آخر الأخبار
موضوعات

الثلاثاء، 28 مارس 2017

- تعريف النفس

عدد المشاهدات:
تعريف النفس
وقف العقل الكامل عن إدراك حقيقة النفس، ورسمها بحد، لأنها من أمر ربنا سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: () سورة الاسراء آية 85 ولا يزال الإنسان من لدن نشأته الأولى والنفس محل بحثه ونظره، حتى أن أكثر الحكماء المتقدمين والحكماء المسلمين، رأوا أنها ليست بجسم ولا بعرض، لأنهم أثبتوا وجودها لما لها من الأفعال الخاصة بها، والأحوال القاصرة عليها، التى تغاير بالمرة أعمال الأجسام، وخواص الأعراض، وتضاد أيضاً أجزاء الأجسام وخواصها، حتى لا تشاركه فى حال من الأحوال، وتباين الأعراض وتضادها كلها غاية المباينة، من حيث أن الأجسام أجسام، والأعراض أعراض، لأنه ثبت أن النفس لا تتحيز ولا تتغير، وتدرك جميع الأشياء بالسوية بدون أن يلحقها فتور ولا ملل ولا كلال.
وشرح ذلك أن أى جسم من الأجسام له صورة فإنه لا يمكن أن يقبل صورة أخرى من نوع صورته الأولى، إلا بعد أن يفارق صورته الأولى مفارقة حقيقية، فإنا لو فرضنا أن جسما ما على شكل مربع أو مثلث، وأردنا أن نجعله مستطيلا أو أسطوانيا، فلا يمكننا ذلك إلا بعد مفارقته شكله الأول، وكذلك إذا نقش فى جسم ما صورة من الصور، فلا يمكن أن ننقش فيه صورة أخرى، إلا بعد مفارقة الأولى، حتى لو بقى فيه بعض الصورة الأولى لما قبل الصورة الثانية على التمام، بل تختلط به الصورتان، والمُثل بيِّنة.
والحال أننا نجد أنفسنا نقبل صور الأشياء كلها على تباينها وكثرة أنواعها من المحسوسات والمعقولات بغير نقص ولا تفاوت، ولا مفارقة للأولى، ولا تعاقب ولا زوال رسم، بل تبقى الصورة الأولى تامة، وتقبل الرسم الثانى، ثم لا تزال تقبل الصور المختلفة، صورة بعد صورة دائماً أبداً، بدون أن تضعف، أو تفتر فى وقت من الأوقات عن قبول ما يرد عليها، ويتجدد لها من الصور، بل تزداد بالصورة الأولى قوة على ما يرد عليها من الصورة الأخرى، وهذه خاصة من خواصها تباين بها الأجسام، ولهذه الخاصة يزداد الإنسان فهما كلما ارتاض، وتكمل بالعلوم والآداب.
ينتج من هذه المقدمات أن النفس ليس جسما، وتقرر أنها ليست عرضا، لأن العرض لا يحمل عرضا، ولأن العرض فى نفسه محمول أبداً موجود فى غيره، لا قوام له بذاته، وجوهر النفس قابل أبدا حامل ما هو أتم وأكمل من حمل الأجسام للأعراض.
لهذا يظهر أن النفس ليست جسما ولا جزءاً من جسم، ولا عرضا، هذا والطول والعرض والعمق من المعانى التى صار الجسم بها جسما، تحصل فى قوة النفس الوهمية من غير أن تصير به طويلة عريضة عميقة وتزداد فيها تلك المعانى أبدا بلا نهاية، فلا تغيرها عن حقيقتها ولا تتغير إذا تصورت كيفيات الجسم من الألوان والطعوم والروائح، ولا يمنع بعضها قبول بعض من أضدادها كما يمنع فى الجسم، وكذلك حالها فى المعقولات، فإنها تقوى بقبول بعض المعقولات على قبول غيرها أبدا بلا نهاية، وتلك الخواص فى غاية البعد عن الأجسام، والجسم لا يعرف العلوم إلا من الحواس، فيشتاق إليها بالملامسة كالشهوات البدنية ومحبة الانتقام، فإن الجسم يشتاق إلى تلك الأشياء، ويزداد بها قوة ويستفيد منها كمالا، ويفرح بها لأنها تتمم وجوده وتمده.
وأما النفس فإنها كلما تباعدت عن الشهوات البدنية وخلت بذاتها، ازدادت قوة وكمالا، وتجملت بالعلوم الحقة، والآراء الصحيحة، بذلك يثبت أن طباعها وجوهرها تباين طباع الجسم والبدن، وأنها أكرم جوهر، هذا مع شوقها إلى معرفة حقائق الأمور الكونية، ولهفها لفهم المعانى الإلهية وإيثارها لها، ولا يمنع من ذلك أنها أخذت كثيرا من مبادئ العلوم عن الحواس، لأن لها من نفسها علوما أخرى، وأفعالا لا تأخذها عن الحواس أبدا، وذلك ثابت بديهى خصوصا فى علوم النظر، وما تكاشف به من أسرار الملكوت والفقه فى دين الله تعالى، وهى التى تحكم على الحس بالصدق أو الكذب فكثيرا ما يشهد الحس الأمور على غير حقيقتها وهى ترده إلى الحق، كما ترى العين الشمس صغيرة، ويرى العامود الموضوع فى الماء معوجا، ويرى الراكب فى السفينة أنه ساكن، ويرى الأشجار حوله تمشى، كل تلك العلوم من نفسها. وقد يخطئ فيما يراه من بعد أو قرب، وكل الحواس تخطئ وتردها النفس، فقد تذوق حاسة الذوق الحلو مرا عند انحراف المزاج، وكل تلك المعلومات ليست من الحس، بل هى من ذات النفس.
من هذا حكموا أن النفس ليست جسما، ولا جزء منه، ولا عرضا، والمراد بالنفس إذا أطلقت النفس الملكية التى تسمى بالناطقة، وإذا أردت أن أعرِّفها فإنما تعرف بما يقرب حقيقتها لا حقيقتها، فأقول: هى جوهرة سماوية روحانية نورانية من أمر ربنا سبحانه وتعالى، ومما قلته فيها:
نفسى هى الكنزُ فيها سرُّ معناه بغير كيف وفيها نورُ مجلاه
جهلى بها الحجبُ عن علمى بمبدعِها وعلمُها كشفُ حجبى فهمُ معناه
نفسى مثال ترا آى لى به وضحت آياتُه وبه أُعِطيتُ جدواه
نفسى له صورةُ تنبى مشاهدَها إذا تحققَ أن المبدعَ الله
جهلى بها اللبسُ والتشكيكُ أجمعُه وعلمُها الكشفُ عن غيبٍ وأخفاه
جهلى بها التيهُ بل والبعدُ عن نسب بها يلوح جمالُ الوجهِ أجلاه
لو أنها أشرقت نفساً لعالمِها فُكت طلاسمُه ورقى لعلياه
يا نفسُ ما أنت؟ نورُ أنت أم عرضُ؟ أم كوكبُ مشرقُ بضياء؟ مبناه
وهل بك الجسم قد قامت معالمه؟ أو قُمْتِ فيه فهذا السرُّ أهواه
حيرتِ أفكارَ أهلِ العقلِ لم يصلوا إلى يقينٍ وفيكِى ضلَّ أهداه
العقلُ يعقلُ محسوساً ونسبتَه لا يدركا رتبتى والمنعمُ الله
سرى خفىّ عن الألبابِ يحجبها عنه نظائره فيه وأشباه
من أمر ربى ومن يطلبه يعرفه فيعرف الله ربَّ العرش مولاه
ونفخةٌ منه تجلى للمراد له فتشهدُ الوجهَ بالتنزيهِ عيناه
من كان يعرفنى بالفضلِ يعرفهُ أنا المثالُ له أفقٌ لمرآه
النفس واحدة وقواها ثلاث
قوة تسمى النفس الملكية أو الناطقة، وهى أعلى النفوس وأكملها، وقوة تسمى النفس السبعية أو الغضبية وهى أدنى من النفس الملكية، وقوة تسمى النفس البهيمية أو الشهوانية، وهى أدنى النفوس.
والإنسان لا يكون إنساناً حقيقية كاملاً إلا بالنفس الملكية، لأنه بها يشارك الملائكة، وبها يمتاز عن البهائم، فأكمل الناس وأشرفهم من كملت فيه تلك النفس وانصرف إليها، وأما من غلبت عليه إحدى النفسين انحط عن رتبة الإنسانية بقدر غلبتها عليه، فتدبر أيها السالك فى نفسك، أين تحب أن تكون من المنازل؟ ومن تحب أن تشارك؟ ومع من تكون؟ () سورة القيامة آية 14 وشتان بين من يرضى أن يكون بهيميا أو سبعياً، ومن لا يرضى إلا أن يكون ملكاً كريماً.
وبين تلك المقامات والمنازل مراتب شتى، بقدر أنواع الحيوانات ومقامات الملائكة () سورة الحديد آية 29.
وقد نرى من الناس من هم أقل من البهائم، ومنهم من تتولى خدمتهم الملائكة، ومنهم من هم شر من إبليس () سورة الشمس آية 9– 10 ومن زكى نفسه وطهرها، بلغ من المقامات إلى رتبة فيها تسبح نفسه فى عوالم الملكوت مشابهة للملائكة، وأن يكون جسمه مجملا بالأخلاق الطاهرة، والأعمال الصالحة.
ومنهم من ينحط حتى تنحصر آمالهم فى شهواتهم فحسب، كالمأكول والمشروب والملبوس والوطء، وهؤلاء هم الذين تجذبهم الشهوات لقوة نفوسهم البهيمية، فيرتكبوها ولا يرتدعوا عنها، ولكن تبقى فيهم بقية ضئيلة من النفس الملكية، فيستترون حياءً عند فعل القبائح والرذائل فى البيوت، حتى إذا اضمحلت النفس الملكية واختفت فى ظلمات طبعهم انتفى الحياء عنهم، فجاهروا بالقبائح كما تفعل البهائم، وتركوا أوامر الله وارتكبوا نواهيه بدون خوف منه سبحانه ولا حياء من خلقه، ولو أنك سألت المعظمين للذة والشهوات الذين يتسترون عند عملها، هل ما تستحسنونه من الملاذ فضيلة أم رذيلة؟ فإن كان فضيلة فلم تتسترون عند عمله؟ وإن كان رذيلة فلم عمله؟ والله سبحانه وتعالى يجملنا بالنفس الملكية إنه مجيب الدعاء.


لامام محمد ماضى ابو العزائم 

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير