آخر الأخبار
موضوعات

الثلاثاء، 16 يناير 2018

- اشارات فى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ

عدد المشاهدات:
الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار

- هذه الحكمة حصيلة مكثفة لقول الله سبحانه وتعالى: { اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ... }{ النور: 24/35 }
يقول ابن عطاء الله في الفقرة الأولى من هذه الحكمة: «الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه» أي هذه المكونات التي تراها أعيننا وتدركها عقولنا، إنما تتآلف وتتلاصق أجزاؤها الدقيقة، بواسطة نور داخلي يسري فيما بينها. ومصدر هذا النور إنما هو الله عز وجل. ذلك لأن هذه المكونات لم توجد بذاتها وإنما وجدت بإيجاد الله تعالى لها. بل لا يستمر وجودها إلا باستمرار اتصال القدرة الإلهية بها، ومدّها
باستمرارية الوجود لحظة فلحظة.
وإن من أهم آثار هذه الحقيقة أن كل ما تقع عليه عيناك من هذه المكونات، فإن النور متغلغل في داخله، ويكسوه حلية في ظاهره. فهي نور في الباطن الداخلي، وهي
منورة في الظاهر الخارجي.

ـ النور الذي هو عماد وجود المكونات نوران: نور تراه العين، ونور يرصده العقل

إن الأشياء التي تراها عيناك إنما ترى فيها النور الذي اصطبغت به، ولولاه لما رأت عيناك منه شيئاً. وهي إنما تتماسك بسرّ النور الساري في أجزائها الدقيقة، ولولاه لتناثرت المادة الكونية أنكاثاً متبددة.
وهذا يعني أن النور الذي هو عماد وجود المكونات نوران:
نور تراه العين، ونور يرصده العقل.فأما الذي تراه العين، فهو هذا الذي يسطع على ظواهر الأشياء التي تراها عيناك. وهو مؤلف من نورين اثنين: أحدهما النور الساري إلى الأشياء من أشعة الشمس ونحوها، ثانيهما النور الساري إليها من بؤبؤ عينيك. ولولا التكافؤ الذي يتم بين نور عينيك ونور الشمس الذي تنعكس أشعته إلى الأشياء، لما أتيح لك أن ترى شيئاً من المكونات. فأنت إذن ترى النور، وبالنور (أي بنور عينيك) ترى هذا النور.
وأما النور الذي يرصده العقل، فهو ذاك الذي يسري متغلغلاً داخل أصغر جزيئات المادة، بل هو تلك الإليكترونات المؤلفة من إشعاعات متجمعة، تكون منها ما يسمونه المادة، وهي في أصلها الذي تكونت منه ليست إلا طاقة. فأصل المادة ومآلها في الوقت ذاته هو النور المخبوء الذي يرصده العقل وإن لم تره العين.
أرأيت إلى كتلة جمر متقد، إن وجوده ليس إلا من الشعلة الكامنة فيه والسارية في أجزائه، وعندما تخبو هذه الشعلة وتغيب، يغيب الجمر معها أيضاً، ويتحول إلى رماد يتناثر بعد ذلك هباءً. إن قصة المادة الكونية أياً كانت، ليست إلا كقصة هذه القطعة من الجمر المتقد. وعندما ينفصل النور الخفي عن دخائل المادّة وجزيئاتها، فذلك لنيكون إلا إيذاناً بتناثر أجزاء المادة وتحولها إلى حطام، وهكذا تعود المادة إلى ما يشبه
الرماد بالنسبة للجمر الذي خبت شعلته السارية في داخله.

ـ والعقل ذاته ليس إلا نوراً يشرق على الدماغ فيتم به إدراك الحقائق

بقي أن تعلم أن العقل ذاته ليس إلا نوراً يشرق على الدماغ فيتم به إدراك الحقائق التي لا تخضع للبصر ونوره. فهما إذن في حياة الإنسان بصر وبصيرة. لكل منهما نور متكافئ ومنسجم مع عمله ووظيفته.
نور الأول منهما يقف عند مظاهر الأشياء وصورها، ويمخر الثاني منهما تلك المظاهر والصور ليدرك خفايا الحقائق.
وإذا كان الإبصار بنور العين متوقفاً على وجود نور متكافئ يتمثل في ضياء الشمس ونحوه، فإن الإدراك بنور البصيرة يتوقف في القضايا الغيبية على نور متكافئ معه يتمثل في الوحي الإلهي الذي يكشف  للعقل عن حقائق تلك الغيبيات وأخبارها.إذن فالكون كله في أصله
القديم ظلمة كثيفة دامسة. ثم إن نوراً سرى فتكاثفت منه أجزاء صغيرة تراصفت فتلاصقت فتآلفت، فإذا هي المادة الكونية التي تراها العين. وكانت العين شيئاً هلامياً مظلماً، فسرى في داخله نور، فإذا هي الأداة التي تبصر الصور والألوان.
وكان العقل وهماً لا وجود له مع ولادة الإنسان، فإذا هو بعد ذلك نور يشرق على الدماغ يتم به إدراك خفايا الكون ومغيبات الأمور.
إذن فالنور هو سرّ هذا الكون كله، بل هو أداة وجوده، إنه مادة المادة إن جاز التعبير وجوهر المكونات كلها بما فيها العين المبصرة والعقل المدرك.

ـ إذن فالنور هو سرّ الكون كله.. ولكن من أين انبعث هذا النور الذي أضفى سرّ الوجود على المكوَّنات؟

ربما تنطع أحدهم فقال: أين هو النور الذي تزعم أنه كامن في العقل، مع ما نعلمه من أن العقل إنما هو نتاج لنشاط الدماغ. والدماغ بحجيراته ووظائفه ليس إلا مادة خاضعة للنظر والفحص والتحليل؟ والجواب أن الدماغ محل لإشراقات نور العقل، كالشاشة التي هي محل لإشراق الصور المنعكسة إليها من جهاز الإرسال.
والخطأ الذي يقع فيه من يتوهم أن الشاشة هي مصدر الصور المتألقة والمتحركة عليها، ليس أقل من خطأ من يتوهم أن الدماغ هو مصدر المعرفة والإدراك.          أما البحث عن نور العقل، وإنكار وجوده لعدم رؤيته، فمبعثه الجهل بأبسط قواعد العلم التي تعد مدخلاً عاماً لأنواع العلوم المختلفة.على هذا السائل أن يعلم أولاً أن النور من حيث هو لا يخضع لرؤية الأبصار، والذين يتوهمون أنهم يرون نور الشمس مثلاً إنما يرون الأجرام التي انعكست إليها أشعة الشمس، أي فلو انعدمت الأجرام التي يمكن أن يسري إليها نور الشمس فإنك لن ترى من هذا النور شيئاً. إذن فلا تطمع أن ترى النور الذي في حدقتي عينيك، ولا تطمع أن ترى النور الذي يشرق عقلاً على دماغك ولكنك بنور عينيك ترى صور الأشياء وألوانها، وبنور عقلك تدرك حقائق الأشياء وبواطنها.

ـ النور من حيث هو لايخضع لرؤية الأبصار، والقاعدة العلمية هي أن كل ما كان وسيلة لرؤية الأشياء أو إدراكها فهو أبعد ما يكون عن إمكان رؤيته

والقاعدة العلمية في هذا الذي نقول، أن كل ما كان وسيلة لرؤية الأشياء أو إدراكها، فهو أبعد ما يكون عن إمكان رؤيته. إذ لو رأيت الوسيلة لرؤية الأشياء، لأصبحت هذه الوسيلة بحكم رؤيتك لها حاجزاً يحول بينك وبين رؤية ما يفترض أنها وسيلة لرؤيته.
أرأيت إلى النظارة المثبتة على عينيك، إنها وسيلتك إلى رؤية الأشياء أو تقريبها إليك. ولكن الشرط الذي لا بدّ منه لذلك أن لا ترى عيناك شيئاً من الزجاجتين المثبتتين أمام
عينيك. إذ إنك لو رأيتهما،فمعنى ذلك أنك ترى غباراً أو أي جسم غريب انحط عليهما.
وعندئذ تتحول النظارة من وسيلة للرؤية إلى حجاب يصدّ عن الرؤية.كذلك القول عن نور العينين ونور العقل. إنهما موجودان يقيناً.
 ولكن وظيفة كل منهما لا تتم إلا بعدم رؤيتك لهما، كيف ولو رأيتهما لأبصرت في كل منهما كثافة تتناسب مع شروط الرؤية، وعندئذ تصبح هذه الكثافة حائلاً دون الرؤية، بدلاً من أن تكون وسيلة إليها.
ومع ذلك فأنا لا أنكر أننا كثيراً ما نقول: رأيت نور الشمس أو نور المصباح، ولكن هذا التعبير فيه من التجوز ما لا يخفى على بصيرالعربية وأساليبها.
إننا نعني في الحقيقة أننا نرى الأجرام التي انعكست وتوهجت عليها أشعة الشمس أو أشعة المصباح.

ـ ألفت النظر إلى معنى علمي دقيق في قول الله تعالى:{الله نور السموات والأرض}

إذن فلنعد إلى الحقيقة التي يذكرنا بها ابن عطاء الله إذ يقول: «الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه» بل هي الحقيقة التي ينطق بها بيان الله عز وجل { اللَّهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالأَرْضِ } { النور: 24/35 }
 العقل الذي به تدرك الأشياء نور، والعين التي بها ترى صور هذه الأشياء وألوانها
نور، والأشياء ذاتها التي تراها أو تدركها إنما هي جزيئات من نور في منتهى الضآلة والصغر تضامّت فتكاثفت فتحولت إلى مادة مرئية ذات مزايا وخصائص وأنواع وتسميات شتى.
وهل بوسع العلم أن يقول لك شيئاً عن مصدر هذا النور الذي أضاء به وتكون منه هذا
الكون كله، إلا أنه الله عز وجل؟وهل بوسع العلم أن يقول لك شيئاً عن مصير هذه المكونات كلها إن انفصل عنها هذا النور، إلا التبدّد والانمحاق؟ وقبل أن ننتقل من هذه الفقرة إلى التي تليها، ألفت النظر إلى معنى دقيق في قول الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ } { النور: 24/35 }
 لا.. ليس هذا هو معنى الآية، بل هي تتضمن الدلالة على عكس ذلك.
وبيان ذلك أن بين كلمتي النور والضياء أو النور والسراج، فرقاً لغوياً دقيقاً. أما النور فمعناه الشعاع المثبت على جرم ما والمنعكس إليه من جرم آخر. وأما الضياء والسراج فهو الشعاع الذي يظهر على جرم ما منبثقاً من داخله. ومن ثم فإنك تقول غرفة منيرة ولا تقول مضيئة. لأن نور الغرفة إنما ينعكس على جدرانها
من المصباح المضيء في داخلها. وتقول شمس مضيئة ولا تقول منيرة،
لأن شعاع الشمس إنما ينبثق من داخلها.وانظر إلى دقة التعبير عن هذا في كتاب الله عز وجل، إذ يصف القمر بالإنارة ويصف الشمس بالضياء. فيقول: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ.. } { يونس: 10/5 }
ذلك لأن الضوء الذي يشع من الشمس منبثق من داخلها، إذن فيجب التعبير عنه بالضياء أو السراج، أما الذي يشع من القمر فمنعكس إليه من الشمس فيجب أن يعبر عنه بالنور، ومن ثم فهو منير لا مضيء.فهل يخامرك شك مع هذا في أن القرآن ليس إلا كلام الخالق عز وجل، ذاك الذي خلق الشمس والقمر وعلم مصدر الضياء في كل
منهما؟! عد بعد هذا معي إلى قول الله عز وجل: { اللَّهُ نُورُالسَّماواتِ وَالأَرْضِ } { النور: 24/35  مظهر الأشياء من الضياء وما تكتنزه المادة من ذلك في داخلها وضمن أصغر ذراتها، ليس منبثقاً منها، وإنما هو متجه إليها ومتغلغل فيها، من لدن
خالق المكونات كلها، وهو الله عز وجل.ولو كان شيء من ذلك منبثقاً من داخل ما يتجلى فيه، إذن لجاء التعبير عنه بالضياء لا بالنور، وإذن لما نسبه الله تعالى إليه بل لنسبه إلى السماوات والأرض والأفلاك ذاتها. ألا فلتعلم إذن، أن سائر المكونات التي من حولك، وأنت واحد منها، إنما تتألف سداها ولحمتها من نور رباني هابط إليها متغلغل في أعماقها، وأن كل مالاتراه عيناك منها أو يدركه عقلك من دخائلها، فبهذا النور الرباني تراه، وبهذا النور الرباني تدركه.والآن ننتقل إلى الفقرة الثانية، التي كانت الفقرة الأولى التي فرغنا الآن من شرحها، مقدمة لها. يقول فيها ابن عطاء الله: «فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود
الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار» .ولنبدأ أولاً ببيان معاني هذه العبارات، حتى لا يسري إلى وهمك منها معنى غير صالح ولا مقصود:يقول: فمن رأى الكون ولم يشهد أي بعين بصيرته، الحق سبحانه وتعالى، مؤثراً فيه. ولم يشهده أيضاً عند نظره إلى المكونات التي من حوله، بأن تذكره بالله عند رؤيته لها وتأمله
فيها؛ ولم يشهده أيضاً قبل تأمله في هذه المخلوقات، بواسطة المنطق والأقيسة العقلية التي تنطق بوجود الله عز وجل؛ ولم يشهده أيضاً بعد تجاوزه مرحلة النظر في المخلوقات وانحسارغشاوة الأهواء وما تتطلع إليه الغرائز من المتع الآنية
والرعونات، إذن فهو ممن سلب الله عنه نور الهداية وكان ممن قال عنهم: { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ } { النور: 24/40 } كثيرون هم الذين يطيلون النظر إلى أنفسهم في المرآة، ويتتبعون ما يقوله علماء التشريح عن جسومهم ودخائلها ووظائف الأجهزة العجيبة الكامنة فيها، ثم يتحولون فيتأملون فيما يسمونه الطبيعة المترامية من حولهم بأنواعها المختلفة وأشكالها العجيبة. دون أن يدركوا في أثناء
ذلك أو بعد ذلك، وجود مبدع يعود إليه خلق هذه الموجودات وإدارة شؤونها وتوزيع المهام والوظائف فيما بينها.وتتفنن عباراتهم في تحليل المادة وجزيئاتها وألكتروناتها ونواتها، وتنتهي عباراتهم إلى ما انتهينا إليه من أن المادة في حقيقتها طاقة تكثفت في
هذا المظهر الذي يسمى مادة، دون أن تسوقهم هذه المعرفة إلى معرفة المصدر الذي شعّ منه إلى داخل المادة كل هذا التيار الحيوي المتحرك والمحرك.. يقولون: إن المادة أياً كانت ومهما كان حجمها ليست أكثر من مجموعة نيترونات وألكترونات تبعث فيها
الحركة والتغير الدائبين.

ـ إذن فالمادة وعاء لنور يسري في داخله، فمن أين جاء هذا النور فتغلغل فيه؟ جواب مفصل عن هذا السؤال

إذن فالمادة، كما قلنا، وعاء لنور يسري في داخله، ودعك من فنون
العبارات والمصطلحات المختلفة. فمن أين جاء هذا النور حتى
تغلغل فيه أي في هذا الوعاء الذي تسميه مادة؟ وقد علمت أن ما
يسمى نوراً لا ينبثق من داخل الجرم الذي يبدو عليه أو يتغلغل
فيه، بل ينعكس إليه من مصدر آخر، فما هو هذا المصدر الذي سرى
منه إلى المادة هذاالنور الذي أورثها وظائفها الخفية التي يطيل
الحديث عنها علماء هذا الشأن؟حقاً إن الذين يشهدون هذا الكون
بما فيه من الأجهزة الدقيقة الخفية وبما في جزيئات أجزائه
وذرات تلك الجزيئات، من الأنشطة والحركات المنبعثة من قوىً
خيرُ تعبيرٍ عنها أنها النور الخفي أو المعنوي الذي يبعث في كل
شيء من أشياء الكون وظيفته التي كلف بها - أقول: حقاً إن الذين
يشهدون هذا كله في المكونات، ثم لا يشهدون فيه تأثير المكوِّن
وسلطانه، عند دراستهم له وتأملهم فيه، ولا بعد اجتيازهم لتلك
الدراسة وذلك التأمل، ولا قبل النظر في ذلك كله، أناس أعوزتهم
أنوار المعرفة وحجبت عنهم شموس الحقائق بسحب النتائج والآثار
التي سجنوا عقولهم فيها. فقصارى ما انتهوا إليه من المعارف
أنهم وقفوا أمام هذه النتائج والآثار يصفونها ويستخرجون من
وصفهم لها قواعد يزعمون أنها حصيلة الحقائق الكونية. فهم حقاً
كما قال الله عنهم: { يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا.. } { الروم: 30/7 } إن حال هؤلاء الناس الذين وصفهم الله بهذه المعرفة السطحية التي سجنوا أنفسهم فيها، أشبه
ما يكون بمن نظر إلى حوض يفيض بماء عذب يتلألأ بأشعة انعكست
عليه من مرآة كبيرة، تلقت تلك المرآة بدورها تلك الأشعة من
الشمس التي تطلّ عليها من كبد السماء.وقف هذا الناظر يحدّق في
الحوض الذي تتلألأ صفحته بنور تلك المرآة، دون أن يلتفت يميناً
أو شمالاً أو يرمق ببصره جهة السماء، فأخذ يصف هذا الذي تبصره
عيناه وقد حبس عقله ومداركه بعد بصره في دنيا ذلك الحوض،
موقناً أن هذا الألق منبعث من رقة الماء وصفائه ولميكتف بذلك،
بل أخذ يحلل ويعلل.. ويجعل مما قد حبس بصره وعقله فيه قانوناً
علمياً يُعَلِّمُهُ الناسَ ويُلزِمُهم الإيمانَ الجازم به.ولو
أن الرجل حرّر عينيه وعقله من سجن ذلك الحوض والتفت إلى صفحة
المرآة التي تطلّ على الحوض، ثم تجاوز المرآة إلى السماء حيث
الشمس التي تسطع بضيائها وتبعث بأشعتها إلى الآفاق والدنيا
كلها، إذن لعلم أن الحوض في أصله كتلة من الظلام المائج.. وأن
المرآة هي الأخرى صفحة موحشة من السواد الذي لا بريق فيه. ولكن
الشمس المشرقة هي التي حولت كل ظلام في طريقها إلى نور.تلك هي
قصة هذه الدنيا كلها، كانت كتلة ظلام دامس. ثم إن الله الخالق
المبدع أمدّها بنور من نوره، فتحول الظلام إلى نور مشع يبعث
فيه الحركة والطاقة وينشر في أرجائه القوة والحياة.ولكن ما
الحيلة فيمن استلب الله من عقولهم نور الهداية، فلم تعد تبصرهم
تلك العقول إلاّ بالمساحة التي أدركتها أبصارهم من قبل. صدق
الله القائل: { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً
فَما لَهُ مِنْ نُورٍ } { النور: 24/40 }

ـ الذين متعهم الله بنور المعرفة واهتدوا به إلى الله،
ثلاث فئات، بيان وشرح لكل منها

ثم إن الذين متعهم الله بنور المعرفة فاهتدوا به إلى الله عز
وجل، ثلاث فئات: الفئة الأولى: هي التي تعرَّف أفرادها على
الله عز وجل، قبل أن يتعرفوا على الأكوان وقبل أن يتأملوا فيما
تحمله من الدلائل على وجود الله ووحدانيته.. هؤلاء لم يكونوا
بحاجة إلى أكثر من أن يقفواأمام مرآة الذات، فلما تأملوا في
أنفسهم عرفوا عبوديتهم وأدركوا أنهم بغيرهم يعيشون ويتحركون
ويتصرفون، ولما بحثوا عن ذلك الغير لم يجدوا أحداً غير الله
أمامهم. فهؤلاء هم الذين تفاعلوا مع قول الله تعالى: { وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } { الذاريات: 51/21 } فهذه
الفئة لم يحتج أفرادها إلى التأمل فيما حولهم من المكوَّنات،
بل كانت مرآة نفوسهم هي سبيل الهداية إلى ربهم، ولا شك أن من
عرف نفسه عرف ربه. الفئة الثانية: هي التي توقفت هداية
أفرادها على النظر في الآفاق وفي المكونات بعد النظر في
أنفسهم، فاهتدوا بالأنوار المشرقة عليها والمتغلغلة في بواطنها
إلى مصدر النور ومبعثه وهو الله عز وجل، فكان أن عرفوا المكوّن
من خلال الأكوان. وهؤلاء هم الذين صدق عليهم قول الله عز وجل:
{ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } { فصلت: 41/53 } الفئة
الثالثة: هي تلك التي يرى أفرادها المخلوقات المتنوعة ويرون
آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته فيها، ولكنهم لا يشاهدون
فيها المكوِّن جلّ جلاله، مشاهدة اللازم للملزوم.. حتى إذا
فرغوا من النظرالتأمل في مختلف اللوحات الكونية، عادوا إلى
عقولهم ليدرسوا بها دراسة تفكير ونظر عميقين وليتبينوا بها ما
يمكن أن تدل عليه تلك المكونات بما تنطوي عليه من نظام وما
تحققه من أهداف، فيصلون أخيراً إلى ما يقرره العقل من أن هذه
المكونات كلها حادثة بدليل ما يعتورها من التغير المستمر، وكل
حادث لا بدّ له من محدث. وهذا المحدث هو الله. كما يصلون أيضاً
إلى اليقين بأن هذه المكونات لو كانت قديمة لا أول لها يتوالد
بعضها من بعض إلى ما لا نهاية، إذن لاستلزم ذلك تسلسل العلل
غير الذاتية إلى ما لا نهاية وهو مستحيل.والفرق بين هذه الفئة
من المؤمنين والتي قبلها، أن أفراد هذه الفئة لا يستطيعون أن
يشاهدوا الله عز وجل من خلال مخلوقاته، إلا بعد استحضار دلائل
العلم وقواعده وطول التأمل فيها، ومن ثم فإنهم يستندون إليها
ويعتمدون عليها، فيما يمكن أن توصلهم إليه من حقائق الإيمان،
فهم كالذي لا يستطيع أن يمشي إلا معتمداً على عكاز، أما الفئة
الثانية فما يكادون ينظرون في شيء مما قد أبدعه الله ونسقه،
حتى يتذكروا به الخالق، ويؤمنوا بوجوده ويستيقنوا عظيم حكمته،
دون حاجة إلى استحضار قواعد العلم وموازينه والنظر فيه ثم
استخراج النتائج منه، فهم لا يحتاجون إلى عكاز هذه القواعد
والموازين قط.رجال تلك الفئة الثانية يتمتعون بما يسمونه وحدة
الشهود، إذ لا يرون الدنيا بكل ما فيها إلا كالمرآة الصافية
تتلألأ على صفحتها صفات المكوّن جلّ جلاله، دون حاجة إلى
استحضار البراهين والدلائل للنظر فيها واستخراج النتائج
منها.وعلى الرغم من أن هذه الدرجة أرقى وأكمل، فإن الدرجة التي
تليها، وهي التي يلتقي عليها اليوم أكثر المؤمنين والملتزمين
من أمثالنا، مقبولة وسليمة، إذ الاعتماد على قواعد العلم
وبراهينه وإن كان كاعتماد الأعرج أو الضعيف على العكاز الذي
يعينه، إلا أنه أداة مفيدة وموصلة إلى الغاية في نهاية
المطاف.. ولكن عليه أن يتلمس أسباباً أخرى لتقوية إيمانه
وتحويله من يقين علمي إلى شهود عملي، بحيث يرقى إلى حال أصحاب
وحدة الشهود، يرى الله بعين بصيرته دون حاجة إلى تلمس البراهين
والمقدمات المنطقية: وذلك عن طريق الإكثار من ذكر الله عز وجل،
وعن طريق ربط النعم بالمنعم دائماً.أي إن سلوك سبيل المقدمات
المنطقية والعلمية إلى معرفة الله والإيمان به، سبيل قويم
وصحيح. ولكن على أن لا يقف السالك عند حدود ما دلّت عليه تلك
البراهين والمقدمات. بل عليه أن يتخلص من قيود تلك المحاكمات
ويتجاوز الدهاليز والمنعرجات ويلقي بعكاز المحاكمات المنطقية
وراءه، جاعلاً من شهوده المباشر لصفات الله الظاهرة والباهرة
على صفحة المكونات برهاناً على صحة تلك المقدمات والبراهين..
ويرحم الله تلك المرأة العجوز التي نظرت من خصاص نافذة بيتها
في بغداد إلى الناس وقد ازدحموا في الأزقة والساحات لاستقبال
الإمام فخر الدين الرازي، فالتفتت تسأل من حولها: ما الخبر؟
قالوا إنه الإمام الرازي الذي حشد في مؤلفاته مئات الأدلة
العلمية على وجود الله ووحدانيته، فاستخفت بكلامهم قائلة: لو
لم يكن قد ابتلي بمئات الشكوك لما احتاج إلى ما يطردها من
مئاتالبراهين!.. قالوا: وبلغ الإمام الرازي هذا الذي قالته تلك
العجوز فرفع يديه يدعو الله قائلاً: «اللهم إيماناً كإيمان
العجائز» .ليس معنى هذا الذي دعا به الرازي أن سبيل العلم لا
حاجة إليه، بل هو سبيل لا بدّ منه، وإنما معناه أن على العالم
أن لا يحبس عقله عند مقدمات الحجج والبراهين، بل عليه إذا
استعملها وفرغ منها، أن يتجاوزها بحيث يرقى إلى درجة الشهود
التي أوضحنا معناها. وإلاّ فيوشك أن يعود العالم إلى جهله أو
شكوكه، إن غابت عنه لأمر ما براهينه وحججه. والخطر الأشد
بالنسبة إليه ساعة الموت، إذ تغيب عن بال الإنسان لدى سياق
الموت وسكراته المقدمات والبراهين، وكيفية عرضها وأصول
استعمالها، فإذا كانت عقائده الإيمانية لا تزال مربوطة بها
متوقفة عليها، فلا بدّ أن تغيب هي الأخرى عن باله مع غياب تلك
العُدد من المقدمات والبراهين، وما أيسر على الشيطان عندئذ أن
ينسيه كل ما قد كان يردده ويبرهن عليه أيام عافيته وصحوه.إذا
تبين هذا، فلتعلم أن الفئة الأولى تتبوأ أعلى درجات الإيمان إذ
ترقى إلى شهود الله قبل النظر في المكونات ودون حاجة إلى ذلك،
تليها الفئة الثانية وهي التي تشهد المكوّن عند رؤية الأكوان
والتأمل فيها، تليها الفئة الثالثة وهي التي لا تشهد المكوّن
جلّ جلاله حتى تعتصر من تأملاتها في الكون وسننه دلائل وبراهين
تنسقها ثم تستخرج منها النتائج والثمرات..كن واحداً من أي هذه
الفئات الثلاث، لا حرج. وإن كان عليك أن لا تنسى بأن الاعتماد
على العلم في الاستدلال ينبغي أن يكونسبيلاً تجتازه لا غاية
تحبس نفسك في أقطارها. كما أوضحت لك الآن.ولكن إياك أن تكون من
الفئة الرابعة.. تلك التي غاب عنها شهود الله عز وجل، فلم تره
بعين بصيرتها، لا قبل التأمل في المكونات ولا عند التأمل فيها
ولا بعد التأمل فيها. فتكونَ بذلك ممن قال الله عنهم: {
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُور
} { النور: 24/40 } المهم من هذا كله، والمراد الذي يقصده ابن
عطاء الله من حكمته الرائعة هذه، أن تحرص على أن لا تجعل
الأكوان سجناً لك عن المكوّن، بل احرص على أن تجعل من الأكوان
مرآة ترى من خلالها المكوّن.فإن عزّ عليك السبيل إلى ذلك،
فأكثر من الالتجاء إلى الله وأعلن عن افتقارك الكلي إليه، ييسر
لك السبيل ويكرمك بالنور الذي ترى به هذه الدنيا على حقيقتها،
وترى باهر سلطان الله عز وجل فيها.. إذن فالله هو المستعان في

كل الأحوال.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير