عدد المشاهدات:
من اطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية، كان اطلاعه فتنة عليه وسبباً لجرّ الوبال عليه
هذه الحكمة تقع من التي قبلها موقع التعليل لها. فكأن قائلاً يقول: ما الحكمة التي اقتضت أن يحجب الله عن الإنسان، مهما كان شأنه وعلت مرتبته، أسرار عباده وخفايا أحوالهم؟
ويأتي الجواب من خلال هذه الحكمة: ذلك لأن الإنسان يجب أن يلتزم جانب الأدب مع الناس جميعاً، فيحسن الظن بهم ما وسعه ذلك، ويحمل ما يراه من تصرفاتهم على محمل الخير، فإن اطلع على أسرارهم البشرية التي تتحكم، في الغالب، بها الغرائز والرغبات والأهواء النفسية، فلا بدّ أن يحمله ذلك على التخلي عن واجب الأدب معهم وحسن الظن بهم، ما لم يتخلق بأخلاق الله ويتحكم به سلطان الرحمة الإلهية، بحيث ينظر إليهم وإلى ما بدا له من خفي شؤونهم وأحوالهم، بالعين التي ينظر بها الله إليهم وإلى خفي أحوالهم، وأنى للإنسان ذلك؟!..
إن الإنسان منا يظل نزاعاً إلى بشريته، خاضعاً لسلطان طبائعه، فإذا صادف أن رأى أو علم عيوباً خفية ممن كان يبجله ويجلّه لما يبدو له من ظاهر حاله، فإنه لا بدّ أن ينظر إليها ويتّبعها بعين بشريته، ولا بدّ أن يدعوه ذلك إلى تغيير نظرته إليه وإلى إهباط مكانته في نفسه.. وهكذا فإن رؤية هذا الإنسان أو علمه بالعيوب الخفية في صاحبه مبعث لفتنة وأي فتنة عليه، وسبب لجرّ الوبال من الله عليه.. إذ المطلوب منه بحكم الله وشرعه التأدب مع سائر عباد الله عز وجل، وأن يحسن الظن بهم، وأن يحمل تصرفاتهم على أفضل ما يمكن أن تفسّر به.. فإذا اطلع منهم على بعض النقائض والعيوب، لم يملك سبيلاً إلى الالتزام بهذا الذي أمره الله به، ولم يجد بدّاً من أن يزدريهم بدلاً من التأدب معهم، ولم يجد مفرّاً من أن يسيء الظن بهم بدلاً من واجب حسن الظن بهم، وربما ذهب في ذلك مذهباً يُريه أنه أحسن حالاً منهم، ولا شك أنه سبب من أهم أسباب الشقاء والهلاك.
وإنما ينجيه من هذه الفتنة أحد أمرين اثنين:
أحدهما أن ينسى هذا الإنسان الذي اطلع من أخيه على بعض ما فيه من النقائص والعيوب، مشاعر بشريته ونوازعها التي تتحكم به، ويتخلق في مكان ذلك بأخلاق الرحمة الربانية، فينظر إلى خفايا أخيه على هذا الأساس، وإنه لأمر عسير لا يكاد يقوى عليه حتى الصديقون المقربون. وقد قالوا إن واحداً من أولياء الله المقربين دعا الله وألحف في الدعاء أن يريه الناس على حقائقهم الخفية، لا كما يبدون في تصرفاتهم وأوضاعهم الظاهرة، فكان إذا دخل السوق رأى أكثر الناس وقد لبسوا في وجوههم أشكالاً لحيوانات شتى، فمنهم من كسي مظهر ذئب، ومنهم من بدا وكأن وجهه وجه قرد، ومنهم من تشكل رأسه على هيئة أفعى..
فعاد يلتجئ إلى الله أن يخفي عن ناظريه هذه الأشكال، وألا يريه من الناس إلا ظواهرهم المكشوفة التي قضى الله أن يتعارفوا وأن يتواصلوا على أساسها.
ثانيهما أن يبقى الإنسان محجوباً عن سرائر إخوانه وما فيها من أنواع القبائح والعيوب، كي لا يقع من جراء اطلاعه عليها في فتنة قد تسوقه إلى مهلكة. وهذا ما قضى به الله عز وجل. وقد علمت الآن أن في ذلك رحمة كبرى للفريقين، فهذا وُقي بذلك من فتنة ومَهلكة، وذلك بقي مكلوءاً بكنف الله وستره.
غير أنك قد تسأل فتقول: فهلا فُطر الإنسان نقياً في باطنه، كما قد مُكِّن بأن يكون نقياً في ظاهره، أي نقياً من العيوب الظاهرة والباطنة؟
والجواب: أن الإنسان إذن كان معصوماً... معصوماً من النقائص والعيوب الخُلقية، ومعصوماً من الآثام السلوكية.
ولو فطر الإنسان على ذلك، إذن لما احتاج أن يقف، في حياته كلها، موقفاً يشكو إلى الله فيه ضعفه ويسأله المغفرة، إذ المغفرة إنما تكون للأخطاء والذنوب، وما دام الإنسان معصوماً إذن فلا أخطاء ولا ذنوب، والضعف لا بدّ أن يفرز النقائص والعيوب، وما دامت العصمة موجودة فلا نقائص ولا عيوب، ومن ثم فلا ضعف أيضاً.
ففيم إذن، يطرق هذا العبد باب ربه؟.. وفيم يقف منه موقف السائل المستجدي، وهو منزّه عن النقائص والعيوب، معصوم عن الآثام والذنوب؟
وعندما يستغني العبد هذا الاستغناء، فمعنى ذلك أنه قد تحرر عن معنى العبودية لله.. أي تحرر عن مشاعر العبودية لله بسبب ظاهر قوته واستغنائه، وإن لم يتحرر عن حقيقتها، نظراً إلى أن الذي عصمه هو الله، وأن الذي نزّهه عن النقائص والعيوب ومظاهر الضعف هو الله.
إن غياب شعوره بالضعف والحاجة، ودوام التقصير، والاتصاف بالقبائح والعيوب، يستلزم غياب شعوره بالعبودية التي تقوده بذل المسألة إلى باب الله، وإن كانت حقيقة مملوكيته لله قائمة راسخة.
لذا، فقد كان من مظاهر لطف الله بالإنسان، أن يوقظ فيه دائماً مشاعر عبوديته له، وأن يبتليه بما يقوده إلى باب الاستغفار من الذنوب، وبما يجعله يبسط إليه كف المسألة بأن يرحم ضعفه ويستر عيبه ويصلح حاله... وإنما الذي يقوده إلى ذلك، الضعف الذي يجعله محلاً للنقائص والعيوب، والذي يعرضه لارتكاب الذنوب.
أحسب أنك قد عرفت الآن، مما قرره ابن عطاء الله في هاتين الحكمتين، أن الله قد يكشف للخلّص من عباده دقائق مكوناته وأسرار الزمان والمكان، ولكنه قضى ألا يكشف لهم عن أسرار وخفايا عباده، وما يمكن أن تنطوي عليه من العيوب والنقائص.. إذ لو كشف لهم عنها لغدا الناس بعضهم فتنة لبعض، ولحلّ الازدراء والاحتقار فيما بينهم محل التقدير وحسن الظن والحب...
إذا عرفت ذلك، فإن بوسعك إذن أن تعلم، كم يتنكب بعض من يتسلّق اليوم رتبة التوجيه والإرشاد، عن جادة الالتزام بالمنهج الإسلامي والأخلاق الإسلامية، عندما لا يروق لأحدهم إلّا أن يفرض من نفسه ذا بصيرة متميزة عن عباد الله جميعاً، يرى بها خفايا ما قد تورط فيه تلامذتهم أو مريدوهم من الآثام والنقائص التي قد تكون خواطر طافت بذهنهم، أو وقائع وأحداثاً لم يطلع عليها إلا مولاهم وخالقهم!..
ثم يعلن عن بصيرته هذه أمامهم، مؤكداً أن فيهم من ارتكب وزراً بينه وبين الله، أو بات يعانق هاجساً لأحلام لا تتفق مع ما يرضي الله، وأنه بثاقب بصيرته وشفافية روحانيته يشم منهم رائحة هذا التورط والانحراف. وربما تظاهر أمامهم أنه قد اعتراه بسبب ذلك من الضيق ما منعه من جلوسه إليهم ومواصلة حديثه معهم، فيقوم معرضاً عنهم مظهراً السخط عليهم!...
ولكي لا يذهب بك الخيال كل مذهب، في معرفة من يسلكون مع مريديهم هذا النهج، أقول لك: إنهم قلة نادرة بين الرجال، وكثرة كبيرة بين النساء.
ولكن، فانظر، كم يتناقض هذا المنهج التربوي المنكوس، مع آداب الشرع وألطاف الربوبية، بل انظر كم يتناقض مع ما هو الثابت والمعروف من سنن الله في عباده، وكم يكلف هذا المنهج صاحبه أن يتمطى بنفسه إلى مستوى العصمة ثم إلى حيث الاطلاع على ما قد أخفاه الله من عيوب عباده ونقائصهم، من أجل أن يمارس، فيما يزعم، حيلة تربوية تجعل مريديه يعتقدون أن سرائرهم أمام شيخهم أو شيختهم مفضوحة، ليتداركوها فيما يزعمون، بالمعالجة لها والتحرر منها.
ثم تأمل في مغامرة الافتراض بدون بينة، والجزم بدون دليل، وفيه ما فيه من زج المتَّهمين أو المتَّهمات، في قلق لا نهاية له، وفي اضطراب نفسي لا مناجاة منه، خصوصاً بالنسبة لمن كان شديد الثقة بشيخه، وكم رأيت فتيات صالحات قانتات، ذهبن ضحية هذه الطريقة ((التربوية)) الشائنة، إذ وقعن في يمّ من الاضطرابات والأخيلة والهواجس التي أفسدت عليهن سبيل التعامل مع أفكارهن وعقولهن.
وخلاصة القول: إن مرتبة الفتيا إن كانت بحاجة ماسة إلى بلوغ مرتبة المعرفة التامة بأحكام الشريعة الإسلامية، فإن مرتبة الإرشاد والتسليك أحوج منها إلى بلوغ مرتبة المعرفة التامة لأحكام الشريعة الإسلامية، ثم إلى بلوغ مرتبة المعرفة التامة بآداب الإرشاد والتسليك، ولن تتحقق هذه المعرفة الثانية إلا بعد أن يصبح الساعي إليها رباني النزعة والسلوك أي مصطبغاً بكامل العبودية لله، ومتخلقاً بأخلاق الرحمة الإلهية في التعامل مع عباد الله.