آخر الأخبار
موضوعات

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

- المعتمد من مصطلحات التصوف

عدد المشاهدات:
تفسير ألفاظ تدور بين هذه الطائفة
وبيان ما يشكل منها أعلم أنَّ من المعلوم: أن كلَّ طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها - فيما بينهم - انفردوا بها عمن سواهم، تواطئوا عليها؛ لأغراض لهم فيها: من تقريب الفهم على المخاطبين بها، أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم، بإطلاقها. وهذا الطائفة يستعملون ألفاظاً فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم؛ لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، واستخلص لحقائقها اسرار قوم.
ونحن نريد بشرح هذه الألفاظ: تسهيل الفهم على من يريد الوقوف على معانيهم من سالكي طرقهم، ومتبعي سنَّنهم.
فمن ذلك:
الوقت

حقيقة الوقت عند أهل التحقيق: حادث متوهِّم علق حصوله على حادث متحقق فالحادث المتحقق، وقت للحادث المتوهم، تقول: آتيك رأس الشهر، فالإتيان متوهم، ورأس الشهر حادث متحقق. فرأس الشهر وقت الإتيان.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول:
الوقت: ما أنت فيه، إن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى وإن كنت بالسُّرور فوقتك السرور وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن.
يريد بهذا: أن الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان.
وقد يعنون بالوقت: ما هو فيه من الزمان، فإن قوماً قالوا: الوقت ما بين الزمانين، يعني الماضي والمستقبل.
ويقولون: الصوفي ابن وقته، يريدون بذلك: أنه مشتغل بما هو أولى به من العبادات في الحال، قائم بما هو مطلوب به في الحين.
وقيل: الفقير لا يهمه ماضي وقته وآتيه، بل يهمه وقته الذي هو فيه.
ولهذا قيل: الاشتغال بفوات وقت ماض. تضبيع وقت ثان.
وقد يريدون بالوقت: ما يصادفهم من تصريف الحقِّ لهم، دون ما يختارونه لأنفسهم.
ويقولون: فلان بحكم الوقت. أي: أنه مستسلم لما يبدو له من الغيب من غير أختيار له.
وهذا فيما ليس لله تعالى عليهم فيه أمر أو اقتضاء بحق شرع، إذ التضييع لما أمرت به: وإحالة الأمر فيه على التقدير وتركُ المبالاة بما يحصل منك من التقصير: خروج عن الدين.
ومن كلامهم: الوقت سيف. أي: كما أنَّ السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب.
وقيل: السيف لين مسه، قاطع حده، فمن لاينهُ سلم، ومن خاشنه اصطلم. كذلك الوقت: من استسلم لحكمه نجا، ومن عارضه انتكس وتردي.
وأنشدوا في ذلك:
وكالسيف إن لاينته لان مسه ... وحدَّاه إن خاشنته خشنان
ومن ساعده الوقت: فالوقت له وقت.
ومن ناكده الوقت: فالوقت عليه مقت.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الوقت مبرد يستحقك ولا يمحقك.
يعني: لو محاك وأفتاك لتخلصت حين فنيت. لكنه يأخذ منك ولا يمحوك بالكلية - وكان ينشد في هذا المعنى: كل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي وكان ينشد أيضاَ:
كأهل النار إن نضجت جلود ... يورث القلب حسرة ثم يمض
وكان ينشد أيضاً:
كأهل النار إن نضجت جلود ... أعيدت للشقاء لهم جلود
وفي معناه:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميِّت ميت الأحياء
والكيِّس: من كان بحكم وقته؛ إن كان وقته الصحو فقيامه بالشريعة، ون كان وقته المحو، فالغالب عليه أحكام الحقيقة.
ومن ذلك:
المقام

والمقام: ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب؛ ممام يتوصَّل إليه بنوع تصُّرفَ، ويتحقق به بضرب تطلُّب، ومقاساة تكلف.
فمقام كل أحد: موضع إقامته عند ذلك، وما هو مشتغل بالرياضة له.
وشرطه: أن لا يرتقي من مقام إلى مقام آخر، ما لم يستوف أحكام ذلك المقام، فإن من لا قناعة له لا تصح له التوكل ومن لا توكل له لا يصح له التسليم، وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد.
والمقام: هو الإقامة، كالمُدخل بمعنى الإدخال، والمخرج بمعنى الإخراج.
ولا يصحُّ لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام، ليصحَّ بناء أمره على قاعدة صحيحة.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدَّقاق، رحمه الله تعالى، يقول: لما دخل الواسطي نيسابور، سأل أصحاب أبي عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات، ورؤية التقصير فيها.
فقال: أمركم بالمجوسيَّة المحضة، هلا أمركم بالغيْبة عنها، برؤية منشئها ومجريها؟ وإنما أراد الواسطي بهذا: صيانتهم عن محل الإعجاب.
لا تعريجاً في أوطان التقصير، أو تجويزاً للإخلال بأدب من الآداب.
ومن ذلك:
الحال

والحال عند القوم: معنى يَرِد على القلب، من غير تعمد منهم، ولا اجتلاب، ولا أكتساب لهم، من: طرب، أو حزن، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو انزعاج أو هبة، أو احتياج.
فالأحوال: مواهب، والمقامات. مكاسب.
والأحوال تأتي من عين الجواد، والمقامات تحصل ببذل المجهود.
وصاحب المقام ممكن في مقامه، وصاحب الحال مُترقَّ عن حاله.
وسئل ذو النون المصري، عن العارف، فقال: كان ها هنا، فذهب.
وقال بعض المشايخ: الأحوال كالبروق: فإن بقي فحديث نفس.
وقالوا: الأحوال كأسمها، يعني أنها: كما تحلُّ بالقلب نزول في الوقت.
وأنشدوا:
لو لم تَحُلْ ما سميت حالا ... وكل ما حال فقد زالا
انظر إلى الفيء إذا ما انتهى ... يأخذ في النقص إذا طالا
وأشار قوم إلى بقاء الأحوال، ودوامها. وقالوا: إنها إذا لم تدم ولم تتوَال فهي لوائح وبواده، ولم يصل صاحبها بعد إلى الأحوال فإذا دامت تلك الصفة فعند ذلك تسمَّى: حالاً.
وهذا أبو عثمان الحيري يقول: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهْتُه.
أشار إلى دوام الرِّضا، والرضا من جملة الأحوال.
فالواجب في هذا: أن يقال: إن من أشار إلى بقاء الأحوال فصحيح ما قال، فقد يصير المعنى شِرْباً لأحد فيربّي فيه.
ولك لصاحب هذه الحال أحوال: هي طوارق لا تدوم فوق أحواله التي صارت شرباً له؛ فإذا دامت هذه الطوارق له، كما دامت الأحوال المتقدمة، ارتقى إلى أحوال أخر، فوق هذه وألطف من هذه، فأبداً يكون في الترقي.
سمعت الآستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول في معنى قول صلى الله عليه وسلم: إنه ليغَان على قلبي حتى أستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة: أنه كان صلى الله عليه وسلم أبداً في الترقي من أحواله فإذا ارتقى من حالة إلى حالة أعلى مما كان فيها، فربما حصل له ملاحظة إلى ما ارتقى عنها، فكان يعدُّها غيْناً بالإضافة إلى ما حصل فيها، فأبداً كانت أ؛واله في التزايد.
ومقدورات الحق سبحانه، من الآلطاف: لا نهاية لها؛ فإذا كان حق الحق تعالى، العز، وكان الوصول إليه بالتحقيق محالاً، فالعبد أبداً في ارتقاء أحواله.
فلا معنى يوصل إليه، إلا وفي مقدوره سبحانه ما هو فوقه، يقدر أن يوصله إليه. وعلى هذا يحمل قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وسئل الجنيد عن هذا، فأنشد:
طوارق أنوار تلوح إذا بدت ... فتظهر كتماناً وتخبر عن جمع
ومن ذلك:
القبض والبسط

وهما: حالتان، بعد ترقيِّ العبد عز حالة الخوف والرجاء.
فالقبض للعارف: بمنزلة الخوف للمستأنف.
والبسط للعارف: بمنزلة الرجاء للمستأنف.
ومن الفصل بين القبض والخوف، والبسط والرجاء: أن الخوف ما يكون من شيء في المستقبل، إما أن يخاف فوقت محبوب أو هجوم محذور.
وكذلك الرجاء: إنما يكون بتأميل محبوب في المستقبل، أو بتطلع زوال محذور وكفاية مكروه في المستأنف.
وأما القبض: فلمعنى حاصل في الوقت، وكذلك البسط، فصاحب الخوف والرجاء: تعلق قلبه في حالتيه بآجله. وصاحب القبض والبسط أخذ وقته بوارد غلب عليه في عاجله.
ثم تتفاوت نعوتهم في القبض والبسط على حسب تفاوتهم في أحوالهم: فمن واردٍ يوجب قبضاً، ولكن يبقى مساغ للأشياء الأخر، لأنه غير مستوف ومن مقبوض لا مساغ لغير وارده فيه، لأنه مأخوذ عنه بالكلية بوارده.
كما قال بعضهم: أنا ردْم، أي: لا مساغ فيّ.
وكذلك المبسوط: قد يكون فيه بسط يسع الخلق، فلا يستوحش من أكثر الأشياء، ويكون مبسوطاً لا يؤثر فيه شيء بحال من الأحوال.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: دخل بعضهم على أبي بكر القحطي؛ وكان له ابن يتعاطى ما يتعاطاه الشباب، وكان ممر هذا الداخل على هذا الابن، فإذا هو مع أقرانه في اشتغاله ببطالته.
فرق قلبه، وتألم للقحطي، وقال: مسكين هذ الشيخ، كيف ابتلي بمقاساة هذا الإبن؟ فلما دخل على القحطي، وجده كأنه لا خبر له بما يجري عليه من الملاهي، فتعَّجب منه، وقال فديت، من لا تؤثر فيه الجبال الرواسي.
فقال القحطي: إنا قد حررنا عن رق الأشياء في الأزل.
ومن أدنى موجبات القبض: أن يرد على قلبه وارد موجبه إشارى إلى عتاب ورمز باستحقاق تأديب، فيحصل في القلب لا محالة، قبض.
وقد يكون موجب بعض الواردات إشارة إلى تقريب، أو إقبال بنوع لطف وترحيب، فيحصل للقلب بسط.
وفي الجملة: قبض كل أ؛د حسب بسطه، وبسطه على حسب قبضه.
وقد يكون قبض يشكل على صاحبه سببه: يجد في قلبه قبضاً لا يدري موجبه ولا سببه، فسبيل صاحب هذا القبض التسليم، حتى يمضي ذلك الوقت، لأنه لو تكلف نفيه، أو استقبل الوقت قبل هجومه عليه باختياره زاد في قبضه.
ولعله يعد ذلك منه: سوء أدب.
وإذا استسلم لحكم الوقت، فمن قريب يزول القبض، فإن الحق سبحانه قال: والله يقبض وببسط.
وقد يكون بسط يرد بغتة، ويصادف صاحبه فلتة لا يعرف له سبباً، يهز صاحبه ويستفزه، فسبيل صاحبه السكون، ومراعاة الأدب، فإن في هذا الوقت له خطراً عظيما فليحذر صاحبه مكراً خفياً.
كذا قال بعضهم: فتح عليَّ باب من البسط، فزللت زلة فحجبت عن مقامي.
ولهذا قالوا: قف على البساط، وإيَّاك والانبساط.
وقد عدّ أهل التحقيق حالتي القبض والبسط: من جملة ما استعاذوا منه، لأنهما بالإضافة إلى ما فوقهما من استهلاك العبد واندراجه في الحقيقة: فقر وضر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: الخوف من الله يقبضني، والرجاء منه: يبسطني. والحقيقة: تجمعني، والحق: يفرقني، إذا قبضني بالخوف أفناني عني، وذا بسطني بالرجاء ردني علي وإذا جمعني بالحقيقة أحضرني وإذا فرقني بالحق أشهدني غيري، فغطاني عنه، فهو تعالى في ذلك كله محركي غير ممسكي، وموحشي غير مؤنسي، فأنا بحضوري أذوق طعم وجودي، فليته أفناني عني فمتعني، أو غيبني عني فروحني.
ومن ذلك:
الهيبة والأنس

وهما: فوق القبض والبسط.
فكما أن القبض: فوق رتبة الخوف.
والبسط: فوق منزلة الرجاء.
فالهيبة: أعلى من القبض والأنس أنم من البسط، وحق الهيبة الغيبة، فكل هائب غائب.
ثم الهائيون: يتفاوتون في الهيبة على حسب تباينهم في الغيبة فمنهم.. ومنهم وحق الأنس: صحو بحق، فكل مستأنس: صاح ثم يتباينون حسب تباينهم في الشرب.
ولهذا قالوا: أدنى محل الأنس: أنه لو طرح في لظى لم يتكدر عليه أنسه قال الجنيد، رحمه الله: كنت أسمع السريَّ يقول: يبلغ العبد إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر.
وكان في قلبي منه شيء، حتى بان لي أن الأمرَ كذلك.
وحكي أبي عن مقاتل العكي أنه قال: دخلت على الشبلي؛ وهو ينتف الشَّعر من حاجبه بمنقاش، فقلت: يا سيدي، أنت تفعل هذا بنفسك! ويعود ألمه إلى قلبي!!! فقال: وبلك، الحقيقة ظاهرة لي ولست أطيقها: فهوذا، فأنا أدخل الألم على نفسي؛ لعلي أحس به، فيستتر عني، فلست أجد الألم، وليس يستتر عني، وليس لي به طاقة: وحال الهيبة والأنس، وإن جلتا، فأهل الحقيقة يعدونهما: نقصاً لتضمنهما تغير العبد فإن أهل التمكين سمت أحوالهم عن التغير. وهم محوفي وجود العين، فلاهيبة لهم ولا أنس، ولا علم ولا حس.
والحكاية معروفة عن أبي سعيد الخرَّاز، أنه قال: نهت في البادية مرة، فكنت أقول:
أتيه فلا أدري من التيه من أنا ... سوى ما يقول الناس في وفي جنسي
أتيه على جن البلاد وإنسها ... فن لم أجد شخصاً أتيه على نفسي
قال فسمعت هاتفاً يهتف بي، ويقول:
فلو كنت من أهل الوجود حقيقة ... لغبت عن الأكوان والعرش والكرسي
وإنما يرتقي العبد عن هذه الحالة بالوجود.
ومن ذلك:
التواجد والوجد والوجود

فالتواجد: استدعاء الوجد بضرب اختيار، وليس لصاحبه كمال الوجد؛ إذ لو كان لكان واجداً، وباب التفاعل أكثره على إظهار الصفة، وليست كذلك.
قال الشاعر:
إذا تخازرت، وما بين من خزر ... ثم كسرت العين من غير ما عور
فقوم قالوا: التواجد غير مسلم لصاحبه، لما يتضمن من التكلف ويبعد عن التحقيق.
وقوم قالوا: إنه مسلمَّ للفقراء المجرّدين، الذين ترصَّدوا لوجدان هذه المعاني، وأصلهم. خبرُ الرسول صلى الله عليه وسلم:أبكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا، والحكاية المعروفة لأبي محمد الجريري، رحمه الله، أَنه قال: كنت عند الجنيد، وهناك ابن مسروق وغيره، وثمَّ قوال، فقام ابن مسروق وغيره.. والجنيد ساكن، فقلت: يا سيدي، مالك في السمَّاع شيء!! قال الجنيد: وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مرَّ السحاب ثم قال: وأنت يا أبا محمد، مالك في السِّماع شيء؟ فقلت: يا سيدي، أنا إذا حضرت موضعاً فيه سماع وهناك مُحتشم أمسكت على نفسي وجدي، فإذا خلوت أرسلت وجدي، فتواجدْت.
فأطلق في هذه الحكاية التواجد، ولم ينكر عليه الجنيد.
سمعت الأستاذ أبا عليٍّ الدقاق، رحمه الله، يقول: لما راعي أبو محمد، أدب الأكابر في حال السماع، حفظ الله عليه وقته، ببركات الأدب، حتى يقول: أمسكت على نفسي وجدي فإذا خلوت أرسلت وجدي فتواجد؛ لأنه لا يمكن إرسال الوجد، إذا شئت، بعد ذهاب الوقت وغلباته.
ولكنه لما كان صادقاً في مراعاة حرمة الشيوخ، حفظ الله تعالى عليه وقته، حتى أرسل وجده عند الخلوة.
فالتواجد: ابتداء الوجد على الوصف الذي جرى ذكره، وبعد هذا.
والوجد: ما يصادف قلبك، ويرد عليك بلا تعمد وتكلف.
ولهذا قال المشايخ: الوجد: المصادفة والمواجيد: ثمرات الأورد.
فكل من ازدادت وظائفه ازدادت من الله لطائفة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الواردات: من حيث الأوراد: فمن لا ورد له بظاهره لا ورد له في سرائره، وكل وجد فيه من صاحبه شيء، فليس يوجد.
وكما أن ما يتكلفه العبد من معاملات ظاهرة يوجب له حلاوة الطاعات، فما ينازله العبد من أحكام باطنه يوجب له المواجيد.
فالحلاوات ثمرات المعاملات والمواجيد: نتائج المنازلات.
أما الوجود: فهو بعد الارتقاء عن الوجد.
ولا يكون وجود الحق، إلا بعد خمور البشرية، لأنه لا يكون للبشرية بقاء عند ظهور سلطان الحقيقة.
وهذا معنى قول أبي الحسين النوري: أنا منذ عشرين سنة بين الوجد والفقد: أي: إذا وجدت ربيَّ فقدت قلبي، وإذا وجدت قلبي فقدت ربي.
وهذا معنى قول الجنيد: علم التوحيد: مباين لوجوده، ووجوده مباين لعلمه.
وفي هذا المعنى أنشدوا:
وجودي أن أغيب عن الوجود ... بما يبدو عليَّ من الشهود
فالتواجد: بداية. والوجود: نهاية والوجد واسطة بين البداية والنهاية.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: التواجد يوجب استغراق العبد.
والوجود يوجب استهلاك العبد.
فهو كمن شهد البحر، ثم ركب البحر، ثم غرق في البحر.
وترتيب هذا الأمر: قصود، ثم ورود، ثم شهود، ثم جمود، ثم خمود.
وبمقدار الوجود يحصل الخمود، وصاحب الوجود له: صحو، ومحو.
فحال صحوة: بقاؤه بالحق، وحال محوه، فناؤه بالحق.
وهاتان الحالاتان أبداً متعاقبتان عليه: فإذا غلب عليه الصَّحو بالحق، فيه يصول، وبه يقول.
قال عليه السلام، فيما أخبر عن الحق: فبي يسمع، وبي يبصر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: وقف رجل على حلقة الشبلي، فسأله: هل تظهر آثار صحة الوجود على الواجدين؟؟ فقال: نعم: نور يزهر مقارناً لنيران الاشتياق، فتلوح على الهياكل آثارها كما قال ابن المعتز:
وأمطر الكأس ماء من أبارقها ... فأنبت الدر في أرض من الذهب
وسبح القوم لما أن رأوا عجباً ... نوراً من الماء في نار من العنب
سلاقة ورثتها عاد عن إرم ... كانت ذخيرة كسرى عن أب فأب
وقيل لأبي بكر الدقيَّ: إن جهماً الدقيَّ أخذ شجرة بيده في حال السماع في ثورانه، فقلعها من أصلها: فاجتمعا في دعوة، وكان الدقي كفَّ بصرهُ، فقام الدقي يدور في حال هيجانه فقال الدقي: إذا قرب منيِّ أرونيه.
وكان الدقي ضعيفاً، فمر به، فلما قرب منه، قالوا له: هذا هو.
فأخذ الدقي ساق جهم فوقفه، فلم يمكنه أن يتحرك.
فقال جهم: أيها، الشيخ، التوبة.. التوبة!! فخلاه: قال الأستاذ الإمام، أدام الله جماله: فكان ثوران جهم في حق، وإمساك الدقي بساقه بحق، ولما علم جهم أن حال الدقي فوق حاله رجع إلى الإنصاف واستسلم وكذا من كان بحق لا يستعطي عليه شيء. فأما إذا كان الغالب عليه المحو فلا علم، ولا عقل، ولا فهم؛ ولاحس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يذكر بإسناده أن أبا عقال المغربي: أقام بمكة أربع سنين لم يأكل، ولم يشرب، إلى أن مات.
ودخل بعض الفقراء على أبي عقال، فقال له: سلام عليكم.
فقال له أبو عقال: وعليكم السلام فقال الرجل: أنا فلان فقال أبو عقال: أنت فلان، كيف أنت؟ وكيف حالك؟: وغاب عن حالته.
وقال هذا الرجل، فقلت له: سلام عليكم.
فقال: عليكم السلام وكأنه لم يرني قط.
ففعلت مثل هذا غير مرة، فعلمت أن الرجل غائب، فتركته، وخرجت من عنده.
سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت عمر بن محمد بن أحمد يقول: سمعت امرأة أبي عبد الله النروغندي تقول: لما كانت أيام المجاعة، والناس يموتون من الجوع، دخل أبو عبد الله التروغندي بيته، فرأي في بيته مقدار منوين حنطة، فقال: الناس يموتون من الجوع، وفي بيتي حنطة!! فخولط في عقله، فما كان يفيق إلا في أوقات الصلاة يصلي الفريضة ثم يعود إلى حالته، فلم يزلَ كذلك إلى أن مات.
دلَّت هذه الحكاية على أن هذا الرجل كان محفوظاً عليه آداب الشريعة عند غلبات أحكام الحقيقة وهذا هو صفة أهل الحقيقة، ثم كان سبب غيبته عن تمييزه: شفقته على المسلمين وهذا أقوى سمة لتحققه في حاله.
ومن ذلك:
الجمع والفرق

لفظ الجمع والتفرقة يجري في كلامهم كثيراً.
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق يقول: الفرق: ما نسب إليك.
والجمع: ما سلب عنك.
ومعناه: أن ما يكون كسباً للعبد، من إقامة العبودية، وما يليق بأحوال البشرية، فهو: فرق.
وما يكون من قبل الحق، من إبداء معان، وإسداء لطف وإحسان فهو: جمع هذا أدنى أحوالهم في الجمع والفرق، لأنه من شهود الأفعال. فمن أشهده الحق - سبحانه - أفعاله عن طاعاته ومخالفاته فهو: عبد بوصف التفرقة، ومن أشهده الحق - سبحانه - ما يوليه: من أفعال نفسه سبحانه، فهو: عبد بشاهد الجمع.
فإثبات الخلق من باب التفرقة، وإثبات الحق من نعت الجمع.
ولا بد للعبد من الجمع والفرق، فإن من لاتفرته له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له، فقوله: إياك نعبد إشارة إلى الفرق. وقوله: وإياك نستعين إشارة إلى الجمع.
وإذا ما خاطب العبد الحق سبحانه، بلسان نجواه: إما سائلاً، أو داعياً، أو مثنياً، أو شاكراً، أو متنصلاً، أو مبتهلاً؛ قام في محل التفرقة.
وإذا أصغى بسره إلى ما يناجيه به مولاه، واستمع بقلبه ما يخاطبه به، فيما ناداه، أو ناجاه، أو عرفه، أو لوح لقلبه وأراده، فو بشاهد الجمع.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: أنشد قوال بين يدي الأستاذ أبي سهل الصعلوكي، رحمه الله: جعلت تنزهي نظري إليك.
وكان أبو القاسم النصراباذي، رحمه الله، حاضراً، فقال الأستاذ أبو سهل: جعلت، بنصب التاء. وقال النصراباذي: بل جعلت بضم التاء: فقال الأستاذ أبو سهل: أليس عين الجمع أتم؟ فسكت النصراباذي.
وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي أيضاً يحكي هذه الحكاية على هذا الوجه.
ومعنى: هذا أن من قال جعلت بضم التاء يكون إخباراً عن حال نفسه، فكأن العبد يقول هذا من عنده. وإذا قال جعلت بالفتح فكأنه يتبرأ من أن يكون ذلك يتكلفه، بل يخاطب مولاه فيقول: أنت الذي خصصتني بهذا، لا أنا بتكلفي.
فالأول على خطر الدعوى، والثاني بوصف التبري من الحول، والاقرار بالفضل والطول: والفرق بين من يقول بجهدي أعبدك. وبين من يقول: بفضلك ولطفك أشهدك.
ومن ذلك: جمع الجمع وجمع الجمع: فوق هذا.
يختلف الناس في هذه الجملة على حسب تباين أحوالهم، وتفوت درجاتهم: فمن أثبت نفسه، وأثبت الخلق، ولكن شاهد الكل قائماً بالحق، فهذا هو: جمع.
وإذا كان مختطفاً عن شهود الخلق، مصطلماً عن نفسه، مأخوذاً بالكلية عن الإحساس بكلِّ غير، بما ظهر، واستولى من سلطان الحقيقة، فذاك جمع الجمع.
فالتفرقة: شهود الأغيار لله عزَّ وجلَّ.
والجمع: شهود الأغيار بالله.
وجمع الجمع: الاستهلاك بالكلية، وفناء الإحساس بما سوي الله عز وجل عند غلبات الحقيقة.
وبعد هذا حالة عزيزة يسميها القوم: الفرق الثاني وهوأن يرد للعبد إلى الصحو عند أوقت أداء الفرائض، ليجري عليه القيام بالفرائض في أوقاتها، فيكون رجوعاً لله بالله تعالى لا للعبد بالعبد: فالعبد يطالع نفسه، في هذه الحالة، في تصريف الحق سبحانه، يشهد مبدىء ذاته وعينه بقدرته، ومجرى أفعاله وأحواله عليه، بعلمه ومشيئته.
وأشار بعضهم بلفظ الجمع والفرق إلى تصريف الحق جميع الخلق.
فجمع الكل في التقليب والتصريف: من حيث إنه منشىء ذواتهم ومجري صفاتهم، ثم فرقهم في التنويع: ففريقاً أسعدهم، وفريقاً أبعدهم وأشقاهم، وفريقا هداهم، وفريقاً أضلهم وأعماهم، وفريقاً حجبهم عنه، وفريقاً جذبهم إليه، وفريقاً آنسهم بوصله، وفريقاً آيسهم من رحمته. وفريقاً أكرمهم بتوفيقه، وفريقاً اصطلمهم عند رومهم لتحقيقه، وفريقاً أصحاهم، وفريقاً محاهم وفريقاً قربهم. وفريقاً غيبهم وفريقاً أدناهم وأحضرهم، ثم أسقاهم فأسكرهم. وفريقاً أشقاهم وأخرهم ثم أقصاهم وهجرهم.
وأنواع أفعاله لا يحيط بها حصر، ولا يأتي على تفيلها شرح ولا ذكر وأنشدوا للجنيد، رحمه الله؛ في معنى الجمع والتفرقة:
وتحققتك في سري فناجاك لساني
فاجتمعنا لمعاني وافترقنا لمعاني
إن يكن غيبك التعظيم عن لحظ عياني
فقد صيرك الوجد من الأحشاء داني
وأنشدوا:
إذا ما بدا لي تعاظمته ... فأصدر في حال من لم يرد
جمعت وفرقت عني به ... ففرد التواصل مثنى العدد
ومن ذلك:
الفناء واليقاء

أشار القوم بالفناء: إلى سقوط الأوصاف المذمومة.
وأشاروا بالبقاء: إلى قيام الأوصاف المحمودة به.
وإذا كان العبد لا يخلو عن أحد هذين القسمين، فمن المعلوم: أنه إذا لم يكن أحدُ القسمين كان القسمَ الآخر لا محالة، فمن فنى عن أوصافه المذمومة ظهرت عليه الصفات المحمودة، ومن غلبت عليه الخصال المذمومة استترت عنه الصفات المحمودة.
وأعلم أن الذي يتصف به العبد: أفعال، وأخلاق، وأحوال.
فالأفعال: تصرفاته باختياره.
والأخلاق: جبلةَّ فيه، ولكن تتغَّير بمعالجته على مستمرِّ العادة.
والأحوال: ترد على العبد على وجه الابتداء، لكن صفاؤها بعد زكاء الأعمال.
فهي كالأخلاق من هذا الوجه، لأن العبد إذا نازل الأخلاق بقلبه فينفي بجهده سفسافها، مَنّ الله عليه بتحسين أخلاقه، فكذلك إذا واظب على تزكية أعماله، ببذل وُسعه من الله عليه بتصفية أحواله بل فمن ترك مذمومَ أفعاله بلسان الشريعة يقال: أنه فنى عن شهواته.
فإذا فنى عن شهواته بقي بنيتَّه وإخلاصه في عبوديته.
ومن زَهد في دنياه بقلبه، يقال. فنى عن رغبته: فإذا فني عن رغبته فيها بقي بصدق إنابته.
ومن عالج أخلاقه فنفى عن قلبه الحسد والحقد، والبخل، والشخ والغضب، والكبر، وأمثال هذا من رعونات النفس، يقال: فنى عن سوء الخلق.
فإذا فنى عن سوء الخلق بقي بالفتوة والصدق.
ومن شاهد جريان القدرة في تصاريف الأكام، يقال: فنى عن حسبان الحدثان من الخلق. فذا فنى عن توهم الآثار من الأغيار بقي بصفات الحقِّ.
ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار لا عيناً ولا أثراً؛ ولا رسماً، ولا طللاً؛ يقال: إنه فنى عن الخلق وبقي بالحقِّ.
ففناء العبد عن أفعاله الذميمة، وأحواله الخسيسة: بعدم هذه الأفعال.
وفناؤ عن نفسه، وعن الخلق: بزوال إحساسه بنفسه وبهم.
فإذا فنى عن الأفعال، والأخلاق، والأحوال، فلا يجوز أن يكون ما فنى عنه من ذلك موجوداً.
وإذا قيل: فنى عن نفسه؛ وعن الخلق، فنفسه موجودة، والخلق موجودون. ولكنه لا علم له بهم ولا به، ولا إحساس، ولا خبر، فتكون نفسه موجودة، والخلق موجودين ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين، غير محس بنفسه وبالخلق.
وقد ترى الرجل يدخل على ذى سلطان؛ أو محتشم، فيُذهل عن نفسه، وعن أهل مجلسه هيبة، وربما يذهل عن ذلك المحتشم، حتى إذا سئل بعد خروجه من عنده، عن أهل مجلسه وهيآت ذلك الصدر، وهيآت نفسه، لم يمكنه الإخبار عن شيء.
قال الله تعالى: فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن.
لم يجدن عند لقاء يوسف عليه السلام، على الوهلة ألم قطع الأيدي، وهن أضعف الناس، وقلن: ما هذا بشراً - ولقد كان بشراً - .
وقلن: إن هذا إلا ملك كريم - ولم يكن ملكاً - .
فهذا تغافل مخلوق عن أحواله عند لقاء مخلوق، فماظنك بمن تكاشف بشود الحق سبحانه؟! فلو تغافل عن إحساس بنفسه وأبناء جنسه، فأي أعجوبة فيه؟! فمن فنى عن جهله بقي بعلمه.. ومن فنى عن شهوته بقي بإنابته..
ومن فنى عن رغبته بقي بزهادته.. ومن فنى عن منيته بقي بإرادته تعالى.
وكذلك القول في جميع صفاته: فإذا فنى العبد عن صفته بما جرى ذكره، يرتقي عن ذلك بفنائه عن رؤية فنائه وإلى هذا أشار قائلهم:
فقوم تاه في أرض بفقر ... وقوم تاه في ميدان حبه
فأفَنوا ثم أفنوا ثم أفنوا ... وأبقوا بالبقاء من قرب ربه
فالأول أفناه عن نفسه وصفاته ببقائه بصفات الحق.
ثم فناؤه عن صفات الحق بشهودة الحق.
ثمن فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق.
ومن ذلك:
الغيبة والحضور

فالغيبة: غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق، لاشتغال الحسن بما ورد عليه، ثم قد يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره، بوارد من تذكر ثواب، أوتفكر عقاب.
كما روي أن: الربيع بن خيثم كان يذهب إلى ابن مسعود، رضي الله عنه، فمر بحانوت حدَّاد، فرأي الحديدة المحماة في الكير، فغشى عليه.. ولم يفق إلى الغد.
فلما أفاق، سئل عن ذلك، فقال: تذكرتكون أهل النار في النار: فهذه غيبة زادت على حدها، حتى صارت غشية.
وروي عن علي بن الحسين: أنه كان في سجوده، فوق حريق في داره، فلم ينصرف عن صلاته، فسئل عن حاله، فقال: ألهتني النار الكبرى عن هذه النار.
وربما تكون الغيبة عن إحساسه بمعنى يكاشف به من الحق سبحانه ثم إنهم مختلفون في ذلك على حسب أحوالهم. ومن المشهور: أن ابتداء حال أبي حفص النيسابوري الحداد في ترك الحرفة، أنه كان على حانوته، فقرأ قارىء آية من القرآن، فورد على قلب أبي حفص وارد تغافل عن إحساسه، فأدخل يده في النار، وأخرج الحديدة المحماة بيده، فرأى تلميذاً له ذلك، فقال: يا أستاذ، ما هذا؟ فنظر أبو حفص إلى ما ظهر عليه، فترك الحرفة؛ وقام من حانوته.
وكان الجنيد قاعداً؛ وعند امرأته؛ فدخل عليه الشبلي؛ فأرادت امرأته أ، تستتر؛ فقال لها الجنيد: لا خبر للشبليِّ عنك؛ فاقعدي.
فلم يزل يكلمه الجنيد؛ حتى بكى الشبلي؛ فلما أخذ الشبلي في البكاء قال الجنيد لامرأته: استتري، فقد أفاق الشبلي من غيبته.
سمعت أبا نصر المؤذن بنيسابور؛ وكان رجلاً صالحاً، قال: كنت أقرأ القرآن في مجلس الأستاذ أبي عليِّ الدَّقاق بنيسابور؛ وقت كونه هناك وكان يتكلم في الحج كثيراً، فأثرَّ في قلبي كلامه، فخرجت إلى الحج تلك السنة؛ وتركت الحانوت والحرفة؛ وكان الأستاذ أبو علي رحمه الله؛ خرج إلى الحج أيضاًفي تلك السنة. وكنت مدّضة كونه بنيسابور أخدمه. وأواظب على القراءة في مجلسه. فرأيته يوماً في البدية: تطهر.. ونسي قمقمة كانت بيده.. فحملتها. فلما عاد إلى رحله وضعتها عنده فقال: جزاك الله خيراً. حيث حملت هذا.
ثمنظر إلي طويلاً كأنه لم يرَن قط: وقال: رأيتك مرة. فمن أنت؟ فقلت: المستغاث بالله!! صحبتك مدة.. وخرجت عن مسكني ومالي بسببك، وتقطعت في المفازة بك. والساعة تقول رأيتك مرة!! وأما الحضور: فقد يكون حاضراً بالحق؛ لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق، على معنى أنه يكون كأنه حاضر، وذلك لاستيلاء ذكر الحق على قلبه، فهو حاضر بقلبه بين يدي ربه تعالى؛ فعلى حسب غيبته عن الحق يكون حضوره بالحق، فإن غاب بالكلية كان الحضور على حسب الغيبة.
فإذا قيل: فلان. حاضر، فمعناه أنه حاضر بقلبه لربه، غير غافل عنه، ولا ساه، مستديم لذكره. ثم يكون مكاشفاً في حضوره على حسب رتبته بمعان يخصه الحق سبحانه وتعالى بها.
وقد قال لرجوع العبد إلى إحساسه بأحوال نفسه، وأحوال الخلق:إنه حضر أي رجع عن غيبته، فذا يكون حضوراً بخلق؛ والأول حضوراً بحق.
وقد تختلف أحوالهم في الغيبة. فمنهم من لا تمتد غيبته، ومنهم من تدوم غيبته.
وقد حكى أن ذا النون المصري بعث إنساناً من أصحابه إلى أبي يزيد، لينقل إليه صفة أبي يزيد... فلما جاء الرجل إلى بسطام. سأل عن دار أبي يزيد. فدخل عليه فقال له أبو يزيد: ما تريد؟ فقال: أريد أبا يزيد.
فقال: من أبو يزيد؟ وأين أبو يزيد؟ أنا في طلب أبي يزيد.
فخرج الرحل، وقال: هذا مجنون.
ورجع الرجل إلى ذي النون. فأخبره بما شهده. فبكى ذو النون وقال: أخي أبو يزيد ذهب في الذاهبين إلى الله.
ومن ذلك:
الصحو والسكر

فالصحو: رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة.
والسكر: غيبة بوارد قوي.
والسكر زيادة على الغيبة من وجه، وذلك أن صاحب السكر قد يكون مبسوطاً إذا لم يكن مستوفى في حال سكره، وقد يسقط إخطار الأشياء عن قلبه في حال سكره، وتلك حال المتساكر، الذي لم يستوفه الوارد، فيكون للأحساس فيه مساغ، وقد يقوى سكره حتى يزيد على الغيبة، فربما يكون صاحب السكر أشد غيبة من صاحب الغيبة ذا قوي سكره، وربما يكون صاحب الغيبة أتمَّ في الغيبة من صاحب السكر، إذا كان متساكراً غير مستوف.
والغيبة قد تكون للعباد، بما يغلب على قلوبهم من موجب الرغبة والرهبة ومقتعنيات الخوف والرجاء.
والسكر لا يكون إلا لأصحاب المواجيد.
فإذا كوشف العبد بنعت الجمال حصل السكر، وطاب الروح، وهام القلب، وفي معناه أنشدوا:
خصوك من لفظي هو الوصل كله ... وسكر من لحظي يبيح لك الشربا
فماملَّ ساقيها وما مل شارب ... عقار لحاظ كأسه يسكر اللبة
وأنشدوا:
فأسكر القوم دور كأس ... وكان سكري من المدير
وأنشدوا:
لي سكرتان، وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
وأنشدوا:
سكران: سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى يفيق فتى به سكران
وأعلم أن الصحو على حسب السكر، فمن كان سكره بحق، كان صحوه بحق.
ومن كان سكره بحز مشوباً؛ كان صحوه بحظ مصحوباً.
ومن كان محقاً في حاله كان محفوظاً في سكره.
والسكر والصحو يشير إلى طرف من التفرقة.
وإذا ظهر من سلطان الحقيقة علم فصفة العبد الثبور، والقهر.
وفي معناه أنشدوا:
إذا طلع الصبح لنجم راح ... تساوى فيه سكران وصاح
وال تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً، وخر موسى صعفاً.
هذا مع رسالته وجلالة قدره خر صعقاً، وهذا مع صلابته، وقوته، ردكاً متكسراً.
والعبد في حال سكره بشاهد الحال.
وفي صحوه بشاهد العلم.
إلا أنه في حال سكره محفوظ لا بتكلفه: وفي حال صحوه متحفظ بتصرفه.
والصحو والسكر بعد الذوق والشرب.
ومن ذلك:
الذوق والشرب

ومن جملة ما يجري في كلامهم: الذوق، والشرب.
ويعبرون بذلك عما يجدونهمن ثمرات التجلي، ونتائج الكشوفات. وبواده الواردات.
وأول ذلك: الذوق، ثم الشرب، ثم الرىُّ.
فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني؟ ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب.
ودوام مواصلاتهم يقتضي لهم الرىَّ.
فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الريِّ صاح.
ومن قوي حبه تسرمد شربه، فإذا دامت به تلك الصفة لم يورثه الشرب سكراً، فكان صاحياً بالحق، فانياً عن كل حظ: لم يتأثر بما يرد عليه، ولايتغير عما هو به.
ومن صفا سره، لم يتكدر عليه الشرب. ومن صار الشراب له غذاء لم يصبر عنه، ولم يبق بدونه.
وأنشدوا:
وإنما الكأس رضاع بيننا ... فإذا لم نذقها لم تعش
وأنشدوا:
عجبت لمن يقول ذكرت ربي ... فهل أنسى فأذكر ما نسيت؟
شربت الحبَّ كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب ولا رويتُ
ويقال: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي: ها هنا من شرب من كأس المحبة لم يظمأ بعده.
فكتب إليه أبو يزيد: عجبت من ضعف حالك!! هاهنا من يحتسي بحار الكون وهو فاغرفاه يستزيد.
وأعلم أن كاسات القرب تبدو من الغيب، ولا تدار إلا على أسرار معتقة، وأرواح عن رقق الأشياء محررة.
ومن ذلك:
المحو والإثبات

المحو: رفع أوصاف العادة: والإثبت: إنامة أحكام العبادة.
فمن نفى عن أحواله الخصال الذميمة، وتى بدلها بالأفعال والأحوال الحميدة، فهو صاحب محو وإثبات.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: قال بعض المشايخ لواحد: إيش تمحو؟ وإيش نثبت؟ فسكت الرجل!! فقال: أما علمت أن الوقت محو وإثبات، وإذ من لامحو له، ولا إثبات، فهو معطل مهمل.
وينقسم إلى محو الزلة عن الظواهر، ومحو الغفلة عن الضمائر، ومحو العلة عن السرائر، ففي محو الزلة: إثبات المعاملات؛ وفي محو الغفلة: إثبات المنازلات.
وفي محول العلة إثبات المواصلات.
وفي محو وإثبات بشرط العبودية.
وأما حقيقة المحو والإثبات، فصادران عن القدرة. فالمحو: ماستره الحق ونفاده والإثبات ما أظهره الحق وأبداه.
والمحو والإثبات مقصوران على المشيئة. قال الله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت.
قيل: يمحو عن قلوب العارفين ذكر غير الله تعالى، ويثبت على ألسنة المريدين ذكر الله، ومحو الحق لكل أحد وإثباتهُ على ما يليق بحاله.
ومن محاه الحق سبحانه على مشاهدة، وأثبته بحق حقه.
ومن محاه الحق عن إثباته به ردَّه إلى شهود الأغيار؛ وأتيته في أودية التفرقة.
وقال رجل للشبليَّ رحمه الله: مال أراك قلقاً، أليس هو معك، وأنت معه؟ فقال الشبلي: لو كنت أنا معه كنت أنا، ولكني محو فيما هو.
والمحق فوق المحو؛ لأن المحو يبقى أثراً، والمحقُ لا يبقى أثراً.
وغاية همة القوم أن يمحقم الحق عن شاهدهم، ثم لا يردَّهم إليهم بعدما محقهم عنهم.
ومن ذلك:
الستر والتجلِّي
العوام في غطاء الستر، والخواص في دوام التجلي.
وفي الخبر: إن الله إذا تجلى لشيء خشع له.
فصاحب الستر، بوصف شهوده، وصاحب التجلي أبداً، ينعت خشوعه.
والستر للعوام عقوبة، وللخواص رحمة، إذ لولا أنه يستر عليهم ما يكاشفهم به، لتلاشوا عند سلطان الحقيقة: ولكنه كما يظهر لهم، يستر عليهم.
سمعت منصور المغربيَّ يقول: وافي بعض الفقراء حياً من أحياء العرب، فأضافه شاب، فبينا الشاب في خدمة هذا الفقير إذ غشى عليه، فسأل الفقير عن حاله، فقالوا:
له بنت عم، وقد علقها، فمشت في خيمتها، فرأى الشاب غبار ذيلها، فغشى عليه.
فمضى الفقير إلى باب الخيمة، وقال: إن للغريب فيكم حرمة وذماماً، وقد جئتُ مستشفعاً إليك في أمر هذا الشاب، فتعطفي عليه فيما هو به من هواك.
فقالت: سبحان الله، أنت سليم القلب، إنه لا يطيق شهود غبارَ ذيلي، فكيف يطيق صحبتي؟ وعوامُّ هذه الطائفة عيشهم في التجليِّ، وبلاؤهم في الستر.
وأما الخواص، فهم بين طيش وعيش، لأنهم إذا تجلى لهم طاشوا، وإذا ستر عليهم ردوا إلى الحز فعاشوا.
وقيل: إنما قال الحق تعالى لموسى عليه السلام: وما تلك بيمينك يا موسى ليستر عليه ببعض ما يعلله به بعض ما أثر في من المكاشفة بفجأة السماع.
وقال صلى الله عليه وسلم: إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة.
والاستغفار: طلب الستر، لأن الغفر: هو الستر، ومنه غفر الثوب، والمغفر، وغيره: فكأنه أخبر أنه يطلب الستر على قلبه عند سطوات الحقيقة، إذ للخلق لابقاء لهم مع وجود الحق. وفي الخبر: لو كشف عن وجهه لأحرقت سبحات وجهه ما أدرك بصره.
ومن ذلك:
المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة

المحاضرة ابتداءاً، ثم المكاشفة، ثم المشاهدة.
فالمحاضرة: حضور القلب. وقد يكون بتواتر البرهان، وهو بعدُ وراء الستر، وإن كان حاضراً باستيلاًء سلطان الذكر.
ثم بعده. المكاشفة: وهو حضوره بنعت البيان غيرمفتقر في هذه الحالة إلى تأمُّل الدليل، وتطلب السبيل، ولا مستجير من دواعي الريب. ولا محجوب من نعت الغيب.
ثم المشاهدة: وهي حضور الحق من غير بقائ تهمة.
فإذا أصحت سماء السِّر عن غيوم الستر، فشمس الشود مشرقة عن برج الشرف. وحق المشاهدة ما قاله الجنيد، رحمه الله: وجود الحق مع فقدانك: فصاحب المحاضرة مربوط بأياته، وصاحب المكاشفة مبسوط بصفاته: وصاحب المشاهدة ملقى بذاته، وصاحبُ المحاضرة يهديه عقله، وصاحب المكاشفة يدنيه علمه، وصاحب المشاهدة تمحوه معرفته.
ولم يزد في بيان تحقيق المشاهدة أحد على ما قاله عمرو بن عثمان المكي رحمه الله.
ومعنى ما قاله: أنه تتوالى أنوار التجليِّ على قلبه من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو قُدر اتصال البروق، فكما أن الليلة الظلماء بتوالى البروق فيها، وإتصالها، إذ قدرت تصير في ضوء النهار، فكذلك القلب إذا دام به دوام التجلي مَتع نهاره فلا ليل.
وأنشدوا:
ليلى بوجهك مشرق ... وظلامه في الناس ساري
والناس في سدف الظلام ... ونحن في ضوء النهار
وقال النوري: لايصح للعبد المشاهدة وقد بقى له عِرق قائم.
وقال: إذا طلع الصباح استغنى عن المصباح: وتوهَّم قوم أن المشاهدة تشير إلى طرف من التفرقة، لأن باب المفاعلة في العربية بين اثنين. وهذا وهم من صاحبه. فإن في ظهور الحق سبحانه، ثبور الخلق وباب المفاعلة جملتها لا تقضي مشاركة الأثنين نحو: سافر، وطارق النعل، وأمثاله.
وأنشدوا:
فلما استبان الصبح أدرك ضوؤه ... بأنواره أنوار ضوء الكواكب
يجرعهم كأساً لو ابتلى به اللظى ... بتجريعة طارت كأسرع ذاهب
كأس، أي كأس؟؟ تصطلمهم عنهم، وتفتيم، وتختطفهم منهم، ولا تبقيهم.
كأس.. لا تبقي لا تذر، تمحوهم بالكلية، ولا تبقى شظية من آثار البشرية.
كما قال قائلهم: ؟ساروا فلم يبق لارسم ولا أثر ومن ذلك: ؟اللوائح، والطوالع، واللوامع قال الأستاذ رضي الله عنه: هذه الألفاظ متقارية المعنى، لا يكاد يحصل بينها كبير فرق. وهي من صفات أصحاب البدايات الصاعدين في الترقي بالقلب، فلم يدم لهم بعد ضياء شموس المعارف.
لكن الحق سبحانه وتعالى، يؤتى رزق قلوبهم في كل حين، كما قال: ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً، فكلمَّا أظلم عليهم سماءُ القلوب بسحاب الحظوظ سنح لهم فيها لوائح الكشف وتلألأ لوامعُ القرب وهم في زمان سترهم يرقبون فجأة اللوائح.
فهم كما قال القائل:
يا أيها البرق الذي يلمع ... من أي أكناف السما تسطع
فتكون أول: لوائح، ثم لوامع، ثم طوالع:
افترقنا حولاً فلما التقينا ... كان تسليمه علىّ وداعاً
وأنشدوا:
يا ذا الذي زار ومازارا ... كأنه مقتبس نارا
مر بباب الدار مستعجلاً ... ماضره لو دخل الدارا؟
واللوامع: أظهر من اللوائح: ليس زوالها بتلك السرعة، فقد تبقى اللوامع وقتين، وثلاثة.
ولكن كما قالوا:
والعين باكية لم تَشْبع النظرا
وكما قالوا:
لم تَرد ماء وجهه العينُ إلا ... شرقت قبل ريها برقيب
فإذا لمعَ قطعك عنك، وجمعك به، لكن لم يسفر نور نهاره حتى كر عليه عساكر الليل، فهؤلاء بين روح ونوح؛ لأنهم بين كشف وستر.
كما قالوا:
فالليل يشملنا بفاضل برده ... والصبح يلحفنا رداءً مذهباً
والطوالع: أبقى وقتاً، وأقوي سلطاناً، وأدوم مكثاً، وأذهب للظلمة وأنفى للتهمة. لكنها موقوفة على خطر الأفول، ليست برفيعة الأوج، ولا بدائمة المكث ثم أوقات حصولها وشيكة الارتحال، وأحوال أفولها طويلة الأذيال.
وهذه المعاني، التي هي: اللوائح واللوامع والطوالع، تختلف في القضايا، فمنها ما إذا مات لم يبق عنها أثر، كالشوارق إذا أفلت، فكأنَّ الليل كان دائماً.
ومنها ما يبقى عنه أثر، فإن زال رقمه بقي ألمه، وإن غربت أنواره بقيت آثاره فصاحبه بعد سكون غلباته يعيش في ضياء بركاته، فإلى أن يلوح ثانياً ثيرجى وقته على انتظار عوده، ويعيش بما وجد في كونه.
ومن ذلك:
البداوه والهجوم

البواده: ما يفجأ قلبك من الغيب على سبيل الوهلة، إما موجب فرح، وإما موجب ترح.
والهجوم: ما يرج على القلب بقوةَّ الوقت، من غير تصنع منك.
ويختلف في الأنواع على حسب قوَّة الوارد وضعفه.
فمنهم من تغيره البواده، وتصرفه الهواجم.
ومنهم من يكون فوق ما يفجؤه حالاً وقوة. أولئك سادات الوقت كما قيل:
لانهتدي نوب الزمان إليهم ... ولهم على الخطب الجليل لجام
ومن ذلك:
التلوين والتمكين

التلوين: صفة ارباب الأحوال.
التمكين: صفة أهل الحقائق.
فما دام العبد في الطريق فهو صاحب تلوين، لأنه يرتقي من حال إلى حال، وينتقل من وصف إلى وصف ويخرج من مرحل ويحصل في مَربع، فإذا وصل تمكن.
وأنشدوا:
مازلت أنزل في ودادك منزلاً ... تتحير الألباب دون نزوله
وصاحب التلوين أبداً في الزيادة وصاحب، التمكين وَصل ثم انَّصل.
وأمارة أنه اتَّصل: أنه بالكلية عن كليته بطل.
وقال بعض المشايخ: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم، فإذا ظفروا بنفوسهم فقد وصلوا.
وقال الأستاذ رحمه الله: يريد انخناس أحكام البشرية، واستيلاء سلطان الحقيقة، فإذا دام للعبد هذه الحالة فهو صاحب تمكين.
كان الشيخ أبو عليِّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: كان موسى عليه السلام صاحب تلوين، فرجع من سماع الكلام واحتاج إلى ستر وجهه، لأنه أثر فيه الحال. ونبينا صلى الله عليه وسلم، كان صاحب تمكين، فرجع كما ذهب، لأنه لم يؤثر فيه ما شاهده تلك الليلة.
وكان يستشهد على هذا بقصَّة يوسف عليه السلام: أن النسوة اللاتي رأين يوسف عليه السلام قطَّعن أيديهن لما ورد عليهن من شهود يوسف عليه السلام على وجه الفجأة وامرأة العزيز كانت أتمَّ في بلاء يوسف منهن، ثم لم تتغير عليها شعرة ذلك اليوم، لأنها كانت صاحبة تمكين في حديث يوسف عليه السلام.
قال الأستاذ: واعلم أن التغير بما يرد على العبد يكون لأحد أمرين: إمَّا لقوة الوارد، أو لضعَف صاحبه.
والسكون من صاحبه لأحد أمرين: إمَّا لقوته، أو لضعف الوارد عليه.
سمعت الآستاذ أبا عليَّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: أصول القوم في جوار دوام التمكين نتخرج على وجهين: أحدهما: مالا سبيل إليه، لأنه قال صلى الله عليه وسلم: لو بقيتم على ماكنتم عليه عند لصافحتكم الملائكة ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: لي وقت لا يسعني فيه غير ربيَّ عزَّ وجل أخبر عن وقت مخصوص.
والوجه الثاني: أنه يصح دوام الأحوال، لأن أهل الحقائق ارتقوا عن وصف التأثر بالطوارق، والذي في الخبر أنه قال: لصافحتكم الملائكة فلم يعلق الأمر فيه على أمر مستحيل، ومصافحة الملائكة دون ما أثبت لأهل البداية من قوله على الله عليه وسلم: إن الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع.
وما قال: لي وقت.. فإنما قال على حسب فهم السامع. وفي جميع أحواله كان قائماً بالحقيقة.
والأولى أن يقال: إن العبد ما دام في الترقيِّ فصاحب تلوين يصحُّ في نعته الزيادة في الأحوال، والنقصانُ منها، فإذا وصل إلى الحق بانخناس أحكام البشرية مكنَّه الحق سبحانه، بأن لا يرده إلى معلولات النفس، فهو متمكن في حاله، على حسب محله واستحقاقه.
ثم يُتْحفُه - الحقُ سبحانه، في كل نفس، فلا حدَّ لمقدوراته، فهو في الزيادات متلون، بل ملوُّن. وفي اصل حاله متمكن؛ فأبداً يتمكن في حالة أعلى مما كان فيها قبله، ثم يرتقي عنها إلى ما فوق ذلك إذ لا غاية لمقدورات الحق سبحانه في كل جنس.
فأما المصطلم عن شاهده، المستوفى إحساسه بالكلية، فللبشرية لا محالة حد وذا بطل عن جملته ونفسه وحسه، وكذلك عن المكونات باسرها، ثم دامت به هذه الغيبة، فهو محو، فلا تمكين له إذاً، ولا تلوين، ولا مقام، ولا حال.
وما دام بهذا الوصف: فلا تشريف، ولا تكليف. اللهَّم إلا أن يردّ بما يجري عليه من غير شيء منه، فذلك متصرف في ظنون الخلق، مصرَّف في التحقيق.
قال الله تعالى: وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وبالله التوفيق.
ومن ذلك:
القرب والبعد

أوَّل رتبة في القرب: القربُ من طاعته، والانصاف في دوام الأوقات بعبادته. وأمَّا البعد، فهو التدنس بمخالفته، والتجافي عن طاعته. فأوَّل البعد بعد عن التوفيق، ثم بعد عن التحقيق، بل البعد عن التوفيق هو البعد عن التحقيق، قال صلى الله عليه وسلم، مخبراً عن الحق سبحانه: ما تقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما افترضته عليهم، ولا يزال البعد يتقرب إلىَّ بالنواقل. حتى يحبني وأحبه فإذا أحببته، كنت له سمعاً وبصراً، فبي يبصر، وبي يسمع. الخبر...
فقُرْب العبد أولاً قرب بإِيمانه وتصديقه. ثم قرب بإحسنه وتحقيقه.
وقرب الحق سبحانه، ما يخصه اليوم به من العرفان، وفي الآخرة ما يكرِّمه به من الشهود والعيان، وفيما بين ذلك من وجوه اللطف والامتنان.
ولا يكونُ تقرُب العبد من الحق إلا ببعده عن الخلق. وهذه من صفات القلوب دون أحكام الظواهر والكون.
وقرب الحق سبحانه، بالعلم، والقدرة عام للكافة. وباللطف والنصرة خاص بالمؤمنين، ثم بخصائص التأنيس مختص بالأولياء. قال الله تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، وقال تعالى: ونحن أقرب إليه منكم، وقال تعالى: وهو معكم أينَما كنتم وقال: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم.
ومن تحقق بقرب الحق، سبحانه وتعالى، فأدْونه دوام مراقبته إيَّاه، لأنَّ عليه رقيبَ التقوى، ثم رقيب الحفظ والوفاء ثم رقيب الحياء.
وأنشدوا:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري ... وآخرَ يرعى ناظري ولساني
فما رمقت عيناي بعدك منظراً ... يسوؤك إلا قلت قد رقاني
ولابدرت من في دونك لفظة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني
ولا خطرت في السر بعدك خطرة ... لغيرك إلا عرَّجاً بعناني
وإخوان صدق قد سئمت حديثهم ... وأمسكت عنهم ناظري ولساني
وما الزهد أسلى عنهم غير أنني ... وجدتك مشهوداً بكل مكان
وكان بعض المشايخ يخص واحداً من تلامذت بإقباله عليه، فقال أصحابه له في ذلك، فدفع إلى كل يخص واحداً من تلامذته بإقباله عليه، فقال أصحابه له في ذلك، فدفع إلى كل واحد منهم طيراً، وقال اذبحوه بحيث لا يراه أحد.
فمضى كل واحد وذبح الطير بمكان خال.. وجاء هذا الانسان والطير معه غير مذبوح؛ فسأله الشيخ، فقال: أمرتني أن أذبحه بحيث لايراه أحد، ولم يكن موضع إلا والحق سبحانه يراه. فقال الشيخ، لهذا أقدِّم هذا عليكم؛ إذ الغالب عليكم حديثُ الخلق، وهذا غير غافل عن الحق.
ورؤية القرب حجاب عن القرب، فمن شاهد لنفسه محلاً، أو نَفساً، فهو ممكور به.
ولهذا قالوا: أوحشك الله من قربه: أي من شهودك لقربه، فإن الاستئناس بقربه من سمات العزة به، إذ الحق سبحانه وراء كل أنس.
ون مواضع الحقيقة توجب الدهش والمحو.
وفي قريب من هذا قالوا:
محنتي فيك أنني ... ما أبالي بمحنتي
قربك مثلُ بعدكم ... فمتى وقت راحتي
وكان الأستأذ أبو عليِّ الدقاق، رحمه الله، كثيراً ما ينشد:
ودادكم هجر، وحبكم قلى ... وقربكم بعد وسلمكم حرب
ورأى أبو الحسين النوري بعض أصحاب أبي حمزة، فقال: أنت من أصحاب أبي حمزة الذي يشير إلى القرب؟ إذا لقيته، فقل له: إن أبا الحسين النوري يقرئك السلام، ويقول لك: قرب القرب فيما نحن فيه بعد البعد.
فأما القرب بالذات، فتعالى الله الملك الحق عنه، فإنه متقدس عن الحدود؛ والأقطار، والنهاية، والمقدار وما اتصل به مخلوق، ولا انفصل عنه حادث مسبوق به، جلت صمديته عن قبول الوصل والفصل.
فقرب هو في نعته محال: وهو تاني الذوات.
وقرب هو واجب في نعته وهو قرب بالعلم والرؤية.
وقرب هو جائز في وصفه، يخص به من يشاء من عباده، هو قرب الفضل باللطف.
ومن ذلك:
الشريعة والحقيقة

الشريعة: أمر بالتزام العبودية.
والحقيقة: مشاهدة الربوبية.
فكل شريعة غير مؤيدة مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول.
فالشريعة جاءت غير مقيدة بالشريعة فغير مقبول.
فالشريعة جاءت بتكليف الخالق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق.
فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده.
والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدر، وأخفى وأظهر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: قوله: إياك نعبد حفظ للشريعة وإياك نستعين إقرار بالحقيقة.
واعلم أن الشريعة حقيقة من حيث إنها وجبت بأمره.
والحقيقة - أيضاً - شريعة، من حيث إن المعرف به، سبحانه، أيضاً، وجبت بأمره.
ومن ذلك:
النَفَس
النفس
: ترويح القلوب بلطائف الغيوب. وصاحب الأنفاس أرق وأصفى من صاحب الأحوال. فكان الوقت مبتدئاً، وصاحب الأنفاس منتهياً، وصاحب الأحوال بينهما.
فالأحوال وسائط، والأنفاس نهاية الترقيّ.
فالأوقات لأصحاب القلوب، والأحوال لأرباب الأرواح، والأنفاس لأهل السّرائر: وقالوا: أفضل العبادات عد الأنفاس مع الله سبحانه وتعالى.
وقالول: خلق الله القلب وجعلها معادن المعرفة، وخلق الأسرار وراءها. وجعلها محلا للتوحيد، فكل نفس حصل من غير دلالة المعرفة وإشارة التوحيد على بساط الاضطرار فهو ميت، وصاحبه مسئول عنه.
سمعت الأستاذ أبا عليٍّ الدقاق، رحمه الله، يقول: العارف لا يسلم له النفس، لأنه لا مسامحة تجري معه، والمحب لا بدله من نفس، إذ لو لا أن يكون له نفس لتلاشى، لعدم طاقته.
ومن ذلك:
الخواطر

والخواطر خطاب يَرد على الضمائر، وهو قد يكون بإلقاء ملك، وقد يكون بإلقاء شيطان، ويكون أحاديث النفس، ويكون من قبل الحق سبحانه.
فإذا كان من الملك فهو الإلهام.
وإذا كان من قبل النفس، قيل له: الهواجس.
وإذا كان من قبل الشيطان فهو: الوسواس.
وإذا كان من قبل الله سبحانه، وإلقائه في القلب، فهو: خاطر حق.
وجملة ذلك من قبيل الكلام.
فإذا كان من قبل الملك، فنما يعمل صدقهُ بموافقة العلم، ولهذا قالوا: كل خاطر لايشهد له ظاهر فهو باطل.
وإذا كان من قبل الشيطان فأكثره يدعو إلى المعاصي.
وذا كان من قبل الشيكان فأكثره يدعو إلى المعاصي.
وإذا كان من قبل النفس فأكثره، يدعو إلى اتباع شهوة أو استشعار كبر، أو ما هو من خصائص وصاف النفس.
واتفق المشايخ على أن من كان أكله من الحرام لم يفرق بين الإلهام والوسواس.
وسمعت الشيخ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من كان قوته معلوماً لم يفرق بين الإلهام والوسواس، وأن من سكنت عنه هواجس نفسه بصدق مجاهدته نطق بيان قلبه بحكم مكابدته.
وأجمع الشيوخ على أن النفس لا تصدق، وأن القلب لا يكذب.
وقال بعض المشايخ: إن نفسك لا تصدق وقلبك لا يكذب، ولو أجتهدت كل الجهد أن تخاطبك روحكم لم تخاطبك.
وفرق الجنيد بين هواجس النفس ووساوس الشيطان بأن النفس إذا طالبتك بشيء ألحت.. فلا تزال تعاودك، ولو بعد حين، حتى تصل إلى مرادها، ويحصل مقصودها، اللهم إلا أن يدوم صدق المجاهدة، ثم إنها تعاودك وتعاودك.
وأما الشيطان إذا دعاك إلى زلة، فخالفته بترك ذلك، يوسوس بزلة أخرى، لأن جميع المخالفات له سواء، وإنما يريد أن يكون داعياً أبداً إلى زلة ما، ولا غرض له في تخصيص واحد دون واحد.
وقد قيل: كل خاطر يكون من المسلك فربما يوافقه صاحبه، وربما يخالفه.
فأما خاطر يكون من الحق سبحانه، فلا يحصل خلاف من العبد له.
وتكلم الشيوخ في الخاطر الثاني، إذا كان الخاطران من الحق سبحانه، هل هو أقوى من الأول؟
فقال الجنيد: الخاطر الأول أقوى، لأنه إذا بقي رجع صاحبه إلى التأمل. وهذا بشرط العلم، فترك الأول يضعف الثاني.
وقال ابن عطاء الله: الثاني أقوى، لأنه إزاداد قوة بالأول.
وقال أبو عبيد الله بن خفيف من المتأخرين: هما سواء، لأن كليهما من الحق، فلا مزية لأحدهما على الآخر.
والأول لا يبقى في حال وجود الثاني، لأن الآثار لا يجوز عليها البقاء.
ومن ذلك:
علم اليقين وعين القين وحق اليقين

هذه عبارات عن علوم جلية.
فاليقين: هو العلم الذي لا يتداخل صاحبه ريب على مطلق العرف.
ولا يطلق في وصف الحق سبحانه؛ لعدم التوقيف.
فعلم اليقين: هو اليقين، وكذلك عين اليقين: نفس اليقين، وحق اليقين: نفس اليقين.
فعلم اليقين، على موجب اصطلاحهم ما كان بشرط البرهان.
وعين اليقين ما كان بحكم البيان.
وحق اليقين ما كان بنعت العيان.
فعلم اليقين لأرباب العقول وعين اليقين لأصحاب العلوم. وحق اليقين لأصحاب المعارف.
والكلام في الإفصاح عن هذا بحال تحقيقه يعود إلى ما ذكرناه.
فاقتصرنا على هذا القدر، على جهى التنبيه.
ومن ذلك:
الوارد

ويجري في كلامهم ذكر الواردات كثيراً.
والوارد: ما يرد على القلوب من الخواطر المحمودة، مما لا يكون بتعمد العبد، وكذلك ما لا يكون من قبيل الخواطر، فهو أيضاً: وارد.
ثم قد يكون وارد من الحق، ووارد من العلم.
فالواردات أعم من الخواطر؛ لأن الخواطر تختص بنوع الخطاب، أو ما يتضمن معناه.
والواردات تكون: وارد سرور، ووارد حزن، ووارد قبض؛ ووارد بسط، إلى غير ذلك من المعاني.
ومن ذلك لفظ:
الشاهد

كثيراً ما يجري في كلامهم لفظ: الشاهد: فلان بشاهد العلم، وفلان بشاهد الوجد، وفلان بشاهد الحال.
ويريدون بلفظ الشاهد: ما يكون حاضر قلب الإنسان، وهو ما كان الغالب عليه ذكره، حتى كأنه يراه ويبصره، وإن كان غائباً عنه. فكل ما يستولي على قلب صاحبه ذكره فهو شاهده فإن كان الغالب عليه العلم، فهو بشاهد العلم.
وإن كان الغالب عليه الوجد، فهو بشاهد الوجد.
ومعنى الشاهد: الحاضر، فكل ما هو حاضر قلبك فهو شاهدك. وسئل الشبلي عن المشاهدة، فقال: من ين لنا مشاهدة الحق؟ الحق لنا شاهد.
أشار بشاهد الحق إلى المستولى على قلبه؛ والغالب عليه من ذكر الحق والحاضر في قلبه دائماً من ذكر الحق.
ومن حصل له مع مخلوق تعلق بالقلب، يقال: إنه شاهده، يعني: أنه حاضر قلبه، فإن المحبة توجب دوام ذكر المحبوب، واستيلائه عليه.
وبعضهم تكلف في مراعاة هذا الاشتقاق فقال: إنما سمى الشاهد من الشهادة، فكأنه إذا طالع شخصاً بوصف الجمال: فإن كانت بشريته ساقطة عنه، ولم يشغل شهود ذلك الشخص عما هو به من الحال، ولا أثرت فيه صحبته بوجه، فهو شاهد له على فناء نفسه.
ومن أثر فيه ذلك، فهو شاهد عليه في بقاء نفسه.
وقيامه بأحكام بشريته إما شهد له، أو شاهد عليه.
وعلى هذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي ليلة المعراج في أحسن صورة أي أحسن صورة رأيتها تلك الليلة لم تشغلني عن رؤيته تعالى، بل رأيت المصور في الصورة، والمنشىء في الإنشاء، ويريد بذلك رؤية العلم، لا إدراك البصر.
ومن ذلك:
النفس

نفس الشيء في اللغة: وجودُه.
وعند القوم: ليس المراد من اطلاق لفظ النفس الوجودَ، ولا القالب الموضوع. إنما أرادوا بالنفس: ما كان معلولاً من أوصاف العبد مذموماً من أخلاقه وأفعاله.
ثم إن المعلولات من أوصاف العبد على ضربين: أحدهما: ما يكون كسباً له؛ كمعاصية ومخالفته.
والثاني: أخلاقه الدنيئة، فهي في أنفسها مذمومة، فإذا عالجها العبد ونازلها، تنتفي عنه بالمجاهدة تلك الأخلاق على مستمر المادة.
والقسم الأوَّل من أحكام النفس: ما نهي عنه نهي تحريم، و نهي تنزيه.
وأما القسم الثاني، من قسمي النفس: فسفساف الأخلاق، والدنيء منها.
وهذا حُّه على الجملة. ثم تفصيلها: فالكبر، والغضب، والحقد، والحسد، وسوء الخلق، وقلَّة الاحتمال، وغير ذلك من الأخلاق المذمومة.
وأشد أحكام النفس وأصعبها: توهمها أن شيئاً منها حسن، أو أن لها استحقاق قدر، ولهذا عُدَّ ذلكمن الشرك الخفيِّ.
ومعالجة الأخلاق في ترك النفس، وكسرها، أتم من مقاساة الجوع والعطش والسهر، وغير ذلك من المجاهدات التي تتضمن سقوط القوة، وإن كان ذلك أيضاً من جملة ترك النفس، ويحتمل أن تكون النفس: لطيفة مودعة في هذا القالب، هي محل الأخلاق المعلومة.
كما أن الروح: لطيفة، مودعةفي هذا القالب هي محل الأخلاق المحمودة.
وتكون الجملة مسخراً بعضها لبعض: والجميع إنسان واحد.
وكون الروح، والنفس، من الأجسام اللطيفة في الصورة، ككون الملائكة والشياطين بصفة اللطافة. وكما يصح أن يكون البصر محلَّ الرؤية، والأذن محل السمع، والأنف محل الشم، والفم محلَّ الذوْق، والسميع، والبصير والشامُّ، والذائق إنما هي الجملة. التي هي الإنسان فكذلك محل الأوصاف الحميدة: القلب والروح ومحل الأوصاف المذمومة: النفس.
والنفس جزء من هذه الجملة، والقلب جزء من هذه الجملة، والحكم الاسم راجع إلى الجملة.
ومن ذلك:
الروح

الأرواح مختلف فيها عند أهل التحقيق من أهل السنة: فمنهم من يقول: إنها الحياة.
ومنهم من يقول: إنها أعيان مودعة في هذه القوالب.
لطيفة: أجرى الله العادة بخلق الحياة في القالب، ما دامت الارواح في الأبدان، فالإنسان حي بالحياة، ولكن الارواح مودعة في القوالب؛ ولها ترق في حال النوم، ومفارقة للبدن، ثم رجوع إليه.
وأن الإنسان: هو الروح، والجسد؛ لأن الله سبحانه وتعالى؛ سخر هذه الجملة بعضها لبعض. والحشر يكون للجملة. والمثاب والمعاقب الجملة.
والأرواح مخلوقة. ومن قال بقدمها فهو مخطىء خطأ عظيماً.
والأخبار تدل على أنها أعيان لطيفة.
ومن ذلك:
السر
ُّ
يحتمل أنها لطيفة مودعة في القالب، كالأرواح.
وأصولهم تقتضي أنها محل المشاهدة، كما أن الأرواح محل للمحبة، والقلوبَ محل للمعارف.
وقالوا: السر: مالك عليه إشراف، وسر السرِّ: مالا اطلاع عليه لغير الحق.
وعند القوم: على موجب مواضعاتهم ومقتضى اصولهم: السر ألطف من الروح، والروح أشرف من القلب.
ويقولون: الأسرارُ معتقه عن رقّ الأغيار من الآثار والأطلال.
ويطلق لفظ السرِّ على ما يكون مصوناً مكتوماً بين العبد والحق سبحانه، في الأحوال. وعليه يحمل قول من قال: أسرارنا بكر لم يفتضَّها وهم واهم.
ويقولون: صدور الأحرار قبورُ الاسرار.
وقالوا: لو عرف زرِّي سري لطرحته.
فهذا طرف من تفسير إطلاقتهم، وبيان عباراتهم فيما انفردوا به من ألفاظ ذكرناها على شروط الإيجاز.
ونذكر الآن أبواباً في شرح المقامات التي هي مدارج أرباب السلوك.
ثمَّ بعدها أبواباً في تفصيل الأحوال على الجد الذي يسهله الله تعالى، بفضله إن شاء الله تعالى
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير