عدد المشاهدات:
- قَولُه تَعالى: “إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا”: إنَّ اللهَ تَعالَى يُخاطِب نَبِيَّهُ، وَيَمُنُّ عَلَيْه بأنَّه فَتَحَ له فَتْحًا مُبينًا. والفَتحُ المُبين هو مُشاهَدَتُه لِذَاتِ مَوْلاَه، وَتَمَتُّعُه بِرُؤيَةِ جَمَالِهِ وسَنَاهُ، وغَيْبَتُه فيه عَنْ كُلِّ مَا سِواه حتَّى قَالَ: “لِي وَقْتٌ لاَ يَسَعُنِي فِيه غَير رَبِّي ”، أَيْ إنَّه وَهَبَ لي وقتًا وهو غَمَرَنِي لاَ يَسعُني فيه إلا أَنْ أقول:
كلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ باطلٌ
فَيَا لَه مِن وَقْتٍ عَظيمٍ، انْطَوى فيه المَحْبوبُ في ذَاتِ مَحْبوبِه، أَو نَقُولُ: الحَادِثُ في القَديمِ.
- وهَذا الفَتح هو المَعروفُ عندَ القَوْمِ بمقَام الشُّهُودِ والعِيان، فإنَّهُم قَد وَرِثوهُ عَنْ سَيِّدِ وَلَدِ عَدنانَ، ويَبْقَى مَورُوثًا إلى يَوم الدِّينِ، لقولِه، صلى الله عليه وسلّمَ: “لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أمَّتِي ظَاهرينَ عَلَى الحَقِّ ”، ولاَ شَكَّ أنَّ الظهورَ عَلَى الحَقِّ هو الاطِّلاَعُ عَلَيْهِ، ومُشَاهَدَة جَمَالِه المُتَجَلِّي به في كلِّ مَطلَعٍ من مَطَالِع الكائنات، أَو نَقُولُ فِي كلِّ ذَرَّةٍ مِن ذَرَّاتِ المَوجودَات، فهذا هو المَقَامُ المُحَمَّدِيُّ الذي وَرَثَه عنه خلفاؤه وهَذَا هو الفَتحُ المُبينُ أي الظَّاهِرُ الذي لاَ خَفَاءَ فيهِ.
وقولهم: إنَّه فَتح مكةَ يُنافيه تعليله بقوله: “لِيَغْفِرَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَـأَخَّرَ ”، فإنَّ غفرانَ الذنْب لا يكون علَّةً في فَتحِ مَكَّةَ، بمعنَى لا يَتَرتَّبُ عَلى فَتح مَكَّةَ غفرانُ الذَنبِ، ولَو كَانَ المُرَادَ مِنَ الآيَة فتحٌ لَكانَ المناسبُ أن يقولَ: لينتَشرَ دينُكَ، ويَعُمَّ سائرَ البلدَانِ، فَهَذَا هو اللائق والمناسبُ لتعليل فَتح مكةَ.
والذي يؤيدُ هَذَا هو النبيء صلى الله عليه وسلم لا ذنبَ له حتى يغفره الله ولو قبل النبوءة أي لا يصدر من الذنب الذي يصدر من غيره من سائر البشر. وبما ان الذنب مصرح به في الآية ومسند إليه صلى الله عليه وسلم لا لغيره لزم حمله على ضرب من التأويل يناسب مقامه الشريفَ وقدره المنيفَ، ويكون من باب قولهم: “حَسنات الأبرار سيئات المقربين ”.
وبَيَانُ ذلك في ما تقدم من الذنب هو أنَّ نورَ النبوءة مشرقٌ فيه، صلى الله عليه وسلم، من قَبل النبوءة إن لم نقلْ من قبل وجوده، وان لم تظهر النبوءة إلا على رأس الأربعين، ومع ذلك لَم ينظر، صلى الله عليه وسلم، في نَفسه هاته النظرة ولم يعمل ذاته بذلك الاعتبار فانه قد كان ضالا عن نفسه فيما تقدم قبل النبوءة ولم يهتد إليها إلا بعد الأربعين.
والحاصل أنَّه فَتَحَ الله له بابَ مشاهدته لأمورٍ ثَلاَثَةٍ:
الأولى: غُفرَان مَا تَقَدَّمَ ومَا تَأَخَّرَ مِن ذَنْبِه.
الثانية: قولُه :“وَيُتِمَّ نِعمَتَه عَلَيْكَ” وأي نعمة أتم وأعظم من مشاهدة جمال ربه أينما تولى وحيثما تجلى فيا لها من نعمة وكرامة لا سيما وقد هداه بعد ذلك إلى صراط الاستقامة.
وهوَ الأمرُ الثَّالثُ من نَتَائج المشاهدة فقال: “ وَيَهديَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا”، والهِدَايَة إلى الصراط المستقيم هي التمسكُ بحَبْل الشريعة والاغتراف من بحر الحَقيقة. فيزيِّنُ ظاهرَه بالأوامر والنواهي، قَائمًا بمَا اقـتَضَتْه من ملاحَظَة المَظَاهر واعتبَار المواعظ والزَّواجر، ويَحفَظ بَاطنه بمشاهدة الآمرِ والنَّاهي، مراقبًا لما يقتضيه الظاهر مشاهدًا إحاطة الأول والآخر.
فهذا هو الصراط المستقيم المطلوب بقوله: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ المستقيمَ ” حيث ذكر قبل ذلك بقوله: “إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ ”.
فَالحَاصل أنَّ الصراطَ المستقيم هو الأخذُ بمقتضى قوله: “ إيَّاكَ نعبدُ وإياكَ نَستعينُ ” متحليًّا بالمجاهدة متحققًا بالمشاهدة، ظَاهره عبدٌ وباطنه حرٌّ فتغطي شريعته حقيقته ولا تغلب حقيقته شريعته، فيكون مالك لحاله غير مغلوب عليه.
ويشيرُ لذلكَ تعبيرُه بـ: “لاَم” المُلْك في قَوْله: “إنَّا فَتَحنَا لَكَ”، ولَم يَقل فتحنا عليك بــ:“عَلَى”، الدالَّة على الاعتِلاَء، فَكَأنَّه يقول لَه: جَعلنَا الفَتْحَ مَملوكًا، غيرَ مالكٍ لَكَ.