عدد المشاهدات:
الحكمة الخامسة والخمسون بعد المئة :
حظ النفس في المعصية ظاهر جليّ ، وحظها في الطاعة باطن خفي ، و مداواة ما يخفى صعب علاجه
الحظوظ التي يجنيها العاصي من معاصيه، ذات وجود خارجي تترك آثارها في المجتمع وبين الأوساط، وكثيراً ما تكون مادية في مظهرها.
فشرب الخمرة، وارتكاب الفاحشة، والعكوف على مائدة الميسر، والتعامل بالربا، وتعمد الكذب في الحديث، ونحو ذلك، يحقق للعاصي حظوظه التي يبتغيها، وهي حظوظ معروفة ومكشوفة، والذي يزيدها كشفاً وظهوراً، أنها في الوقت الذي تحقق للعاصي حاجاته ونزواته، تترك آثارها الضارة على صعيد المجتمع وعلى العلاقة السارية بين أفراد الأسرة الإنسانية، فتكون هذه الآثار الضارة بمثابة التشهير بها والتحذير منها.
أما الحظوظ التي يجنيها الطائع بطاعاته وقرباته المختلفة فهي ذات وجود داخليّ خفي، ومن ثم لا يشعر بها إلّا صاحبها، ولذا فلن يجد صاحبها أمامه وازعاً يحذر منها، ولن يقوى المجتمع أن يضبطه متلبساً بها أو أن يقف منه موقف المتهم بها.
فوظائف الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانقطاع للعبادات والأذكار، وبذل فضول الأموال، كل ذلك لا يحقق في الظاهر إلّا أتعاباً مضنية، ومغامرات بدنية وخسائر مالية، فأين ذلك من حظوظ النفس ورغائبها الغريزية؟
غير أن لهذه الطاعات على تنوعها، حظوظاً خفية، لا يعرفها ولا يشعر بها إلّا صاحبها، إن وجدت واستقبلها صاحبها استقبالاً حسناً، بعثت في نفسه من النشوة ما تتقاصر المعاصي عن تحقيق مثله، في مجال حظوظها الظاهرة، كثناء الناس عليه، والشهرة التي يحرزها، والمكانة التي يتبوؤها وكشعوره في نفسه أنه متميز بطاعاته عن الآخرين.
ووجه الخطورة في هذه الحظوظ، أنها، كما قلت، خفية، فلا سبيل إلى المجتمع لرصدها والاطلاع عليها، ومن ثم فلا يملك سبيلاً لملاحقتها أو التحذير منها.
ثم إن الروادع التي تردع الشخص عن المعاصي، كثيرة. وحسبك منها عين المجتمع ورقابته، واهتمام الإنسان بسمعته واعتداده بكرامته. كل ذلك من شأنه أن يقاوم الحظوظ التي يبتغيها العاصي من المعصية، وربما تغلب عليها إن عاجلاً أو آجلاً.
ولكن أين هي الروادع التي تردع الطائع عن الركون إلى حظوظه الخفية التي يجنيها من طاعاته؟
ليس ثمة ما يردعها عنها إلا رقابته الشخصية لله تعالى، ومن هنا كان مداواة ما يخفى صعباً علاجه كما قال ابن عطاء الله.
ولكن ما هي العظة التي يهيب بنا ابن عطاء الله أن نجنيها من هذه الحكمة، أي من بيان هذه الحقيقة؟
إنها ليست عظة واحدة، بل هي عظات عدة:
أولها: أن على كل من يرى نفسه موفقاً لأداء الطاعات والانضباط بأوامر الشرع وأحكامه، أن يكون على حذر مما قد تحتضنه نفسه من الحظوظ التي تدخل فيما سماه الله باطن الإثم، إنه قد لا يشعر بها، لأنها تظل مستورة تحت غطاء صفيق من مظاهر طاعاته وقرباته. ولكن فليعلم أن الناقد بصير، بصير بخائنة الأعين وما تخفي الصدور.. فإذا علم ذلك كان جديراً به أن يراقب دخيلة نفسه وما تنطوي عليه مشاعره، حتى إذا اكتشف أن حظوظاً نفسية له تكمن خفية وراء طاعاته وقرباته والتزاماته الدينية، جاهد نفسه في التخلص منها والقضاء عليها. قبل أن يرحل إلى الله وهو يحمل منها أوزاراً تحبط سائر طاعاته وتورده المهالك.
ثانيها: أن على من ينكر على العصاة معاصيهم، ويحذر الفاسقين من التمادي في فسوقهم، ألا يذهب في الإنكار عليهم مذهباً يجعله يرى نفسه بموقفه ذاك خيراً منهم، فإنه لو زعم في نفسه أنه كذلك، إذن لكانت المعصية التي تورط فيها بزعمه هذا، شراً من المعاصي التي اهتاج في الإنكار على أصحابها، للسبب الذي ذكرته لك من الفرق بين حظوظ النفس الظاهرة، وحظوظها الباطنة.
ورب طائع مدلّ على الله بطاعاته، لا يجد منها يوم القيامة إلا أوزاراً أحيطت بلفافات من مظهر القربات والطاعات.
ورب عاص يتحسر على نفسه مما يتورط فيه من الفواحش والأوزار، لا يجد منها يوم القيامة إلا مغفرة أحيطت بلفافات من الأوزار.
ثالثها: أنه إذا ثبت أن معالجة الشوائب النفسية التي تحبط الطاعات، أشد صعوبة من معالجة ما يتلبس ظاهر الإنسان من السيئات والأوزار، فإن على الطائع أن يصنف نفسه مع العاصين الذين ينكر عليهم ولا يدّخر وسعاً في موعظتهم ونصحهم.. وإن عليه أن يكون أسرع إلى موعظة نفسه وإسداء النصح إليها، منه إلى نصح العاصين والفاسقين.
وليعلم أن معالجة المعاصي الظاهرة، ما أيسر أن يكون سبيلها تذكرة من صديق أو موعظة من رجل صالح أو عالم ناصح، بل ما أيسر أن يكون سبيلها وخزات نفسية يواجه بها الشخص العاصي ذاته، وإذا هو تائب منها ولو بعد حين.
أما معالجة ما تستنبطه الطاعات من حظوظ نفسية، فهيهات أن يكون للناصحين والواعظين سبيل إلى معرفتها والاطلاع عليها، حتى يتيسر لهم التحذير منها والإنكار على أصحابها.
إن السبيل إلى امتلاخ هذه الحظوظ وتطهير القربات والعبادات منها، عائد إلى صاحب هذه الحظوظ ذاتها، وليس له من أداة تعينه على التخلص منها إلا دوام مراقبة الله عن طريق الإكثار من ذكره، وهو علاج خفي يتفق ويتناسب مع خفاء الحظوظ النفسية ذاتها. ومن ثم فإن شيئاً من الآفات النفسية لا يقوى على التسرب إليه هو أيضاً، كما قد يتسرب إلى سائر القربات والطاعات والعبادات الظاهرة.
فالذي يراقب الله ويذكره في نفسه، لا يجد الرياء سبيلاً إلى أن يفسد عليه مراقبته وذكره لمولاه عز وجل، ولعلّك تذكر ما أكدته لك من قبل أن المراد بالذكر الذي يأمرنا الله به في محكم تبيانه إنما هو ذكر القلب، وهو ما يعبّر عنه بالتذكر، فهذا لا سبيل للرياء ولا للعجب ولا لشيء من حظوظ النفس إليه. إنه الدواء الشافي من حظوظ النفس، فكيف يكون مناخاً أو تربة صالحة لها؟
ولكن فلتعلم أن أخذ الطائع نفسه بهذا العلاج عسير.
إنه يتوقف على أنه يطرد الخواطر والأفكار الدنيوية على اختلافها من نفسه، ليجد ذكرُ الله إلى قلبه سبيلاً معبدة نقية، وهو الجهاد الخفي الذي تتوقف عليه صلاحية سائر أنواع الجهاد الأخرى.
فانظر إلى الفرق بين معالجة المعاصي الظاهرة، ومعالجة هذه المعاصي الأخرى التي تتمثل في الحظوظ النفسية التي تستبطنها الطاعات والعبادات، وتأمل في مدى سهولة الأولى إذا قورنت بالثانية.
وكم من مسرف على نفسه مثقل بأنواع المعاصي والأوزار، اصطلح مع الله وأقبل إليه تائباً ما بين عشية وضحاها، ولكنا لم نسمع قط أن واحداً ممن استسلموا لحظوظ النفس وآفاتها الخفية التي تسربت إليهم من وراء الطاعات والقربات، تحرروا من تلك الحظوظ والآفات خلال مثل هذه البرهة القصيرة.
والسبب ما ينبغي أن نعلمه من الفرق الكبير بين المعاصي الظاهرة التي تتمركز في الجوارح، والمعاصي الخفية التي تتمركز في دخائل النفوس، وهو ما نبهنا إليه ابن عطاء الله رحمه الله.
حظ النفس في المعصية ظاهر جليّ ، وحظها في الطاعة باطن خفي ، و مداواة ما يخفى صعب علاجه
الحظوظ التي يجنيها العاصي من معاصيه، ذات وجود خارجي تترك آثارها في المجتمع وبين الأوساط، وكثيراً ما تكون مادية في مظهرها.
فشرب الخمرة، وارتكاب الفاحشة، والعكوف على مائدة الميسر، والتعامل بالربا، وتعمد الكذب في الحديث، ونحو ذلك، يحقق للعاصي حظوظه التي يبتغيها، وهي حظوظ معروفة ومكشوفة، والذي يزيدها كشفاً وظهوراً، أنها في الوقت الذي تحقق للعاصي حاجاته ونزواته، تترك آثارها الضارة على صعيد المجتمع وعلى العلاقة السارية بين أفراد الأسرة الإنسانية، فتكون هذه الآثار الضارة بمثابة التشهير بها والتحذير منها.
أما الحظوظ التي يجنيها الطائع بطاعاته وقرباته المختلفة فهي ذات وجود داخليّ خفي، ومن ثم لا يشعر بها إلّا صاحبها، ولذا فلن يجد صاحبها أمامه وازعاً يحذر منها، ولن يقوى المجتمع أن يضبطه متلبساً بها أو أن يقف منه موقف المتهم بها.
فوظائف الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانقطاع للعبادات والأذكار، وبذل فضول الأموال، كل ذلك لا يحقق في الظاهر إلّا أتعاباً مضنية، ومغامرات بدنية وخسائر مالية، فأين ذلك من حظوظ النفس ورغائبها الغريزية؟
غير أن لهذه الطاعات على تنوعها، حظوظاً خفية، لا يعرفها ولا يشعر بها إلّا صاحبها، إن وجدت واستقبلها صاحبها استقبالاً حسناً، بعثت في نفسه من النشوة ما تتقاصر المعاصي عن تحقيق مثله، في مجال حظوظها الظاهرة، كثناء الناس عليه، والشهرة التي يحرزها، والمكانة التي يتبوؤها وكشعوره في نفسه أنه متميز بطاعاته عن الآخرين.
ووجه الخطورة في هذه الحظوظ، أنها، كما قلت، خفية، فلا سبيل إلى المجتمع لرصدها والاطلاع عليها، ومن ثم فلا يملك سبيلاً لملاحقتها أو التحذير منها.
ثم إن الروادع التي تردع الشخص عن المعاصي، كثيرة. وحسبك منها عين المجتمع ورقابته، واهتمام الإنسان بسمعته واعتداده بكرامته. كل ذلك من شأنه أن يقاوم الحظوظ التي يبتغيها العاصي من المعصية، وربما تغلب عليها إن عاجلاً أو آجلاً.
ولكن أين هي الروادع التي تردع الطائع عن الركون إلى حظوظه الخفية التي يجنيها من طاعاته؟
ليس ثمة ما يردعها عنها إلا رقابته الشخصية لله تعالى، ومن هنا كان مداواة ما يخفى صعباً علاجه كما قال ابن عطاء الله.
ولكن ما هي العظة التي يهيب بنا ابن عطاء الله أن نجنيها من هذه الحكمة، أي من بيان هذه الحقيقة؟
إنها ليست عظة واحدة، بل هي عظات عدة:
أولها: أن على كل من يرى نفسه موفقاً لأداء الطاعات والانضباط بأوامر الشرع وأحكامه، أن يكون على حذر مما قد تحتضنه نفسه من الحظوظ التي تدخل فيما سماه الله باطن الإثم، إنه قد لا يشعر بها، لأنها تظل مستورة تحت غطاء صفيق من مظاهر طاعاته وقرباته. ولكن فليعلم أن الناقد بصير، بصير بخائنة الأعين وما تخفي الصدور.. فإذا علم ذلك كان جديراً به أن يراقب دخيلة نفسه وما تنطوي عليه مشاعره، حتى إذا اكتشف أن حظوظاً نفسية له تكمن خفية وراء طاعاته وقرباته والتزاماته الدينية، جاهد نفسه في التخلص منها والقضاء عليها. قبل أن يرحل إلى الله وهو يحمل منها أوزاراً تحبط سائر طاعاته وتورده المهالك.
ثانيها: أن على من ينكر على العصاة معاصيهم، ويحذر الفاسقين من التمادي في فسوقهم، ألا يذهب في الإنكار عليهم مذهباً يجعله يرى نفسه بموقفه ذاك خيراً منهم، فإنه لو زعم في نفسه أنه كذلك، إذن لكانت المعصية التي تورط فيها بزعمه هذا، شراً من المعاصي التي اهتاج في الإنكار على أصحابها، للسبب الذي ذكرته لك من الفرق بين حظوظ النفس الظاهرة، وحظوظها الباطنة.
ورب طائع مدلّ على الله بطاعاته، لا يجد منها يوم القيامة إلا أوزاراً أحيطت بلفافات من مظهر القربات والطاعات.
ورب عاص يتحسر على نفسه مما يتورط فيه من الفواحش والأوزار، لا يجد منها يوم القيامة إلا مغفرة أحيطت بلفافات من الأوزار.
ثالثها: أنه إذا ثبت أن معالجة الشوائب النفسية التي تحبط الطاعات، أشد صعوبة من معالجة ما يتلبس ظاهر الإنسان من السيئات والأوزار، فإن على الطائع أن يصنف نفسه مع العاصين الذين ينكر عليهم ولا يدّخر وسعاً في موعظتهم ونصحهم.. وإن عليه أن يكون أسرع إلى موعظة نفسه وإسداء النصح إليها، منه إلى نصح العاصين والفاسقين.
وليعلم أن معالجة المعاصي الظاهرة، ما أيسر أن يكون سبيلها تذكرة من صديق أو موعظة من رجل صالح أو عالم ناصح، بل ما أيسر أن يكون سبيلها وخزات نفسية يواجه بها الشخص العاصي ذاته، وإذا هو تائب منها ولو بعد حين.
أما معالجة ما تستنبطه الطاعات من حظوظ نفسية، فهيهات أن يكون للناصحين والواعظين سبيل إلى معرفتها والاطلاع عليها، حتى يتيسر لهم التحذير منها والإنكار على أصحابها.
إن السبيل إلى امتلاخ هذه الحظوظ وتطهير القربات والعبادات منها، عائد إلى صاحب هذه الحظوظ ذاتها، وليس له من أداة تعينه على التخلص منها إلا دوام مراقبة الله عن طريق الإكثار من ذكره، وهو علاج خفي يتفق ويتناسب مع خفاء الحظوظ النفسية ذاتها. ومن ثم فإن شيئاً من الآفات النفسية لا يقوى على التسرب إليه هو أيضاً، كما قد يتسرب إلى سائر القربات والطاعات والعبادات الظاهرة.
فالذي يراقب الله ويذكره في نفسه، لا يجد الرياء سبيلاً إلى أن يفسد عليه مراقبته وذكره لمولاه عز وجل، ولعلّك تذكر ما أكدته لك من قبل أن المراد بالذكر الذي يأمرنا الله به في محكم تبيانه إنما هو ذكر القلب، وهو ما يعبّر عنه بالتذكر، فهذا لا سبيل للرياء ولا للعجب ولا لشيء من حظوظ النفس إليه. إنه الدواء الشافي من حظوظ النفس، فكيف يكون مناخاً أو تربة صالحة لها؟
ولكن فلتعلم أن أخذ الطائع نفسه بهذا العلاج عسير.
إنه يتوقف على أنه يطرد الخواطر والأفكار الدنيوية على اختلافها من نفسه، ليجد ذكرُ الله إلى قلبه سبيلاً معبدة نقية، وهو الجهاد الخفي الذي تتوقف عليه صلاحية سائر أنواع الجهاد الأخرى.
فانظر إلى الفرق بين معالجة المعاصي الظاهرة، ومعالجة هذه المعاصي الأخرى التي تتمثل في الحظوظ النفسية التي تستبطنها الطاعات والعبادات، وتأمل في مدى سهولة الأولى إذا قورنت بالثانية.
وكم من مسرف على نفسه مثقل بأنواع المعاصي والأوزار، اصطلح مع الله وأقبل إليه تائباً ما بين عشية وضحاها، ولكنا لم نسمع قط أن واحداً ممن استسلموا لحظوظ النفس وآفاتها الخفية التي تسربت إليهم من وراء الطاعات والقربات، تحرروا من تلك الحظوظ والآفات خلال مثل هذه البرهة القصيرة.
والسبب ما ينبغي أن نعلمه من الفرق الكبير بين المعاصي الظاهرة التي تتمركز في الجوارح، والمعاصي الخفية التي تتمركز في دخائل النفوس، وهو ما نبهنا إليه ابن عطاء الله رحمه الله.