آخر الأخبار
موضوعات

الاثنين، 1 أكتوبر 2018

-مواقف نبي الله داود عليه السلام مع الخصمين

عدد المشاهدات:

1-     مواقف نبي الله داود عليه السلام مع الخصمين
 الذين اقتحما عليه المحراب.
 وسيدنا داود نبي ورسول من أنبياء بني إسرائيل. وكان عليه السلام نبيًا ملكًا، وحاكمًا عادلاً في رعيته، مع تبليغ ما أرسل به إلى قومه، ولم تشغله عظمة الملك وزينته، ولا سياسة الرعية وتدبير أمرها، عن عبادته وتقربه إلى الله عزَّ وجلَّ، فقد قسم حياته إلى يومين، يوم ينظر فيه في شئون الرعية والحكم، والقضاء بين الناس، وإبلاغهم ما أمره الله به، ويوم يصومه ويتفرغ فيه للعبادة والتقرب من الله سبحانه. وكان في هذا اليوم يدخل إلى خلوته ومحرابه بعيدًا عن كل الخلق ليؤدي فيه حق الله، من صلاة وذكر وشكر، وتسبيح وتحميد، وغير ذلك، وقد علم الناس ذلك فكانوا يتركونه عليه السلام في هذا اليوم لعبادته وتقربه.
وقد اقتحم عليه المحراب في هذا اليوم رجلان، فانزعج وفزع منهما سيدنا داود عليه السلام، لأنه أمر مفاجئ وبصورة مريبة، وغير إنسانية ولا مَرْضيَّة. وهذا أمر طبيعي يعتري أي إنسان عندما يتسور عليه أحد منزله بدون إذن، ويترك الباب المعد لدخول الناس، وفي خلوة لم يكن معه أحد من أهل بيته. فذلك أمر مؤلم ومخيف حقًا، إلَّا أن الخصمان طمأناه وقالا له لا تخف، نحن خصمان بغى أحدنا على صاحبه.
وقد ذكر القرآن المجيد هذا الموقف فقال: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾، [21-25،ص].
وكلمة ﴿هَلْللاستفهام البياني، يعني هل علمت يا محمد بهذا الخبر والبيان العجيب الذي سنلقيه إليك، وهو نبأ الخصمين اللَّذيْن اقتحما سور المحراب على داود عليه السلام.
وحيث أن القرآن ذكر أنهما خصمان متنازعان حول موضوع النعاج المذكور، فلا مجال لتأويل هذا الكلام القرآني الصريح إلى معنى آخر، وإنما التأويل يكون في الكلام المتشابه الذي لا يظهر المراد منه ويحتمل معان كثيرة. أما الحديث الذي ورد في هذه الآية الشريفة فهو في غاية الصراحة، وقد رأينا عتاب الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم كيف كان واضحًا وصريحًا في القرآن الكريم.
وقد طلب الخصمان من سيدنا داود أن يحكم بينهما بالحق، وأن لا يشدد عليهما في حكمه، وأن يرفق بهما فيه، وأن يهديهما إلى الصراط المستقيم. وكأن الخصمان قد أحسَّا وأدركا أنهما قد أساءا الأدب في جرأتهما على نبي الله داود، واقتحامهما محرابه عليه بهذه الصورة، التي هي منكر في الحقيقة، فخافا أن يجازيهما داود على سوء فعلهما بتشديد الحكم عليهما، فطلبا ما تقدم ذكره وثوقًا بعدالته.
ثم أخذ يقص المظلوم مظلمته بقوله: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾. وهذا هو صلب القضية، وأصل الموضوع الذي تنازعا فيه.
والنعاج معروفة لنا جميعًا، ولا يكنى بها عن المرأة كما يذكر البعض، لأن المرأة يكنى عنها بما يرمز إليها من الظباء والمها، والغزال والنعام، وما إلى ذلك من الحيوانات ذات المنظر الجميل. وإن كان قد ورد في اللغة العربية ما يفيد الكناية عن المرأة بالنعاج، فهذه لغة ضعيفة جدًا، والقرآن جاء بالعربية الفصحى، ولكن الموضوع هو نعاج حقيقية، ومتخاصمان من البشر كما هو ظاهر من النص القرآني.
وعلى الفور أصدر سيدنا داود حكمه في القضية. وهنا كانت الهفوة التي وقعت منه عليه السلام، فإنه لم ينتظر حتى يسمع من الشخص الآخر المدعي عليه، فصار الحكم ظالمًا لأنه لم تستوف حيثياته، ولم يعط فرصة للمدعي عليه في الدفاع عن نفسه وإبداء وجهة نظره.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو جاء رجل يشكو إليك وقد فقئت عينه فلا تقض له حتى يحضر صاحبه فربما فقئت عيناه}.[1]
وهذا هو العدل الذي أمر الله به رسله وأنبياءه عليهم السلام، وأمر به المؤمنين في كل زمان ومكان.
ومعنى﴿أَكْفِلْنِيهَا﴾. أعطها لي وتنازل لي عنها، وقد يكون معناه أكفلها وأرعها لك مع غنمي، واسترح أنت لأنها نعجة واحدة. ومعنى ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾. غلبني بحجته وأخذها مني مما دعاني أن وهو إلى سرعة المجيء إليك على هذه الصورة، وطلب الاحتكام إليك في هذا الوقت، فمعذرة يا نبي الله.
وكان الحكم على صاحب التسع وتسعين نعجة بأنه ظالم، وأن صاحب النعجة الواحدة مظلوم، ومن حقه أن يأخذ نعجته ويتصرف فيها كيف يشاء، وأن يكف الظالم عن ظلمه، ويعطي للمظلوم حقه. وكان تبرير سيدنا داود لهذا الحكم، أن كثيرًا من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض. فكل منهما يكفل نعاجه فقط، دون أن يأخذ من أخيه شيئا ويخلطه بنعاجه، حتى لا يقع نزاع فيما بعد حول هذه الشركة. وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا تشاركوا في عمل ما، فإنهم لا يتظالمون، ولا يبغي بعضهم على بعض، لكن أين هم؟. وقليل ما هم.
وبعد استماع الحكم خرج الخصمان فورًا لتنفيذه. والظاهر أن الخصمين كانا من أهل البادية الذين لم يعرفهما داود عليه السلام، فلما قضى لهما وانصرفا وراجع سيدنا داود نفسه في هذا الحكم فوجده ناقصًا، وأنه لم يعرف الخصمين حتى يطلبهما لتصحيح الحكم، وكأنه أسقط في يده عليه السلام، فندم على ذلك وعلم أن الله قد ابتلاه بهذين الخصمين لينظر كيف يحكم بينهما، فأخذ يعتذر إلى الله ويتوب إليه ويستغفره، ويبكي على ذلك، وأكثر من الركوع والسجود والتذلل والتضرع لله عزَّ وجلَّ، حتى أكرمه الله سبحانه وقبل اعتذاره وغفر له.
وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾. ومن أجل ذلك قال الله له بعد ذلك: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، [26،ص].
وما ورد من القصص حول هذا الموضوع فإنها غير صحيحة، لأن الأنبياء معصومون من المعاصي، صغيرها وكبيرها، ولا ينبغي أن يقال على رسول كريم على الله كسيدنا داود عليه السلام، إنه طلب من أحد أتباعه أن يطلق امرأته ليتزوجها، كما لا يجوز أن يقال عليه أنه أرسل هذا الرجل إلى قتال أعدائه ليتخلص منه ويتزوج امرأته، فإن ذلك افتراء على رسل الله وأنبيائه الذين عصمهم الله من مثل ذلك، وطهر قلوبهم من الحظ والشهوة والهوى.
وقد سمعت من بعض أهل الإشارات رضي الله عنهم في هذا الموضوع كلامًا أعجبني، وراق لديَّ في هذا الموقف القرآني الكريم. وهو أن سيدنا داود عليه السلام قد منحه الله تعالى معرفة أسرار تسعة وتسعين اسمًا من أسماء الله جلَّ جلاله، وقد أعلمه الله أن سيدنا عيسى عليه السلام سيمنحه الله اسمًا من أسمائه القدسية، يحيي به الموتى، ويشفي به المرضى، ويبرئ به الأكمه والأبرص، ويخبر به عن الغيب، ويصنع به المعجزات الباهرات. فطلب من الله وألح عليه أن يمنحه هذا الاسم مثل سيدنا عيسى، حتى يكتمل أمر ملكه بالتصرف فيه بهذا الاسم، فأرسل الله عزَّ وجلَّ إليه ملكان في صورة بشرية يحتكمان إليه في أمر النعاج الذي قررته الآية الكريمة، فحكم سيدنا داود حكمه على نفسه وهو لا يدري، فصعد الملكان من بين يديه وهما يقولان لقد حكم داود على نفسه. فعلم داود أنه هو المعني بهذا الأمر، وأن لكل نبي حظه ونصيبه من عطاء الله، ومن فضل الله، فلا يجوز أن يأخذ نبي نصيب الآخر، فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب.
وقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم، الشيطان يومًا على سارية المسجد عندما تعرض إليه في صلاته، ثم قال لأصحابه لولا أنني ذكرت قول أخي سليمان عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾، [35،ص]. لتركته مربوطٍا حتى ترونه.
وهذا الموقف فيه كثير من الأسرار والأنوار، نطوي عنها البساط حتى تسوح أرواح المقربين لمشاهدتها، لأن العبارة لا تقوى على بيانها، ولا الإشارة تفي بكمالاتها، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا المشاهدة بعد المكاشفة، إنه كريم وهاب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وإن المعنى الإشاري لا يؤثر على المعنى الأصلي المراد صراحة من الآية الشريفة، ولكنه معنى زائد تشير إليه الآية الشريفة، وقد كوشف به أهل الذوق الذين شربوا من الرحيق المختوم، الذي أكرمهم الله به في رياض القرآن المجيد.
لفضيلة الشيخ / محمد علي سلامة مدير أوقاف بورسعيد 


[1] رواه أحمد والحاكم عن علي كرم الله وجهه.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير