آخر الأخبار
موضوعات

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

- الجزء الاول من شرح مقامات الطريق إلى الله

عدد المشاهدات:
شرح المقامات
باب التوبة
قال الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحوه " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمود بن خرَّاز قال: حدثنا محمد بن فضل بن جابر، قال حدثنا سعيد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن زكريا، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا أحبَّ الله عبداًلم يضرّه ذنب " ، ثم تلا: " إن الله يحب التوَّابين ويحب المتطهرين " ، قيل: يا رسول الله، وما علامة التوبة؟ قال " الندامة " .
أخبرنا عليُّ بن أحمد بن عبدان الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبيد الصفار، قال: أخبرنا محمد بن الفضل بن جابر قال: أخبرنا الحكم بن موسى، قال: حدَّثنا غسَّان بن عبيد عن أبي عاتكة طريف بن سليمان، عن أنس بن مالك. أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: " ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب " .
فالتوبة أوَّل منزل من منازل السالكين.
وأوَّلُ مقام من مقامات الطالبين.
وحقيقة التوبة في لغة العرب: الرجوع، يقال: تاب أي رجع.
فالتوبة الرجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الندم توبة " .
فأرباب الأصول من أهل السنةَّ قالوا: شرط التوبة، حتى تصح، ثلاثة أشياء: الندم على ما عمل من المخالفات.
وترك الزَّلة في الحال.
والعزمُ على أن لايعود إلى مثل ما عمل من المعاصي.
فهذه الأركان لابد منها، حتى تصحَّ توبته.
قال هؤلاء: وما في الخبر أن " الندم توبة " إنما نصَّ على معظمه كما قال صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفه " ، أي معظم أركانه عرفه، أي الوقوف بها، لا أنه لا ركن في الحج سوى الوقوف بعرفات، ولكن معظم أركانه الوقوف بها.
وكذلك قوله " الندم توبة " أي معظم أركانها الندم.
ومن أهل التحقيق من قال: يكفي الندم في تحقيق ذلك؛ لأن الندم يستتبع الركنين الآخرين فإنه يستحيل تقدير أن يكون نادماً على ما هو مصر على مثله؛ أو عازم على الإتيان بمثله.
وهذا معنى التوبة على جهة التحديد والإجمال.
فامَّا على جهة الشرح والإبانة، فن للتوبة أسباباً وترتيباً وأقساماً فأول ذلك: انتباه القلب عن رقدة الغفلة، ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة.
ويصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للاصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق، سبحانه. يسمع قلبه، فإنه جاء في الخبر " واعظُ الله في قلب كل امرىء مسلم " .
وفي الخبر: " إن في البدن لمضغة إذا صلحَت صلح جميع البدن وإذا فسدت فسد جميع البدن، ألا وهي: القلب " .
فذا فكر بقلبه في سوء ما يصنعه، وأبصر ما هو عليه من قبيح الأفعال، سنح في قلبه إرادة التوبة، والإقلاعُ عن قبيح المعاملات فيمدُّه الحق، سبحانه بتصحيح العزيمة، والأخذ في جميل الروجعي، والتأهب لأسباب التوبة: فأوَّل ذلك: هجران إخوان السوء؛ فإنهم هم الذين يحملونه على ردّ هذا القصد ويشوشون عليه صحة هذا العزم.
ولا يتم ذلك: إلا بالمواظبة على المشاهدة التي تزيد رغبته في التوبة وتوفَر دواعيه على إتمام ما عزم عليه. مما يقوِّي خوفه ورجاءه: فعند ذلك تنحل من قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الأفعال، فيقف عن تعاطي المحظورت، ويكبح لجام نفسه عن متابعة الشهوات فيفارق الزلةَّ في الحال، ويبرم العزيمة على أن لا يعود إلى مثلها في الاستقبال.
فإن مضى على موجب قصده، ونفذ بمقتضى عزمه فهو الموفق صدقا.
وإن نقض التوبة مرَّة أو مرات، وتحمله إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا أيضاً كثيراً، فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء، فإن لكل أجل كتاباً.
حكي عن أبي سليمان الداراني، أنه قال: أختلفت إلى مجلس قاض، فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء.. فعدت ثانياً؛ فبقي أثر كلامه في قلبي، حتى رجعت إلى منزلي.
فكسرب آلات المخالفات ولزمت الطريق.
فحكى هذه الحكاية لحيي بن معاذ فقال: عصوراً اصطاد كركيَّاً!! أراد بالعصفور. ذلك القاصَّ، وبالكركيِّ، أبا سليمان الداراني ويحكى عن أبي حفص الحدَّاد أنه قال: تركت العمل كذا، وكذا مرة، فعدت إليه، ثم تركني العمل، فلم أعد بعد إليه.
وقيل: إن أبا عمرو بن نجيد، في ابتداء أمره، أختلفت إلى مجلس أبي عثمان، فأثرت في قلبه كلامه، فتاب.
ثم إنه وقعت له فترة، فكان يهرب من أبي عثمان إذا رآه، ويتأخر عن مجلسه فاستقبله أبو عثمان يوماً فحاج أبو عمرو عن طريقه، وسلك طريقاً أخرى، فتبعه أبو عثمان فما زال به يقفو أثره، حتى لحقه، فقال له: يا بُني، لا تصحب من لا يحبك إلا معصوماً، إنما ينفعك أبو عثمان في مثل هذه الحالة. قال: فتاب أبو عمرو بن نجيد، وعاد لى الإرادة، ونفذ فيها.
سمعت الشيخ أبا عليِّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: تاب بعض المريدين، ثم وقعت له فترة، فكان يفكر وقتاً: لو عاد إلى توبته كيف حكمه؟ فهتف به هاتف: يا فلان، أطعتنا فشكرناك، ثم تركتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا قبلناك.
فعاد الفتى إلى الإرادة، ونفذ فيها.
فإذا ترك المعاصي، وحل عن قلبه عقدة الإصرار، وعزم أن لا يعود إلى مثله، فعند ذلك يخلق إلى قلبه صادق الندم. فيتأسف على ما عمله، ويأخذ في التحسر على ما صنعه من أحواله، وارتكبه من قبيح أعماله، فتتم توبته، وتصدق مجاهدته، واستبدل بمخالطته العزلة، وبصحبته مع أخوان السوء التوحش عنهم، والخلوة دونهم ويصل ليله بنهار في التلهف، ويعتنق في عموم أ؛واله بصدق التأسف، يمحو بصوب عبرته آثار عثرته، ويأسو بحسن توبته كلوم حوبته ويعرف من بين أمثاله بذبوله، ويستدل صحة حاله بنحوله.
ولن يتم له شيء من ذلك إلا بعد فراغه من إرضاء خصومه، والخروج عما لزمه من مظالمه، فإن أول منزلة من التوبة إرضاء الخصوم بما أمكنه، فإن اتسع ذات يده لإيصال حقوقهم إليهم، أو سمحت أنفسهم بإحلاله والبراءة عنه، وإلا فالعزم بقلبه على أن يخرج عن حقوقهم عند الإمكان والرجوعُ إلى الله سبحانه بصدق الابتهال والدعاء لهم.
وللتائبين صفات وأحوال: هي من خصالهم، يعدُّ ذلك من جملة التوبة، لكونها من صفاتهم، لا لأنها من شرط صحتها، وإلى ذلك تشير أقاويل الشيوخ في معنى التوبة: سمعت الأستاذ أبا عليّ الدِّقاق، رحمه الله تعالى، يقول: التوبة على ثلاثة اقسام: أوَّلها التوبة، وأوسطها الإنابة، وآخرها الأوبة.
فجعل التوبة بداية، والأوبة نهاية، والإنابة واسطنهما.
فكلُّ ما تاب لخوف العقوبة فهو صاحب إنابة.
ومن تاب مراعاة للأمر لا للرغبة في الثواب أو رهبة من العقاب فهو صاحب أوبة.
ويقال أيضاً: التوبة صفة المؤمنين، قال الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون " .
والإنابة: صفة الأولياء والمقرَّبين، قال الله تعالى: " وجاء بقلب منيب " .
والأوبة: صفة الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: " نعم العبد إنه أوَّاب " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: التوبة على ثلاثة معان: أولها: الندم، والثاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه، والثالث السعي في أداء المظالم.
وقال سهل بن عبد الله: التوبة: ترك التسويف.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي، يقول: سمعت أبا عبد الله القرشي يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارث يقول: ما قلت قط، اللهم إني إسألك التوبة، ولكني أقول: أسألك شهوة التوبة.
أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي، رحمه الله قال: سمعت أبا عبد الله بن مصلح، بالأهواز يقول. سمعت ابن زيري يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على السرّي يوماً فرأيته متغيراً، فقلت له: مالك؟ فقال: دخل علي شاب فسألني عن التوبة، فقلت له: أن لا تنسى ذنبك!! فعارضني، وقال: بل التوبة أن تنسى ذنبك.
فقلت: إن الأمر عندي ما قاله الشاب.
فقال: لِم؟ قلت: لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الوفاء؛ فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت.
سمعت أبا حاتم السجستاني، رحمه الله، يقول: سمعت أبا نصر السراج الصوفي يقول: سئل سهل بن عبد الله عن التوبة، فقال: أن لا تنسى ذنبك وسئل الجنيد عن التوبة فقال: أن لا تنسى ذنبك.
قال أبو نصر السراج: أشار سهل إلى أحوال المريدين والمتعرضين، تارة لهم، وتارة عليهم، فأما الجنيد فإنه أشار إلى توبة المحققين فإنهم لا يذكرون ذنوبهم بما غلب على قلوبهم من عظمة الله تعالى، ودوام ذكره.
قال: وهو مثل ما سئل رويم عن التوبة، فقال: هي التوبة من التوبة.
وسئل ذا النُّون المصري عن التوبة: فقال: توبة العوامِّ من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة.
وقال أبو الحسين النوري: التوبة أن تتوب من كل شيء سوى الله عز وجل.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي ابن محمد التميمي يقول: شتان ما بين تائب يتوب من الزلات، وتائب يتوب من الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات.
وقال الواسطي: التوبة النصوح لا تبقي على صاحبها أثراً من المعصية سراً ولا جهراً ومن كانت توبته نصوحاً لا يبالي كيف أمسى أو أصبح.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن إبراهيم بن الفضل الهاشمي يقول: سمعت محمد بن الرومي يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: إلهي، لا أقول تبت، ولا أعود لما أعرف من خلقي، ولا أضمن ترك الذنوب لما أعرف من ضعفي، ثم إنيِّ أقول: لا أعود لعلي أن أموت قبل أن أعود.
وقال ذو النون: الاستغفار من غير إقلاع توبة الكاذبين.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت ابن يزدانيار يقول، وقد سئل عن العبد إذا خرج إلى الله على أيِّ أصل يخرج؟ فقال: على أن لا يعود إلى ما منه خرج، ولا يراعي غير من إليه خرج، ويحفظ سرَّه عن ملاحظة ما تبرأ منه.
فقيل له: هذا حكم من خرج عن وجود، فكيف حكم من خرج عن عدم؟ فقال: وجودُ الحلاوة في المستأنف عوضاً عن المرارة في السالف.
وسئل البوشنجي عن التوبة فقال: إذا ذكرتَ الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره، فهو التوبة.
وقال ذو النون: حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، حتى لا يكون لك قرار.. ثم تضيق عليك نفسك، كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله: " وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا " .
وقال ابن عطاء: التوبة: توبتان: توبة الإقامة، وتوبة الاستجابة.
فتوبة الإنابة: أن يتوب العبد خوفاً من عقوبته.
وتوبة الاستجابة: أن يتوب حياء من كرمه: وقيل لأبي حفص: لم يبغض التائب الدنيا؟ قال: لأنها دار باشر فيها الذنوب.
فقيل له: فهي ايضاً دار أكرمه الله فيها بالتوبة؟ فقال: إنه الذنب على يقين، ومن قبول توبته على خطر.
وقال الواسطي: طرب داوود عليه السلام، وما هو فيه من حلاوة الطاعة أوقعه في أنفاس متصاعدة، وهو في الحالة الثانية أتم منه في وقت ما ستر عليه من أمره.
وقال بعضهم: توبة الكذابين على أطراف ألسنتهم يعني قوله: " أستغفر الله " .
وسئل أبو حفص عن التوبة، فقال: ليس للعبد في التوبة شيء!! لأن التوبة إليه، لا منه.
وقيل: أوحى الله سبحانه، إلى آدم ورثت ذريتك التعب والنصب، وورثتهم التوبة، من دعاني منهم يدعونك لبِّيته كتلبيتك، يا آدم أحشر التائبين، من القبور مستبشرين ضاحكين، ودعاؤهم مستجاب.
وقال رجل لرابعة: إني أكثرت من الذنوب والمعاصي، فلو تبت هل يتوب علي؟ فقالت: لا بل لو تاب عليك لتبت.
وإعلم أن الله تعالى قال: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ومن قارف الزلة فهو من خطئه على يقين، فإذا تاب، فإنه من القبول على شكل، لاسيما إذا كان من شرطه وحقه أن يكون مستحقاً لمحبة الحق وإلى أن يبلغ العاصي محلاً يجد في أوصافه أمارة محبة الله إيه مسافة بعيدة، فالواجب إذن على العبد إذا علم أنه أرتكب ما تجب منه التوبة دوام الإنكسار، وملازمة التنصل والاستغفار. كما قالوا: " استشعار الوجل إلى الأجل " ، وقال عزَّ من قائل: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " .
وكان من سنته صلى الله عليه وسلم: دوام الاستغفار، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " .
سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت الحسين بن علي يقول: سمعت محمد بن أحمد يقول: سمعت عبد الله بن سهل يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول في قوله عز وجل: " إن إلينا إيابهم " قال: رجوعهم، وإن تمادى يهم الجولان في المخالفات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: ركب علي بن عيسى الوزير في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون: من هذا؟ من هذا؟ فقالت امرأة قائمة على الطريق: إلى متى تقولون من هذا؟ من هذا؟! هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه الله بما ترون. فسمع على بن عيسى ذلك، فرجع إلى منزله واستغنى عن الوزارة، وذهب إلى مكة وجاور بها.
باب المجاهدة

قال الله تعالى: " والذين جاهدوا فينا، لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين " .
أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: أخبرنا العباس بن الفضل الإسقاطي، قال: أخبرنا ابن كاسب قال أخبرنا ابن عيبنة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أفضل الجهاد " ، فقال: " كلمة عدل عند سلطان جائر " فدمعت عينا أبي سعيد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة، قال الله تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " .
وأعلم أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من ظن أن يفتح له شيء من هذه الطريقة، أو يكشف له عن شيء منها إلا بلزوم المجاهدة فهو في غلط.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من لم يكن له في بدايته قومة، لم يكن له في نهايته جلسة.
وسمعته أيضاً يقول: قولهم الحركة بركة: حركات الظواهر توجب بركات السرائر.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الحسين بن علويه يقول: قال أبو يزيد البسطامي: كنت ثنتي عشرة سنة حدَّاد نفسي وخمس سنين كنت مراة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما، فإذا في وسطي زَنَّار ظاهر، فعملت في قطعة ثنتي عشرة سنة.
ثم نظرت، فإذا في باطني زنار فعملت في قطعة خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي، فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: يا معشر الشباب، جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما ضعفت وقصرتُ: وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب العبادة.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت عبد العزيز النجراني يقول: سمعت الحسن القزاز يقول: بني هذا الأمر على ثلاثة أشياء: أن لا تأكل إلا عند الفاقة، ولا تنام إلا عند الغلبة، ولا تتكلم إلا عند الضرورة.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد بن خضروية يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: لن ينال الرجل درجة الصالحين، حتى يجوز ست عقبات: أولها: أن يغلق باب النعمة، ويفتح باب الشدة.
والثاني: أن يغلق باب العز، ويفتح باب الذلِّ.
والثالث: أن يغلق باب الراحة؛ ويفتح باب الجهد.
والرابع: أن يغلق باب النوم، ويفتح باب السهر.
والخامس: أن يغلق باب الغنى، ويفتح باب الفقرِ.
والسادس: أن يغلق باب، الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت.
سمعت الشيخأبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه!! وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع، فالزموه السوق، وأمروه بالكسب.
وأعلم أن أصل المجاهدة وملاكها: فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات.
وللنفس صفتان ما نعتان لها من الخير: أنهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات فإذا جمحت عند ركوب الهوى وحب كبحها بلجام التقوى، وإذا حرنت عند القيام بالموافقات يجب سوقها على خلاف الهوى، وإذا ثارت عند غضبها، فمن الواجب مراعاة حالها، فما من منازلة أحسن عاقبه من غضب يكسب سلطانه بخلق حسن، وتخمد نيرانه برفق، فإذا استحلت شراب الرعونة فضاقت، إلا عن إظهار مناقبها والتزين لمن ينظر إليها ويلاحظها، فمن والواجب كسر ذلك عليها، وإحلالها بعقوبة الذل بما يذكرها من حقارة قدرها، وخساسة أصلها، وقذارة فعلها.
وجهد العوام في توفية الأعمال وقصد الخواص إلى تصفية الأحوال فإن مقاساة الجوع والسهر سهل يسير، ومعالجة الأخلاق والتنقي من سفاسفها صعب شديد.
ومن غوامض آفات النفس: ركونها إلى استحلاء المدح، فإن من تحسى منه جرعة حمل السموات والأرضين على شفرة من أشفاره.
وأمارة ذلك: أنه إذا انقطع عنه ذلك الشرب آل حاله إلى الكسل والفشل.
وكان بعض المشايخ يصلي في مسجده في الصف الأول سنين كثيرة، فعاقه يوماً عن الابتكار إلى المسجد عائق، فصلى في الصف الأخير، فلم ير بعد ذلك مدة، فسئل عن السبب، فقال: كنت أقضي صلاة كذا، وكذا سنة صليتها وعندي أني مخلص فيها لله، فداخلني يوم تأخري عن المسجد من شهود الناس إياي في الصف الأخير نوع خجل، فعلمت أن نشاطي طول عمري إنما كان رويتهم فقضيت صلواتي.
ويحكي عن أبي محمد المرتعش، أنه قال: حججت كذا، وكذا حجة على التجريد، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوباً بحظي؛ وذلك: أن والدتي سألتني يوماً أن أستقي لها جرَّة ماء فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كانت لحظ، وشوب لنفسي، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع.
وكانت امرأة قد طعنت في السن، فسئلت عن حالها، فقالت: كانت في حال الشباب أجد من نفسي نشاطاً وأحوالاً؛ أظنها قوة الحال، فلما كبرت زالت عني، فعلمت أن ذلك كان قوة الشباب، فتوهمتها أحوالاً.
سمعت الشيخ أبا عليِّ الدقاق يقول: ما سمع هذه الحكاية أحد من الشيوخ إلا رقَّ لهذه العجوز، وقال: إنها كانت منصفه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: ما أعز الله عبداً بعز هو أعز له من أن يدله على ذلك نفسه، وما أذل الله عبداً بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذلك نفسه.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: ما هالني شيء إلا ركبته.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازيَّ يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول، الراحة: هو الخلاص من أماني النفس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: دخلت الآفة على الخلق من ثلاثة: سقم الطبيعة، وملازمة العادة، وفساد الصحبة.
فسألته: ما سقم الطبيعة؟ فقال: أكل الحرام.
فقلت، ما ملازمة العادة؟ فقال: النظر، والاستمتاع بالحرام، والغيبة.
قلت: فما فساد الصحبة؟ قال: كلما هاجت في النفس الشهوة تبعتها.
وسمعته يقول: سمعت النّصراباذي يقول: سجنك نفسك. إذا خرجت منها وقعت في راحة أبدية.
وسمعته يقول: سمعت محمد الفراء يقول: سمعت أبا الحسين الورَّاق يقول: كان أجل أحكامنا في مبادىء أمرنا في مسجد أبي عثمان الحيري الإيثار بما يفتح علينا، وأن لا نبيت على معلوم، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لأنفسنا، بل نعتذر إليه، ونتواضع له، وإذا وقع في قلوبنا حقارة لأحد قمنا بخدمته والإحسان إليه حتى يزول.
وقال أبو حفص: النفس ظُلمْة كلها، وسراجها سرها، ونور سراجها التوفيقُ، فمن لم يصحبه في سرِّه توفيق من ربه كان ظلمة كلَّه.
قال الأستاذ الإمام القشيري: معنى قوله " سراجها سرها " يريد: سرَّ العبد الذي بينه وبين الله تعالى، وهو محل إخلاصه، وبه يعترف العبد أن الحادثات بالله لا بنفسه ولا من نفسه؛ ليكون متبرئاً من حوْله وقوته على استدامة أوقاته، ثم بالتوفيق يعتصم من شرور نفسه، فإن من لم يدركه التوفيق لم ينفعه علمه بنفسه، ولا بربه، ولهذا قال الشيوخ: من لم يكن له سر فهو مُصر.
وقال أبو عثمان: لا يرى أحد عيب نفسه وهو مستحسن من نفسه شيئاً، وإنما يرى عيوب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال.
وقال أبو حفص: ما أسرع هلاك من لا يعرف عيبه، فإن المعاصي يريد الكفر.
وقال أبو سليمان: ما استحسنت من نفسي عملاً فاحتسبت به.
وقال السري: إياكم وجيران الأغنياء، وقرَّاء الأسواق، وعلماء الأمراء: وقال ذو النون المصري: إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء: الأول: ضعف النية بعمل الآخرة.
والثاني: صارت أبدانهم رهينة لشهواتهم.
والثالث: غلبهم طول الأمل مع قرب الأجل.
والرابع: آثروا رضا المخلوقين على رضا الخالق.
والخامس: اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وراء ظهورهم.
والسادس: جعلوا قليل زلاَّت السلف حجة لأنفسهم، ودفنوا كثير مناقبهم.
باب الخلوة والعزلة

أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدَّثنا عبد العزيز بن معاوية قال: حدّثنا القعني قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن ابيه، عن بعجة بن عبد الله بن بدر الجهني، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من خير معايش الناس كلِّهم رجلاً آخذاً بعنان فرسه في سبيل الله، إن سمع فزعة أو هيعة كان على متن فرسه يبتغي الموت أو القتل في مظانه، أو رجلاً في غنيمة له في رأس شعفة من هذه الشعاف، أو في بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، ويعبُد ربَّه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير " .
قال الأستاذ: الخلوة: صفة أهل الصفوة. والعزلة: من أمارات الوصلة.
ولا بد للمريد - في ابتداء حاله - من العزلة عن أبناء جنسه، ثم في نهايته - من الخلوة؛ لتحققه بأنسه.
ومنَ حقِّ العبد - إذا آثر العزلة - أن يعتقد باعتزاله عن الخلق سلامة الناس من شره ولا يقصد سلامته من شر الخلق، فإن الأول من القسمين: نتيجة استصغار نفسه، والثاني شهود مزيته على الخلق. ومن استصغر نفسه فهو متواضع، ومن رأى لنفسه مزلة على أحد، فهو متكبر.
ورؤي بعض الرهبان، فقيل له: إنك راهب.
فقال: لا، بل أن حارس كلب؛ إن نفسي كلب يعقر الخلق أخرجتها من بينهم، ليسلموا منها.
ومرَّ إنسان ببعض الصالحين؛ فجمع ذلك الشيخ ثيابه منه، فقال له الرجلَّ: لم تجمع عني ثيابك، ليست ثيابي نجسة؟ فقال الشيخ: وهمتَ في ظنك، ثيابي هي النجسة. جمعتها عنك؛ لئلا تنجس ثيابك، لا لكي لا تنجس ثيابي.
ومن آداب العزلة: العارفُ؟ قالوا: كائن بائن، يعني: كائن مع الخلق، بائن عنهم بالسر.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقَّاق، رحمه الله، يقول: إلبس مع الناس ما يلبسون، وتناول مما يأكلون، وانفرد عنهم بالسر.
وسمعته يقول: جاءني إنسان، وقال: جئتك من مسافة بعيدة فقلت: ليس هذا الحديث من حيث قطع المسافة ومقاساة الأسفار فارق نفسك ولو بخطوة، فقد حصل مقصودك.
يحكى عن أبي يزيد قال: رأيت ربيَّ عز وجلَّ في المنام، فقلت: كيف أجدك؟ فقال: فارقْ نفسك وتعال.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من أختار الخلوة على الصحبة ينبغي أن يكون خالياً من جميع الأذكار إلا ذكر ربه، وخالياً من جميع الإرادات إلا رضا ربَّه، وخالياً من مطالبة النفس من جميع الأسباب، فإن لم يكن بهذه الصفة، فإن خلوته توقعه في فتنة أو بلية.
وقيل: الإنفراد في الخلوة أجمع لدواعي السلوة.
وقال يحيى بن معاذ: أنظر: أنسك بالخلوة، أو أنسك معه في الخلوة، فن كان أنسك بالخلوة ذهب أنسك إذا خرجت منها، وإن كان أنسك به في الخلوة استوت لك الأماكن في الصحاري والبراري.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: جاء رجل إلى زيارة أبي بكر الورَّاق، فلما أراد أن يرجع، قال له: أوصني. فقال وجدت خير الدنيا والآخرة في الكثرة والقلة، وشرَّهما في الكثرة والاختلاط.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الجريري وقد سئل عن العزلة، فقال: هي الدخول بين الزحام وتمنع سرك أن لا يزاحموك، وتعزل نفسك عن الآثام، ويكون شرك مربوطاً بالحق.
وقيل؛ من آثر العزلة حصل العزلة.
وقال سهل: لا تصح الخلوة إلا بأكل الحلال، ولا يصح أكل الحلال إلا بأداء حق الله.
وقال ذو النون المصري: لم أر شيئاً أبعث على الإخلاص من الخلوة: وقال أبو عبد الله الرملي: فيمكن خدنك الخلوة، وطعامك الجوع، وحديثك المناجاة فإما أن تموت؛ وإما أن تصل الله سبحانه.
وقال ذو النون: ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة، كمن احتجب عنهم بالله.
سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: مكابدة العزلة أيسرُ من مداراة الخلطة.
وقال مكحول: إن كان في مخالطة الناس خير فإن في العزلة السلامة.
وقال يحيى بن معاذ: الوحدة جليس الصديقين.
سمعت الشيخ أبا علي الدقاق يقول: سمعت الشبلي يقول: الإفلاس.. الإفلاس يا ناس.
فقيل له: يا أبا بكر، ما علامة الإفلاس؟ قال: من علامة الإفلاس الاستئناس بالناس.
وقال يحيى بن أبي كثير: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راياهم.
وقال شعيب بن حرب. دخلت على مالك بن مسعود بالكوفة، وهو في دار وحده، فقلت له: أما تستوحش وحدك؟ فقال: ما كنت أرى أن أحداً يستوحش مع الله.
سمعت الشيخأبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر والأنماطي يقول، سمعت الجنيد يقول: من أراد أن يسلم له دينه، ويستريح بدنه وقلبه، فليعتزل الناس، فإن هذا زمان وحشة، والعاقل من اختار فيه الوحدة.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: قال أبو يعقوب السوسي: الإنفراد لا يقوى عليه إلا الأقوياء، ولأمثالنا: الاجتماع أوفر وأنفع، يعمل بعضهم على رؤية بعض.
وسمعته يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن أبي سعيد يقول: سمعت أبا العباس الدامغاني يقول: أوصاني الشبلي، فقال: الزم الوحدة، وامح اسمك عن القوم، واستقبل الجبار حتى تموت.
وجاء رجل إلى شعيب بن حرب، فقال له: ما جاء بك؟ فقال أكون معك.
قال: يا أخي، إن العباة لا تكون بالشركة، ومن لم يستأنس بالله لم يستأنس بشيء. حكي أن بعضهم قيل له: ما أعجب ما لقيت في سياحتك؟ فقال لهم: لقيتي الخضر، فطلب مني الصحبة: فخشيت أن يفسد علي توكلي.
وقيل لبعضهم: هاهنا أحد تستأنس به؟ فقال: نعم... ومد يده إلى مصحف ووضعه في حدره، وقال: هذا.
وفي معناه أنشدوا:
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاء للذي أنا كاتم
وقال رجل لذي النون المصري.
متى تصح لي العزلة؟ فقال: إذا قويت على عزلة نفسك.
وقيل لابن المبارك: ما دواء القلب؟ فقال: قلة الملاقاة للناس.
وقيل: إذا أراد الله أن يَنقل العبد من ذلك المعصية إلى عز الطاعة آنسه بالوحدة وأغناه بالقناعة وبصره بعيوب نفسه، فمن أعطى ذلك فقد أعطى خير الدنيا والآخرة.
؟باب التقوى قال الله تعالى: " إنَّ أكرمكم عند الله أنقاكم " .
وأخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان، قال أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: أخبرنا محمد بن الفضل بن جابر قال: حدثنا ابن عبد الأعلى القرشي، قال: حدثنا يعقوب العمي، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيَّ الله، أوصني.
فقال: " عليك بتقوى الله؛ فإنه جِماع كلِّ خير، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية المسلم، وعليك بذكر الله، فإنه نور لك " .
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا عباس بن المفضَّل الإسقاطي؛ قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو هرمز نافع بن هرمز، قال: سمعت أنساً رضي الله عنه؛ يقول: " قيل يا نبي الله من آل محمد؟ قال: كل تقي " .
فالتقوى جماع الخيرات.
وحقيقة الإتقاء التحرز بطاعة الله عن عقوبته؛ يقال: اتقى فلان بترسه.
وأصل التقوى: انقاء الشرك؛ ثم بعده: اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعده انقاء الشبهات؛ ثم يدع بعده الفضلات.
كذلك سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله؛ يقول، سمعته يقول: ولكلِّ قسم من ذلك باب. وجاء في تفسير قوله عزَّ وجل: " اتقوا الله حق تقاته " إن معناه: أن يطاع فلا يعصي؛ ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت أحمد بن عاصم يقول: سمعت سهل بن عبدالله يقول: لا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله، ولا زاد إلا التقوي، ولا عمل إلا الصبر عليه.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الكتاني يقول: قسمت الدنيا على البلوى وقسمت الآخرة على التقوي: وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازيِّ يقول: سمعت الجريري يقول: من لم يُحْكم بينه وبين الله التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف المشاهدة.
وقال النصراباذي: التقوي: أن يتقي العبد ما سوى الله عزَّ وجلَّ.
وقال سهل: من أراد أن تصح له التقوى فليترك الذنوب كّلها.
وقال النصراباذي: من لزم التقوى اشتقاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله سبحانه يقول: " وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
وقال بعضهم: من تحقق في التقوى هون الله على قلبه الإعراض عن الدنيا.
وقال أبو عبد الله الروذباري: التقوي: مجانبة ما يبعدك عن الله.
وقال ذو النون المصري: التقي: من لايدنس ظاهره بالمعارضات، ولا باطنه بالعلالات ويكون واقفاً مع الله موقف الاتفاق.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه ال(له، يقول: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: للتقوى ظاهر وباطن، فظاهره: محافظة الحدود. وباطنه: النية والإخلاص.
وقال ذو النون:
ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم ... تحن إلى التقوى وترتاح للذكر
سكون إلى روح اليقين وطيبه ... كما سكن الطفل الرضيع إلى الحجر
وقيل: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما قد فات.
وقال طلق بن حبيب: التقوى: عمل بطاعة الله على نور من الله، مخافة عقاب الله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمداً الفراء يحكي عن أبي حفص: أنه قال: التقوى بالحلال المحض، لا غير.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا الحسين الزنجاني يقول: من كان رأس ماله التقوى كلَّت الألسنُ عن وصف ربحه.
وقال الواسطي: التقوي: أن يتقي من تقواه يعني: من رؤية تقواه والمتقي مثل ابن سيرين؛ اشترى اربعين حباً سمنا، فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله: من أي حب أخرجتها؟ فقال لا أدري! فصبها كلها على الأرض.
ومثل ابن يزيد:
اشترى بهمذان حب القرطم، ففضل منه شيء، فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين، فرجع إلى همذان فوضع النملتين.
ويحكى أن أبا حنيفة كان لا يجلس في ظل شجرة غريمة. ويقول: قد جاء في الخبر: " كلُّ قرض جر نفعاً فهو رباً " .
وقيل: إن أبا يزيل غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له.
فقال له صاحبه: تعلق الثوب في جدار الكرم.
فقال لا، لا تغرز الوتد في جدار الناس.
فقال: نعلقه في الشجر.
فقال: لا، إنه يكسر الأغصان.
فقال: نبسطه على الأذْخِر.
فقال: لا؛ إنه علق الدواب، لا نستره عنها.
قولي ظهره إلى الشمس والقميص على ظهره، حتى جف جانب، ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر.
وقيل: إن أبا يزيد دخل يوماً الجامع، فغرز عصاه في الأرض فسقطت، ووقعت على عصا شيخ بجنبه ركز عصاه في الأرض، فألقتها. فانحنى الشيخ وأخذ عصاه، فمضى أبو يزيد إلى بيت الشيخ واستحله، وقال: كان السبب في انحنائك تفريطي في غرز عصاي، حيث حتجب إلى أن تنحني.
ورؤى عتبة الغلام بمكان يتصبب عرقاً في الشتاء، فقيل له في ذلك.
فقال: إنه مكان عصيت فيه ربي!! فسئل عنه فقال: كشطت من هذا الجدار قطعت طين، غسل بها ضيف لي يده، ولم أستحل من صاحبه.
وقال إبراهيم بن أدهم: بت ليلة تحت الصخرة ببيت المقدس؛ فلما كان بعض الليل نزل ملكان، فقال أحدهما لصاحبه: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم.
فقال: ذاك الذي حط بالله سبحانه درجة من درجاته.
فقال: لم؟ قال: لأنه اشترى بالبصرة تمراً، فوقعت تمرة على تمرة من تمر البقال، فلم يردها على صاحبها.
قال إبراهيم: فمضيت إلى البصرة، واشتريت التمر من ذلك الرجل، وأوقعت تمرة على تمرة، ورجعت إلى بيت المقدس، وبت في الصخرة.
فلما كان بعض الليل، إذ أنا بملكين نزلا من السماء.
فقال أحدهما لصاحبه: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم: فقال: ذلك الذي رد الله مكانه، ورُفعت درجته.
وقيل: التقوى على وجوه: للعامة: تقوى الشرك، وللخاصة: تقوى المعاصي، وللأولياء: تقوى التوصل بالأفعال، وللأنبياء تقوى نسبة الأفعال؛ إذ تقواهم منه إليه.
وعن أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، قال: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وسادة الناس في الآخرة الأتقياء.
أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسين البصري قال: أخبرنا بشر بن موسى، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك، عن يحيى ابن أيوب، عن عبيد الله بن رحو، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نظر إلى محاسن امرأة فغض بصره في أول مرة، أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس محمد بن الحسين، يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: كان الجنيد جالساً مع رويم، والجريري، وابن عطاء، فقال الجنيد: ما نجا من نجا إلا بصد اللجا، قال الله تعالى: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. الآية " .
وقال رويم، رحمه الله: ما نجا ما نجا إلا بصدق التقي، قال تعالى: " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم.. " .
وقال الجريري: ما نجا من نجا إلا بمراعاة الوفاء، قال الله تعالى: " والذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " .
وقال ابن عطاء: ما نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء من الله قال الله تعالى: " ألم يعلم بأن الله يرى " .
وقال الأستاذ الإمام: ما نجا من نجا إلا بالحكم والقضاء، قال الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " الآية.
وقال أيضاً: ما نجا من نجا إلا بما سبق له من الاجتباء، قال الله تعالى: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " .
باب الورع

أخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، قال:حدثنا محمد بن سليمان الزاهد قال أخبرنا محمد بن الحسين بن قتيبة، قال: حدثنا أحمد بن إبي طاهر الخرساني. قال: حدثنا يحيى بن العيزار قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابيِّ، عن سفيان، عن الأجلح، عن عبد الله بن بريدة، عن أبى الأسود الدؤلي، عن أبى ذرِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " .
قال الأستاذ الإمام رضي الله عنه: أما الورع، فإنه: ترك الشبهات. كذلك قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك مالا يعنيك هو ترك الفضلات.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام " . وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " كن ورعاً تكن أعبد الناس " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، يقول سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السرى يقول: كان أهل الورع في أوقاتهم أربعة: حذيفة المرتعش، ويوسف بن أسباط، وإبراهيم بن أدهم، وسليمان الخواص، فنظروا في الورع فلما ضاقت عليهم الأمور فزعوا إلىالتقلل.
وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت الشبلي يقول: الورع أن تتورَّع عن كلِّ ما سوى الله تعالى.
وسمعته يقول: أخبرنا أبو جعفر الرازيُّ قال: حدثَّنا العباس بن حمزة قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا اسحق بن خلف؛ قال: الورع، المنطق: أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة ك أشد منه في الذهب والفضة، لأنك تبدلهما في طلب الرئاسة.
وقال أبو سليمان الداراني: الورع: أول الزهد، كما أن القناعة: طرف من الرضا.
وقال أبو عثمان: ثواب الورع خفَّة الحساب.
وقال يحيى بن معاذ: الورع: الوقوف على حدِّ العلم من غير تأويل.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت محمد بن داود الدينوري يقول. سمعت عبد الله بن الجَّلاء يقول: أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته، ورشائه، ولم يتناول من طعام جاب من مصر.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت علي بن موسى التاهرتي يقةل: وقع من عبد الله بن مروان فلس في بئر قذرة، فاكترى عليه بثلاثة عشر ديناراً حتى أخرجه، فقيل له في ذلك، فقال: كان عليه اسم الله تعالى.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت بن علوية يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الورع على وجهين: ورع في الظاهر؛ وهو: أن لايتحرك إلا لله تعالى.
وورع في الباطن، وهو: أن لايدخل قلبك سوى الله تعالى: وقال يحيى بن معاذ: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء.
وقيل: من دق في الدين نظره جل في القيامة خطره.
وقال ابن الجلاء: من لم يصحبه التقي في فقره أكل الحرام النص.
وقال يونس بن عبيد: الورع: الخروج عن كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة.
وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع: ماحاك في نفسك تركته، وقال معروف الكرخي: احفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذِّم.
وقال بشر بن الحارث: أشد الأعمال ثلاثة: الجود في القلَّة، والورع في الخلوة، وكلمة الحقِّ عند من يخاف منه ويرجى.
وقيل: جاءت أخت بشر الحافي إلى أحمد بن حنبل وقالت: إنا نغزل على سطوحنا،فتمر بنا مشاعل الظاهرية، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟.
فقال أحمد: من أنت؟ عافاك الله تعالى.
فقالت: أخت بشر الحافي.
فبكي أحمد وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لاتغزلي في شعاعها.
وقال علي العطار: مررت بالبصرة في بعض الشوراع، فإذا مشايخ قعود وصبيان يلعبون، فقلت: أما تستحون من هؤلاء المشايخ؟! فقال صبي من بينهم: هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم.
وقيل: إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة، فلم يصح له أن يأكل شيئاً من تمر البصرة، ولامن رطبها، حتى مات ولم يذقه. وكان إذا انقضى وقت الرطب قال: يا أهل البصرة، هذا بطني ما نقص منه شيء ولا زاد فيكم.
وقيل لإبراهيم بن أدهم: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فقال لو كان لي دلو لشربت منه.
سمعت الأستاذ أبا الدقَّاق يقول: كان الحارث المحاسبي إذا مدَّ يده إلى طعام فيه شبهة ضرب على رأس إصبعه عرق فيعلم إنه غير حلال.
وقال: إن بشراً الحافيَّ دعي إلى دعوة، فوضع بين يديه طعام، فجهد أن يمد يده إليه، فلم تمتد. ففعل ذلك ثلاث مرات. فقال رجل يعرف ذلك منه: إن يده لا تمتد إلى طعام فيه شبهة، ما كان أعنى صاحب هذه الدعوة أن يدعو هذا الشيخ؟!
أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى الصوفي، قال: سمعت عبد الله بن علي ابن يحيى التميمي قال سمعت أحمد بن محمد بن سالم بالبصرة يقول: سئل سهل ابن عبد الله عن الحلال الصافي، فقال: هو الذي لا يعصي الله تعالى فيه.
وقال سهل: الحلال الصافي: الذي لا ينسى الله تعالى فيه.
ودخل الحسن البصري مكة، فرأى غلاماً من أولاد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قد أسند ظهر إلى الكعبة يعظ الناس، فوثب عليه الحسن وقال له: ما ملاك الدين؟ فقال: الورع. فقال له: فما آفة الدين؟ فقال: الطمع. فتعجب الحسن منه.
وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع للسالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
وأوحى الله سبحانه، إلى موسى، عليه الصلاة والسلام: لم يتقرب إلى المتقربون بمثل الورع والزهد.
وقال: أبو هريرة: جلساء الله تعالى غداً: أهل الورع والزهد.
وقال: سهل بن عبد الله: من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل ولم يشبع!! وقيل: حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم، فنبض علي مشامه.
وقال: إنما ينتفع من هذا بربحه، وأناأكره أن أجد ريحه دون المسلمين.
وسئل أبو عثمان الحيري عن الورع، فقال: كان أبو صالح حمدون عند صديق له، وهو في النزع، فمات الرجل، فنفث أبو صالح في السراج، فقيل له في ذلك، فقال: إلى الآن كان الدهن له في المسرجة، ومن الآن صار للورثة. اطلبوا دهنا غيره.
وقال كهمس: أذنبتُ ذنباً أبكي عليه منذ أربعين سنة؛ وذلك: أنه زارني أخُ لي؛ فاشتريت لأجله بدانفق سمكة مشوية، فلما فرغ أخذت قطعة طين من جدار جار لي حتى غسل بها يده ولم أستحله.
وقيل: كان رجل يكتب رقعة، وهو في بيت بكراء، فأراد أن يُترب الكتاب من جدار البيت، فخرط بباله أن البيت بالكراء.. ثم إنه خطر بباله أنه لا خطر لهذا، فترب الكتاب، فسمع هاتفاً يقول: سيعلم المستخف بالتراب ما يلقاه غداً من طول الحساب!! ورهن أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، سٍطلاً له عند بقال بمكة، حرسها الله تعالى، فلما أراد فكاكه أخرج البقال إليه سطلين، وقال: خذ أيهما هو لك.
فقال أحمد أشكل عليَّ سطلي، فهو لك، والدراهم لك.
فقال البقال: سطلك هذا، وأنا أردت أن أجربك.
فقال: لا آخذه. ومضى. وترك السطل عنده.
وقيل: سيب ابن المبارك دابة قيمتها كثيرة، وصلى صلاة الظهر، فرتعت الدابة في زرع قرية سلطانية، فترك ابن المبارك الدابة ولم يركبها.
وقيل: رجع ابن المبارك من مرو إلى الشام في قلم استعاره فلم يرده على صاحبه.
واستأجر النخعي دابة، فسقط سوطه من يده، فنزل، وربط الدابة، رجع فأخذ السوط، فقيل له: لو حولت الدابة إلى الموضع الذي سقط فيه السوط فأخذته كان أسهل لك فقال: إنما استأجرتها لأمضي هكذا.. لا هكذا!! وقال أبو بكر الدقاق: تهت في تيه بني إسرائيل خمسة عشر يوماً.. فلما وافيت الطريق، استقبلني جندي فسقاني شربة من ماء، فعادت قسوتها على قلبي وتألمت ثلاثين سنة.
وقيل: خاطت رابعة العدوية شقاً في قميصها في ضوء مشعلة سلطان، ففقدت قلبها زماناً، حتى تذكرت، فشقت قميصها، فوجدت قلبها.
وروِّي سفيان الثوري في المنام، وله جناحان يطير بهما في الجنة من شجرة إلى شجرة.
فقيل: بم نلت هذا؟: فقال: بالورع.
ووقف حسان بن أبي سنان على أصحاب الحسن، فقال: أي شيء أشد عليكم؟ فقالوا: الورع.
فقال: ولا شيء أخف علي منه.
فقالوا: فكيف؟ فقال: لم أرو من نهركم منذ أربعين سنة.
وكان حسان بن أبي سنان لا ينام مضطجعاً، ولا يأكل سميناً ولا يشرب ماء بارداً ستين سنة، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟. فقال: خيراً، إلا أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها.
وكان لعبد الواحد بن زيد غلام خدمه سنين، وتعبَّد أربعين سنة: وكان في أبتداء أمره كيالاً، فلما مات رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: خيراً، غير أني محبوس عن الجنة، وقد أخرج علي من غبار القفيز الذي اكتلته أربعين قفيزاً.
ومر عيسى ابن مريم؛ عليهما السلامِ بمقبرة، فنادى رجلاً منها، فأحياه الله تعالى: فقال: من أنت؟ فقال كنت حمالاً أنقل للناس، فنقلت لإنسان يوماً حطباً، فكسرت منه خلالاً تخللت به فأنا مطالب به منذ متُّ.
وتكلم أبو سعيد الخراز في الورع.. فمر به عباس بن المهتدي، فقال:
يا أبا سعيد، أما تستحي، تجلس تحت سقف أبي الدوانيق، وتشرب من بركة زبيدة، وتتعامل بالدراهم المزيفة، وتتكلم في الورع؟!
باب الزهد

أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، قال: أخبرنا ابو الحسن عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري ببغداد، قال: حدثنا جعفر بن مجاشع قال: حدثنا زيد بن إسماعيل قال: حدثنا كثير بن هشام قال: حدثنا الحكم ابن هشام، عن يحيى بن سعيد، عن افروة، عن أبي خلاد - وكانت له صحية - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل قد أوتي زهداً في الدنيا، ومنطقاً، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة " .
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم، رحمه الله: اختلف الناس في الزهد، فمنهم من قال: الزهد في الحرام، لأن الحلال مباح من قبل الله تعالى، فإذا أنعم الله على عبده بمال من حلال، وتعبده بالشكر عليه، فتركه له باختياره. لا يقدم على إمساكه له بحق إذنه.
ومنهم من قال: الزهد في الحرام واجب، وفي الحلال فضيلة، فإن إقلال المال - والعبد صابر في حاله، راض بما قسم الله تعالى له، قانع بما يعطيه - أم من توسعه وتبسطه في الدنيا فإن الله تعالى زهد الخلق في الدنيا بقوله: " قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى " : وغير ذلك من الآيات الواردة في ذم الدنيا والتزهيد فيها.
ومنهم من قال: إذا أنفق العبد ماله في الطاعة وعلم من حاله الصبر، وترك التعرض لما نهاه الشرع عنه في حال العسر، فحينئذ يكون زهده في المال الحلال أثم.
ومنهم من قال: ينبغي للعبد أن لا يختار الحلال بتكلفه، ولا طلب الفضول مما لا يحتاج إلريه ويراعي القسمة. فإن رزقه الله، سبحانه وتعالى مالاً من حلال شكره، وإن وقفه الله تعالى، على حد الكفاف لم تكلف في طلب ما هو فضول المال، فالصبر أحسن بصاحب الفقر. والشكر أليق بصاحب المال الحلال.
معنى الزهد وتكلموا في معنى الزهد: فكل نطق عن وقته، وأشار إلى حدِّه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: حدثنا أحمد ابن إسماعيل الأزدي قال: حدثنا عمران بن موسى الإسفنجي قال: حدثنا الدورقي قال: حدثنا وكيع قال: قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا: قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء.
وسمعته يقول: سمعت سعيد بن أحمد يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري السقطي يقول: إن الله سبحانه، سلب الدنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه، وأجرها من قلوب أهل وداده؛ لأنه لم يرضها لهم.
وقيل: الزهد من قوله سبحانه وتعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " .
قالزاهد لا يفرح بموجود من الدنيا، ولا يتأسف على مفقود منها.
وقال أبو عثمان: الزهد: أن تترك الدنيا ثم لاتبالي بمن أخذها.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: الزهد: أن تترك الدنيا كما هي، لاتقول أبني بها رباطاً أو أعمر مسجداً.
وقال يحيى بن معاذ: الزهد: يورث السخاء بالملك، والحب يورث السخاء بالروح، وقال ابن الجلاء: الزهد: هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، لتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها.
وقال ابن خفيف: علامة الزهد: وجود الراحة في الخروج عن الملك.
وقال أيضاً: الزهد: سلو القلب عن الأسباب، وفض الأيدي من الأملاك.
وقيل الزهد: عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: الزاهد: غريب في الدنيا، والعارف غريب في الأخرة.
وقيل: من صدق في زهده أتته الدنيا راغمة.
ولهذا قيل: لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها.
وقال الجنيد: الزهد خلو القلب عمَّا خلت منه اليد.
وقال أبو سليمان الداراني: الصوف علم من أعلم الزهد؛ فلا ينبغي للزاهد أن يلبس صوفاً بثلاثة دراهم، وفي قلبه رغبة خمسة دراهم.
وقد اختلف السلف في الزهد.
فقال سفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وعيسى بن يونس، وغيرهم: الزهد في الدنيا: إنما هو قصر الأمل.
وهذا الذي قالوه يحمل على أنه من أمارات الزهد، والأسباب الباعثة عليه والمعاني الموجبة له.
وقال عبد الله بن المبارك: الزهد: هو الثقة بالله تعالى مع حب الفقر.
وبه قال شقيق البلخي، ويوسف بن أسباط وهذا أيضاً من أمارات الزهد، فإنه لا يقوى العبد على الزهد، إلا بالثقة بالله تعالى.
وقال عبد الواحد بن زيد: الزهد: ترك الدينار والدرهم.
وقال أبو سليمان الدارني: الزهد: ترك ما يشغل عن الله سبحانه وتعالى.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول، وقد سأله رويم عن الزهد، فقال: هو استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب.
وقال سري: لا يطيب عيش الزاهد إذا اشتغل عن نفسه، ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه.
وسئل الجنيد عن الزهد، فقال: خلوُّ اليد من الملك، والقلب من التتبع.
وسئل الشبلي عن الزهد فقال: أن نزهد فيما سوى الله تعالى.
وقال يحيى بن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاثُ خصال: عمل بلا علاقة، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة.
وقال أبو حفص: الزهد لا يكون إلا في الحلال، ولا حلال في الدنيا، فلا زهد.
وقال أبو عثمان: إن الله تعالى يعطي الزاهد فوق ما يريد، ويعطي الراغب دون ما يريد، ويعطي المستقيم موافقة ما يريد.
وقال يحيى بن معاذ: الزاهد يسعطك الخل والخردل، والعارف يشمك المسك والعنبر.
وقال الحسن البصري: الزهد في الدنيا أن تبغض أهلها وتبغض ما فيها:.
وقيل لبعضهم: ما الزهد في الدنيا؟ قال: ترك ما فيها على ما فيها.
وقال رجل لذي النون المصري: متى أزهد في الدنيا؟ فقال: إذا زهدتَ في نفسك.
وقال محمد بن الفضل: إيثار الزهاد عند الاستغناء، وإيثار الفتيان عند الحاجة، قال الله تعالى: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
وقال الكتاني: الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ولا مدني ولا عراقي، ولا شامي: الزهد في الدنيا، وسخاوة النفس، والنصيحة للخلق، يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد إنها غير محمودة.
وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت التوكل، وألبس رداء الزاهدين؟ فقال: إذا صرت من رياضتك في السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك.
فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل، ثم لا آمن عليك أن تفتضح بينهم!! وقال بشكر الحافي: الزهد: ملك لا يسكن إلا في قلب مخلي.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت بن محمد بن الأشعث البيكندي يقول: من تكلم في الزهد، ووعظ الناس، ثم رغب في مالهم، رفع الله تعالى حب الآخرة من قلبه.
وقيل: إذا زهد العبد في النيا وكل الله تعالى به ملكاً يغرس الحكمة في قلبه.
وقيل: لبعضهم: لم زهدت في الدنيا؟ فقال: لزهدها فيَّ.
وقال أ؛مد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام، وهو: زهد العوام: والثاني: ترك الفضول من حلال، وهو: زهد الخواص.
والثالث: ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى، وهو: زهد العارفين.
سمعت الأستاذ أبا علي الدَّقاق، يقول: قيل لبعضهم: لم زهدت في الدنيا؟ قال: لما زهدت في أكثرها أنفت من الرغبة في أقلها.
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا كالعروس المجلوة، ومن يطلبها ما شطتها والزاهد فيها يسخم وجهها، وينتف شعرها، ويحرق ثوبها والعارف مشتغل بالله تعالى، لا يلتفت إليها.
سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت: أبا الطيب السامري يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: مارست كل شيء من أمر الزهد، فنلت منه ما أريد، إلا الزهد في الناس؛ فإني لم أبلغه، ولم أطقه.
وقيل. ما خرج الزاهدون إلا إلى أنفسهم، لأنهم تركوا النعيم الفاني للنعيم الباقي.
وقال النصراباذي: الزاهد حقن دماء الزاهدين،وسفك دماء العارفين.
وقال حاتم الأصم. الزاهد يذيب كيسه قبل نفسه، والمتزاهد يذيب نفسه قبل كيسه.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: حدثنا علي بن الحسين الموصلي قال: حدثنا أحمد بن الحسين قال: حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: جعل الله الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد.
باب الصمت
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدا، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا بشر بن موسى الأسدي قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، عن بن المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن قبة بنع عامر قال: قلت: يارسول الله، ما النجاة؟ قال: " احفظ عليك لسانك، وليسعك بيتك، وأبك على خطيئتك " .
قال الأستاذ، رحمه الل: الصمت سلامة، وهو الأصل. وعليه ندامة إذا ورد عنه الزجر فالواجب: أن يعتبر فيه الشرع، والأمر والنهي.
والسكوت في وقته: صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس.
والصمت: من آداب الحضرة، قال الله تعالى: " وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون " .
وقال تعالى - خبراً عن الجن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم - : " فلما حضروه قالوا أنصتوا.. " .
وقال تعالى: " وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً " .
وكم ببن عبد يسكت تصاوناً عن الكذب والغيبة. وبين عبد يسكت لاستيلاء سلطان الهيبة عليه. وفي معناه أنشدوا:
أفكر ما أقول إذا افترقنا ... وأحكم دائباً حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا ... فانطق، حين أنطق، بالمحال
وأنشدوا:
فياليل كم من حاجة له مهمة ... إذا جئتكم لم أدر ياليل ماهيا
وأنشدوا:
وكم حديث لك حتى إذا ... مكنت من لقياك أنسيته
وأنشدوا:
رأيتك الكلام يزين الفتى ... والصمتُخير لمن قد صمت
فكم من حروف تجر الحتوف ... ومن ناطق ود أن لو سكت
والسكوت على قسمين: سكوت بالظاهر، وسكوت بالقلب والضمائر.
فالمتوكل: يسكت قلبه عن تقاضي الأرزاق.
والعارف: يسكت قلبه مقابلة للحكم بنعت الوفاق.
فهذا بجميل صنعه واثق، وهذا بجميع حكمه قانع.
وفي معناه قالوا:
تجري عليك صروفه ... وهموم سرك مطرقة
وربما يكون سبب السكوت حيرة البديهة؛ فإنه إذا ورد كشف عن وصف البغتة خرست العبارات عند ذلك، فلا بيان، ولا نطق. وطمست الشواهد هنالك، فلا علم، ولا حس.
وقال الله تعالى: " يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا لا علم لنا " .
فأما إيثار أرباب المجاهدة السكوت: فلما علموا ما في الكلام من الآفات؛ ثم ما فيه من حظ النفس، وإظهار صفات المدح، والميل إلى أن يتميز بين أشكاله بحسن النطق، وغير هذا من آفات في الخلق، وذلك يتميز بين نعت أرباب الرياضات، وهوأحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق.
وقيل: إن داود الطائي، لما أراد أن يعقد في بيته اعتقد أن يحضر مجالس أبي حنيفة، رحمه الله، إذ كان تلميذاً له، ويقعد بين أقرانه من العلماء، ولا يتكلم في مسألة، فلما قوَّي نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة، قعد في بيته عند ذلك وآثر العزلة.
وكان عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، إذا كتب كتاباً واستحسن لفظه مزق الكتاب وغيره.
سمعت الشيخ أبا عب الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: أخبرنا عبد الله بن محمد الرازي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن إسحق السراج قال: سمعت أحمد بن الفتح يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم.
وقال سهل بن عبد الله: لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه للخلوة، ولا تصح له التوبة حتى يلزم نفسه الصمت.
وقال أبو بكر الفارسي: من لم يكن الصمت وطنه فوفي الفضول ون كان صامتاً.. والصمت ليس بمخصوص على اللسان، لكنه على القلب والجوارح كلها.
وقال بعضهم: من لم يستغنم السكوت فإذا نطق نطق بلغو.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت ممشاد الدينوري يقول: الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت والتفكر.
وسئل أبو بكر الفارسي عن صمت السر فقال: ترك الاشتغال بالماضي والمستقبل.
وقال أبو بكر الفارسي: إذا كان العبد ناطقاً فيما يعنيه، وفيما لابد منه، فهو في حد الصمت.
روي عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، أنه قال: كلم الناس قليلاً، وكلم ربك كثيراً؛ لعل قلبك يرى الله تعالى.
وقيل لذي النون المصري: من أصون الناس لقلبه؟. قال: أهلكم للسانه.
وقال ابن مسعود: ما من شيء يطول السجن أحق من اللسان.
وقال علي بن بكار: جعل الله تعالى لكل شيء بابين، وجعل للسان أربعة أبواب: فالشفتان مصراعان، والأسنان مصراعان.
وقيل: إن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، كان يمسك في فيه حجراً كذا كذا سنة؛ ليقل كلامه.
وقيل: إن أبا حمزة البغدادي، رحمه الله، كان حسن الكلام، فهتف به هاتف، فقال له: تكلمت فأحسنت، بقي أن تسكت فتحسن؟ فما تكلمَّ بعد ذلك حتى مات قريباً من هذه الحالة على رأس اسبوع، أو أقلَّ، أو أكثر.
وربما يكون السكوت يقع على المتكلم تأديباً له، لأنه أساء أدبه في شيء.
كان الشبلي إذا قعد في حلقته، ولا يسألونه، يقول: " ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون " .
وربماَّ يقع السكوت على المتكلم، لأن في القوم من هو أولى منه بالكلام.
سمعت أبن السماك يقول: كان بين شاه الكرماني، ويحيى بن معاذ صداقة، فجمعهما بلد، فكان شاه لا يحضر مجلسه، فقيل له في ذلك: فقال: الصواب هذا. فما زالوا به حتى حضر يوماً مجلسه، وقعد ناحية لا يشعر به يحيى بن معاذ، فلما أخذ يحيى في الكلام سكت، ثم قال: ها هنا من هو أولى بالكلام مني، وارتج عليه فقال شاة: قلت لكم الصواب أن لا أحضرُ مجلسه.
وربمَّا يقع السكوت على المتكلم لمعنى في الحاضرين، وهو أنه يكون هناك من ليس بأهل لسماع ذلك الكلام فيصون الله تعالى لسان المتكلم غيرة وصيانة لذلك الكلام عن غير أهله.
وربما كان سبب السكوت الذي يقع على المتكلم: أن بعض الحاضرين كان معلومُ الله تعالى من حاله أنه يسمع ذلك الكلام، فيكون فتنة له، إما لتوهمه أنه وقته ولا يكون، أو لأنه يحملِّ نفسه مالا يطيق فيرحمه الله، عزَّ وجلَّ، بأن يحفظ سمعه عن ذلك الكلام، إما صيانة له، أو عصمة عن غلطة.
وقال مشايخ هذه الطريقة.
ربما يكون السبب فيه حضور من ليس بأهل لسماعه من الجن، إذ لا تخلو مجالس القوم من حضور جماعة من الجن.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: اعتللت مرة بمرو فاشتقت أن أرجع إلى نيسابور. فريت في المنام. كأن قائلاً يقول لي: لا يمكنك أن تخرج من هذا البلد، فإن جماعة من الجن قد استحلوا كلامك، ويحضرون مجلسك، فلأجلهم تجلس هاهنا.
وقال بعض الحكماء: إنما خلق للإنسان لسان واحد، وعينان، وأذنان، ليسمع ويبصر أكثر مما يقول.
ودعي إبراهيم بن أدهم إلى دعوة؛ فلما جلس أخذوا في الغيبة، فقال: فقال: عندنا يؤكل اللحم بعد الخبز، وأنتم ابتدأتم بأكل اللحم؟ أشار إلى قوله تعالى: " أيجب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً، فكرهتموه " .
وقال بعضهم: الصمت، لسان الحْلم.
وقال بعضهم: تعلمَّ الصمت، كما تتعلم الكلام؛ فإن كان الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك.
وقيل: عفة اللسان صمته.
وقيل: مثل اللسان مثل السبع إن لم تُوثقه عدا عليك: وسئل أبو حفص: أيُّ الحالين للوليِّ أفضل؟ الصمت، أو النطق؟ فقال: لو علم الناطق ما آفة النطق لصمت إن استطاع عمرَ نوح، ولو علم الصامت ما آفة الصمت لسأل الله تعالى، ضعفي عمر نوح حتى ينطق.
وقيل: صمت العوامِّ بألسنتهم، وصمت العارفين بقلوبهم، وصمت المحبين بالتحفظ من خواطر اسرارهم.
وقيل لبعضهم: تكلمَّ فقال: ليس لي لسان فأتكلمَّ.
فقيل له: اسمع، فقال: ليس فيَّ مكان فأسمع.
وقال بعضهم: مكثت ثلاثين سنة لا يسمع قلبي إلا من لساني.
وقال بعضه: لو أسكت لسانك لم تنج من كلام قلبك، ولو صرت رميماً لم تتخلص من حديث نفسك، ولو جهدت كلَّ الجهد لم تكلمك روحك، لأنها كاتمة للسر.
وقيل: لسان الجاهل مفتاح حتفه.
وقيل: المحب: إذا سكت هلك، والعارف إذا سكت ملك سمعت محمد بن الحسين، يقول سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت محمد بن نصر الصائغ يقول: سمعت مردوية الصائغ يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.
باب الخوف
قال الله تعالى: " يدعون ربهم خوفا وطعما " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن دلوية الدقاق قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: حدثنا عامر بن أبى الفرات قال:حدثنا المسعودي، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريره قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى، حتى يلج اللبن في الضرع. ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري عبد أبداً.
حدثنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم المهرجاني قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن الحسن بن الشرفي، قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان بن الشرفي، قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلملضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً " .
قلت الخوف: معنى متعلقة في المستقبل، لأنه نما يخاف أن يحلَّ به مكروه، أو يفوته محبوب. ولا يكون إلا لشيء يحصل في المستقبل.
فأمَّا ما يكون في الحال موجوداً، فالخوف لا يتعلق به.
والخوف من الله تعالى، هو: أن يخاف أن يعاقبه الله تعالى إمَّا في الدنيا، وإما في الآخرة.
وقد فرض الله، سبحانه، على العباد أن يخافوه، فقال تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الخوف علي مراتب: الخوف، والخشية، والهيبة.
فالخوف من شرط الإيمان وقضيته. قال الله تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الخوف على مراتب: الخوف، والخشية، والهيبة.
فالخوف من شرط الإيمان وقضيته: قال الله تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
والخشية من شرط العلم، قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " والهيبة من شرط المعرفة، قال الله تعالى: " ويحذركم الله نفسه " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله؛ يقول: سمعت محمد ابن علي الحيري يقول: سمعت محفوظاً يقول: سمعت أبا حفص يقول: الخوف سوْط الله يقوّم به الشاردين عن بابه.
وقال أبو القاسم الحكيم: الخوف على ضربين: رهبة، وخشية.
فصاحب الرهبة يلتجىء إلى الهرب ذا خاف، وصاحب الخشية يلتجىء إلى الرب.
قال رحمه الله: ورهب، وهرب؛ يصح أنا يقال: أنهما واحد معنى، مثل: جذب، وجبذ.
فإذا هرب أنجذب في مقتضى هواه، كالرهبان الذين اتبعوا أهوائهم فإذا كبحهم لجام العلم وقاموا بحق الشرع، فهو الخشية.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: سمعت أبا حفص يقول: الخوف، سراج القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله. يقول: الخوف ألاَّ تعلل نفسك بعسى وسوف.
سمعت محمد بن الحسين. يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت أبا عمر الدمشقي يقول: الخوف، سراج القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله. يقول: الخوف ألاَّ تعلل نفسك بعسى وسوف.
سمعت محمد بن الحسين. يقول:سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت أبا عمر الدمشقي يقول: الخائف، من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان.
وقال ابن الجلاء: الخائف، من تؤمنه المخوفات.
وقيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف من يترك ما يخف أن يعذب عليه.
وقيل للفضيل، مالنا لا نرى خائفاً؟ فقال: لو كنتم خائفين لرأيتم الخائفين، إن الخائف لايراه إلا الخائفون، وإن الثكلى، هي التي تحب أن ترى الثكلى.
وقال يحيى بن معاذ: مسكين ابن آدم، لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لدخل الجنة.
وقال شاء الكرماني: علامة الخوف: الحزن الدائم.
وقال أبو القاسم الحكيم: من خاف من شيء هرب منه، ومن خاف من الله عزَّ وجل هرب إليه.
وسئل ذو النون المصرين رحمه الله، متى يتيسر على العبد سبيل الخوف؟ فقال: إذا أنزل نفسه منزلة السقيم، يحتمى من كل شيء؛ مخافة طول السقام.
وقالبشر الحافي: الخوف من الله ملك لايسكن إلا في قلب متق.
وقال أبو عثمان الحيري: عيب الخائف في خوفه السكون إلى خوفه لأنه أمر خفى.
وقال الواسطي: الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد.
وهذا اللفظ فيه إشكال ومعناه: أن الخائف متطلع لوقت ثان. وأبناء الوقت لاتطلع لهم في المستقبل، وحسنات الابرار سيئات المقربين.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن النهاوندي يقول: سمعت ابن فانك يقول: سمعت النوري يقول: " الخائف يهرب من ربه إلى ربه " .
وقال بعضهم: علامة الخوف، التحير والوقوف على باب الغيب: سمعت ابا عبد الله الصوفي يقول: سمعت على بن إبراهيم العكبري يقول: سمعت الجنيد وقد سئل عن الخوف، فقال: هو توقع العقوبة مع مجاري الأنفاس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين ابن أحمد الصفار يقول: سمعت محمد بن المسيب يقول: سمعت هاشم بن خالد يقول:سمعت أبا سليمان الدارانى يقول: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن يقول: سمعت أبا عثمان يقول: صدق الخوف، هو الورع عن الآثام ظاهراً وباطناً.
وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق.
وقال حاتم الأصم: لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف، وعلامة الخوف قصر الأمل.
وقال رجل لبشر الحافي: أراك تخاف الموت!! فقال: القدوم على الله، عز وجل شديد سمعت الأستاذ أبا على الدقاق، يقول: دخلت على الإمام أبى بكر ابن فورك عائداً، فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له: إن شاء الله تعالى يعافيك ويشفيك.
فقال لي: تراني أخاف من الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت!! أخبرنا عن بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن عثمان قال: حدثنا القاسم بن محمد قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن مالك بن مغول، عن عبد الرحمن بن سعيد بن موهب، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله: الذين يؤتون ما آتوا: وقلوبهم وجلة، أو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا: ولكن الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه.
وقال ابن المبارك: رحمه الله: الذي يهيج الخوف حتى يسكن في القلب دوامُ المراقبة في السرِّر والعلانية.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول سمعت أبا القاسم بن أبي موسى يقول: سمعت محمد بن أحمد: قال: حدثنا علي الرازي قال: سمعت ابن المبارك: رحمه الله يقول ذلك.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منه، وطرد رغبة الدنيا عنه.
وقيل، الخوف، قوَّة العلم بمجاري الأحكام.
وقيل: الخوف، حركة القلب من جلال الربِّ.
وقال أبو سليمان الداراني، ينبغي للقلب أن لا يكون الغالب عليه إلا الخوف، فنه إذا غلب الرجاء على القلب فسد القلب.
ثم قال: يا أحمد، بالخوف ارتفعوا، فإن ضيعوه نزلوا.
وقال الواسطي، الخوف؛ والرجاء، زمامان على النفوس، لئلا، تخرج إلى رعوناتها.
وقال الواسطي: إذا ظهر الحق على السرائر، لا يبقي فيها فضلة لرجاء ولا لخوف.
قال الأستاذ أبو القاسم: وهذا فيه إشكال. ومعناه: إذا اصطلت شواهد الحق، تعالى، الأسرار ملكتها، فلا يبقى فيها مساغ لذكر حدثان، والخوف والرجاء من آثار بقاء الإحساس بأحكام البشرية.
وقال الحسين بن منصور: من خاف من شيء سوى الله عزَّ وجل أو رجا سواه أغلق عليه ابواب كل شيءن وسلط عليه المخافة؛ وحجبه بسبعين حجاباً أيسرها الشك، وإن مما أوجب شدة خوفهم، فكرهم في العواقب، وخشية تغير أحوالهم، قال الله تعالى: " وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " وقال الله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " .
فكم منمغبوط في أ؛واله أنعكست عليه الحال، ومني بمقارنة قبيع الآفعال، فبدل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة..
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، ينشد كثيراً:
أحسن ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
سمعت منصو بن خلف المغربي يقول:
كان رجلان اصحطبا في الإراجة برهة من الزمان.. ثم إن أ؛دهما سافر، وفارق صاحبه.. وني عليه مدة من الزمان ولم يسمع منه خبراً.. فبينا هذا الآخر كان في غزاة يقاتل عسكر الروم إذ خرج على المسلمين رجل مقنع في السلاح، يطلب المبارزة.. فخرج إليه من أبطال المسلمين واحد، فقتله الرومي.. ثم خرج آخر فقتله.. ثم ثالث فقتله، فخرج إليه هذا الصوفي.. وتطاردا، فحسر الرومي عن وجهه، فإذا هو صاحبه الذي صحبه في الإرادة والعبادة سنين.
فقال هذا له: إيش الخبر؟ فقال: نه ارتد.. وخالط القوم.. وولد له أولاد.. واجتمع له مال.
فقال له: لا أذكر منه حرفاً.
فقال له هذا الصوفي: لا تفعل، وارجع، فقال: لا أفعل، فلي فيهم جاه ومال، فانصرف أنت عني، وإلا لأفعلن بك ما فعلت بأولئك.
فقال له الصوفي: أعلم أنك قتلت ثلاثة من المسلمين، وليس عليك أنفه في الانصراف، فانصرف أنت وأنا أمهلك.
فرجع الرجل مولياً: فتبعه هذا الصوفي، وطعنه، فقتله.
فبعد تلك المجاهدات، ومقاساة تلك الرياضات، قتل على النصرانية.
وقيل: لما ظهر على إبليس ما ظهر، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان زماناً طويلاً، فأوحى الله تعالى، إليهما: ما لكما تبكيان كل هذا البكاء؟ فقالا: يا ربنا، لا نأمن مكرك.
فقال الله تعالى: هكذا كونا، لا تأمنا مكري.
ويحكي عن السري السقطي أنه قال: ني لأنظر إلى أنفي في اليوم كذا مرة؛ مخافة أن يكون قد أسود، لما أخافه من العقوبة!! وقال أبو حفص: منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي، أن الله؛ تعالى: ينظر إلي نظر السخط، وأعمالي تدل على ذلك.
وقال حاتم الأصم: لا تغتر بموضع صالح؛ فلا مكان أصلح من الجنة، فلقي آدم، عليه السلام فيها ما لقي!! ولا تغتر بكثرة العبادة؛ فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي!! ولا تغتر بكثرة العلم؛ فإن بلعام كان يحسن أسم الله الأعظم؛ فأنظر ماذا لقي!! ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر قدراً من المصطفى؛ صلى الله عليه وسلم؛ ولم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه.
وخرج ابن المبارك يوماً على أصحابه فقال: إني قد أجترأت الباحرة على الله عز وجل: سألته الجنة.
وقيل: خرج عيسى عليه السلام، ومعه صالح من صالحي بني إسرائيل فتبعهما رجل خاطىء مشهور بالفسق فيهم، فقعد منتبذاً عنهما منكسراً، فدعا الله سبحانه وقال اللهم اغفر لي.
ودعا هذا الصالح وقال: اللهم لا تجمع غداً بيني وبين ذلك العاصي.
فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: أني قد استجبت دعاءهما جميعاً، رددت ذلك الصالح، وغفرت لذلك المجرم.
وقال ذو النون المصري: قلت لعليم. لم سميت مجنوناً؟ قال: لما طال حبسي عنه صرت مجنوناً لخوف فراقه في الآخرة.
وفي معناه أنشدوا:
لو أن مابي على صخر لأنحله ... فكيف يحمله خلق من الطين؟
وقال بعضهم، ما رأيت رجلاً أعظم رجاء لهذه الأمة، ولا أشد خوفاً على نفسه، من ابن سيرين.
وقيل، مرض سفيان الثوري، فعُرض دليله على الطبيب؛ فقال: هذا رجل قطع الخوف كبده.
ثم جاء وجسَّ عِرقه، ثم قال: ما علمت أنَّ في الحنيفية مثله.
وسئل الشبلي: لم تصفر الشمس عند الغروب؟ فقال: لأنها عُزلت عن مكان التمام: فاصغَّرت لخوف المقام.
وكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفر لونه، لأنه بعث من خرج ووجهه يشرق.
ويحكى عن أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، أنه قال: سألت ربي، عز وجلَّ، أن يفتح علي باباً من الخوف، ففتح، فخفت على عقلي، فقلت، يا ربِّ، أعطني على قدر ما أطيق، فسكنَّ ذلك عني.
باب الرجاء

قال الله تعالى: " من كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثن عمرو بن مسلم الثقفي قال: حدثنا الحسن بن خالد قال: حدثنا العلاء بن زيد، قال: دخلت على مالك بن دينار، فرأيت عنده شهر بن حوشب فلما خرجنا من عنده، قلت لشهر: يرحمك الله تعالى، زوِّدني، زودك الله تعالى.
فقال: نعم، حدثتني عمتي أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن نبي الله، صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، قال: " قال ربكم عزوجل: عبيد، ما عبدتني ورجوتني ولم تشرك بي شيئاً غفرت لك على ما كان منك، ولو استقبلتني بملء الأرض خطايا وذنوباً، استقبلتك بمثلها مغفرة، فأغفر لك ولا أبالي " .
أخبرنا علي بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا بشر بن موسى، قال: حدثنا خلف بن الوليد، قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال: حدثنا أبو سفيان طريف، عن عبد الله بن الحارث، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى يوم القيامة: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة شعير من إيمان ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ثم يقول: وعزتي وجلالي لا أجعل من آمن بي ساعة من ليل أو نهار كمن لم يؤمن بي " .
الرَّجاء: تعلق القلب بمحبوب سيحصل في المستقبل.
وكما أن الخوف يقع في مستقبل الزمان، فكذلك الرجاء يحصل لما يؤمل في الاستقبال والرجاء عيش القلوب، واستقلالها.
والفرق بين الرجاء، وبين التمني، أن التمني: يورث صاحبه الكسل، ولا يسلك طريق الجهد والجد، وبعكسه صاحب الرجاء، فالرجاء محمود، والنمن معلول.
وتكلموا في الرجاء، فقال شاه الكرماني: علامة الرجاء: حسن الطاعة.
وقال ابن خبيق: الرجاء ثلاثة: وقال ابن خبيق: الرجاء ثلاثة: رجل عمل حسنة: فهو يرجو قبولها.
ورجل عمل سيئة: ثم تاب: فهو يرجو المغفرة.
والثالث الرجل الكاذب: يتمادى في الذنوب: ويقول أرجو المغفرة.
ومن عرف نفسه بالإساءة ينبغي أن يكون خوفه غالباً على رجائه.
وقيل الرجاء: ثقة الجود من الكريم الودود.
وقيل: الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال.
وقيل: هو قرب القلب من ملاطفة الرب.
وقيل: سرور الفؤاد بحسن المعاد.
وقيل: هو النظر إلى سعة رحمة الله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي: رحمه الله: يقول: سمعت منصور ابن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: الخوف، والرجاء، هما كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقض أحدهما وقع فيه النقص: وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت ابن أبي حاتم يقول سمعت علي بن شهمرذان يقول: قال أحمد بن عاصم الانطاكي، وسئل ما علامة الرجاء في العبد؟ قال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر، راجياً لتمام النعمة من الله تعالى في الدنيا، وتمام عفوه في الآخرة.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: الرجاء: استبشار بوجود فضله.
وقال ارتياح القلوب لرؤية كرم المرجو المحبوب.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من حمل نفسه على الرجاء تعطل، ومن حمل نفسه على الخوف قنط ولكن من هذه مرة، ومن هذه مرة.
وسمعته يقول: حدثنا أبو العباس البغدادي قال: حدثنا الحسن بن صفوان قال: حدثنا ابن ابي الدنيا، قال: حدثت عن بكر بن سليم الصواف، قال: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها، فقلنا. يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ فقال: ما أدري ما أقول لكم؛ غير أنكم ستعاينون من عفو الله تعالى، ما لم يكن في حساب، ثم ما برحنا حتى أغمضناه.
وقال يحيى بن معاذ: يكاد رجائي لك مع الذنوب، يغلب رجائي لك مع الأعمال؛ لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف!! وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف.
وكلموا ذا النون المصري، وهو في النزع، فقال لا تشغلوني؟ فقد تعجبت من كثرة لطف الله تعالى معي.
وقال يحيى بن معاذ: إلهي، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحبُّ الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك.
وفي بعض التفاسير: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أصحابه، من باب بني شيبة، فرآهم يضحكون فقال: أتضحكون؟ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً " ثم مرَّ، ثم رجع القهقرى، وقال: نزل عليَّ جبريل، عليه السلام، وأتى بقوله تعالى: " نبىء عبادي ني أنا الغفور الرحيم " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي قال: حدثنا أبو الحسن الصفار قال: حدثنا عباس بن تميم قال: حدثنا يحيى بن أيوب قال: حدثنا مسلم بن سالم قال: حدثنا خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى ليضحك من يأس العباد وقنوطهم وقرب الرحمة منهم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، أويضحك ربنا عز وجل؟ فقال: " والذي نفسي بيده إنه ليضحك، فقالت: لا يعدمنا خيراً إذا ضحك " .
وأعلم أن الضحك في وصفه من صفات فعله، وهو إظهار فضله، كما يقال: ضحكت الأرض بالنَّبات وضحكه من قنوطهم إظهار تحقيق فضله الذي هو ضعف انتظارهم له.
وقيل: ن مجوسياً استضاف إبراهيم الخليل، عليه السلام، فقال له: إن أسلمت أضفتك فقال المجوسي: إذا أسلمت فأي مِنَّة تكون لك عليَّ؟ فمرَّ المجوسي، فأوحى الله تعالى إلى إبراهيم، عليه السلام: يا إبراهيم، لم تطعمه إلا بتغييره دينه؟! ونحن منذ سبعين سنة نطعمه على كفره، فلوأضفته ليلة ماذا عليك؟ فمرَّ إبراهيم، عليه السلام، خلف المجوسيِّ، وأضافه، فقال له المجوسيُّ: أي شيء كان السبب في الذي بدالك؟ فذكر له ذلك، فقال له المجوسي: أهكذا يعاملني؟ ثم قال: أعْرض عليَّ الإسلام فأسلم: سمعت الشيخ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: رى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي، رحمه الله، أبا سهل الزَّجاج في النوم، وكان يقول بوعيد الأبد، فقال له: كيف حالك؟ فقال وجدنا الأمر أسهل مما توهمنا.
سمعت أبا بكر بن أشكيب يقول: رأيت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف، فقلت له. يا أستاذ، بم نلت هذا؟، فقال: بحسن ظنيِّ برِّبي.
ورؤى مالك بن دينار في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك.
قال: قدمت على ربي، عزَّ وجلَّ، بذنوب كثيرة محاها عنّي عن حسن ظني به تعالى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " يقول الله عز وجل، أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ هو خير منه، وإن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إليَّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " .
أخبرنا بذلك أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الأسفرايني قال: أخبرنا يعقوب بن إسحق قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا أبو معاوية ومحمد أبن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك.
وقيل: كان ابن المبارك يقاتل علْجاً مرة فدخل وقت صلاة العلاج، فاستمهله، فأمهله.
فلما سجد للشمس: أراد ابن المبارك أن يضربه بسيفه، فسمع من الهواء قائلا يقول: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " ، فأمسك. فلما سلم المجوسي، قال له: لِمَ أمسكت عما هممت َبه؟ فذكر له ما سمع، فقال له المجوسي: نعم الرب رب يعاتب وليه في عدوِّه. فأسلم وحسن إسلامه.
وقيل: إنما أوقعهم في الذنب حين سمى نفسه عفواً.
وقيل: لو قال لا أغفر الذنوب، لُم يذنب مسلم قط، - كما أنه لم قال: " إن الله لا يغفر أن يشرك به " " لم يُشرك مسلم قطّ " ، ولكن لما قال: " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " طمعوا في مغفرته.
ويحكي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال: كنت أنتظر مدة من الزمن أن يخلو المطاف لي، فكانت ليلة ظلماء، فيها مطر شديد، فخلا المطاب؛ فدخلت للطواف، وكنت أقول فيه: اللهم أعصمني، اللهم أعصمني، فسمعت هاتفاً يقول لي: يا ابن أدهم، أنت تسألني العصمة، وكل الناس يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم فمن أرحم.
وقيل: رأى أبو العباس بن شربح، في منامه في مرض موته، كأن القيامة قد قامت، وإذا الجبار، سبحانه، يقول: أين العلماء؟. قال: فجاءوه. ثم قال: ماذا عملتم فيما علمتم؟ قال فقلنا: يا رب، قصرنا، وأسأنا.
قال: فأعاد السؤال، كأنه لم يرض به، وأراد جواباً آخر.
فقلت: أما أنا، فليس في صحيفتي الشرك، وقد وعدت أن تغفر ما دون.
فقال: إذهبوا فقد غفرت لكم، ومات بعد ذلك بثلاث ليال.
وقيل: كان رجل شرِّيب، جمع قوماً من ندمائه، ودفع إلى غلام أربعة دراهم، وأمره أن يشتري بها شيئاً من الفواكه للمجلس، فمر الغلام بباب مجلس منصور بن عمَّار وهو يسأل لفقير شيئاً، ويقول: من دفع أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات.
قال: فدفع له الغلام الدراهم، فقال منصور: ما الذي تريد أن أدعو لك به؟ فقال: لي سيد أريد أن أتخلص منه! فدعا لي منصور بذلك، وقال: ما الأخرى، فقال: أن يخلف الله، تعالى: عليَّ دراهمي.
فدعا لي بذلك. ثم قال: وما الأخرى: فقال: أن يتوب الله على سيدي فدعاقال: وما الأخرى؟ فقال: أن يغفر الله لي ولسيدي، ولك، وللقوم فدعا، منصور بذلك.
فرجع الغلام إلى سيده، فقال له: لم أبطأت؟ فقصَّ عليه القصة فقال له: وبم دعا؟ فقال: سالت لنفسي العتق فقال: اذهب، فأنت حر وما الثاني؟ فقال: أن يخلف الله عليَّ الدراهم، فقال: لك أربعة آلاف درهم. فقال: وما الثالث؟ فقال: أن يتوب الله عليك فقال: تبت إلى الله تعالى، فقال: وما الرابع؟فقال: أن يغفر الله تعالى لك ولي وللقوم وللذكر، فقال: هذا الواحد ليس إلي، فلما بات، رأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أنت فعلت ما كان إليك تراني لاأفعل ما إلي!! قد غفرت لك، وللغلام ولمنصور بن عمار، وللقوم الحاضرين.
وقيل: حج رباح القيسي حجات كثيرة، فقال يوماً - وقد وقف تحت الميزاب.
إلهي وهبت من حجاتي كذا وكذا للرسول صلى الله عليه وسلم وعشرة منها لأصحابه العشرة، وثنتين لوالدي، والباقي للمسلمين.
ولم يحبس منها شيئاً لنفسه: فسمع هاتفاً يقول: هوذا يتسخى علينا؛ لأغفرن لك. ولأبويك، ولمن شهد شهادة الحق.
وروي عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي أنه قال: رأيت جنازة يحملها ثلاثة من الرجال وامرأة، قال فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة، فصلينا عليها، ودفناها، فقلت للمرأة، من كان هذا منك؟ فقالت: ابني قلت: أو لم يكن لك جيران؟ قالت: نعم، ولكنهم سغروا أمره.
فقلت: وإيش كان هذا؟ فقالت: مخنثاً؟ قال: فرحمتها: وذهبت بها إلى منزلي، وأعطيتها دراهم، وحنطة، وثياباً.
ونمت تلك الليلة، فرأيت كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر، وعليه ثياب بيض فجعل يتشكر لي، فقلت من أنت؟ فقال: المخنث، الذي دفنتموني اليوم، رحمني ربي باحتقار الناس إياي.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: مر أبو عمر البيكندي يوماً بسكة، فرأى قوماً أرادوا إخراج شاب من المحلة، لفساده، وامرأة تبكي، قيل إنها أمه، فرحمها أبو عمر فتشفع له إليهم وقال: هبوه مني هذه المرة، فإن عاد إلى فساده فشأنكم فوهبوه منه، فمضى أبوعمرو، فلما كان بعد أيام، اجتاز بتلك السكة، فسمع بكاء العجوز من وراء ذلك الباب، فقال في نفسه: لعل الشاب عاد إلى فساده، فنفي من المحلة.
فدق عليها الباب، وسألها عن حال الشاب؛ فخرجت العجوز وقالت له: إنه مات.
فسألها عن حاله، فقالت، لما قرب أجل، قال: لا تخبري الجيران بموتي، فلقد آذيتهم، وإنهم يشتمون في، ولا يحضرون جنازتي، وإذا دفنتني، فهذا خاتم لي مكتوب عليه " بسم الله " فادفنيه معي، فإذا فرغت من دفني فتشفعي لي إلى ربي عزَّ وجل.
قالت: ففعلت وصيته. فلما انصرفت عن رأس قبره، سمعت صوته يقول: انصرفي يا أماه؛ قدمت على رب كريم.
وقيل: أوحى الله، تعالى، إلى داود، عليه السلام: قل لهم: " إني لم أخلقهم لأربح عليهم، وإنما خلقتهم، ليربحوا علي " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت إبراهيم الأطروش يقول: كنا قعوداً ببغداد، مع معروف الكرخي؛ على الدجلة، إذ مر بنا قوم أحداث في زورق، يضربون بالدف ويشربون، ويلعبون، فقلنا لمروف: أما تراهم كيف يعصون الله تعالى؟ أدع الله عليهم: فرفع يده وقال: إلهي كما فرحتهم في الدنيا ففرحهم في الآخرة.
فقالوا: إنما سألناك أن تدعو عليهم!! فقال: إذا فرحهم في الآخرة فقد تاب عليهم.
سمعت أبا الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد المزكي؛ قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الاديب، قال: حدثنا الفضل بن صدقة قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد، قال:
كان يحيى بن أكثم القاضي صديقاً لي، وكان بودني ووده، فمات معي، فكنت أشتهي أن أراه في المنام، فأقول له: ما فعل الله تعالى بك، فرأيته ليلة في المنام فقلت ما فعل الله تعالى بك؟ قال: غفر لي، إلا أنه وبخني، ثم قال لي: يا يحيى، خلطت علي في دار الدنيا.
فقلت: أي ربي، إتكلت على حديث حدثنيه أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك قلت، " إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار " فقال: قد عفوت عنك يا يحيى وصدق نبيي، إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا.
باب الحزن

قال الله تعالى: " وقالوا الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا علي بن جيش قال: حدثنا أحمد بن عيسى قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت عطاء بن يسار قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من شيء يصيب العبد المؤمن، من وصب، أو نصب، أو حزن، أو ألم يهمه إلا كفر الله تعالى عنه من سيئاته " .
الحزن: حال يقبض القلب عن التفرق في أودية الغفلة.
والحزن من أوصاف أهل السلوك.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر مالا يقطعه من فقد حزنه سنين، وفي الخبر: " إن الله يحبُّ كل قلب حزين " .
وفي التوراة: " إذا أحب الله عبداً جعل في قلبه نائحة، وإذا بغض عبداً جعل في قلبه مزماراً " .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متواصل الأحزان دائم الفكر.
وقال بشر بن الحارث.
الحزن ملك، فإذا سكن في موضع لم يرض أن يساكنه أحد.
وقيل: القلب إذا لم يكن فيه حُزن خرب، كما أنَّ الدار إذا لم يكن فيها ساكن تخرب.
وقال أبو سعيد القرشي: بكاء الحزن يعمى، وبكاء الشوق يعشي البصر ولا يعمي: قال الله تعالى: " وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " .
وقال ابن خفيف: الحزن: حصر النفس عن النهوض في الطرب.
وسمعت رابعة العدوية رجلاً يقول: واحزناه! فقالت: قل: واقلة حزناه، لو كنت محزوناً لم يتهيأ لكن أن تتنفس.
وقال سفيان بن عيينه: لو أن محزوناً بكى في أمَّة لرحم الله تعالى تلك الأمَّة ببكائه.
وكان داود الطائي الغالب عليه الحزن، وكان يقول بالليل: إلهي، همك عطل على الهموم، وحال بيني وبين الرقاد.
وكان يقول: " كيف يتسلى من الحزن من تتجدد عليه المصائب في كل وقت؟ " .
وقيل: الحزن: يمنع من الطعام، والخوف: يمنع من الذنوب.
وسئل بعضهم: بم يستدل على حزن الرجل؟ فقال: بكثرة أنينه.
وقال سري السقطي: وددت أن حزن كل الناس ألقي علي.
وتكلم الناس في الحزن، فكلهم قالوا: إنما يحمد حزن الآخرة، وأما حزن الدنيا فغير محمود، إلا أبا عثمان الحيري، فإنه قال: الحزن بكل وجه فضيلة، وزيادة للمؤمن، ما لم يكن بسبب معصية، لأنه إن لم يوجب تخصيصاً فإنه يوجب تمحيصاً.
وعن بعض المشايخ أنه كان إذا سافر واحد من أصحابه يقول له: إن رأيت محزوناً، فاقرئه مني السلام.
سمعت الأستاذ أبا عليَّ الدقاق يقول: كان بعضهم يقول للمشس عند غروبها، هل طلعت اليوم على محزون؟ وكان الحسن البصري لا يراه أحد إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة.
وقال وكيع لما مات الفضيل، ذهب الحزن اليوم من الأرض.
قال بعض السلف، أكثر ما يجده المؤمن في صحيفته من الحسنات لهم. الحزن.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: سمعت علي بن بكران يقول: سمعت محمد بن علي المروزي يقول، سمعت أحمد بن أبي روح يقول: سمعت أبي يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كان السلف يقولون: إن على كل شيء زكاة وزكاة العقل طول الحزن.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت أبا الحسين الوراق يقول، سألت أبا عثمان الحيري يوماص عن الحزن فقال: الحزين لا يتفرغ إلى سؤال الحزن، فاجتهد في طلب الحزن، ثم سل.
؟باب الجوع وترك الشهوة قال الله تعالى: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " .
ثم قال في اخر الآية: " وبشر الصابرين " فبشرهم بجميل الثواب على الصبر على مقاساة الجوع.
وقال تعالى: " ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة " .
أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمج بن عبيد الصفَّار قال: حدثنا عبد الله بن أيوب قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال: حدثنا أبو هاشم صاحب الزعفراني قال: حدثنا محمد بن عبد الله، عن أنس بنمالك أنه حدثه قال: " جاءت فاطمة، رضي الله عنها، بكسرة خبز لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ " .
قالت: قرص خبزته، ولم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة.
فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام.
وفي بعض الروايات: جاءت فاطمة، رضي الله عنها، بقرص شعير.
ولهذا كان الجوع من صفات القوم، وهو أحد أركان المجاهدة، فإن أرباب السلوك تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك.
سمعت محمد بن أحمد بن الصوفيَّ يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت ابن سالم يقول: أدب الجوع أن لا ينقص من عادته إلا مثل أذن السنور.
وقيل: كان سهل بن عبد الله لا يأكل الطعام إلا في كل خمسة عشر يوماً؛ فإذا دخل شهر رمضان كان لا يأكل حتى يرى الهلال، وكان يفطر كل ليلة على الماء القراح.
وقال يحيى بن معاذ: لو أن لجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبيد الله قال: حدثنا علي بن الحسين الأرجاني قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الأصطخري بمكة - حرسها الله تعالى - قال: قال سهل بن عبد الله: لما خلق الله تعالى الدنيا جعل في الشبع: المعصية والجهل، وجعل في الجوع: العلم والحكمة.
وقال يحيى بن معاذ: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرُمة.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: دخل بعضهم على بعض الشيوخ، فرآه يبكي، فقال له: مالك تبكي؟ فقال: إني جائع.
فقال: ومثل يكبي من الجوع؟! فقال: أسكت، أما علمت أن مراده من جوعي أن أبكي.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: حدَّثنا محمد بن بشر قال: حدَّثنا الحسين بن منصور قال: حدَّثنا دود بن معاذ قال: سمعت مخلداً يقول: كان الحجاج بن فرافصة معنا بالشام، فمكث خمسين ليلة لا يشرب الماء، ولا يشبع من شيء يأكله.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الغزالي يقول: سمعت محمد بن علي يقول: سمعت أبا عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء يقول: دخل أو تراب النخشي من بادية البصرة مكة - حرسها الله تعالى - فسألناه عن أكله، فقال: خرجت من البصرة.. وأكلت بنباج. ثم بذات عرق.. ومن ذات عرق إليكم فقطع البادية بأكلتين.
وسمعته يقول: حدثنا علي بن النحاس المصري قال: حدثنا هارون بن محمد الدقاق قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بن الدرقش قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: نجوَّع صنف من الطير أربعين صباحاً، ثم طاروا في الهواء، فرجعوا بعد أيام، فكان يفوح منهم رائحة المسك.
وكان سهل بن عبد الله إذا جاع قوي، وإذا أكل شيئاً ضعف.
وقال أبو عثمان المغربي: الرَّباني لا يأكل في أربعين يوماً، والصمداني في ثمانين يوماً.
وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت محمد ابن العلوي يقول: سمعت علي بن إبراهيم القاضي بدمشق، يقول سمعت محمد بن علي بن خلف يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.
سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الله يقول: سمعت علي بن الحسين الأرجاني يقول: سمعت أبا محمد الإصطخري يقول: سمعت سهل بن عبد الله، وقيل له: الرجل يأكل في اليوم أكلة، فقال أكل الصديقين. قال: فأكلتين. قال: أكل المؤمنين. قال: فثلاثة: قال: قل لأهلك يبنون لك معلفاً.
وسمعته يقول: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثنا أبو بكر السائح قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الجوع نور، والشبع نار، والشهوة مثل الحطب يتولد منه الاحتراق، ولا تطفأ ناره حتى يحرق صاحبه.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج العلومي يقول: دخل يوماً رجل من الصوفية على شيخ، فقدم إليه طعاماً.. ثم قال له: منذ كم يوم لم تأكل؟.
فقال: منذ خمسة ايام. فقال جوعك جوع بخل!! عليك ثياب وأنت تجوع؟! ليس هذا جوع فقر!.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد الرازي يقول: سمعت العباس بن حمزة يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: قال أبو سليمان الداراني: لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم الليل إلى آخره.
وسمعته يقول سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد الرازي يقول: اشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين، ثم ظهر له ذلك من موضع حلال، فلما مد يده إليه ليأكل أخذت شوكة من عظامه أصبعه، فذهبت في ذلك يده، فقال: يا رب، هذا لمن مد يده بشهوة لى حلال، فكيف بمن مد يده بشهوة إلى حرام؟ سمعت الأستاذ أبا بكر بن فورك يقول: شغل العيال نتيجة متابعة الشهوة بالحلال. فما ظنك بقضية شهوة الحرام؟.
سمعت رستم الشيرازي الصوفي يقول: كان أبو عبدالله بن خفيف في دعوة فمدَّ واحد من أصحابه يده إلى الطعام قبل الشيخ، هذا كان به من فأراد بعض أصحاب الشيخ أن ينكروا عليه لسوء أدبه، حيث مدَّ يده إلى الطعام قبل الشيخ، فوضع شيئاً بين يدي هذا الفقير، فعلم الفقير أنه أنكر عليه لسوء أدبه، فاعتقد أن لا يأكل خمسة عشر يوماً، عقوبة لنفسه، وتأديباً لها، وإظهاراً لتوبته من سوء أدبه وكان قد أصابته فاقة قبل ذلك.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: حدثنا أبو الفرج الورثاني قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك ابن دينار يقول: من غلب شهوات الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فالزموه السوق، وأمروه بالكسب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول، حاكياً عن بعض المشايخ أنه قال: ن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم، فلذلك افتضحوا.
وسمعته يقول: قيل لبعضهم: ألا تشتهي؟ فقال: أشتهي ولكن أحتمي.
قال: وقيل لبعضهم: ألا تشتهي؟ فقال: اشتهي أن لا أشتهي وهذا تم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: أخبرنا أحمد بن منصور قال: أخبرنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو الحسين الحسن بن عمرو بن الجهم قال: سمعت أبا نصر التمار، يقول: أتاتي بشر ليلة، فقلت: الحمد الله الذي جاء بك: جاءنا قطن من خراسان فغزلته البنت، وباعته، واشترت لنا لحماً، فتفطر عندنا.
فقال: لو أكلت عند أحد أكلت عندكم ثم قال: إني لأشتهي الباذنجان منذ سنين، ولم يتفق لي أكله!! فقلت: إن فيها الباذنجان من الحلال. فقال: حتى يصفو لي حب الباذنجان.
سمعت عبد الله بن باكويه الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا أ؛مد الصغير يقول: أمرني أبو عبد الله بن خفيف أن أقدم إليه كل ليلة عشر حبات زبيب، لإفطاره، فليلة اشفقت عليه، فحملت إليه خمس عشرة حبة، فنظر إلي وقال: من أمرك بهذا؟ وأكل عشر حبات، وترك الباقي.
سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الله يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن الفرغاني يقول: سمعت أبا الحسين الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: ما تمنعت نفسي من الشهوات، إلا مرة واحدة، تمنت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر، فعدلتُ إلى قرية، فقام واحد وتعلق بي وقال: هذا كان مع اللصوص. فضربوني سبعين درة. ثم عرفني رجل منهم، فقال: هذا أبو تراب النخشبي!! فاعتذروا إلي، فحملني رجل إلى منزله، إكراماً لي، وشفقة علي.. وقدم لي خبزاً وبيضاَ، فقلت لنفسي: كلي بعد سبعين درة!
باب الخشوع والتواضع

قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، قال: أخبرنا أبو الفضل سفيان بن محمد الجوهري، قال حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا يحيى بن حماد قال: حدثنا شعبة، عن أبان بن ثعلب، عن فضل الفقيمي، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من قلبه مثقال ذرَّة من إيمان، فقال رجل يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبة حسناً. فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق، وغمص الناس " .
وأخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن جابر قال حدثنا أبو إبراهيم قال: حدثنا علي ابن مسهر، عن مسلم الأعور، عن أنس بن مالك، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشيع الجنائز، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة ولانضير على حمار مخطوم بحبل من ليف. عليهإكاف من ليف " .
الخشوع: الانقياد للحق.
والتواضع: هو الاستسلام للحق، وترك الاعتراض على الحكم.
وقال حذيفة: أول ما تفقدون من دينكم: الخشوع.
وسئل بعضم عن الخشوع، فقال: الخشوع: قيام القلب بين يدي الحق، سبحانه، بهم مجموع.
وقال: من علامات الخشوع للعبد: أنه إذا أغضب أو خولف، أو رد عليه أن يستقبل ذلك بالقبول.
وقال بعضهم: خشوع القلب: قيد العيون عن النظر.
وقال محمد بن علي الترمذي: الخاشع من خمدت نيران شهوته، وسكن دخان صدره، وأشرق نور التعظيم في قلبه، فماتت شهوته، وحيي قلبه؛ فخشعت جوارحه.
وقال الحسن البصري: الخشوع: الخوف الدائم اللازم للقلب.
وسئل الجنيد عن الخشوع، فقال: تذلل القلوب لعلام الغيوب.
قال الله تعالى: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً " سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول ما معناه: متواضعين، متخاشعين.
وسمعته يقول: هم الذين لا يستحسنون شِسع نعالهم إذا مشوا.
واتفقوا على أن الخشوع محله القلب.
ورأى بعضهم رجلاً منقبض الظاهر، منكسر الشاهد، قد زوى منكبيه، فقال له: يا فلان، الخشوع هاهنا، وأشار إلى صدره، لا هاهنا وأشار إلى منكبيه.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً يعبث في صلاته بلحيه، فقال: " لو خشع قلب هذه لخشعت جوارحه " .
وقيل، شرط الخشوع، في الصلاة أن لا يعرف من على يمينه ومن على شماله.
قال الأستاذ الإمام: ويحتمل أن يقال: الخشوع، إطراق السريرة بشرط الأدب بمشهد الحق سبحانه وتعالى.
ويقال: الخشوع، ذبول يرد على القلب عنداطلاع الرب.
ويقال: الخشوع، ذوبان القلب وانخناسه عند سلطان الحقيقة.
ويقال: الخشوع، مقدمات غلبات الهيبة.
ويقال: الخشوع: قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة.
وقال الفضيل بن عياض: كان يكره أن يرى على الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه.
وقال أبو سليمان الداراني: لو أجتمع الناس على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي لما قدروا عليه.
وقيل: من لم يتضع عند نفسه لم يتضع عند غيره.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يسجد إلى على التراب.
أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: حدَّثنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدَّثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن يزيد الفرائض، قال: حدثنا محمد بن كثير، وهو المصيصي، عن هارون بن حيان، عن حصيف، عن سعيد بن جبير، عن أبن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر " .
وقال مجاهد، رحمه الله: لما أغرف الله سبحانه، قوم نوح شمخت الجبال، وتواضع الجودي، فجعله الله سبحانه، قراراً لسفينة نوح عليه السلام.
وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يسرع في المشي، ويقول: إنه أسرع للحاجة، وأبعد من الزهو.
وكان عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، يكتب ليلة شيئاً، وعند ضيف، فكاد السراج. ينطفىء، فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه، فقال: لا: ليس من الكرم استخدام الضيف.
قال: فأنبِّه الغلام.
قال: لا، هي أول نومة نامها.
فقالم إلى البطة، وجعل الدهن في المصباح، فقال الضيف: قمت بنفسك يا أمير المؤمنين!! فقال له عمر: ذهبتُ وأنا عمر، ورجعت وأناعمر.
وروي أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يعلف البغير، ويقم البيت، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويحلب الشاة، ويأكل مع الخادم، ويطحن معه إذا أعيا، وكان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى أهله، وكان يصافح الغني والفقير، ويسَّلم مبتدئاً، ولا يحتقر ما دعي إليه، ولو إلى حشف التمر، وكان هين المؤنة، لين الخلق؛ كريم الطبيعة جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوسة؛ متواضعاً من غير مذلة؛ جواداً من غير سرف، رقيق القلب؛ رحيماً بكل مسلم، لم يتجشأ قط من شبع؛ ولم يمد يده إلى طمع " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي؛ رحمه الله يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت محمد بن نصر الصائغ يقول: سمعت مردويه الصائغ يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: قراء الرحمن، عز وجل، أصحاب خشوع وتوضاع، وقراء القضاة أصحاب عجب وتكبر.
وقال الفضيل بنعياض: من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
وسئل الفضيل عن التواضع، فقال: تخضع للحق، وتنقاد له وتقبله ممن قاله.
وقال الفضيل: أوحى الله؛ سبحانه وتعالى؛ إلى الجبال: أني مكلم على واحد منكم نبياً. فتطاولت الجبال؛ وتواضع طورسينا؛ فكلم الله سبحانه علية موسى، عليه السلام، لتواضعه.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر، يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك، يقول: سئل الجنيد عن التواضع؛ فقال: خفض الجناح للخلق؛ ولين الجانب لهم.
وقال وهب: مكتوب في بعض ما أنزل الله تعالى من الكتب: " إني أخرجت الذر من صلب آدم، فلم أجد قلباً أشدَّ تواضعاً من قلب موسى عليه السلام، فلذلك اصطفيته وكلمَّته " .
وقال ابن المبارك: التكبير على الأغنياء، والتواضع للفقراء من التواضع.
وقيل لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعاً؟ فقال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً؛ ولا يرى أن في الخلق من هو شر منه.
وقيل: التواضع نعمة لا يحسد عليها، والكبر محنة لا يرْحم عليها، والعزُّ في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: الشرف في التواضع، والعزُّ في التقوى، والحرية في القناعة.
وسمعته أياَ يقول: سمعت الحسن الساوي يقول: سمعت ابن الأعرابي يقول: بلغني أنَّ سفيان الثوري قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر، وشريف سُنى.
وقال يحيى بن معاذ: التواضع حسن في كلِّ أحد لكنه في الآغنياء أحسن، والتكبر سمج في كل أحد لكنه في الفقراء أسمج!! وقال ابن عطاء: التواضع: قبول الحقِّ ممن كان.
وقيل: ركب زيد بن ثابت، فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه، فقال ل مَه يا ابن عمِّ رسول الله. فقال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فأخذ زيد بن ثابت يد ابن عباس فقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عروة بن الزبير: رأيت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا!! فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلتْ في نفسي نخوة فأحببتُ أن أكسرها. ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: رؤي أبو هريرة، وهو أمير المدينة، وعلى ظهره حزمة حطب، وهو يقول: طرقوا للأمير.
وقال عبد الله الرازي: التواضع ترك التمييز في الخدمة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن أحمد بن هارون يقول: سمت محمد بن العباس الدمشقي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
وقال يحيى بن معاذ: التكبر على من تكبر عليك بمالة تواضع.
وقال الشبلي رحمه الله: دلي عطِّل ذل اليهود.
وجاءه رجل، فقال له الشبلي: ما أنت؟ فقال: يا سيدي النقطة التي تحت الباء.
فقال له: أنت شاهدي، ما لم تجعل لنفسك مقاماً.
وقال ابن عباس، رشي الله عنهما، من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه.
وقال بشر: سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم.
وقال شعيب بن حرب: بينا أنا في الطواف إذ لكزني إنسان بمرفقه، فالتفت إليه، فإذا هو الفضيل بن عيضا، فقال: يا أبا صالح، إن كنت تظن أنه شهد الموسم شر مني ومنك فبئس ما ظننت!! وقال بعضهم: رأيت في الطواف إنساناً بين يديه شاكريه يمنعون الناس لأجله عن الطواف.. ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل الناس شيئاً. فتعجبت منه، فقال لي: أنا تكبرت في موضع يتواضع الناس هناك، فابتلاني الله، سبحانه، بالتذلل في موضع يترفع فيه الناس.
وبلغ عمر بن عبد العزيز أن ابناً له اشترى فصاً بألف درهم فكتب إليه عمر: " بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم، فإذا أتاك كتابي هذا فبع الخاتم، وأشبع ألف بطن واتخِّذ خاتماً من درهمين، واجعل واكتب عليه " رحم الله أمرءاً عرف قدر نفسه " .
وقيل: عرض على بعض الأسراء مملوك بألف درهم، فلما أحضر الثمنَ استكثره فبدا له في شرائه فردَّ الثمن إلى الخزانة! فقال العبد: يا مولاي، اشترني، فإن فيَّ بكل درهم من هذه الدراهم خصلة تساوي أكثر من ألف درهم، فقال: وما هي؟ فقال: أقلها وأدناها مالو اشتريتني وقدمتني على جمع مماليكن لا أغلظ في نفسي، وأعلم أني أنا عبدك. فاشتراه.
وحكي عن رجاء بن حيوة أنه قال: قوَّمت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب بإثني عشر درهماً؛ وكانت: قباء، وعمامة، وقميصاً، وسرويل، وخفين، وقلنسوة.
وقيل: مشى عبد الله بن محمد بن واسع مشياً لا يحمد فقال له أبوه: وتدري بكم اشتريتُ أمك بثلاثمائة درهم، وأبوك لا أكثر الله في المسلمين مثله أباً، وأنت تمشي هذه المشية!! سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن الفراء يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: سمعت حمدون القصار يقول: التواضع: أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة، لا في الدين، ولا في الدنيا.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: مرة كنت في سفينة، وفيها رجل مضحك كان يقول: كنا نأخذ العلج في بلاد الترك هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي، ويهزني، فيسرني ذلك؛ لأنه لم يكن في السفينة أحدٌ أحقر في عينه مني.
والأخرى: كنت عليلاً في مسجد، فدخل المؤذن، وقال: أخرج. فلم أطق، فأخذ برجلي وجرني إلى خارج المسجد.
والثالثة: كنت بالشام، وعليَّ فرو، فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل، لكثرته، فسرني ذلك.
وفي حكاية أخرى عنه قال: ما سررت بشيء كسروري أني كنت يوماً جالساً فجاء إنسان وبال علي.
وقيل: تشاجر أبو ذر وبلال، رضي الله عنهما، فعير أبو ذكر بلالاً بالسواد. فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابا ذر، إنه بقي في قلبك منكبر الجاهلية شيء.
فالقى أبو ذرِّ نفسه.. وحلف أن لا يرفع رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه. فلم يرفع حتى فعل بلال ذلك.
ومر الحسن بن علي، رضي الله عنهما، بصبيان معهم كسر خبز، فاستضافوه، فنزل، وأكل معهم. ثم حملهم إلى منزله، وأطعمهم، وكساهم، وقال: اليد لهم، لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني،ونحن نجد أكثر منه.
وقيل: قسم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الحلل بين الصحابة من غنيمة، فبعض إلى معاذ حلة يمانية، فباعها واشترى ستة أعبد، وأعتقهم. فبلغ عمر ذلك، فكان يقسم الحلل بعده؛ فبعث إليه حلة دون تلك، فعاتبه معاذ، فقال له عمر: لا معاتبة، لأنك بعت الأولى.
فقال معاذ: وما عليك. ادفع إلي نصيبي، وقد حلفت لأضربن بها رأسك.
فقال عمر: هذا رأسي بين يديك، وقد يرفُق الشيخ بالشيخ.
باب مخالفة النفس

وذكر عيوبها قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه وهى ونهى النفس عن الهوى؛ فإن الجنة هي المأوى " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد قال: أخبرنا تمام قال: حدثنا محمد بن معاوية النيسابوري قال: حدثنا علي بن أبي علي بن عتبة بن أبي لهب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أخوف ما أخاف علي أمتي: باع الهنى، وطول الأمل، فأما انباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة " .
ثم اعلم أن مخالفة النفس رأس العبادة. وقد سئل الشايخ عن الإسلام، قالوا: ذبح النفس بسيوف المخالفة.
واعلم أن من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه.
وقال ذو النون المصري: مفتاح العبادة:الفكرة، وعلامة الإصابة: مخالفة النفس والهوى، ومخالفتهما ترك شهواتهما.
وقال ذو النون المصري: مفتاح العبادة للفكر، وعلامة الإصابة: مخالفة النفس والهوى، ومخالفتهما ترك شهواتهما.
وقال ابن عطاء: النفس مجبلة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، فالنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد يردها بجهده عن سوء المطالبة، فمن أطلق عنانها فهو شريكها معها في فسادها.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عبد الحمن الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: النفس الأمارة بالسوء: هي الداعية إلى المهالك، المعينة للأعداء، المتبعة للهوى، المتهمة بأصناف الأسواء.
وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه كان مغروراً ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.
وكيف يصح لعاقل: الرضا عن نفسه، والكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل، يقول: " وما أبرىء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت إبراهيم بن مقسم ببغداد يقول: سمعت ابن عطاء يقول: قال الجنيد: أوقت ليلة، فقمت إلى وردي، فلم أجد ما كنت أجده من الحلاوة والتلذذ بمناجاتي لربي، فتحير، فأردت القيام بما لم اقدر عليه، فقعدت، فلم أطق القعود، ففتحت الباب، وخرجت، فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق. فلما أحس بي، رفع رأسه، وقال: يا أبا القاسم، إلى الساعة فقلت: يا سيدي من غير موعد؟ فقال: بلى قد سألت محرك القلوب أن يحرك إلى قلبك.
فقلت: فقد فعل فما حاجتك؟ فقال: متى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها.
فأقبل على نفسه، وقال: اسمعي، قد أجبتك بهذا الجواب سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من الجنيد، فقد سمعت، وانصرفت عني ولم أعرفه. ولم أقف عليه بعد.
وقال أبو بكر الطمستاني: النعمة العظمى: الخروج من النفس؛ لأنه أعظم حجاب بينك وبين الله عز وجل.
وقال سهل بن عبد الله: ما عبد الله بشيء مثل مخالفة النفس والهوى.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا عمر الأنماطي يقول: سمعت ابن عطاء، وقد سئل عن أقرب شيء إلى مقت الله تعالى، فقال:رؤية النفس وأحوالها، وأشدُّ من مطالعة الأعواض على أفعالها.
وسمعته يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت إبراهيم الخوَّاص يقول: كنت في جبل اللكام فرأيت رماناً فاشتهيته. فدنوت منه، فأخذت منه واحدة، فشققتها، فوجدتها حامضة، فمضيت، وتركت الرمان، فرأيت رجلا مطروحاً. قد اجتمع عليه الزنابير، فقلت:اللام عليك، فقال: وعليك السلام يا إبراهيم، فقلت له: وكيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله تعالى،لا يخفى عليه شيء. فقلت: أرى لك حالا مع الله تعالى، فلو سألته أن يحميك ويقيك الأذى من هذه الزنابير؟ فقال: وأنا أرى لك حالا مع الله تعالى، فلو سألته أن يقيك شهوة الرمان!! فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة، ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا. فتركته، ومضيت.
وحكي عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: ما بت تحت سقف، ولا في موضع عليه غلق أربعين سنة، وكنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس، فلم، يتفق.. فكنت وقتاً بالشام، فحمل إلي غضارة فيها عدس، فتناولت منه، وخرجت... فرأيت قوارير معلقة فيها شيء شبه نموذجات .. فظننته خلا.. فقال لي بعض الناس: إيش تنظر هذه نموذجات الخمر؛ وهذه الدنان خمر.
فقلت في نفسي: لزمني فرض.، فدخلت حانوت الخمار، ولم أزل أصب تلك الدنان وهو يتوهم أني أصبها بأمر السلطان.. فلما علم، حملني إلى ابن طولون.. فأمر بضري مائتي خشبة.. وطرحني في السجن.. فبقيت فيه مدَّة، حتى دخل أبو عبد الله المغربي أستاذي ذلك البلد؛ فشفع لي، فلما وقع بصره علي، قال: إيش فعلت؟ فقلت: شعبة عدس ومائتي خشبة فقال لي: نجوت مجاناً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري السقطي يقول:
إن نفسي تطالبني، منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة، أن أغمس جزرة في دبس فما أطعتها.
وسمعته يقول: سمعت جدي يقول: رضاه من نفسه بما هو فيه.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت الحسين ابن علي القرمسيني يقول: وجه عصام بن يوسف البلخي شيئاً إلى حاتم الأصمِّ، فقبله منه.
فقيل له: لم قبلته؟.
فقال: وجدت في أخذه ذليِّ وعزه، وفي رده عزي وذله؛ فاختر عزه على عزي وذلي على ذله.
وقيل لبعضهم: إني أريد ن أحج على التجريد.
فقال له: جرد أولاً قلبك عن السهو، ونفسك عن اللهو؛ ولسانك عن اللغو، ثم اسلك حيث شئت.
وقال أبو سليمان الداراني: من أ؛سن في ليله كوفىء في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفىء في ليله، ومن صدق في ترك شهوة كفى مؤنتها، والله أكرم من أن يعذب قلباً ترك شهوة لأجله.
وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: يا داود، حذر، وأنذر أصحابك أكل الشهوات؛ فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة.
ورؤى رجل جالساً في الهواء، فقيل له: بم نلت هذا؟ فقال: تركت الهوى فسخر لي الهواء.
وقيل: لو عرض للمؤمن ألف شهوة لأخرجها بالخوف، ولو عرض للفاخر شهوة واحدة لأخرجته من الخوف.
وقيل: لا تضع زمامك في يد الهوى، فإنه يقودك إلى الظلمة.
وقال يوسف بن أسباط: لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق.
وقال الخواص: من ترك شهوة، فلم يجد عوضها في قلبه، فهو كاذب في تركها.
وقال جعفر بن نصير: دفع إلى الجنيد درهماً وقال: اشتر لي به التين الوزيري، فاشتريته له، فلما أفطر أخذ واحدة ووضعها في فمه، ثم ألقاها، وبكى، وقال: إحمله.
فقلت له في ذلك، فقال: هتف في قلبي أما تستحي؟ شهوة تركتها من أجلي ثم تعود إليها.
وأنشدوا:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... وصريع كل هوى صريع هوان
واعلم ن للنفس أخلاقاً ذميمة، فمن ذلك: الحسد.
باب الحسد

قال الله تعالى: " قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق " .
ثم قال: " ومن شر حاسد إذا حسد " .
فختم السورة التي جعلها عوذة بذكر الحسد.
أخبرنا أبو الحسين الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا اسماعيل بن الفضل قال: حدثنا يحيى بن مخلد، قال: حدثنا معاً في ابن عمران، عن الحارث بن شهاب، عن معبد، عن ابن مسعود قال: ن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث هنَّ أصل كل خطيئة فاتقوهن واحذروهن: إياكم والكبر، فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم.
وإياكم والحرص، فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة.
وإياكم والحسد، فإن ابني آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسداً.
وقال بعضهم: الحاسد جاحد، لأنه لا يرضى بقضاء الواحد.
وقيل: الحسود لا يسود.
وقيل في قوله تعالى: " قل نما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " ، قيل ما بطن: الحسد. وفي بعض الكتب: الحاسد عدو نعمتي.
وقيل: أثر الحسد يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً أتى عليه مائة وعشرين سنة، فقلت له: ما أطول عمرك.
فقال: تركتُ الحسد فبقيت.
وقال ابن المبارك: الحمد لله الذي لم يجعل في قلب أميري ما جعله في قلب حاسدي.
وفي بعض الآثار إن في السماء الخامسة ملسكاً يمر به عمل عبد، له ضوء كضوء الشمس، فيقول له الملك: قف فأنا ملك الحسد. اضرب به وجه صاحبه، فإنه حاسد.
وقال معاوية: كل إنسان أقدر على أن أرضيه، إلا الحاسد، فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة.
ويقال: الحاسد ظالم غشوم، لا يبقي ولا يذر.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: غم دائم ونفس متتابع.
وقيل: من علامات الحاسد أن يتعلق إذا شهد، ويغتاب إذا غاب، ويشمت بالمصيبة إذا نزلت.
وقال معاوية: ليس في خلال الشرخلة أعدل من الحسد، تقتل الحاسد قبل المحسود.
وقيل: أوحي الله، سبحانه، إلى سليمان بن داود، عليهما السلام: أوصيك بسبعة أشياء: لا تغتابن صالح عبادي، ولا تحسدن أحداً من عبادي. فقال سليمان: يا رب، حسبي.
وقيل رأى موسى عليه السلام، رجلاً عند العرش فغبطه، فقال: ما صفته؟ فقيل: كان لا يحسد الناس على ما آناهم الله من فضله.
وقيل: الحاسد إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت.
وقيل: إذا أردتَ أن تسلم من الحاسد، فلبس عليه أمرك.
وقيل: الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملكه.
وقيل: إياك أن تتعنى في مودة من يحسدك، فإنه لا يقبل إحسانك وقيل. إذا أراد الله تعالى أن يسلط على عبد عدواً لا يرحمه سلط عليه حاسده: وأنشدوا:
وحسبك من حادث بامري ... ترى حاسديه له راحمينا
وأنشدوا:
كلُّ العداوة قد ترجى إمانتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال ابن المعتز:
قل للحسود إذا تنفس: طعنة ... يا ظالماً وكأنه مظلوم
وأنشدوا:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود
ومن الأخلاق المذمومة للنفس: اعتياد الغيبة.
باب الغيبة

قال الله سبحانه: " ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً " الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم الإسماعيلي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل، قال: حدثنا علي بن الحسن قال: حدثنا إسحق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند، قال حدثنا محمد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة: أن رجلاً قام، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك جالس، فقال بعض القوم: ما أعجز فلاناً، فقال صلى الله عليه وسلم: " أكلتم أخاكم واغتبتموه " .
وأوحى الله، سبحانه، إلى موسى عليه السلام: " من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار " .
وقال عوف: دخلت على ابن سيرين، فتناولت الحجاج، فقال ابن سيرين: إن الله، تعالى، حكم عدل؛ فكما يأخذ من الحجاج يأخذ للحجاج، وإنك إذا لقيت الله عز وجلَّ غداً كان أصغر ذنب أصبته أشدَّ عليك من أعظم ذبن أصابه الحجَّاج.
وقيل: دعى إبراهيم بن أدهم إلى دعوة، فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا: إنه ثقيل؟؟ فقال إبراهيم: إنما فعل بي هذا نفسي، حيث حضرت موضعاً يغتاب فيه الناس، فخرج، ولم يأكل ثلاثة أيام.
وقيل: مثل الذي يغتاب الناس، كمثل من نصب منجنيقاً، يرمي به حسناتِه شرقاً وغرباً؛ يغتاب واحداً خراسانياً، وآخر تركياً، فيفرق حسناته، ويقوم لا شيء معه؟؟ وقيل: يؤتى العبد يوم كتابه، فلا يرى فيه حسنة، فيقول: أين صلاتي، وصيامي، وطاعتي؟؟؟ فيقال: ذهب عملك كله.
وقيل: من اغتيب بغيبة غفر الله له نصف ذنوبه.
وقال سفيان بن الحسين: كنت جالساً عند إياس بن معاوية، فنلت من إنسان.
فقال لي: هل غزوت في هذا العام الترك والروم؟ فقلت: لا.
فقال: سلم منك الترك والروم، وما سلم منك أخوك المسلم؟ وقيل: يعطى الرجل كتابه. فيرى فيه حسنات لم يعملها. فيقال له: ذا بما اغتابك الناس وأنت لم تشعر.
وسئل سفيان الثوري عن قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض أهل البيت اللحميين " . فقال: هم الذين يغتابون الناس: يأكلون لحومهم.
وذكرت الغيبة عند عبد الله بن المبارك، فقال: لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق بحسناتي: وقال يحيى بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تسره فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه: وقيل للحسن البصري: إن فلاناً اغتابك: فبعث إليه طبق حلواء وقال: بلغني أنك أهديت إلى حسناتك، فكافأتك: أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: أخبرنا أحمد بن عمرو القطوني قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري قال: حدثنا الربيع بن بدر، عن أبان، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له " .
سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول: سمعت أبا طاهر محمد بن أسيد الرقي يقول، سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول، قال الجنيد: كنت جالساً في مسجد الشونزية أنتظر جنازة أصلي عليها، وأهل بغداد، على طبقاتهم، جلوس ينتظرون الجنازة، فرأيت فقيراً عليه أثر النسك يسأل الناس، فقلت في نفسي؛ لو عمل هذا عملاً يصون به نفسه كان أجمل به.
فلما انصرفت إلى منزلي، وكان لي شيء من الورد بالليل، حتى البكاء والصلاة وغير ذلك، فثقل على جميع أورادي. فسهرت وأنا قاعد، فغلبتني عيناني.. فرأيت ذلك الفقير.. جاءو به على خوان ممدود. وقالوا لي: كل لحمه؛ فقد اغتبته!. وكشف لي عن الحال، فقلت: ما اغتبته! إنما قلت في نفسي شيئاً، فقيل لي:
ماأنت ممن يرضى منك بمثله، إذهب فاستحله، فأصبحت ولم أزل أتردد حتى رأيته في موضع يلتقط من الماء، عند تزايد الماء، أورانا من البقل ما تساقط من غسل البقل، فسلمت عليه، فقال يا أبا القاسم، تعود؟ فقلت: لا.
فقال: غفر الله لنا ولك.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت أبا طاهر الإسفرايني يقول: سمعت أيا جعفر البلخي يقول: كان عندنا شابمن أهل بلخ، وكان يجتهد؛ ويتعبَّد؛ إلا أنه كان أبداً يغتاب الناس ويقول:فلان كذا، وفلان كذا، وفلان كذا،.. فرأيته يوماً عند المخنثين الغسالين، خرج من عندهم.
فقلت: يا فلان، ما حالك؟ فقال: تلك الوقيعة في الناس أوقعتني إلى هذا، ابتليتُ بمخنث من هؤلاء، وأنا أخدمهم من أجله، وتلك الأحوال كلها ذهبت، فادع الله أن يرحمني.
باب القناعة

قال الله تعالى: " من عمل صالحاً من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فلنحييه حياة طيبة " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدَّثنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، قال: حدثنا محمد بن موسى الحلواني، قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، عن المنكدر بن محمد عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القناعة كنزُ لا يفنى " .
أخبرنا أبو الحسن الأهوازي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب المقري قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني؛ قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن أبي رجاء؛ عن برد بن سنان، عن مكحول، عن وائلة بن الأسقع؛ عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس؛ وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً وأحسن من جاورك تكن مسلماً، وأقل الضحك، فن كثرة الضحك تميت القلب " .
وقيل: الفقراء أموات، إلا من أحياه الله تعالى بعزَّ القناعة.
وقال بشر الحافي: القناعة: ملك لا يسكن إلا في قلب مؤمن.
سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله بن محمد الشعراني يقول: سمعت اسحق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد، هذا أول الرضا وهذا أو الزُّهد.
وقيل القناعة: السكون عد عدم المألوفات.
وقال أبو بكر المراغي: العاقل من دبرَّ أمر الدنيا بالقناعة والتسويف وأمر الآخرة بالحرص والتعجيل، وأمر الدين بالعلم والاجتهاد.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: القناعة: ترك التشوف إلى المفقود، والاستغناء بالموجود.
وقيل في معنى قوله تعالى: " ليرزقنهم الله رزقاً حسناً " يعني: القناعة.
وقال محمد بن علي الترمذي: القناعةُ: رضا النفس بما قسم لها من الرزق.
ويقال: القناعة: الاكتفاء بالموجوج، وزوال الطمع فيما ليس بحاصل.
وقال وهب: إن العزَّ والغنى خرجاً يجولان، يطلبان رفيقاً؛ فلقيا القناعة، فاستقرَّا.
وقيل: من كانت قناعته سمينة طابت له كل مَرقه ومن رجع إلى الله تعالى على كل حال رزق الله القناعة.
وقيل: مر أبو حازم بقصاب معه لحم سمين، فقال: خذ يا أبا حازم فإنه سمين. فقال: ليس معي درهم.
فقال: أنا أنظرك. فقال: نفسي أحسن نظرة لي منك.
وقيل لبعضهم: من أقناع الناس؟ فقال: أكثرهم لناس معونة، وأقلهم عليهم مؤونة.
وفي الزبور: القانع غنى وإن كان جائعاً.
وقيل: وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع: العز في الطاعة، والذل في المعصية، والهيبة في قيام الليل، والحكمة في البطن الخالي، والغنى في القناعة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت نصر ابن محمد يقول: سمعت سليمان بن أبي سليمان يقول: سمعت أبا القاسم بن أبي نزار يقول: سمعت إبراهيم المارستاني يقول: انتقم من حرّصك بالقناعة، كما تنتقم من عدوِّك بالقصاص.
وقال ذو النون المصري: من قنع استراح من أهل زمانه، واستطال على أقرنه.
وقيل: من قنع استراح من الشغل. واستطال على الكل.
وقال الكتاني: من باع الحرص بالقناعة ظفر بالعزِّ والمروءة.
وقيل: من تبعت عيناه ما في أيدي الناس طال حزنه.
وأنشدوا:
وأحسنُ بالفتى من يوما عار ... ينال به الغني كرم وجوع
وقيل: رأى رجل حكيماً يأكل ما تساقط من البقال على راس ماء فقال:
لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا.
فقال الحكيم: وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان.
وقيل: " العقاب عزيز في مطاره، لا يسمو إليه طرف صياج. ولا طعمه، فإذا طمع في جيفة علقت في حبالة، نزل من مطاره، فتعلق في حباله " .
وقيل: لما نطق موسى عليه السلام، بذكر الطمع فقال: " لو شئت لاتخذت عليه أجراً " .
قال الخضر له: " هذا فراق بيني وبينك " .
وقيل: لما قال ذلك موسى عليه السلام وقف بين يدي موسى والخضر، عليهما السلام ظبي وكانا جائعين، الجانب الذي يلي موسى عليه السلام غير مشوي، والجانب الذي يلي الخضر مشوي.
وقيل في قوله تعالى: " إن الأبرار لفي نعيم " : هو القناعة في الدنيا، " وإن الفجار لفي جحيم " ، هو: الحرص في الدنيا.
وقيل في قوله تعالى: " فكُّ رقبة " أي: فكرها من ذل الطمع.
وقيل في قوله تعالى: " إنما يردي الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " يعني: البخل، والطمع. " ويطهركم تطهيراً " يعني: بالسخاء والايثار.
وقيل في قوله تعالى: " هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " أي: مقاماً في القناعة انفرد به من أشكالي، وأكون راضياً فيه بقضائك.
وقيل في قوله تعالى: " لأعذبنه عذاباً شديداً " يعني: لآسلبنه القناعة، ولأبتلينه بالطمع، يعني: أسأل الله تعالى، أن يفعل به ذلك.
وقيل لأبي يريد: بم وصلت إلى ما وصلت؟ فقال: جمعت أسباب الدنيا، فربطتها بحبل القناعة، ووضعتها في منجنيق الصدق، ورميت بها في بحر اليأس فاسترحت.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن فرحان بسامرة يقول: سمعت خالي عبد الوهاب يقول: كنت جالساً عند الجنيد، أيام التبسم، وحوله جماعة كثيرون من العجم والمولدين.
فجاءه إنسان بخمسمائة دينار، ووضعها بين يديه، وقال: تفرِّقها على هؤلاء الفقراء.
فقال: ألك غيرها؟ فقال نعم، لي دنانير كثيرة. فقال: أتريد غير ما تملك؟ فقال: نعم: فقال له الجنيد، خذها، فإنك أحو إليها منَّا. ولم يقبلها.
باب التوكل

قال الله عز وجل: " ومن يتوكل على الله فهو حسيه " .
وقال: " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .
وقال: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " .
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن أحمد الأصبهاني قال: حدثنا يونسف بن حبيب بن عبد القاهر قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش؛ عن عبد الله بن مسعود؛ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أريت الأمم بالموسم، فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل لي: أرضيت؟ فقلت: نعم. قال: ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، لا يكتوون، ولا يتطيرون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن الأسدي، فقال: يا رسول الله، أدع أن يجعلني منهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ اجعله منهم.
فقال آخر، فقال: أدع الله أن يجعلني منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " سبقك بها عكاشة " .
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت أبا بكر الوجيهي يقول: قال أبو علي الروذباري قلت: لعمرو بن سنان: أحك عن سهل بن عبد الله حكاية،فقال إنه قال: علامة المتوكل ثلاث لا يسأل، ولا يرد، ولا يحبس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت منصور ابن عبد الله يقول: سمعت أبا عبد الله الشرازي يقول: سمعت أبا موسى الديبلي يقول: قيل لأبي يزيد؛ ما التوكل؟ فقال لي: ما تقول أنت؟ فقلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك.
فقال أب يزيد: نعم؛ هذا قريب؛ ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة ينتعمون وأهل النار في النار يعذبون: ثم وقع لك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكل.
وقال سهل بن عبد الله: أول مقام في التوكل: نيكون العبد بين يدين الله عزَّ وجل كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف شاء؛ لا يكون له حركة ولا تدبير.
وقال حمدون: التوكل: هو الاعتصام بالله تعالى.
سمعت محمد بن الحسين يقول:سمعت أبا بكر محمد بن أحمد البلخي يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد خضرويه يقول: قال رجل لحاتم الأصمَّ: من أين تأكل؟
فقال: " ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون " .
واعلن أن التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب، بعدما تحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى؛ فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره.
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا غيلان بن عبد الصمد قال: حدثنا إسماعيل بن مسعود الجحدري قال: حدثنا خالد بن يحيى قال: حدثنا عمي المغيرة بن أبي قرة، عن أنس بن مالك قال: " جاء رجل على ناقة له، يا رسول الله، أدَعها وأتوكل؟. فقال: اعقلها وتوكلَّ " .
وقال إبراهيم الخواص:من صحَّ توكله في نفسه، صحَّ توكله في غيره.
وقال بشر الجافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، ويكذب على الله تعالى، لو توكلَّ على الله لرضي بما يفعله الله به.
وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله تعالى وكيلاً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن علي بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن الصامت يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: بينما أنا أسير في البادية، وإذا بهاتف يهتف، فالتفت إليه، فإذا أعرابي يسير فقال لي: يا إبراهيم: التوكل عندنا: أقم عندنا حتى يصح توكلك، ألم تعلم أن رجاءك لدخول بلد فيه أطعمة يحملك؟، إقطع رجاءك عن البلدان، وتوكل.
وسمعته يقول سمعت محمد بن أحمد الفلاسي يقول: سمعت ابن عطاء، وقد سئل عن حقيقة التوكل، فقال: أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج يقول: شرط التوكل ما قاله أبو تراب النخشبي، وهو: طرح البدن في العبودية، وتعلّق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطى شكر وإن منع صبر.
وكما قال ذو النون: التوكل: ترك تدبير النفس، والإنخلاع منالحول والقوة، وإنما يقوي العبد على التوكل إذا علم أن الله سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت أحمد بن محمد القرمسيني يقول: سمعت الكتانيِّ يقول: سمعت أبا جعفر ابن أبيالفرج يقول: رأيت رجلاًُ يعرف بجمل عائشة مع الشطار يضرب بالسياط، فقلت له: أيّ وقت يكون ألم الضرب عليكم أسهل؟ فقال: إذا كان منُ ضربنا لأجله يرانا.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد يقول: قال الحسين بن منصور لإبراهيم الخواص: ماذا صنعت في هذه الأسفار، وقطع هذه المفوز؟ قال بقيت في التوكل أصحح نفسي عليه.
فقال الحسين: أفنيت عُمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج يقول: التوكل: ما قاله أبو بكر الدقاق، وهو: رد العيش إلى يوم واحد، واسقاط همِّ غد.
قال: وهو: كما قال سهل بن عبد الله، التوكل: الاسترسال مع الله تعالى، على ما يريد.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن جعفر بن محمد يقول سمعت أبا بكر البرذعي يقول: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول: الوكل على الله تعالى بكمال الحقيقة، ما وقع لإبراهيم، عليه السلام، في الوقت الذي قال لجبريل، عليه السلام: أما إليك فلا، لأنه غابت نفسه بالله تعالى، فلم يرمع الله غير الله عزَّ وجلَّ.
وسمعت يقول: سمعت سعيد بن أحمد بن محمد يقول سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول، سمعت سعيد بن عثمان الخياط يقول، سمعت ذا النون المصري، وسال رجل فقال، ما التوكل. فقال: خلع الأرباب وقطع الأسباب.
فقال السائل: زدني.
فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد المعلم يقول. سمعت عبد الله ابن المبارك يقول: سمعت حمدون القصار، وسئل عن التوكل، فقال: إن كان لك عشرة آلاف درهم، وعليك دانق دين، لم تأمن أن تموت ويبقى ذلك في عنقك، ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين،ومن غير أن تترك لهاوفاء، لا تيأس من الله تعالى أن يقضيه عنك.
وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل فقال: التعلق بالله تعالى في كل حال.
فقال السائل: زدني. فقال: ترك كل سبب يوصّل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولىِّ لذلك.
وقال سهل بن عبد الله: التوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسبُّ سنته؛ فمن بقي على حاله، فلا يتركن سنتَّه: وقال أبو سعيد الخراز: التوكل: اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب.
وقيل: التوكل: أن يستوي عندك الإكثار والتقلل.
وقال ابن مسروق: التوكُّل: الاستسلام لجريان القضاء والأحكام.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله الرازيَّ يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول: التوكل: الاكتفاء بالله، تعالى، مع الاعتماد عليه.
وسمعته: يقول: سمعت محمد بن غالب يحكي عن الحسين بن منصور قال: المتوكل المحق لا يأكل شيئاً وفي البلد من هو أحق به منه.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت منصور بن أحمد الحربي يقول حكي لنا ابن أبي شيخ قال: سمعت عمر بن سنان يقول: اجتاز بنا إبراهيم الخواص، فقلنا له: حدثنا بأجب ما رأيته في أسفارك، فقال: لقيني الخضر عليه السلام، فسألني الصحبة، فخشيت أن يُفسد عليَّ توكلي بسكوني إليه. ففارقته.
وسئل سهل بن عبد الله عن التوكل، فقال: هو قلب عاش مع الله تعالى بلا علاقة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله، يقول: للمتوكل ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض.
فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضي بحكمه.
وسمعته يقول: التوكل: بداية، والتسليم: واسطة، والتفويض نهاية.
وسئل الدقاق عن التوكل، فقال: الأكل بلا طمع.
وقال يحيى بن معاذ: لبس الصوف حانوت، والكلام في الزهد حرفة، وصحبة القوافل تعرض، وهذه كلها علاقات.
وجاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال، فقال: ارجع إلى بيتك، فمن ليس رزقه على الله، تعالى، فاطرده عنك.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: قرأت على محمد بن الحسين؛ قال سهل بن عبد الله: من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت جعفراً الخلدي يقول: قال إبراهيم الخواص: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصاً وحشياً.. فقلت: جنى أم نسي؟ فقال: جنى. فقلت إلى أين؟ فقال: إلى مكة. فقلت: بلازاد؟ فقال. فينا أيضاً من يسفر على التوكل فقلت: إيش الوكل؟ فقال: الأخذ من الله تعالى.
وسمته يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت الفرغاني يقول: كان إبراهيم الخواص مجرداً في التوكل، يدقق فيه، وكان لا يفارقه إبرة وخيوط وكورة. ومقراض فقيل له: يا أبا اسحاق، لم تحمل هذا وأنت تمتنع من كل شيء؟ فقال: مثل هذا لا ينقض التوكل، لأن الله، سبحانه، علينا فرائض، والفقير لا يكون عليه غلا ثوب واحد؛ فربَّما يتَّخرق ثوبه، فإن لم يكن معه إبرة وخيوط تبدو عورته، فتفسد عليه صلاته، وإذا لم يكن معه ركوة تفسد عليه طهارته، فإذا رأيتَ الفقير بلا ركوة ولا إبرة، ولا خيوط، فاتهمه في صلاته.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله؛ يقول: التوكل: صفة المؤمنين، والتسليم: صفة الأولياء، والتفويض: صفة الموحدِّين، فالتوكل: صفة العوامِّ، والتسليم: صفة الخواص: والتفويض صفة خواص الخواص.
وسمعته يقول؛ التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم عليه السلام، والتفويض: صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت أبا جعفر الحدَّاد يقول: مكثت بضع عشرة سنة أعتقد التوكل وأنا أعمل في السوق، وآخذ كل يوم أجرتي؛ ولا أنتفع منها بشربة ماء، لا بدخلة حمام ولكن كنت أجيء بأجرتي إلى الفقراء في الشونزية وأكون مستمراً على حالي.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الخواصَّ يقول: سمعت الحسين أخا سنان يقول: حججت اربع عشرة حجة، حافياً، على التوكل، فكان يدخل في رجلي شوكة فأذكر أني قد اعتقدت على نفسي التوكل، فأحكها في الأرض وأمشي.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الواعظ يقول: سمعت خيراً لنساج يقول: سمعت أب حمزة يقول: إني لأستحي من الله تعالى أن أدخل مادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل، لئلا يكون سعي على الشبع زاداً أتزود به.. وسئل حمدون التوكل. فقال:
تلك درجة لم أبلغها بعد، وكيف يتكلم في التوكل من لم يصح له حال الإيمان؟ وقيل: المتوكل كالطفل، لا يعرف شيئاً يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لا يهتدي إلى إلى ربه تعالى.
وعن بعضهم قال؟ كنت في البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدامي واحداً. فتسارعت حتى أدركته، فإذا هي امرأة بيدها عكاز، تمشي على التؤدة.. فظننت أنها أعيت، فأدخلت يدي في جيبي، فأخرجت عشرين درهما، فقلت: خذيها وامكثي حتى تلحقك القافلة فتكتري بها. ثم ائتيني الليلة حتى أصلح أمرك.
فقالت: بيدها هكذا في الهواء، فإذا في كفها دنانير، فقالت: أنت أخذت الدراهممن الجيب، وأنا أخذت الدنانير من الغيب.
ورأى أبو سليمان الداراني رجلاً بمكة، لا يتناول شيئاً إلا شربة من ماء زمزم، فمضى عليه أيام، فقال له سليمان يوماً: أرأيت لو غارت زمزم إيش كنت تشرب؟ فقام، وقبل رأسه، وقال: جزاك الله خيراً، حيث أرشدتني، فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام. ومضى.
وقال إبراهيم الخواص: رأيت في طريق الشام شاباً حدثاً، حسن المراعاة، فقال لي: هل لك في الصحبة؟ فقلت: إني أجوع. فقال: إن جعتَ جعت معك.
فبقينا أربعة أيام، ففتح علينا بشيء، فقلت: هلم. فقال: اعتقدت أني لا آخذ بواسطة فقلت: يا غلام دققت. فقال: يا إبراهيم، لا تتبهرج، فإن الناقد بصير، مالك والتوكل؟ ثم قال: أل التوكل: أن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو نفسك إلا إلى من إليه الكفايات.
وقيل: التوكل: نفي الشكوك، والتفويض إلى ملك الملوك.
وقيل: دخل جماعة على الجنيد رحمه الله، فقالوا: أين نطلب الرزق؟ فقال:إن علمتم في أي موضوع هو، فقالوا: ندخل البيت فنتوكل؟ فقال: التجربة شك.
قالوا: فما الحيلة؟ فقال: ترك الحيلة.
وقال أبو سليمان الداراني لأحمد بن الحواري: يا أحمد، إن طرق الآخرة كثيرة، وشيخك عارف بكثير منها إلا هذا التوكل المبارك، فإني ما شممت منه رائحة.
وقيل: التوكل: الثقة بما في يد الله تعالى، واليأس عما في أيدي الناس وقيل التوكل: فراغ السر عن التفكر في التقاضي في طلب الرزق.
وسئل الحارث المحاسبي، رحمه الله، عن المتوكل: هل يلحقه طمع؟ فقال: يلحقه من طريق الطباع خطرات، ولا تضره شيئاً، ويقويه على إسقاط الطمع اليأس مما في أيدي الناس.
وقيل: جاع النوري في البادية، فهتف به هاتف: أيما أحبُّ إليك: سبب أو كفاية.
فقال: الكفاية ليس فوقها نهاية، فبقي سبعة عشر يوماً لم يأكل.
وقال أبو علي الروذباري: إذا قال الفقير بعد خمسة أيام: أنا جائع، فالزموه السوق، ومروه بالعمل والكسب.
وقيل: نظر أبو تراب النخشبي إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام.
فقال له: لا يصلح لك التصوف إلزم السوق.
وقال أبو يعقوب الأقطع البصري: جعت مرة بالحرم عشرة أيام فوجدت ضعفاً. فحدثتني نفسي، فخرجت إلى الوادي، لعلي أَجد شيئاً يسكن ضعفي.. فرأيت سلجمة مطروحة.. فأخذتها.. فوجدت في قلبي منها وحشة. وكأن قائلاً يقول لي: جعت عشرة أيام وآخره يكون حظك سلجمة متغيرة. فرميت بها ودخلت المسجد فقعدت، فإذا أنا برجل أعجمي، جلس بين يدي ووضع قمطرة، وقال: هذه لك.
فقلت: كيف خصصتني بها؟ فقال: أعلم أنا كنا في البحر منذ عشر أيام. وأشرفت السفينة على الغرق:: فنذر كل واحد منا: إن خلصنا الله، تعالى، أن يتصدق بشيء، ونذرت أنا: إن خلصني الله تعالى أن أتصدق بهذه على أول من يقع بصري عليه من المجاورين وأنت أولُ من لقيته.
فقلت: افتحها ففتحها، فإذا فيها: كعك سميد مصري، ولوز مقشور، وسكر كعاب فقبضت قبضته من ذا، وقبضة من ذا، وقبضة من ذا.
وقلت ردَّ الباقي إلى صبيانك، هو هدية مني لكم، وقد قبلتها.
ثم قلت في نفسي: رزقك يسير إليك من عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي..
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: كنت عند ممشاد الدينوري، فجرى حيث الدَّين، فقال: كان علي دين. فاشتغل قلبي. فرأيت في النوم كأن قائلاً يقول: يا بخيل، أخذت علينا هذا المقدار، خذ؛ عليك الأخذ، وعلينا العطاء فما حاسبت بعد ذلك بقالاً، ولا قصاباً، ولا غيرهم.
ويحكى عن بنان الحمال، قال: كنت في طريق مكة حرسها الله أجيء من مصر، ومعي زاد، فجاءتني امرأة، وقالت لي: يا بنان، أنت حمال تحمل على ظهرك الزاد، وتتوهم أنه لا يرزقك؟؟. قال فرميت بزادي. ثم أتي على ثلاث لم آكل فوجدت خلخالا في الطريق.. فقلت في نفسي: أحمله حتى يجيء صاحبه، فربما يعطيني شيئاً فأرده عليه فإذا أنا بتلك المرأة، فقالت لي: أنت تاجر؟؟ تقول: حتى يجيء صاحبه فآخذ منه شيئاً؟ ثم رمت إليه شيئاً من الدراهم، وقالت: أنفقها فاكتفيت بها إلى قريب من مكة.
ويحكى عن بنان أنه أحتاج إلى جارية تخدمه، فانبسط إلى إخوانه فجمعوا له ثمنها، وقالوا: هو ذا، يجيء النفر فتشتري ما يوافقك.
فلما ورد النفر، اجتمع رأيهم على واحدة، وقالوا: إنها تصلح له.
فقالوا لصاحبها: بكم هذه؟ فقال: إنها ليست للبيع: فالحوا عليه، فقال: إنها لبنان الحمال، أهدتها إليه امرأة من سمرقند فحملت إلى بنان، وذكرت له القصة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسين المخزومي يقول: حدثنا أحمد بن محمد بن صالح قال: حدثنا محمد بن عبدون، قال: حدثنا الحسن الخياط قال: كنت عند بشر الحافيِّ، فجاء نفر فسلموا عليه، فقال: من أين أنتم.
قالوا: نحن من الشام جئنا لنسلم عليك، ونريد الحج.
فقال: شكر الله تعالى لكم فقالوا: تخرج معنا. فقال: بثلاث شرائط لا تحمل معنا شيئاً، ولا نسأل أحدً شيئاً، وإن أعطانا أحد شيئاً لا نقبله؟ قالوا: أما أن لا نحمل، فنعم. وأما أن لا نسأل، فنعم، وأما أن لا نقبل إن أعطينا، فهذا لا نستطيعه.
فقال: خرجتم متوكلين على زاد الحجيج: ثم قال: يا حسن، الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل، وإن أعطى لا يأخذ، فذاك من جملة الروحانيين.
وفقير لا يسأل، وإن أعطي قبل، فذاك مما يوضع له موائد في حظائر القدس.
وفقير يسأل، وإن أعطي قبل قدر الكفاية، فكفارته صدقة.
وقيل لحبيب العجمي: لم تركت التجارة؟ فقال: وجدت الكفيل ثقة.
وقيل: كان في الزمن الأول رجل في سفر ومعه قرص، فقال: إن أكلت مت.
فوكل الله تعالى به ملكاً، وقال: إن أكله فارزقه، وإن لم يأكله فلا تطه غيره، فلم يزل القرص معه حتى مات، ولم يأكل، وبقي عنده القرص.
وقيل: من وقع في ميدان التفويض يزف إليه المراد كما نزف العروس إلى أهلها، والفرق بين التضييع والتفويض: أن التضييع في حق الله تعالى، وذلك مذموم،والتفويض في حقك، وهو محمود.
وقال عبد الله بن المبارك: من أخذ فلساً من حرام. فليس بمتوكل.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول سمعت نصر بن أبي نصر العطار يقول: سمعت علياً بن محمد المصري يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: دخلت البادية مرة بغير زاد، فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد، فسررت بأني وصلت. ثم فكرت في نفسي: أني سكنت واتكلت على غيره، فآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها فحفرت لنفسي في الرمل حفرة. وداريت جسدي فيها إلى صدري، فسمعوا صوتاً في نصف الليل عالياً يقول: يا أهل المرحلة، إن الله تعالى ولياً، حبس نفسه في هذا الرمل؛ فألحقوه.
فجاءني جماعة فاخرجوني وحملوني إلى القرية.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسين المخزومي يقول: سمعت ابن المالكي يقول: قال أبو حمزة الخراساني: حججت سنة من السنين، فبينما أنا أمشي في الطريق، إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث، فقلت: لا والله، لا استغيث فما استتمت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان: فقال أحدهما للآخر: تعالي حتى نسد رأس هذه البئر، لئلا يقع فيها أحد.. فأتوا: بصب وباربة، وطمو رأس البئر، فهممت أن أصيح ثم قلت في نفسي: أصيح إلى من هو أقرب منهما!!. وسكنت، فبينما أنا بعد ساعة، إذ أنا بشيء جاء.. وكشف عن رأس البئر، وأدلى رجله، وكأنه يقول لي: تعلق بي، في همهمة له كنت أعرف ذلك منه، فتعلقت به.. فأخرجني، فإذا هو سبع، فمر. وهتف بي هاتف: يا أبا حمزة، أليس هذا أحسن!! نجيناك من التلف بالتلف فمشيت وأنا أقول:
أهابك أن أبدي إليك الذي أخفي ... وسري يبدي ما يقول له طرفي
نهاني حيائي منك أن أكتم الهوي ... وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
وتلطف في أمري. فأبديت شاهدي ... إلى غائبي واللطف يدرك باللطف
تراءيت لي بالغيب، حتى كأنما ... تبشرني في الغيب أنك في الكف
اراك وبي من هيبتي لك وحشة ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محباً أنت في الحب حتفه ... وذا عجب كون الحياة مع الحتف
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا سعدان التاهرتي يقول: سمعت حذيفة المرعشي يقول: وكان قد خدم إبراهيم بن أدهم، وصحبه، فقيل له: ما أعجب ما رأيت منه؟ فقال: بقينا في طريق مكة أياماً لم نجد طعاماً، ثم دخلنا الكوفة، فأوينا إلى مسجد خراب، فنظر إلى إبراهيم بن أدهم، وقال: يا حذيفة، أرى بك أثر الجوع!! فقلت: هو ما رأة الشيخ. فقال عليَّ بدواة، وقرطاس.
فجئت به، فكتب: " بسم الله الرحمن الرحيم، أنت المقصود إليه بكل حال " ، والمشار إليه بكل معنى:
أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر ... أنا جائع أنا نائع أنا عاري
هي ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها يا باري
مدحي لغيرك لهب نار خضتها ... فأجر عبيدك من دخول النار
والنار عندي كالسؤال فهل ترى ... أن لاتكلفني دخول النار
ثم دفع إلى الرقعة: قال: أخرج، ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى، وادفع الرقعة إلى أول من يلقاك.
قال: فخرجت.. فأول من لقيني رجل كان على بغلة، فدفعتها إليه، فأخذها وبكى، وقال: ما فعل صاحب هذه الرقعة؟ فقلت: هو في المسجد الفلاني.
فدفع إلي صرة فيها ستمائة دينار.
ثم لقيت رجلاً آخر، فقلت له: من صاحب هذه البغلة؟ فقال لي: هو نصراني فجئت إلى إبراهيم بن أدهم، وأخبرته بالقصة، فقال: لا تمسها، فإنه يجيء الساعة.
فلما كان بعد ساعة، وافى النصراني؛ وأكب على رأس إبراهيم بن أدهم وأسلم.
باب الشكر

قال الله عز وجل: " لئن شكرتم لأزيدنكم " .
وحدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي قال: أخبرنا أبو الحسن الصفار، قال حدثنا الإسقاطي قال: حدثنا منجاب قال: حدثنا يحيى ابن يعلى، عن أبي خباب، عن عطاء، قال: دخلت على عائشة، رضي الله عنها، مع عبيد بن عمير، فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فبكت، وقالت: وأي شأنه لم يكن عجباً؟..إنه أتاني في ليلة.. فدخل معى في فراشي، أو قالت: في لحافي: حتى مس جلدي، ثم قال: يا بنت أبي بكر، ذريني أتبعد لربيِّ.
قالت: قلت: إني أحب قربك فأذنت له فقام إلى قربة من ماء. فتوضأ وأكثر صب الماء.. ثم قام يصلي. فبكى، حتى سالت دموعه على صدره.. ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى. فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة.
فقلت له: يا رسول الله، ما يبكيك، وقدغفر الله لك ماتقدم من ذنبك وماتأخر؟! فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ولم لا أفعل: وقد أنزل الله علي: " إن في خلق السموات والأرض. الآية " .
قال الأستاذ: حقيقة الشكر عند أهل التحقيق: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وعلى هذا القول: يوصف الحق سبحانه، بأنه: شكور، توسعاً ومعناه: أنه يجازي العباد على الشكر، فسمي جزاء الشكر شكراً؛ كما قال تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " .
وقيل: شكره تعالى: إعطاؤه الكثير من الثواب على العمل اليسير؛ من قولهم: دابة شكور: إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف.
ويحتمل أن يقال. حقيقة الشكر: الثناء على المحسن يذكر إحسانه فشكر العبد لله تعالى: ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق، سبحانه، للعبد: ثناؤه عليه بذكر إحسانه له، ثم إن إحسان العبد: طاعته لله تعالى، وإحسان الحق: إنعامه على العبد بالتوفيق للشكر له، وشكر نعبد على الحقيقة، إنما هو: نطق اللسن، وإقرار القلب بإنعام الرب، والشكر ينقسم إلى: شكر باللسان: وهو اعترافه بالنعم بنعت الاستكانة.
وشكر بالبدن والأركان: وهو اتصاف بالوفاء والخدمة.
وشكر بالقلب وهو اعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة.
ويقال: شكر هو شكر العالمين، يكون من جملة أقوالهم.
وشكر: هو شكر العارفين، يكون باستقامتهم له في عموم أحوالهم.
وقال أبو بكر الوراق: شكر النعمة مشاهدة المنة، وحفظ الحرمة.
قال حمدون القصار شكر النعمة: أ، ترى نفسك فيه طفيلياً.
وقال الجنيد: الشكر فيه علة، لأنه طالب لنفسه المزيد، فهو واقف مع الله، سبحانه، على حظ نفسه.
وقال أبو عثمان: الشكر: معرفة العجز عن الشكر.
ويقال: الشكر على الشكر أتم من الشكر، وذلك بأن ترى شكرك بتوفيقه، ويكون ذلك التوفيق من أجل النعم عليك، فتشكره على الشكر ثم تشكره على شكر الشكر، إلا ما لا يتناهي.
وقيل: الشكر: إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة.
وقال الجنيد: الشكر: أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة.
وقال رويم: الشكر: استفراغ الطاقة.
وقيل: الشاكر: الذي يشكر على الموجود، والشكور: الذي يشكر على المفقود.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر على الرفد، والشكور: الذي يشكر على الرد.
ويقال الشاكر: الذي يشكر على النفع، والشكور: الذي يشكر على المنع.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر على العطاء، والشكور: الذي يشكر على البلاء.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر عند البذل، والشكور: الذي يشكر عند المطل.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يقول: سمعت المرتعش يقول: سمعت الجنيد يقول: كنت بين يدي السريِّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: يا غلام، ما الشكر؟ فقلت: ألا تعصي الله بنعمة.
فقال: يوشك أن يكون حظك من الله لسانك.
قال الجنيد، رحمه الله، فلا أزال أبي على هذه الكلمة التي قالها السري.
وقال الشبلي: الشكر: رؤية المنعم، لا رؤية النعمة.
وقيل الشكر: قيد الموجود، وصيد المفقود.
وقال أبو عثمان: شكر العامة على المطعم والمبس، وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعاني.
وقيل: قال داود، عليه السلام، إلهي، كيف أشكرك، وشكري لك نعمة من عندك؟ وقيل: قال داود، عليه السلام، إلهي، كيف أشكرك، وشكري لك نعمة من عندك؟ فأوحى الله إليه: الآن قد شكرتني.
وقيل: قال موسى عليه السلام في مناجاته: إلهي، خلقت آدم بيدك، وفعلت.. وفعلت. فكيف شكرك؟ فقال: علم أن ذلك مني، فكانت معرفته بذلك شكره لي.
وقيل: كان لبعضهم صديق، فحبسه السلطان، فأرسل إليه، فقال له صاحبه: أشكر الله تعالى؛ فضرب الرجل؛ فكتب إليه، فقال: اشكر الله تعالى، فجيء بمجوسي مبطون، وقيد، وجعلت حلقة من قيده على رجل هذا، وحلقة على رجل المجوسي، فكان يقوم المجوسي بالليل مرات وهذا يحتاج أن يقوم على رأسه حتى يفرغ، فكتب إلى صاحبه، فقال: أشكر الله تعالى، فقال: إلى متى تقول، وأي بلاء فوق هذا؟ فقال له صاحبه: لو وضع الزنار الذي في وسطه في وسطك، كما وُضع القيد الذي في رجله في رجلك، ماذا كنت تصنع؟ وقيل: دخل رجل على سهل بن عبد الله، فقال له: إن اللص دخل داري، وأخذ متاعي!! فقال له أشكر الله تعالى، لو دخل اللص قلبك - وهو الشيطان - وأفسد التوحيد، ماذا كنت تصنع! وقيل: شكر العينين: أن تستر عيباً تراه بصاحبك. وشكر الأذنين: أن تستر عيباً تسمعه فيه.
وقيل: الشكر: التلذذ بثنائه على ما لم يستوجبه عن عطائه.
سمعت السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسن بن يحيى يقول: سمعت جعفراً يقول سمعت الجنيد يقول: كان السري إذا أراد أن ينفعني يسألني؛ فقال لي يوماً: يا أبا القاسم، ما الشكر! فقلت له: أن لا يستعان بشيء من نعم الله، تعالى، على معاصية.
فقال: من أين لك هذا! فقلت: من مجالستك.
وقيل: التزم الحسن بن علي الركن وقال: إلهي. نعمتني فلم تجدني شاكراً.! وابتليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلبت النعمة بتركي الشكر ولا أدمت الشدة بتركي الصبر. إلهي ما يكون من الكريم إلا الكرم.
وقيل: إذا قصرت يدك عن المكافة فليطل لسانك بالشكر.
وقيل: اربعة لا ثمرة لأعمالهم: مسارة الأصم، ووضاع النعمة عند من لا يشكر، والباذر في السبخة، والمسرج في الشمس.
وقيل: لما بُشر إدريس، عليه السلام؛ بالمغفرة سأل الحياة، فقيل له فيه، فقال لأشكره فإني كنت أعمل قبله للمغفرة، فبسط الملك جناحه وحمله عليه إلى السماء.
وقيل، مر بعض الأنبياء عليهم السلام بحجر صغير يخرج منه الماء الكثير، فتعجب منه، فانطقه الله معه، فقال: مذ سمعت الله، تعالى يقول، " ناراً وقودها الناس والحجارة " وأنا أبكي من خوفه قال؛ فدعا ذلك النبي أن يجير الله ذلك الحجر؛ فأوحي الله تعالى إليه أني قد أجرته من النار، فمر ذلك النبي، فلما عاد وجد الماء يتفجر منه مثل ذلك؛ فعجب منه فانطق الله ذلك الحجر معه، فقال له لم تبكي، وقد غفر الله لك؟ فقال: ذلك كان بكاء الحزن والخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور.
وقيل: قدم وفد على عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وكان فيهم شاب. فأخذ يخطب، فقال عمر: الكبر. الكبر. فقال له الشاب: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسنِّ، لكان في المسلمين من هو أسنُّ منك!!. فقال: تكلمَّ فقال: لسنا وفد الرغبة، ولا وفد الرهبة. أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك وأما الرهبة فقد أمنتا منها عدلك. فقال له: فمن أنتم؟ فقال: وقد الشكر، جئناك نشكرك ونتصرف.
وأنشدوا:
ومن الرزية أن شكري صامت ... عما فعلت وأن برك ناطق
أرى الصنيعة منك ثم أسرها ... إني إذن ليد الكريم لسارق
وقيل: أوحى الله تعالى لى موسى عليه السلام: أرحم عبادي: ألمبتلي، والمعافى.
فقال: ما بال المعافى؟ فقال: لقلة شكرهم على عافيتي إياهم.
وقيل: الحمد على الأنفاس، والشكر على نعم الحواس.
وقيل الحمد: ابتداء منه، والشكر: اقتداء منك.
وفي الخبر للصحيح: " لو من يدعى إلى الجنة الحامدون لله على كل حال " .
وقيل: الحمد: على ما دفع، والشكر: على ما صنع.
وحكي عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن، فسألته عن حاله، فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي؛ وهي كذلك كانت تهواني؛ فانفق أنها زوجت مني، فليلة زفافها قلنا: تعال: حتى تحيي هذه الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا فصلينا تلك الليلة، ولم يتفرغ أحدنا لصاحبه فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك فمنذ سبعين؛ أو ثمانين سنة، نحن على تلك الصفة كل ليلة: أليس كذلك يا فلانة، فقالت العجوز: كما يقول الشيخ.
باب اليقين

قال الله تعالى: " والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " .
حدثنا الاستاذ الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمود بن خرزاذ الأهوازي بها قال: حدثنا أحمد بن سهل بن ايوب قال: حدثنا خالد، يعني ابن زيد قال. حدثنا سفيان الثوري، وشريك بن عبد الله وسفيان بن عيينة، عن سليمان التيمي، عن خيثمة، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا ترضين احداً بسخط الله تعالى، ولا تحمدن أحداً على فضل الله عز وجل، ولا تذمن أحداً على ما لم يؤتك الله تعالى، فإن رزق الله لا يسوقه غليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهة كاره، وإن الله تعالى - بعدته وقسطه - ، جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا عياش بن حمزة قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري، قال: قال أبو عبد الله الأنطاكي: إن أقل اليقين إذا وصل إلى القلب يملأ القلب نوراً، وينفي عنه كل ريب، ويمتلىء القلب به شكراً، ومن الله تعالى خوفاً.
ويحكى عن أبي جعفر الحداد قال:رآني أبو تراب النخشبي، وأنا في البادية جالس على بركة ماء، ولي ستة عشر يوماً لم آكل ولم أشرب فقال لي: ما جلوسك؟ فقلت: أنا بين العلم والقين أنتظر ما يَغلب فأكون معه، يعني " إن غلب على العلم شربت، وإن غلب اليقين مررت " فقال لي: سيكون لك شأن.
وقال أبو عثمان الحيري اليقين: قلة الاهتمام لغد.
وقال سهل بن عبد الله: اليقين: من زيادة الإيمان ومن تحقيقه.
وقال سهل أيضاً: اليقين: شعبة من الإيمان، وهو دون التصديق.
وقال بعضهم: اليقين: هو العلم المستودع في القلوب. يشير هذا القائل إلى إنه غير مكتسب.
وقال سهل: ابتداء اليقين: المكاشفة، ولذلك قال بعض السلف: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، ثم المعاينة والمشاهدة.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: اليقين تحقق الأسرار بأحكام المغيبات.
وقال أبو بكر بن طاهر: العلم: بمعارضة الشكوك، واليقين: لاشك فيه. أشار إلى العلم السكبي وما يجري مجرى البديهي، وكذلك علوم القوم في الابتداء كسبى، وفي الانتهاء بديهي.
سمعت محمد بن الحسين يقول: قال بعضهم: أول المقامات. المعرفة، ثم اليقين، ثم التصديق، ثم الإخلاص، ثم الشهادة، ثم الطاعة. والإيمان اسم يجمع هذا كله. أشار هذا القائل إلى أن أول الواجبات، هو المعرفة الله سبحانه والمعرفة لا تحصل ألا بتقديم شرائطها.وهو النظر الصائب، ثم إذا توالت الأدلة، وحصل البيان، صار بتوالي الأنوار، وحصول الاستبصار، كالمستغني عن تأمل البرهان وهو حال اليقين، ثم تصديق الحق، سبحانه، فيما أخبر عند إصغائه إلى إجابة الداعي فيما يخبر من أفعاله، سبحانه في المستأنف؛ لأن التصديق إنما يكون في الإخبار، ثم الإخلاص فيما يتعقبه من أداء الأوامر، ثم بعد ذلك إظهار الإجابة بجميل الشهادة، ثم اداء الطاعات بالتوحيد فيما أمر به، والتجرد عما زجر عنه.
وإلى هذا المعنى أشار الإمام أبو بكر محمد بن فورك، فيما سمته، يقول ذكر اللسان فضيلة يفيض بها القلب.
وقال سهل بن عبد الله: حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله تعالى.
وقال ذو النون المصري: اليقين داع إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب.
وسمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: ثلاثة من أعلام اليقين: قلة المخالطة الناس في العشرة، وترك المدح لهم في العطية، والتنزه عن ذمهم عند المنع.
وثلاثة من أعلام يقين اليقين: النظر إلى الله تعالى في كلِّ شيء، والرجوع إليه في كلِّ أمر ولا الاستعانة به في كل حال.
وقال الجنيد، رحمه الله اليقين: و استقرار العلم الذي لاينقلب ولايحول ولا يتغير في القلب.
وقال ابن عطاء: على قدر قربهم من التقوى أدركوا ما أدركوا من اليقين.
وأصل التقوى: مباينة النهي، ومباينة النهي مباينة النفس، فعلى قدر مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين.
وقال بعضهم: اليقين: هو المكاشفة، والمكاشفة على ثلاثة أوجه: مكاشفة الإخبار،ومكاشفة بإظهار القدرة، ومكاشفة بحقائق الإيمان.
وأعلم أن المكاشفة في كلامه، عبارة، عن ظهور الشيء للقلب بستيلاء ذكره من غير بقاء للريب، وربما أرادوا بالمكاشفة ما يقرب مما يراه الرائي بين اليقظة والنوم. وكثيراً ما يعبر هؤلاء عن هذه الحالة بالثبات.
سمعت الإمام أبا بكر بن فورك يقول: سألت أبا عثمان المغربي، فقلت: ما هذا الذي تقول؟ قال الأشخاص أراهم كذا.. وكذا، فقلت: تراهم معاينة أو مكاشفة؟ فقال: مكاشفة.
وقال امر بن عبد قيس: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
وقيل: اليقين: رؤية العيان بقوة الإيمان.
وقيل: اليقين: زوال المعارضات.
وقال الجنيد، رحمه الله، اليقين: ارتفاع الريب في مشهد الغيب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في عيسى ابن مريم عليه السلام: " لو ازداد يقيناً لمشيء في الهواء كما مشيت فيه " .
قال رحمه الله: أنه أشار بهذا إلى حال نفسه، صلى الله عليه وسلم، ليلة المعراج؛ لأن في الطائف المعراج أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: " رأيت البراق قد بقي ومشيت " .
سمعت محمد الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت إبراهيم بن فانك يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السريَّ يقول، وقد سئل عن اليقين، فقال: اليقين: سكونك عند جولان الموارد في صدرك، لتبينك أن حركتك فيها لا تنفك ولا ترد عنك مقضياً.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أبا جعفر الأصبهاني يقول: سمعت علي بن سهل يقول: الحضور أفضل من اليقين، لأن الحضور وطنات،واليقين خطرات.
كأنه جعل اليقين ابتداء الحضور، والحضور دوام ذلك، فكأنه جوَّز حصول اليقين خالياً من الحضور، وأحال جواز الحضور بلا يقين؛ ولهذا قال النوري: اليقين: المشاهدة، يعني أن في المشاهدة يقيناً لا شك فيه؛ لأنه لا يشاهده، تعالى من لايثق بما منه.
وقال أبو بكر الوراق: اليقين: ملاك القلب،وبه كمال الإيمان، وباليقين عرف الله تعالى، وبالفعل عقل عن الله تعالى.
وقال الجنيد: قد مشى رجال باليقين على الماء، ومات بالعطش أفضل منهم يقيناً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفراً يقول: قال إبراهيم الخواص: لقيت غلاماً في التيه، كأنه سبيكة فضة، فقلت: إلى أين يا غلام؟ فقال: إلى مكة: فقلت: بلا زاد، ولا راحلة، ولا نفقة! فقال لي: يا ضعيف اليقين، الذي يقدر على حفظ السموات والأرضين لا يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا علاقة قال: فلما دخلت مكة إذا أنا به في الطواف وهو يقول:
يا عين سحى أبداً ... يا نفس موتي كمداً
ولا تحبي أحدً ... إلا الجليل الصمدا
فلما رآني قال لي: يا شيخ، أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين؟! وسمعته يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت النهرجوري يقول: إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة، والرخاء مصيبة.
وقال أبو بكر الوراق: القين على ثلاثة أوجه: يقين خبر، ويقين دلالة، ويقين مشاهدة.
وقال أبو تراب النخشبي: رأيت غلاماً في البادية يمشي بلا زاد، فقلت: إن لم يكن معه يقين فقد هلك. فقلت: يا غلام، في مثل هذا الموضع بلا زاد؟ فقال: يا شيخ ارفع رأسك هل ترى غير الله عزَّ وجلَّ؟ فقلت: الآن إذهب حيث شئت.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت محمد بن عيسى يقول: قال أبو سعيد الخراز: العلم ما استعملك، واليقين: ما حملك.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازيَّ يقول: سمعت أبا عثمان الآدمي يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: طلبت المعاش لأكل الحلال! فأصطدت السمك، فيوماً وقعت في الشبكة سمكة، فأخرجتها، وطرحت الشبكة في الماء فوقعت أخرى فيها فرميت بها ثم عدت، فهتف بي هاتف: لم تجد معاشاً إلا أن تأتي من يذكرنا فتقتلهم..! قال: فكسرتُ القبصة، وتركت الاصطياد.
باب الصبر

قال الله، عزَّ وجلَّ: " واصبر وما صبرك إلا بالله " .
وأخبرنا عليُّ بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمدبن عبيد البصري، قال: حدثنا أحمد بن علي الخراز قال: حدثنا أسيد بن زيد قال: حدثنا مسعود بن سعد، عن الزيات، عن أبي هريرة، عن عائشة، رضي الله عنها، رفعته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الصبر عند الصدمة الأولى " .
وأخبرنا علي بن أحمد قال: أخبرنا بن عبيد قال: حدثنا أحمد بن عمر، قال: حدثنا محمد بن مرداس قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصبر عند الصدمة الأولى " .
ثم الصبر على أقسام: صبر على ما هو كسب للعبد، وصبر على ما ليس بكسب له.
فالصبر على المكتسب، على قسمين: صبر على ما أمر الله تعالى به، وصبر على من نهى عنه.
وأما الصبر على ما ليس بمكتسب للعبد: فصبره على مقاساة ما يتصل به من حكم الله فيما يناله فيه مشقة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت السحين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الله تعالى شديد، والمسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد، والصبر مع الله أشد.
وسئل الجنيد عن الصبر، فقال: هو تجرع المرارة من غير تعبيس.
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بنزلة الرأس في الجسد.
وقال أبو القاسم الحكيم: قوله تعالى: " واصبر " أمر بالعبادة، وقوله: " وما صبرك إلا بالله " عبودية، فمن ترقىَّ من درجة لك إلى درجة بك؛ فقد انتقل من درجة العبادة إلى درجة العبودية.
قال صلى الله عليه وسلم: " بك أحيا وبك أموت " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمت أبا جعفر الرازي يقول: سمعت عياشاً يقول: سمعت أحمد يقول: سألت أبا سليمان عن الصبر، فقال: والله ما نصبر على ما نحب، فكيف على ما نكره؟ وقال ذو النون: الصبر: التباعد عن المخالفات، والسكونُ عند تجرع قصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
وقال ابن عطاء: الصبر: الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.
وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور شكوى.
وقال أبو عثمان: الصبار: الذي عوَّد نفسه الهجوم على المكاره.
وقيل: الصبر: المقام مع البلاء بحسن الصحية، كالمقام مع العافية.
وقال أبو عثمان: أحسن الجزاء على عبادة: الجزاء على الصبر، ولا جزاء فوقه، قال الله عزَّ وجلَّ: " ولنجزين الذين صبرواأجرهم بأحسن ما كانون يعملون " .
وقال عمرو بن عثمان: الصبر. هو الثبات مع الله سبحانه وتعالى، وتلقي بلائه بالرحب والدعة.
وقال الخوَّاص: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبين أشدُّ من صبر الزاهدين، واعجباً، كيف يصبرون؟ وأنشدوا:
الصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لايحمد
وقال رويم: الصبر: ترك الشكوى.
وقال ذون النون: الصبر: هو الاستعانة بالله تعالى.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: الصبر كأسمه.
وأنشدني الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أنشدني أبو بكر الرازي قال: أنشدني ابن عطاء لنفسه:
سأصبر، كي ترضى، وأتلف حسرة ... وحسبي أن ترضى ويتلفني صبري
وقال أبو عبد الله بن خفيف: الصبر على ثلاثة أقسام، متصبر، وصابر،وصبار.
وقال عليُّ بن أبي طالب، رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت علي بن عبد الله البصري يقول: وقف رجل على الشبليَّ فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله عزَّ وجلَّ، فقال: لا، فقال: الصبر لله، قال: لا. قال: الصبر مع الله، قال: لا. قال: فاي شيء؟ قال: الصبر عن الله.
قال: فصرخ الشبلي صرخة طادت روحه أن تتلف.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: الصبر: أن لايفرق بين حال النعمة والمحنة، مع سكون الخاطر فيهما. والتصبر: هو السكون، مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة.
وأنشد بعضهم:
صبرت ولم أطلع هواك على صبري ... وأخفيت ما بي منك عن موضع الصبر
مخافة أن يشكو ضميري صبابتي ... إلى دمعتي سرَّاً فتجري ولا أدري
سمت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: فاز الصابرون بعزِّ الدارين؛ لأنهم نالوا من الله تعالى معيته: قال الله تعالى: " إن الله مع الصابرين " .
وقيل في معنى قوله تعالى: " اصبروا وصابروا ورابطوا " الصبر: دون المصابرة، والمصابرة: دون المرابطة.
وقيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله تعالى، وصابروا بقلوبكم على البلوى في الله، ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله.
وقيل: أصبروا في الله، وصابروا بالله، ورابطوا مع الله.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: تخلق بأخلاقي، وإنَّ من أخلاقي أنني أنا الصبور.
قويل: يجرَّع الصبر، فإن قتلك قتلك شهيداً، وإن أحياك أحياك عزيزاً.
وقيل: الصبر لله: عناء، والصبر بالله: بقاء، والصبر في الله: بلاء. والصبر مع الله وفاء، والصبر عن الله: جفاء.
وأنشدوا:
والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الأشياء محمود
وأنشدوا:
وكيف الصبر عمن حل منى ... بمنزلة اليمين من الشمال
إذا لعب الرجال بكلِّ شيء ... رأيت الحب يلعب بالرجال
وقيل: الصبر على الطلب عنوان الظفر، والصبر في المحن علامة الفرج.
سمعت منصور بن خلف المغربي، رحمه الله، يقول: جُرِّد واحد للسياط، فلما ردَّ إلى السجن دعا ببعض أصحابه فتفل على يده، وألقى من فمه دقاق الفضة على يده فسئل، فقال: كان في فمي درهمان، وكان على حاشية الحلقة لي عين، فلم أرد أن أصيح لرؤيته إياي.. فكنت أعض على الدرهمين.. فتكسروا في فمي.
وقيل: حالك التي أنت فيها رباطك، وما دون الله تعالى أعداؤك، فأحسن المرابطة في رباط حالك.
وقيل: المصابرة: هي الصبر على الصبر، حتى يستغرق الصبر في الصبر فيعجز الصبر عن الصبر، كما قيل: صابر الصبر فاستغاث به فصاح المحب بالصبر صبراً وقيل: حبس الشبلي وقتاً في المارستان، فدخل عليه جماعة؛ فقال: من أنتم؟ فقالوا: أحباؤك جاءوك زائرين.
فأخذ يرميهم بالحجر، وأخذوا يهربون.
فقال: يا كذابون، لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي.
وفي بعض الأخبار. بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي.
وقال الله تعلى: " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " .
وقال بعضهم: كنت بمكة.. فرأيت فقيراً طاف بالبيت، وأخرج من جيبه رقعة، ونظر فيها، ومر، فلما كان بالغد، فعل مثل ذلك، فترقبته أياماً وهو يفعل مثل ذلك، فيوماً من الأيام طاف ونظر في الرقعة، وتباعد قليلا، وسقط ميتاً، فأخرجت الرقعة من جيبه، فإذا فيها: " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " .
وقيل: رؤي حدث يضرب وجه شيخ بنعله، فقيل له: ألا تستحي!؟ تضرب حر وجه شيخ بمثل هذا؟: فقيل: جرمه عظيم. فقيل: وما ذاك؟ فقال: هذا الشيخ يدّعي أنه يهواني، ومنذ ثلاث ما رآني.
وقال بعضهم: دخلت بلاد الهند، فرأيت رجلا بفرد عينيسمى فلانا الصبور فسألت عن حاله، فقيل: هذا في عنفوان شبابه سافر صديق له، فخرج في وداعه، فدمعت إحدى عينيه ولم تبك الأخرى، فقال لعينه التي لم تدمع: لِمَ لم تدمعي على فراق صاحبي؟ لأحرمنك النظر إلى الدنيا وغمض عينه، فمنذ ستين سنة لم يفتح عينه.
وقيل في قوله تعلى: " فاصبر صبراً جميلا " : الصبر الجميل: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو.
وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لو كان الصبر والشكر بعيرين، لم أبال أيهما ركبت.
وكان ابن شبرمة، رحمه الله، إذا نزل به بلاء قال:سحابة ثم تنقشع.
وفي الخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن الإيمان، فقال: " الصبر والسماحة " .
أبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن طاهر الصوفي قال: حدثنا محمد بن التيجاني قال: حدثنا محمد أبن إسماعيل البخاري قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدَّثنا سويد بن حاتم قال:حدثنا عبد الله بن عبيد، عن عمير، عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: " الصبر والسماحة " .
وسئل السري عن الصبر، فجعل يتكلم فيه، فدب على رجله عقرب، وهي تضربه بابرتها ضربات كثيرة، وهو ساكن: فقيل له: لِمَ لم تنحها؟.
فقال: استحييت من الله تعالى أن أتكلم في الصبر، ولم أصبر.
وفي بعض الأخبار: الفقراء الصبر هم جلساء الله تعالى يوم القيامة.
وأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: أنزلت بعبي بلائي، فدعاني، فماطلته بالإجابة، فشكاني، فقلت: يا عبدي، كيف أرحمك من شيء به أرحمك.
وقال ابن عيينة في معنى قوله تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا " ،قال: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤساء.
سمعت الأستاذ أبا عليٍّ الدقاق يقول: أن الصبر حده أن لا تعترض على التقدير؛ فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب: " إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوًّاب " مع ما أخبر عنه تعالى أنه قال " مسنى الضر " .
وسمعته يقول: استخرج الله منه هذه المقالة: يعني قوله: " مسني الضر " ؛ لتكون متنفسا لضعفاء هذه الأمة.
وقال بعضهم: إنا وجدناه صابراً، ولم يقل صبوراً لأنه لم يكن جميع أحواله الصبر، بل كان في بعض أحواله يستلذ البلاء، ويستعذبه، فلم يكفني حال الاستلذاذ صابراً؛ فلذلك لم يقل: صبوراً.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول: حقيقة الصبر: الخروج من البلاء على حسب الدخول فيه، مثل أيوب عليه السلام فإنه قال في آخر بلائه: " مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " فحفظ أدب الخطاب حيث عرض يقول: " وأنت أرحم الراحمين " ولم يصرح بقوله ارحمني.
واعلم أن الصبر على ضربين: صبر العابدين، وصبر المحبين.
فصبر العابدين، أحسنه: أن يكون محفوظاً، وصبر المحبين أحسنه: أن يكون مرفوضاً. وفي معناه أنشدوا:
تبين يوم البين أن اعتزامه ... على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
وفي هذا المعنى سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول: أصبح يعقوب، عليه السلام، وقد وعد الصبر من نفسه فقال: " فصبر جميل أي: فشأني صبر جميل، ثم لم يمس حتى قال: يا أسفاً على يوسف " .
باب المراقبة

قال الله تعالى: " وكان الله على كل شيء رقيباً " .
أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن اسحق، قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن اسحق، قال: حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم، قال: حدثنا خالد بن يزيد قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم؛ عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، فقال: يا محمد، ما الايمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته " وكتبه، ورسله، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره. قال: صدقت. قال: فتعجبنا من تصديقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني ما الاسلام؟ قال: الاسلام أن تقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال: صدقت. قال فأخبرني ما الاحسان؟ قال: الاحسان: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال صدقت.. " الحديث.
قال الشيخ: هذا الذي قاله صلى الله عليه وسلم: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إشارة إلى حال المراقبة، لأن المراقبة، علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه، فاستدامته لهذا العلم مراقبة لربه، وهذا أصل كل خير له.ولا يكاد يصل إلى هذه المرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة، فإذا حاسب نفسه على ما سلف له، وأصلح حاله في الوقت، ولازم طريق الحق، وأحسن بينه وبين الله تعالى مراعاة القلب، وحفظ مع الله تعالى الأنفاس، وراقب الله تعالى في عموم أحواله، فيعلم أنه سبحانه؛ عليه رقيب، ومن قلبه قرب، يعلم أحواله، ويرى أفعاله، ويسمع أقواله، ومن تغفل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة، فكيف عن حقائق القربة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: كان لبعض الأمراء وزير، وكان بين يديه يوماً، فالتفت إلى بعض الغلمان الذين كانوا وقوفاً، لا لريبة، ولكن لحركة أو صوت أحس به منهم، فاتفق أن ذلك الأمير نظر إلى هذا الوزير في تلك الحالة فخاف الوزير أن يتوهم الأمير أنه نظر إليهم، فجعل ينظر إليه كذلك، فبعد ذلك اليوم كان هذا الوزير يدخل على هذا الأمير، وهو أبداً ينظر إلى جانب، حتى توهم الأمير أن ذلك خلقه؛ وحول فيه. فهذه مراقبة مخلوق لمخلوف، فكيف مراقبة العبد لسيده؟ سمعت بعض الفقراء يقول: كان أمير له غلام يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من غلمانه؛ ولم يكن أكثرهم قيمة، ولا أحسنهم صورة، فقالوا له في ذلك، فأراد الأمير أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره. فيوماً من الأيام كان راكباً، ومعه الحشم، وبالبعد منهم جبل عليه ثلج، فنظر الأمير إلى ذلك الثلج وأطرق رأسه، فركض الغلام فرسه، ولم يعلم القوم لماذا ركض!. فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء ومعه شيء من الثلج. فقال له الأمير: ما أدراك أني أردت الثلج؟ فقال الغلام: لأنك نظرت إليه، ونظر السلطان إلى شيء لا يكون عن غيره قصد صحصح فقال الأمير: إنما أخصه بإكرامي وإقبالي، لأن لكل أحد شغلاً، وشغله مراعاة لحظائي، ومراقبة أحوالي.
وقال بعضهم: من راقب الله تعالى في خواطره، عصمه الله في جوارحه.
وسئل أبو الحسين بن هند: متى يهش الراعي غنمه بعصا الرعاية عن مراتع الهلكة؟ فقال: إذا علم أن عليه رقيباً.
وقيل: كان ابن عمر؛ رضي الله عنه، في سفر، فرأى غلاماً يرعى غنماً، فقال له: تبيع من هذه الغنم واحدة؟ فقال: إنها ليست لي فقال: قل لصاحبها إن الذئب أخذ منها واحدة، فقال العبد: فأين الله!! فكان ابن عمر يقول بعد ذلك إلى مدة: قال ذلك العبد: فأين الله.
وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف فوت حظه من ربه عز وجلا لا غير.
وكان بعض المشايخ له تلامذة.. فكان يخص واحداً منهم بإقباله عليه أكثر مما يقبل على غيره، فقالوا له في ذلك، فقال: أين لكن ذلك.. فدفع إلى كل واحد من تلامذته طائراً، وقال له: إذبحه بحيث لا يراه أحد، ودفع إلى هذا أيضا، فمضوا.. ورجع كل واحد منهم وقد ذبح طائره، وجاء هذا بالطائر حياً فقال: هلا ذبحته؟ فقال: أمرتني أن اذبحه بحيث لا يراه أحد، فقال: لهذا أخصه بإقبالي عليه.
وقال ذو النون المصري: علامة المراقبة: إيثار ما آثر الله تعالى، وتعظيم ما عظم الله تعالى، وتصغير ما صغر الله تعالى.
وقال النصراباذي: الرجاء: يحركك إلى الطاعات، والخوف: يبعدك عن المعاصي، والمراقبة: تؤديك إلى طرق الحقائق.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سألت جعفر بن نصير عن المراقبة، فقال: مراعاة السر، لملاحظة نظر الحق سبحانه مع كل خطرة.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: أمرنا هذا مبني على فصلين: وهو أن تلزم نفسك المراقبة لله تعالى، ويكون العلم على ظاهرك قائماً.
وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم البغدادي يقول: سمعت المرتعش يقول: المراقبة: مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة.
وسئل ابن عطاء: ما أفضل الطاعات؟ فقال: مراقبة الحق على دوام الأوقات.
وقال إبراهيم الخواص: المراعاة تورث المراقبة، والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: أفضل ما يلزم به الإنسان نفسه في هذه الطريقة: المحاسبة، والمراقبة، وسياسة عمله بالعلم.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول سمعت أبا عثمان: يقول: قال لي أبو حفص إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ولنفسك،ولا يغرنك إجتماعهم عليك، فنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعتأبا جعفر الصيدلاني يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: قال لي بعض مشايخي عليك بمراعاة سرك والمراقبة. قال: فبينا أنا يوماً أسير في البادية، إذ أنا بخشخشة خلفي، فهالني ذلك.. وأردت أن ألتفت فلم ألتفت.. فرأيت شيئاً واقفاً على كتفي.. فانصرف، وأنا مراع لسري.. ثم التفت، فإذا أنا بسبع عظيم.
وقال الواسطي: أفضل الطاعات حفظ الأوقات. وهو: أن لا يطالع العبد غير حده، ولا يراقب غير ربه، ولا يقارن غير وقته.
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب الرضا.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير