آخر الأخبار
موضوعات

الخميس، 8 مارس 2018

- حال المؤمن فى القبض والسط

عدد المشاهدات:

من عبّر من بساط إحسانه أصمتته الإساءة ، و من عبّر من بساط إحسان الله إليه لم يصمت إذا أساء
المراد بكلمة ((البساط)) المجال أو المنطلق أو المعتمد.

والمعنى الإجمالي لهذه الحكمة أن من أراد أن يناجي الله سائلاً أو داعياً أو مثنياً، من منطلق أعماله وطاعاته التي يتعامل بها مع الله عز وجل، فلسوف تسكته كثرة إساءاته ومظاهر تقصيره في جنب الله. أما من أراد أن يناجي الله سائلاً أو داعياً أو مثنياً، من منطلق ما يصل إليه من الله تعالى من أنواع المنن والمنح وما يعامله به من الصفح والتجاوز عن الإساءات والآثام، فلسوف تقوده الجرأة إلى أن يتجه إليه بكل ما يريد، وأن يعبر له عن كل ما يجيش به صدره من الرغائب والآمال.

فهاتان الحالتان يتردد بينهما كل مؤمن بالله تعالى مهما سما قدره أو تدانت رتبته عند الله. أي يتعرض لجاذبيهما الرسل والأنبياء والربانيون والأصفياء، والمتقون والحكماء، والفاسقون والأشقياء.

وقد يكون تعبير ابن عطاء الله موهماً أن في الناس المؤمنين بالله من تنطبق عليهم دائماً الحالة الأولى، وفيهم من تنطبق عليهم دائماً الحالة الثانية. ولكن هذا الوهم غير مقصود لابن عطاء الله، كما نبه إليه معظم الشراح.

إذ ليس في المؤمنين الصادقين بالله عز وجل، من تغيب عنه سبل النعم والألطاف والتجاوزات التي تفد إليه من الله تعالى دون حصر ولا حساب في سائر تقلباته وأحواله المختلفة مع الله، ويحصر مشاعره في إساءاته وآثامه وانحرافاته التي تفد إلى الله منه.

وليس في المؤمنين الصادقين أيضاً من تغيب عنه مساوئه وآثامه التي يجترحها في جنب الله، ويحصر مشاعره في التنبه إلى كرم الله وصفحه وإحسانه.

بل الشأن في المؤمن أن يكون دائماً بين جاذبين لا يتناسى أو يهمل الواحد منهما من أجل الآخر، أحدهما جاذب الخوف من العقاب بسبب ما قد فرّط في جنب الله، ثانيهما جاذب الأمل بعفو الله وسعة رحمته، بسبب ما هو معلوم من عظيم آلاء الله وواسع إكرامه وجوده لسائر عباده على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم وصدق الله القائل: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء: 20/17].

غير أن المؤمن ربما مرت به ظروف وأحوال حجبته عن النظر في سعة فضل الله وعفوه وبالغ إنعامه وألطافه التي تفد منه دائماً إلى سائر عباده، ووضعته محصوراً أمام مظاهر تقصيره وسوء حاله وسلسلة معاصيه، فأورثه ذلك خجلاً من الله عز وجل دون أن يرى أمامه بارقة تذكره بصفح الله وعفوه عن الآثام وتجاوزه عن السيئات. فتصمته هذه الحال عن التوجه إلى الله بأي خطاب يتضمن أي طلب، إذ إنه بين يدي شعوره بالسيئات والمعاصي الكثيرة، يستغرق في مخاوفه وأسباب حيائه دون أن يتذكر، وهو في تلك الحال، ما يجرئه على التوجه إلى الله بشيء من آماله أو بأي من أسئلته ورغائبه، من واسع رحمته وعظيم تفضله وعفوه.

وربما مرت به ظروف وأحوال أخرى، تغمره فيها مشاعر تحجبه عن أوزاره ومعاصيه وتنسيه إساءاته وتقصيره في جنب الله، وإنما تأتي هذه المشاعر من التأمل في ألطاف الله ونعمه المتنوعة الكثيرة التي لا حصر لها، مما تزخر به المكونات المحيطة بالإنسان والمسخرة له، ومن التأمل في مظاهر رحمته وواسع عفوه وجوده، مما يجد أنباءه في كتاب الله، ويقف على تفاصيله في أحاديث رسول الله. فيغريه ذلك بالتوجه إلى الله مثنياً وسائلاً وداعياً، دون أن يرى في إساءاته الكثيرة ما يمنعه من الإقبال إليه ويحرجه من مدّ يد المسألة والاحتياج إليه.

والمهم أن تعلم أن كل مؤمن بالله تعالى معرض للمرور بهاتين الحالتين، ولكل منهما عوامله وأسبابه، وربما سميت الحالة الأولى حالة جلال، وسميت الثانية حالة جمال.

وقد كان والدي رحمه الله تعتريه في كثير من الأحيان الحالة الأولى، فيتقلب في غمرة من المخاوف وتسيطر عليه المهابة، بحيث لا يجرؤ أحد أن يحدثه عن عظيم فضل الله وكرمه، أو أن يذكره بواسع مغفرته وصفحه، إذ يرى في ذلك استصغاراً للذنب، واستهانة بوعيد الله وعقابه.

ثم إن هذه الحالة تنجاب عنه في أوقات أخرى لأسباب الله أعلم بها، فيتقلب عندئذ في غمرة من نشوة التأمل بألطاف الله ونعمه المتنوعة التي لا حصر لها والتي يشمل بها عباده جميعاً، وفي الآيات التي يطمئن الله فيها عباده التائهين إلى ما ادخره لهم من مفاجآت الصفح والغفران.

وكم قال لمن حوله، وهو في غمرة هذه الحالة، عندما أتأمل في هذه الألطاف الإلهية العامة للناس جميعاً والتي لا حصر لها، يستقر في فؤادي شعور بأن الله لن يعذب يوم القيامة أحداً من عباده المؤمنين به في دار الدنيا.

وكم ضمّن -رحمه الله- أدعيته التي كان يناجي الله بها، تعبيراً عن شعوريه المختلفين في هاتين الحالتين. من ذلك قوله في دعاء كان يردده في الأسحار: ((يا رب إذا نظرت إلى نفسي وعقلي فإني من أهل النار والبوار، وإذا نظرت إلى كرمك وإحسانك ولطفك بالعباد، أرى الأمر سهلاً)) ومن ذلك في دعاء آخر، كان يدعو به في أوقاته الخاصة بين الحين والآخر: ((اللهم لك الحمد حمد عارف أخرسته معرفته عن الكلام، حمد من أحصى ذنوبه وقبائحه، فإذن قد ملأت الأرض والسماء، ثم نظر إلى عظمتك ونعمتك فإذن لا نهاية لهما، فاستحيا منك نهاية الحياء، فكاد أن يتقطع جسده، وأن يتصدع قلبه حياء وخوفاً منك، ثم نظر إلى رحمتك ورأفتك وعفوك وسترك، وإذن قد عمت السماوات والأرض وجميع الخلائق، فرجعت روحه إلى جسده)).

لعلك تقول: فهذا الذي ذكرته وارد ومعقول في حق عامة الناس، إذ من شأنهم المرور بكل من حالتي التوفيق والتقصير، والإحسان والإساءة.

ولكن كيف يتأتى هذا الذي ذكرته، في حق الرسل والأنبياء، مع ما هو معلوم من أن الرسل والأنبياء معصومون؟
والجواب: هو أنه ليس في الدنيا من يستطيع أن يؤدي حقوق الربوبية، ولو كان رسولاً أو نبياً، ولو كان من أولي العزم منهم، ذلك لأن النعم التي ترد من الله إلى العبد أجل وأكثر من الحقوق والواجبات التي تفد من العبد إلى الله أياً كان هذا العبد، إذ إن كل ما ينهض به العبد من الواجبات وما يؤديه من حقوق الربوبية، فإنما هو بتوفيق الله وفضله، فهو عز وجل المنعم والمتفضل به عليه، إذن فالعبد من شأنه ومن مستلزماته التقصير في جنب الله أياً كان وفي كل الأحوال، حتى وإن لم يقترف ذنباً، ولذلك أمر الله عباده جميعاً بالتوبة، إن لم يكن من الوقوع في الذنوب، فمن التقصير في النهوض بحقوق الله، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31/24].

هذا بالإضافة إلى أن العبد كلما ازداد معرفة بالله وقرباً منه، ازداد شعوراً بتقصيره تجاهه، وازداد قناعة بتورطه في أنواع من الإساءات والذنوب، فتسربت إليه مشاعر الخشية والحياء منه عز وجل. ولما كان الرسل والأنبياء هم أكثر الناس معرفة بالله وقرباً منه، فقد كانوا أشدهم شعوراً بل يقيناً بذلك كله. ألا ترى أنهم كانوا أكثر الناس عبادة وخشية واستغفاراً، وأكثرهم تبتلاً وركوعاً وسجوداً في الأسحار؟
والخلاصة أن فضل الله واسع وكبير، ومن عظيم فضله أنه أكرم رسله وأنبياءه بالعصمة من الذنوب. ولكن من شأن العبد أن يزداد شعوراً بتقصيره في أداء حقوق الله، وشعوراً بسوء حاله معه كلما ازداد معرفة له، بل كلما ازداد قرباً منه أيضاً.

إذن فما من عبد من عباد الله المؤمنين به إلا وهو معرض لكلتا هاتين الحالتين التي يتحدث عنهما ابن عطاء الله، ولعله يمرّ بالحالة الأولى آناً، وبالثانية أخرى، ونسأل الله العافية والتوفيق.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير