آخر الأخبار
موضوعات

الخميس، 8 مارس 2018

- حال المؤمن فى السراء والضراء

عدد المشاهدات:

الفاقة - وهي منتهى الضعف والفقر ووالعجز- صفة ملازمة للإنسان أياً كان، وفي كل الأحوال ، و لكن عوارض المصائب والمحن والرزايا تذكره بها من نسيان .

أي إن أحدنا قد ينسى ضعفه وفقره وعجزه، إذ تكون النعم مقبلة إليه والمصائب بعيدة عنه، فيحسب نفسه في الأقوياء وهو ضعيف، وفي الأغنياء وهو فقير، إذ القوي هو من يملك قوته ويستبقيها لنفسه كما يشاء، لا الذي يتمتع بها وهو لا يقوى على استبقائها. والغني من يملك غناه لا الذي يفتقر لاستغنائه إلى الآخرين. وليس في الناس كلهم من يملك قوته فيتحكم بها ويستبقيها لنفسه كما يشاء، وليس في الناس كلهم من يملك غناه، فيستغني لامتلاكه والتمتع به عمن سواه.

إذن فالناس كلهم في الحقيقة فقراء، فقراء إلى من يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف، ويقويهم من ضعف، ويغنيهم من فقر.. وإنما الذي يكرمهم بذلك كله، الله سبحانه وتعالى.

فإن أكرمهم، بأن أطعمهم وأغناهم وآمنهم ومتعهم بالقوة، فإن ذلك لا يحيلهم من الفاقة والعجز إلى القوة والغنى، بل تظل صفة الفاقة ملازمة لها، لأنها صفتهم الذاتية الصادرة من أصل كينونتهم وواقع حالهم، أما مظاهر القوة والأمن والغنى، فإنما هي عوارض تفد إليهم بفضل من الله عز وجل، وتغيب عنهم بحكم ولحكمة منه.

إلا أن من شأن الإنسان، إلا من رحم الله، أن ينسى فاقته الذاتية هذه، عندما تكون النعم مقبلة إليه، وتكون المصائب بعيدة عنه، وأن يتخيل أنه قوي لا يقهر، وأنه غني لا يملك الفقر إليه من سبيل، أي إن الشأن في الأنسان أن ينسى فاقته التي هي جزء من هويته، في غمار الفضل الذي يفد إليه من الله عز وجل.

وإنما الذي يذكره في هذه الحالة بأصله الذي لا انفكاك له عنه، تعرُّضه للمصائب التي قضى الله أن يبتلي بها عباده بين الحين والآخر. وهي التي يعنيها ابن عطاء الله بقوله: ((ورود الفاقات)) أي ورود المصائب، من مرض بعد العافية، وفقر بعد الغنى، وضعف بعد القوة، وخوف بعد الطمأنينة.

إذن فالمراد بكلمة ((الفاقات)) في هذه الحكمة، المصائب العارضة وليس المراد بها جنس الفاقة التي هي كما قلت منتهى الضعف والعجز في كل شيء إذ إن الفاقة في أصلها ملازمة للإنسان أياً كان، في كل أحواله، وليست عرضاً يرد على الإنسان في حالات ويغيب عنه في حالات.

إذ ا تبين هذا، ظهر لك ما يعنيه ابن عطاء الله بقوله: ((ورود الفاقات أعياد المريدين)).

إنه يعني أن السالك في طريق التقرب إلى الله، يرى في المصائب التي يتعرض لها، أياً كانت، ما يذكره بهويته ويوقظه إلى فاقته، وفي ذلك من اللطف الإلهي بالعبد ما قد يفوق الألطاف التي تتجلى في إقبال النعم والتمتع بالعافية وبسطة الرزق، فيفرح السالك بهذا الذي يوقظه من غفلته، ويذكره بهويته، ويعيده إلى حقيقة فقره.

فكأن المصائب -من هذا الجانب، المنبّه لهم والعائد بهم إلى محراب العبودية لله عز وجل- أعياد تحمل لهم بشائر عناية الله بهم ومحبته لهم، إذ لم يتركهم جل جلاله، يتيهون في أوهام ما يتمتعون به من أخيلة القوة والغنى والتمكن في الأرض، فأيقظهم بهذه المنبهات إلى دوام افتقارهم إليه ودوام احتياجهم إلى عنايته ولطفه بهم، وشغلهم عن الملهيات والمنسيات بذكره.

وكم تتجلى هذه الحقيقة التي ينبهنا إليها ابن عطاء الله في القصة التي سبق أن ذكرتها لك في مناسبة مرّت، وخلاصتها أن دمشق عرفت رجلاً كان له شأن، وكان يتبوأ مركزاً مرموقاً، وكان يتمتع بالأوج من عافيته ونشاطه، ثم إن الله ابتلاه بمرض أورثه شللاً جزئياً في أحد شقيه، فكان له من هذا الابتلاء حال عجيبة مع الله عز وجل يتقلب منها في نشوة لم يكن يعرفها ولم يكن يدرك شيئاً من مذاقها من قبل، ولقد عدته مع والدي في أحد الأيام، ولما استوفز ليقوم ويودعه، دعا له بالشفاء مما يعانيه، فقال له المريض صاحب هذه الحال: أشهدك يا سيدي أن شفائي إن كان سيفقدني هذه الحال التي متعني الله بها، فإنني في غني عن الشفاء، فتأثر والدي، وقال له: بل اسأل الله أن يكرمك بالشفاء مع بقاء هذه الحال.

ألا ترى كيف يصدق كلام ابن عطاء الله على حال هذا الإنسان الذي رأى في الفاقة التي عرضت له لذة فاقت لديه طعم العافية؟ وما ذلك إلا لأنها وصلته بالله، وأذاقته نشوة شهوده ولذة مراقبته ومناجاته.

ثم إن استقبال المصائب بهذا الترحاب والنظر إليها على أنها بمثابة الأعياد، من شأن المريدين أي السالكين، كما دل عليه تقييد ذلك بهم.

وإنما خصه ابن عطاء الله بهم، لأن العارفين والربانيين تستوي لديهم حالات الشدة والرخاء، فلا يكون ورود النعم إليهم، أياً كانت، سبباً لغفلتهم عن الله أو لنسيانهم له، حتى تقوم المصائب من بعدها بدور المنبه أو المذكر لهم.

وقد مرّ بك أن العارف من شأنه أن يكون مع الله في كل أحواله، ومن ثم فهو يرحب بكل التقلبات التي يتعرض لها، ويسخرها لمرضاة الله عز وجل: لا يخشى من هجوم النعم عليه، بل يرحب بها ويتعامل معها وينعم بها، موقناً أنه إنما يتلقاها مكرمة في ضيافة الرحمن. ولا يجزع من ورود المصائب، أياً كانت، إليه، بل يرحب بها هي الأخرى، بعد أن ظهر له أن الله قد قضى عليه بها، ويتعامل معها لا صابراً عليها فقط، بل راضياً وموقناً بأنها هي الخير له.

إذن، فليس ثمة ما يدعوه إلى أن يرحب بالضراء أكثر من السراء، أو السراء أكثر من الضراء، لأنه في كل تقلباته مع الله عز وجل بذكره ومراقبته له.. هو في كل الأحوال نزيل رحابه، وضيف مكرم عند جنابه ومن ثم فإنه لا يتلقى من مولاه إلا ما يعتقد أنه مكرمة ونعمة وخير.

ثم إن العارف لا يفارقه شعوره بفاقته المطلقة، وبفقره التام إلى الله عز وجل. إنه يرى نفسه فقيراً إليه في حالة السراء، كما هو فقير إليه في حالة الضراء. لا يطغيه رغد العيش ولا تسكره نعمة المال أو العافية والقوة، وقد مرّت بك نماذج من أخبار الصالحين من رجال السلف الصالح، وتبين لك كيف أن تكاثر النعم لديهم لم يزدهم إلا شعوراً بضعفهم وفاقتهم أمام سلطان الله عز وجل .

تذكّر حال عمر بن الخطاب يوم سيقت إليه كنوز كسرى وتراكمت أمامه الغنائم.. وتذكر حال عبد الله بن المبارك الذي كان مضرب المثل في الغنى، وفي أعماله التجارية الرابحة.. وتذكر حال أمثالهما من السلف الصالح. تعلم أنه لا السراء كانت تحجبهم عن رؤية افتقارهم الدائم إليه، ولا الضراء كانت تنبههم إلى أمر كانوا غافلين عنه، أو تذكرهم بحقيقة كانوا ناسين لها.

فمن أجل هذا خصص ابن عطاء الله أثر ورود الفاقات، أي المصائب، على النحو الذي وصف ، بالمريدين ، أي السالكين في طريق القرب من الله والوصول إلى مرضاته، دون غيرهم .
منطقة المرفقات

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير