذى يراه فى المنام، كذلك الذى هو مشغول به هنا هو الذى يطلع به يوم الزحام.
فشواغل القلب يا إخوانى هى التى تقطع الخطوط النورانية، أو تضعف الترددات الإيمانية والنورانية بين حقيقتك النورانية وهيكلك الظاهر !!
هذا طالما الإنسان موجه وجهته إلى الأكوان!
لكن الإنسان إذا استطاع أن يأخذ نفسه برفق إلى الله عزوجل سيجد أن العوالم التى فيه، والتى هى مملوءة ببضاعة الله عزوجل تجذبه ... تجذبه جذباً قوياً.
- جواذب الروح
تجذب الروح الهياكل فى الصفا أعلى المنازل
إن أداروا الراح صرفا أسكرت عال وسافل
تبدأ الروح تجذب الإنسان نحو الله عزوجل، ولما تبدأ تجذب الإنسان يلاحظ أموراً غريبة كتلك التى يسمعها من العارفين، تبدأ الروح أولاً تعطى شعاع من عندها ينور هذه الأرجاء ... وهذا ما يسمونه شعاع البصيرة، فلو شعاع واحد من البصيرة أشرق على الإنسان، يحيى الإنسان فى طاعة الحنان المنان عزوجل، فتجد الإنسان بعد ذلك يتجه إلى الله، ويقبل على حضرة الله، ويعرض عن الدنيا وعن الحظ وعن الأهواء، حتى أنه بعد ذلك لما يجتهد أكثر تنفتح له عين البصيرة نفسها.
- مشاهدات عين السريرة
وعين البصيرة يعنى عين القلب ..
لما تفتح عين البصيرة يرى الكون على ما هو عليه ...
يرى الحقائق على ما هى عليه ...
يعنى يرى حقيقة الدنيا ..
ويرى حقيقة المعاصى ...
ويرى حقيقة الطاعــات ...
فيكشف هذه الحقائق لنا كمثل ما كشفها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإسراء والمعراج، وإن كان دون ذلك فى هذا المقام لعلو منزلته وقدره صلى الله عليه وسلم.
فينظر إلى الزانى ويرى حقيقته، وينظر إلى شارب الخمر ويرى هيئته، وينظر إلى آكل الربا ويدرك حالته، وينظر إلى آكل مال اليتيم ويرى بشاعة فعلته، هذه كلها حقائق يراها السالك فى طريق الله عزوجل إذا انبلجت عين البصيرة، وأصبح ينظر بعين السريرة، فيكون كما قال الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه :
بعين الروح لا عين العقول شهدت الغيب فى حال الوصول
يشاهد غيب الحقائق التى أمامه فى هذه الأحوال فعين البصيرة لما تنفتح يرى الإنسان، وكيف يرى الإنسان فى هذه الحالة؟ يكون فى طور الجهاد وطور الإصطفاء من المنعم الجواد ...
الإثنان معاً!! فلا ينفع الجهاد بمفرده!، ولا ينفع الاصطفاء بمفرده!
أنت عليك البداية وهو عليه النهاية!!
أنت عليك الجهاد وهو عليه الإمداد والتوجيه والإرشاد!!
وعندما يصبح هيكل الإنسان شفافاً ولطيفاً يبدأ يشعر بالأحاسيس الإيمانية التى يقول فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله )
- النظر بنور الله
هل ينظر بهذه العين؟ لا!!
فقد تذهب إليه وتقول له يا فلان أنا حصل عندى موضوع كذا، فما هو رأيك؟
ومع أنه لم يحضر ولم ير أو يسمع، لأنك فى بلدة ثانية، فإنه يقول لك: الصح كذا وافعل كذا أو لا تفعل كذا.
فبأى كيفية رأى؟ لقد رأى بنور الله، والذى يرى بنور الله لا يحده مسافات ولا جهات ولا شئ من عوالم المادة التى تحجب نظر الحس الظاهر!!
وقد تذهب إليه أحياناً فيقول لك: يا فلان ارجع عن ذاك الموضوع، فكيف عرف هذا الموضوع؟ عرفه بنور الله، لأن الذى يرى بنور الله لا يرى بهذه العين وإنما يرى بكله، ينظر بنور الله عزوجل بكل حقيقة من حقائقه.
فلما ينظر بعين البصيرة، وعين البصيرة ترى بنور الله وليس بنور الشمس ولا نور القمر ولا نور الكهرباء، فنور الشمس لا نستطيع أن نرى على ضوءه الآن لأننا بالليل، ونور القمر لا نستطيع أن نرى على ضوءه إلا فى لياليه، ونور الكهرباء لا نستطيع أن نرى به إلا إذا كان مضاءاً، أما نور الله عزوجل فيكشف خفايا القلوب، ويكشف سرائر الغيوب، ويكشف كل شئ محجوب، ويراه الإنسان كما يرى كل شئ بعينه مكتوب !!
لأن نور الله عزوجل لا يغيب عن شئ ولا يخفى عن نور الله شئ:
فحدق أعين الإيمان وانظر ترى الأكوان تؤذن بالنفاد
فمن عدم إلى عدم مصير وأنت إلى الفنا لا شك غاد
فينظر الإنسان بنور الله، فلا تلتبس عليه حاجة فى ظلمات هذه الحياة ... سر قول الله عزوجل:
[إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ]29 الأنفال]
فالفرقان يعنى النور!!
أى يجعل الله لكم نوراً منه سبحانه، فينظر العبد بنور الله إلى كل شئ، فلا يخفى عنه شئ لأنه يرى بنور من يقول للشئ كن فيكون .
- مواطن الأسرار
فمثل هؤلاء الناس يا إخوانى قد تجاوزا مراحل الجهاد القلبية، ووصلوا إلى مواطن الأسرار، وهى لا تكون إلا بعد ثبات القلب على حالة واحدة وهى الصفاء الأول ... لأن مرحلة القلب هى التى يكون فيها الإنسان متقلب-وقد سمى القلب قلباً لأنه يتقلب-فإذا ثبت تقلبه على جمالات الدار الآخرة، وعلى جمالات الله الباهرة، ثبته الله، وإذا ثبته الله عزوجل يفتح له عين البصيرة.
من أجل ذلك لا يطمع أحد أن تفتح له عين بصيرته وهو مازال يتقلب فى أهواء الدنيا، وما دامت عينه تتطلع إلى أهواء الدنيا، وما دامت نفسه تراوده فى شهوات وحظوظ الدنيا، سر قوله عزوجل:
[وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ] 131 طه]
يعنى إياك أن تمد عينيك، فإذا قصرت طرفك على الله وأصبحت مشغولاً شغلاً كلياً بحضرة الله، ينطبق عليك قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ من جعل همومه همَّاً واحداً كفاه الله عزَّ وجلَّ سائر همومه }
فى هذه اللحظة يفتح الله لك عين القلب.
إذاً عين البصيرة لا تفتح إلا بعد ثبات القلب على الود والحب لله عزوجل، وعلى الصفاء والوفاء مع أهل الله عزوجل، وعلى الإقبال بل العكوف على سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وعلى الزهد والورع فى الدنيا وشهوتها وحظوظها وأهواءها، وفى سبيل ذلك لا بد لك من إختبارات يجريها عليك الله عزوجل آناً بعد آن، وتارة بعد تارة، حتى يرى ماذا أنت فاعل؟ فإذا ثبتَّ بعد هذه الإختبارات ونجحت، تكون المكأفاة لك من الله على يد سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب قول الله عزوجل:
[وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ] 179 الصافات]
فمثل هذا يفتح له عين البصيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن فى الحالة الأولى يتقلب، ولذلك يسع الكل ... يسع العوالم الدنيوية والعوالم الأخروية، والعوالم الكونية، والعوالم الروحانية، والعوالم الجنانية، والعوالم النيرانية، والعوالم العرشية ... كل هذه العوالم يسعها القلب، ولكن المهم على أى منها يثبت؟ هذا هو المهم، ومن أجل ذلك كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:
{ اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبى على دينك }
و (دينك) هنا يعنى-وذلك فى المعنى الخاص بها-أى أن الدين هنا يعنى الحب الخالص من سيدنا رسول الله لحضرة الله.
فإذا ثبت القلب تبدأ عين البصيرة بعد ذلك ..!
وبعد فتح عين البصيرة تظهر فى أفق القلب لوامع أنوار وبروق أسرار وشعاع أنوار وسحب علوم ومواهب ولطائف وأسرار يفيضها الله عزوجل من صاحب هذا القلب على المقربين والأحباب والأطهار والأبرار، وكل واحد منهم يأخذ بمقدار، والذى قدّر هو مقدر الأقدار عزوجل، ويبقى هناك بعد ذلك عالم عجيب وغريب لا يعلمه إلا حبيب، ويحرم من هذا الجمال كل إنسان معيب.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يواجهنا بجماله، وأن يكشف لنا عن حضرات أنواره وأسراره، وأن يجمعنا فى الدنيا والآخرة على الصالحين من عباده وأخياره
وصلى الله على سيدنا محمد سر قبضة أنواره ومعدن لوامع أسراره وعلى آله وصحبه وسلم.
\
- منقول من كتاب طريق الصديقين
- لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
- حمل الكتاب او تصفح مباشرة