آخر الأخبار
موضوعات

الجمعة، 9 مارس 2012

- مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً

- مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ  نَاراً
قوله تعالى :
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ  وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ).
بعد أن بين الله لنا بعض ما عليه أهل النفاق من الخديعة والسخرية والاقتدار على إخفاء الكفر    فى قلوبهم وإظهار الإيمان لتسلم أنفسهم وأموالهم ويعيشوا متمتعين بين المؤمنين بما لهم من الحقوق .  ضرب سبحانه لحالهم العجيبة مثلا ، والأمثال تكشف للعلماء الربانيين قال تعالى : )وَتِلْكَ  الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ(، فغير العلماء لا يعقلون عن الله سبحانه وتعالى . مثل   حالهم العجيبة التى يحتار منها اللبيب بالنسبة لوضوح الحق لهم بما جاء به رسول الله تعالى من الآيات  الدالة على وحدانية الله تعالى وما بينه عليه الصلاة والسلام من أنواع العبادات والمعاملات والأخلاق التى  بها نيل السعادة ، وبما كانوا علية من الكفر بالله تعالى ، ومن العقوق والقطيعة وعبادة الأحجار والصور   والبهائم ومع هذا فإنهم أظهروا الإيمان وأخفوا الكفر فجمعوا بين الخبيثين : ظلمة الكفر ، وخبث النفاق . فكانوا بذلك فى الدرك الأسفل من النار لأن الكافر المجاهر بالكفر علمه المؤمنون فحصنوا  أنفسهم من كيده وسلموا الأهل النفاق وعاملوهم معاملة أنفسهم فكانوا شراً علينا من أهل الكفر بالله . ولذلك فقد ضرب الله لهم هذا المثل فشبههم فى حالهم هذه مجال رجل استوقد ناراً فأضاءت أفقه ،  واستبان بضوئها كل شىء حوله ووضحت له السبل ، ثم طفئت النار ، فعمته الظلمة وارتفع عنه كل شىء.وحذف الله من المثل جملا كثيرة تضمنها كلامه سبحانه السابق ، فكأنه يقول سبحانه مثل حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم وعملوا بأبدانهم عمل المسلمين أمام المؤمنين ، فأنزلهم المؤمنون  مزلة أنفسهم فناكحوهم ووارثوهم ، وعاملوهم معاملة أخوة المؤمنين ، فسعدوا فى الدنيا بما أظهروه    من الإيمان ، فلما ماتوا وجدوا أنفسهم من أهل العذب والخزى بما أضمروه فى قلوبهم من الكفر ، فشبه   حالهم هذه بحال أوقد ناراً ، والنار التى أوقدها فى المشبه به ، هى الإقرار باللسان والعمل بالجوارح ،  وإضاءة النار التى كشفت له ما حوله ، هى حسن معاملة المؤمنين له . ولما كانت المعانى مفهومة من سياق الكلام أتى سبحانه بالآية موجزة من كمال البلاغة . فانظر إلى فخامة قوله تعالى : )ذَهَبَ اللّهُ   بِنُورِهِمْ(فأفرد المشبه به ، ثم جمع ليدل على إيجاز الكلام . وذهاب الله بنورهم إماتتهم وكانوا  يعتقدون أنهم نجوا نجاة لا عقوبه بعدها ، على ما أضمروا من الكفر ، فأخبرنا الله عنهم أنهم يوم القيامة   يعاملون الله تعالى معاملتهم للمؤمنين ، ويظنون نجاتهم بتلك المعاملة لجهلهم بالله تعالى ، قال تعالى مشنعاً عليهم : )يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم ْوَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا  إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ(– وتركهم فى الظلمات يوم القيامة ، يعنى تركهم فى النار لا يبصرون غيرها .ومعنى المثل : أن المنافقين لما رأوا قوة المؤمنين خافوا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، فأظهروا           .
قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ.... ( 18 ) البقرة
الإيمان فحفظوا لأنفسهم كل شىء وأخفوا الكفر فى قلوبهم , وعاشوا مستضيئين بنور ما أظهروه   من الإيمان , حتى ماتوا انكشفت الحقائق , فأرادوا أن يتخلصوا من عذاب النار بما تخلصوا به من عذاب الدنيا من الأَيمان الكاذبة , فكشفت الله لهم عن الحقيقة ما فى قلوبهم , وأمر بهم إلى النار  بعد أن أقسموا له سبحانه على صدقهم فلم ينفعهم ذلك , إذا كانوا فى الدنيا منافقين . وإن تأويل بعض    المفسرين هذه الآية بأنهم كانوا مؤمنين ،ثم كفروا . وقال بعضهم كانوا مؤمنين ثم نافقوا , ولا حجة    فى الآية تقوم على ذلك , والحقيقة أنهم لم تسبق لهم إيمان أبداً . وأن تلك النار التى أضاءت ما حول      الموقد إنما هى إقرارهم باللسان الذى نفعهم الله به فى الدنيا , وإن كان الله تعالى كشف الستر عن بعضهم   فى الدنيا كعبد الله  بن أُبىّ ابن سلول وكطعمة بن أبيرق الذى ثبتت عليه السرقة وهو من كبار المنافقين فقام بعض  أقاربه يجادل عنه فنهاه الله عن ذلك بقوله :]وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ[- إلا أن المؤمنين كانوا يحبون الستر والمداراة , وهذا المثل بين حقيقة ما عليه كثير من منافقى أهل هذا الزمان , الذين يسارعون فى أعداء الله طمعاً فيما يفنى وخشية من أن تصيبهم دائرة , من عزل من وظيفة أو نفى   أو سجن . وكذلك المنافقون الذين أوقدوا نار التستر بالعلم بظاهرة الحياة الدنيا , ثم تضىء لهم تلك النار ,  فيحسبوا أنهم على خير وهم الضالون , إذا ليس العلم بظاهرة الحياة الدنيا هو العلم النافع عند الله وعند  رسوله صلى الله عليه وسلم وعند العلماء الربانيين , لأنه صنعة لراحة الأبدان لا تكتسب منه الأرواح ذرة من الخير ,   وربما كان سبباً فى الكفر أو النفاق أو الجدل أو منازعة الأحكام الشرعية أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين.          
قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ  ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَأَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ    واللّهُ مُحِيط ٌبِالْكافِرِينَp18i
     بينت لك فيما سبق تمثيل الله حالة المنافقين بحسب ما اكتسبوا فى
قوله تعالى : ]مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ  الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ  اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّيُبْصِرُونَp17i            
 وكان هذا البيان يكاد يكون إجمالياً , فاشتاقت نفوس المؤمنين إلى تفصيل هذا الإجمال بما  يشم منه رائحة التوحيد , فأشار سبحانه إلى شىء من عبيره لأهل النفوس الطاهرة بقوله : ]صُمٌّ   بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[فليس المراد  صم الآذان , بل فقد القابل . ولا بكم الألسنة ,   بل حرمان التوفيق للنطق الصحيح بالإخلاص .  لا عمى الأعين , بل محو القوى التى تبصر آيات الله فى   مكوناته , فهم صم لا يعون الآيات الجليلة الواضحة , ولا يسمعون تسبيح الكائنات البينية , ولو بالتسليم   للقرآن . و ]بُكْمٌ[فلا ينطقون بالحقائق التى تشير إليها الآيات من إبداع السموات والأرض . و ]عُمْيٌ[.

فلا يبصرون تلك الآيات إلا مادة فاعلة مختارة : قال تعالى : ]إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ  لِّلْمُؤْمِنِينَوَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَوَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِوَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِنرِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌلِّقَوْمٍ   يَعْقِلُونَ[وهذه الآية مؤخرة عن تقدم لأن موضعها ]أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا  رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [- ]صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[إلى الهداية أبدا, وإن كان الكلام فى الآخرة فلا يرجعون إلى الدنيا .
ثم أتى سبحانه وتعالى بأو التفصيلية التى ليست للإباحة ولا للشك لتفيد تفصيل هذا المجمل فقال  سبحانه : ]أَوْ كَصَيِّبٍ[والصيب : هو المطر الغزير . وليس هذا بعمل كسبهم ولكنه زواجَهُ ما يقتضى  الفزع منه . والمراد بالصيب هنا الإيمان , ولكنه شبه بسحابة سوداء ذات مطر غزير فى ليلة ظلماء  مصحوبة بظلمات ورعد وبرق , والرعد والبرق التكاليف الشرعية التى كلف بها العبد رغم أنفة , من   صلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد , والصواعق هى الجهاد . فكان كلما أمروا بالجهاد أو الزكاة كرهوا   سماع هذا الأمر , فجعل مثلهم فى ذلك مثل الفزع من الصواعق القتٌالة ولخوفه يضع أطراف أصابعه فى أذنيه , ومثال حالهم هذا مفصل لما انتابهم من سابقة السوءى أعاذنا الله تعالى .
ولا تعجب يا أخى فإنك ترى فى زمنك هذا أناساً تعلموا العلم الدينى , وهم فى أثناء تعليمه فى معهده         ترى نفوسهم تنزع إلى الإنكار والسخرية . وسبب ذلك سابقة القدر . قال تعالى : ]وَلَئِنْ أَتَيْتَ   الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْقِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة بَعْضٍ[وهم هؤلاء .. لا فرق بين اليهودى والنصرانى والمسلم , وكم من يهودى لان قبلة لبعض الآيات !!    وكم من نصرانى خلع ثوب النصرانية بمجرد فهم حكمة واحدة من حكم القرآن !!
كثير من الناس يقولون فلان عالم وفلان بن فلان حصل أمثال الجبال عالماً وأنا منفرداً أقول:وإنما  هى النفوس لا الدروس . والنفس الزكية الطاهرة يكفيها قليل الحكمة , والنفس الخبيثة اللقسة كالقرحة  لا يصدر منها إلا الصديد . فاحذر أخى أن تجالس أو تجانس أصحاب النفوس التى تنكر كرامات الأولياء ,   فضلا عن إنكار القرآن وإنكار الأحكام ]واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ[.
يجب على من وفقه الله لشرف خدمة تأويل القرآن أن يكون عالماً بمراتب العبودية ومقادير   خطابها , وبساطة من عظمة الذات وكبريائها , وكمالها وجمالها , وبهائها وضيائها ونورها , لأن استغراق  .        

قوله تعالى : يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ... ( 20) البقرة
كل ذلك علماً مستحيل – ومن جهل نفسه فجهل ربه , وحصل أمثال الجبال من العلم الإنسانى     وكتب على القرآن أخطأ ولو حكم له ألف عالم بأنه أصاب – قال تعالى : ]الرَّحْمَنُ.عَلَّمَ الْقُرْآنَ.  خَلَقَ الْإِنسَانَ.عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [.
]واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ[بالنسبة لهذا الميزان , أى أن الله تعالى هو القهار شديد البطش الذى  إذا أخذ عبداً لم يفلته .
وليست الآية تدل على أن هناك محيطاً ظرفاً ومُحاطاً به مظروفاً , تنزه الله تعالى علواً كبيراً , ولو تتبعانا  آيات القرآن المجيد فى أمثل تلك المعانى لوجدنا اسم القهار أو المنتقم أو شديد البطش يوضع موضع  محيط . وكأن المعنى والله أعلم : والله محيط بكل وُجَهِهِم , أى آخذ عليهم كل مسالكهم فلا ملجأ ولا  منجى من الله إلا إليه . ولذلك فالعارفون بالله بعد معرفتهم لأنفسهم فقدوا فى أعينهم كل شىء إلا دالاً  على الله تعالى بما فيه من بدائع إبداع الحكمة , أو خاصية وضعها الله فى الكائنات , أو آية تغذوا أرواح   المحبوبين بما فيها من غرائب القدرة وعجائب الحكمة , أو كتاباً صامتاً وهو القرآن المجيد والسنة , أو إنساناً بلغ وراثة رسول الله eناطقاً بما آتاه الله من فضله , فهذا الذى أثبت عند العارفين وجودها    لمعانيها . وأما ما عدا ذلك من مادة يعبدها أهل الغرة بالله , أو جاه يتفانى فيه أهل الدنياٍ , أو رياسة   بها تنفيذ كلمة الظلمة أو ذخائر إذا فارق صاحبها الحياة كانت سبباً فى الحرب بين ورثته , وسبباً لِكَبّه       فى نار جهنم فلا تنفعه فى الدنيا لأنه كنزها , ولا فى الآخرة من الفقير المحتاج إليها منعها .
أما أهل المعرفة فإنهم جعلوا الدنيا المعبودة لأهلها , كما قال رسول الله تعالى: )تعس عبد الدينار  وعبد الدرهم وعبد الخميصة , إن أعطى رضى , وإن لم يعط سخط , تعس وانتكس , وإذا شيك     فلا انتقش ) فإنهم أمدنا الله بروحانيتهم عاشوا غرباء , وإن أقبلت عليهم الدنيا قدموها لتكون   لهم ذخيرة عند الله , وضعوا أموالهم وأولادهم وعقارهم فى موازينهم يوم القيامة , من غير عاطفة تفسد  عليهم حالهم , فإنهم عرفوا أن الدنيا غرارة ضرارة مرارة وهى دار الخاسرين . ومن تذكر ما حصل   لخير الرسل فيها منها بالقليل , وعمل فيها المسافر العجِل , والغريب الذى لا أهل له . وفقنا   الله لما يحبه ويرضاه . وكما أن الله محيط بقهره وانتقامه وشدة بطشه وتفريده فى إيجاد كل شىء بالكافرين    فهو كذلك محيط برحمته وحنانه , وفضله وإحسانه بالمؤمنين .
قوله تعالى : يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْوَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه  عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌp20i
يقرب البرق لشدة لمعانه أن يخطف أنوار عيونهم , والبرق هنا هو حجج الإسلام البينة التى
لا يقوى طالب احق على إدحاضها , ولكن صاحب الهوى وعمىّ البصيرة محكوم عليه بالقطيعة مهما   كانت حالته , وكلنا نعلم أن الله خلق  ناراً وخلق جنة , وأن أهل النار عبيد الله , وأهل الجنة أيضاً عبيد ه   كأهل النار لأن الله تعالى خلق النار وخلق لها أهلا, وخلق الجنة وخلق لها أهلا  ,ولم يقو أحد  على أن     يغير ما قدره الله عليه أزلا , وغاية ما فى الأمر أن الله أخفى عن العالم جميعاً سر القدر , ثم إنه سبحانه         وتعالى أمر أبا بكر بالإيمان وكتب له فى الأزل الإيمان , وأمر أبا لهب بالإيمان , وكتب له فى الأزل   الكفر والمعاداة , وكلتا الدارين من نار أو جنة يؤولان إلى مراد الله , فما فى النار مراد الله كما أن  ما فى الجنة مراده , إلا أن الله أخلص الجمال والإحسان لأهل الجنة يوم القيامة , وجعل الجلال والعذاب لأهل النار فى هذا اليوم ولا مراد لقضاء الله , ومن ظن أنه يدرك الغيب المصون بعقله المعقول فقد جهل  نفسه , وإلا فما هو الإنسان وإن علا ؟ أليس هو بولة بالها أبوه من ذكره وبالته أمه من فرجها ؟ وما مقدار رجل هو من بولتين ؟ فليتأدب لله ورسوله e, ولا يكون سبباً لنفسه فى لقاء عذاب  لا قبل له به , ولا يكون كضلاٌل أوربا المغرورين بعلومها التى تلقوها عن أساتذتهم , الذين كانوا  فى القرون الوسطى شراً من مجاهيل أفريقيا , ولولا الأندلس وسلب كتبها وترجمتها ونابليون وسرقته   كتب الأزهر ووحوش الصليبية الأولى الذين كانوا أقل ظلماً من صليبية هذا الزمانفإنهم سرقوا الكتب من كل معاهد أفريقيا والشام ثم ترجمتها لهم بعض من لا خلاق لهم من المسلمين الذين تلقوها عن أساتذتها لكانوا كالبهائم فى بلادنا , ولعلك لا تنسى أن ابن رشد الأندلسى لما فر من الأندلس إلى فرنسا   طلب منه كبارها أن يكون أستاذاً لهم , فقبل وفتح أول مدرسة فى فرنسا وترجم لها علوم المادة وعلوم   الفلك والطب والهندسة وغيرها , فرحم الله الشرق ورحم آثار رجاله السالفين , وأعاد لنا ما سلبته أيدى   الأعداء منا .
قوله تعالى : ]يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [كائن سائلا سأل – مَثّل ْ لنا حال هؤلاء القوم لنعلم    ما كان عليه حال المنافقين؟ فقال سبحانه ]كُلَّمَا أَضَاء لَهُم[نوراً إقرارهم باللسان وحضورهم الصلوات مع  الصحابة ]مَّشَوْاْ فِيهِ[, أى انتفعوا به , ]وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ [بذكر بعض السرايا التى كان يرسلها  رسول اللهeأو طلب زكاة المال المفروضة أو التقرب إلى الله بما يصلح للجهاد ] قَامُواْ [ أى احتاروا :  ولم يقمهم الله فى هذا المقام إلا ليزدادوا تعذيباً أو ليكشف عنهم ستره عندما يريد الانتقام منهم ،    فتكون فضيحتهم شنيعة .
قال تعالى : ]وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[.

من اسرار القرآن للامام محمد ماضى ابو العزائم

الثلاثاء، 6 مارس 2012

- الصحابة الكرام فضائلهم وشمائلهم


إن الله سبحانه وتعالى {يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخِيرَةُ } و قد اختار الله من خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم وشرفه على الناس كافة وجعله أحب خلقه إليه . وجعل أمته من خير الأمم ،وجعل العصر الذي بعث فيه خير عصور الدنيا ولذلك فإن أصحابه الذين ءامنوا به و أيدوه ونصروه وجاهدوا بين يديه هم خير قرون أهل الأرض . وقدأثنى الله عليهم في كتابه ثناء عظيما ، و انزل عليهم رضوانه ،و زكَّى إيمانهم وهُداهم ،و اخبر انهم بذلوا الوسع و الجهد في نصرة الدين فقال جل من قائل :{ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون } وقال صلى الله عليه وسلم " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..." (وقد تضمنت المحاضرة ذكر" صور من حياة الصحابة"،وجهاد السابقين الأولين وصبرهم و بلاءهم الحسنِ في الدين.. و أفاض الشيخ في الحديث عن أهل بدر، و العشرة المبشرين بالجنة ،و أهل بيعة الرضوان و الخلفاء الراشدين و أمهات المؤمنين و فضل عائشة رضي الله عنها ) . وتابع القول – حفظه الله-. فلذلك كان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حق عظيم على جميع المؤمنين أن يترضوا عليهم وأن يحبوهم وأن يوالوهم جميعا و أن يظنوا بهم أحسن الظنون وأن يلتمسوا لهم أحسن المخارج ، وأن يعلموا أن الله هو الذي اختارهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ،فقدّمهم في صدر هذه الأمة ليكون لهم ثواب كل من وراءهم ؛فكل عابد لله بعدهم بأي نوع من أنواع العبادات ذكرا أو صلاة أو علما أو جهادا ..فعمله مكتوب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم الذين جاهدوا حتى بلغوا هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها ..وما أحسن قول غالي البصادي: *وقامت بنصر الله أنصار دينه * وبيعت من الله النفوس النفائس. ... وكل ما نالوه من الفضل والسبق والخيرية فإنما نالوه بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، والتلقي عنه والاقتداء به وتمثـُّـل هديه وسنته ودعوته ، فكل طعن فيهم إنما هو طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل بغض لهم إنما هو بغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال العلامة أحمد البدوي عليه رحمة الله: (هم صفوة الأنام من أحبهم * بحبه أحبهم وودهم * كذاك من أبغضهم ببغضه * أبغضهم تبا له من معضه ). واجبنا تجاه الصحابة رضوان الله عليهم : - التوقير والدعاء لهم وحبهم حبا شديدا بحب الله لهم وحب رسوله الكريم لهم . - أن نظن بهم أحسن الظنون وأن نلتمس لهم أحسن المخارج. - لا نعتقد العصمة في أحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكننا نعلم أن سابقة الصحابة في الإسلام وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملهم لأعباء هذا الدين من مكفرات الذنوب ..فهم رضوان الله عليهم أولى الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم . - لا نعتقد في أئمة آل البيت بالعصمة كما يعتقد الروافض ، ولكننا نجلهم ونوقرهم ونرعى فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ..وكل من أراد أن يعقد نزاعا بين الصحابة وبين آل البيت فهو كاذب مفترٍ...فآل البيت من الصحابة كانوا خيار الصحابة و أهل مودتهم و توقيرهم ..وكذلك توارث السلف وأهل السنة وأعلام الأمة توقير آل البيت دون غلو ولا تنطع . - لقد نال الصحابة ميزاتٍ عظيمة استحقوا بها علينا الحب والذكر الجميل فمن ذلك: فضل الصحبة والجهاد وفضل حضور الوحي ونزول جبريل ، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم ورؤية الملائكة على هيئات مختلفة ، وفضل السبق وهو منقبة عظيمة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحُد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ". - أن لا نخوض فيما شجر بينهم ونعلم أنما وقع منهم كان عن اجتهادٍ ..فمنهم مصيب ومنهم مخطئ فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر في اجتهاده وليس عليه إثم في اجتهاده. - إن الحب والتوقير والمدارسة لسير الصحابة الكرام تقتضي الاقتداء بهم واتباع هديهم وما كانوا عليه، فإن الصحابة أسوة في الإيمان جميعا قولا وفعلا واعتقادا لأن الله قال { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} . - الطعن في الصحابة أو في بعضهم هو طعن في الدين ، ولا يحل السماع ممن يطعن في الصحابة ولا مناظرته ولا مجالسته وهو عرضة للردة نعوذ بالله لأن الله تعالى أخبر أنه يَغيظ الكفار بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن أغاظه الصحابة فهو للكفر أقرب منه للإيمان { ليغيظ بهم الكفار}... وبالأخص الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فمن قال فيهم بغير ذلك بأن كفرهم أو فسقهم أو شهد لهم بالنار فهو كافر لأنه مكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ... ومن لم يبرئ عائشة رضي الله عنها مما برأها الله منه فهو كافر إجماعا كفرا أكبر مخرجا من الملة لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ولو تشهَّد عند الموت ولو تشهد في كل الأوقات لا ينفعه ذلك لأنه يكذب الله ورسوله . - ومن أعظم أوجه التأسي بالصحابة التأسي بهم في الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا في ذلك بالمقام الرفيع 

- فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ

قوله تعالى: ( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)i
المرض هو الآفة التى تحل بالعضو لضعفه أو لفساد مزاج من الأمزجة . والطبيب النطاسى هو من يعالج الأمزجة لا من يعالج مركز المرض . وتلك المعالجة هى ما كان عليها أطباء المسلمين .. وقد  رجع إليها الطب الحديث – وإن أطباء هذا العصر يجهلون كثيرا من وظائف الأعضاء . وما علموا  منها إلا ما دوّنه أطباء المسلمين فى كتبهم .. وأما ما كان يعلمه كبار الأطباء من المسلمين بطول التجارب         .
     وبتزكية النفس بالتقوى وبما أودعه الله فى قلوبهم من الرحمة بالخلق فذلك لا يدركه علماء عصرنا هذا   لفقدهم أسباب الوصول إليه , قال سبحانه :]وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ [والمرض لا يرى , ولكن تُرى أعراضه من ألم العضو وصفرة اللون وذبول الجسم أو بواسطة ( كشف الأشعة ) و وكم من مريض   لا يحس بألم ولا بذبول جسم فلا يشعر كالمرضى بالديدان فى أمعائهم أو بالحصى فى المثانة أو الكليتين  أو الزائدة المعوية ( القولنج ) بأن تلك الأمراض توجد فى الجسم زمناً طويلا من غير أن يحس بها المريض , فإذا حصل مرض آخر أهاج تلك  الأمراض كلها . وقد تقدم أن الألم يسمى مرضاً . وهؤلاء  المنافقون فى قلوبهم شك وريب جعلهم فى أشد الآلام حسداً وغيظاً . ولم يقل سبحانه وقلوبهم مريضة لأن القلوب المريضة لا يؤاخذ صاحبها كالممرورين . وكم أفسدوا قواهم العقلية بتناول المسكرات والمخدرات.  وهؤلاء يُعَجٌلُ الله لهم العذاب فى الدنيا لأنهم خالفوا الشريعة وأضروا أنفسهم فيعيشون فى الدنيا فى ذل ومهانة من الجوع والعرى والألم , لأنهم لم يرحموا أنفسهم ويعذبون يوم القيامة على ارتكابهم ما أضاعوا  به جوهرة العقل الذى يعيشون به فى هناءة وعلم وعبادة .
وفى هذه الآية إشارة لطيفة وهى أن الصحة الروحانية لا تتحقق إلا بعلم التوحيد والعمل بها أمر الله به واجتناب ما نهى عنه , وبذلك يكون كل مخالف للشريعة مريضا بما فى قلبه من الريب  والشك , أم من العقائد الباطلة والآراء المضلة والمذاهب الفاسدة , ولو أنه كان متمتعاً بالصحة الروحانية لظهرت أعراضها عليه من الاستقامة والهداية والمسارعة إلى محاب الله ومراضية سبحانه , وما ظن عقل  من يعتقد عقيدة باطلة بإنكار أخبار القرآن أو بإهانة أحكام الله تعالى إلا كذبته الحقائق . وكيف لا والنفوس خمسة أنواع : نباتية , حيوانية , وإبليسية , وملكوتية , وقدسية . فكل نفس تسلطت على الإنسان قهرته على القيام بما تقتضيه , فكم من شيطان فى صورة إنسان بل ومن سبع كاسر وثعلب  خاتل . وخنزير نجس . وثعبان لاذع فى صورة إنسان . قال تعالى : ]شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنّ[  وقال                 جل جلاله ]إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[. وإنما تتميز تلك النفوس بآثارها فى الإنسان . قوله تعالى :]فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً[.
أى فزادهم الله بما يظهر من نصرة نبيه وتأييده ورفع شأن أصحابه . ومن التمكين فى الأرض  بإذلال أعدائنا , ]مَرَضاً[يعنى ألماً فى القلوب فانتقلوا من شك وريب إلى جحود وعناد . ولولا سيف  الإسلام المسلول على رءوسهم لكانوا شرا من الكفار المجاهرين .
من اسرار القرآن للامام محمد ماضى ابو العزائم

الخميس، 1 مارس 2012

الأمام الأعظم أبو حنيفة النعمان

الأمام الأعظم أبو حنيفة النعمان
الأمام الأعظم أبو حنيفة النعمان..  سيرة عطرة وحياة زاهدة..
هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه الكوفي. ان هذه الشخصية العراقية الاصيلة، مثل معظم الشخصيات العراقية في الفترة العباسية، قد قام المستشرقون الغربيون ومعهم للأسف جوقة من المؤرخين العراقيين والعرب، بسلخه عن هويته العراقية واحتسابه بكل بساطة على(الموالي الاعاجم)!! وقد اعتمدوا في تشويههم هذا على عبارة واحدة قيلت عنه بأن اصل جده من(كابل) أي(كابول) في افغانستان الحالية. بينما تم التغاضي تماما عن المصادر الاخرى والكثيرة التي تقول ان جده من(بابل) وليس من(كابل)، او من(الانبار) !! وفي كل الاحوال ان هذا المثقف الكبير والفقيه الاصيل، كان عراقيا كوفيا بمولده هو ومولد ابيه وامه وتربيته وثقافته، ثم انه دفن في بغداد(منطقة الاعظمية)، وحتى مذهبه(الحنفي) اطلق عليه(مذهب اهل العراق)!!
أدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة، أو إحدى وستين، في الكوفة.تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق(ع). لهذا فأن المذهب الحنفي يعتبر من اقرب المذاهب السنية قربا للمذهب الجعفري الشيعي. ولاستناد هذا المذهب على(الاجتهاد)، فأن العديد من رجال الصفوة الدينية يضفون على مذهبه صفة(الديمقراطية)، لقوله : ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس تكون، وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان ذلك، فهم رجال ونحن رجال. ومن ميزات هذه الامام الصالح، انه رفض تماما التواطئ مع الظلم رغم كل الاغراءات والضغوطات التي تعرض اليها، ورفض بصورة قاطعة ان يلبي طلب الخليفة(ابو جعفر المنصور) ليصبح قاضيا، حتى غضب عليه هذا الخليفة وسجنه الومات في السجن، سنة خمسين ومائة للهجرة، وقيل بل خرج ثم مات في بغداد.

الكوفة.. حيث ولد ونشأ وتثقف الامام النعمان

حياة حافلة بالزهد والتقوى
عاش النعمان بن ثابت ـ كنيته أبو حنيفة ـ في آخر عصر بني أمية وأول عصر بني العباس، وكان مبدأه في الحياة ان يكرم نفسه وعلمه، وعقد عزمه على ان يأكل من كسب يده. دعاه الخليفة المنصور ذات مرة الى زيارته، فلما كان عنده أكرمه ورحب به وقربه من مجلسه وجعل يسأله عن كثير من شئون الدين والدنيا، فلما أراد الانصراف دفع اليه بكيس من النقود فيه ثلاثون الف درهم مع ان المنصور كان يعرف عنه البخل والشح ولكن الامام ابي حنيفة النعمان رضي الله عنه قال: (( يا أمير المؤمنين اني غريب في بغداد وليس لهذا المال موضع عندي ـ واني اخاف عليه فاحفظه لي في بيت المال حتى اذا احتجته طلبته منك. فأجابه المنصور الى رغبته، ولكن أبا حنيفة توفي بعد الحادث بقليل، ووجد في بيته ودائع للناس تزيد على اضعاف هذا المبلغ.فلما سمع المنصور بذلك قال: يرحم الله ابا حنيفة فقد خدعنا وأبى ان يأخذ شيئا منا، وتلطف في ردنا )).
ولاعجب في ذلك فلقد كان مبدأ الامام ابي حنيفة " ان ما أكل امرؤ لقمة ازكى ولا أعز من لقمة يأكلها من كسب يده". ولذلك كان يخصص جزءا من وقته للتجارة، وكان يتاجر في الصفوف والحرير وكانت تجارة رابحة وكان متجره معروفا يقصده الناس فيجدون فيه الصدق في المعاملة والأمانة في الأخذ والعطاء، وكانت تجارته تدر عليه خيرا وفيرا، وتهبه من فضل الله مالا كثيرا.
وكان رحمه الله يأخذ المال من حله ويضعه في محله وكان كلما حال عليه الحول، احصى ارباحه من تجارته، واستبقى منها ما يكفيه لتجارته ثم يشتري بالباقي حوائج القراء، والمحدثين والفقهاء وطلاب العلم، وأقواتهم وكسوتهم، وكان يقول لهم "هذه أرباح بضعائكم أجراها الله لكم على يدي. والله ما أعطيتكم من مالي شيئا وإنما هو فضل الله علي فيكم".
 في يوم جاءته امرأة عجوز تطلب ثوبا من حرير، فلما أخرج لها الثوب المطلوب قالت له: اني امرأة عجوز ولا علم لي بالاثمان، فبعني الثوب بالثمن الذي اشتريته واضف اليه قليلا من الربح فاني ضعيفة فقال لها :" إني اشتريت ثوبين اثنين في صفقة واحدة ثم إني بعت احدهما برأس المال الا اربعة دراهم فخذيه بها ولا أريد منك ربحا "
ويروى أن الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، رأى أحد جلسائه وعليه ثياب رثة فلما انصرف الناس، ولم يبق في المجلس الا هو والرجل قال له :" ارفع هذا المصلى وخذ ما تحته" فرفع الرجل المصلى فاذا تحته الف درهم فقال له أبوحنيفة : "خذها وأصلح بها من شأنك"، فقال الرجل اني موسر وقد أنعم الله علي، ولا حاجة لي بها فقال له أبو حنيفة:" إذا كان قد انعم عليك فاين اثار نعمته؟ اما بلغك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(ان الله يحب ان يرى اثر نعمته على عبده) فينبغي عليك ان تصلح من شأنك حتى لا تحزن صديقك".
وكان من جود وكرم ابي حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه، انه كان إذا انفق على عياله نفقة تصدق بمثلها على غيرهم من المحتاجين.وإذا اكتسى ثوبا جديدا كسى المساكين بقدر ثمنه، وكان اذا وضع الطعام بين يديه عرف منه ضعف ما يأكله عادة ودفع به الى الفقراء.
وكان لأبي حنيفة شريك في بعض تجارته واسمه حفص بن عبدالرحمن. فكان أبو حنيفة يجهز له أمتعة الخز(الحرير) ويبعث بها معه الى بعض مدن العراق. فجهز له ذات مرة متاعا كثيرا واعلمه ان فيه ثوب فيه كذا وكذا من العيوب وقال له :" إذا هممت ببيعها فبين للمشتري ما فيها من عيب"، فباع حفص، المتاع كله، ونسي ان يعلم المشتري بما في الثوب من عيوب. فلما عرف بذلك ابو حنيفة، بحث عن الذين اخذوا هذه التجارة التي بها عيبا فلم يجدوهم، فأخرج ابو حنيفة ثمن البضاعة كلها زكاة وصدقة.
وكان من اخلاق ابي حنيفة رضي الله عنه ـ انه كان طيب المعاشرة ـ حلو المؤانسة يسعد به جليسه ولا يتعب به من غاب عنه، ولو كان عدوا له، حدث أحد اصحابه قال: سمعت عبدالله بن المبارك، يقول لسفيان الثوري يا أباعبدالله، ما أبعد ابي حنيفة عن الغيبة، فان ما سمعته يذكر عدوا له بسوء قط، فقال له سفيان: ان ابا حنيفة اعقل من ان نسلط على حسناته ما يذهب بها.
وكان الامام ابو حنيفة رضي الله عنه، مولعا باقتناص ود الناس حريصا على استدامة صداقتهم، وقد عرف عنه انه ربما مر به الرجل من الناس، فقعد في مجلسه من غير قصد ولا مجالسة فاذا قام سأل عنه فان كانت حاجة او فقر أعانه وان كان به مرض عاده، وان كانت له حاجة قضاها حتى يجره الى مواصلته جرا.
في يوم جاءته امرأة بثوب من حرير تبيعه فقال كم ثمنه ؟ قالت : مائة، قال : هو خير من ذلك بكم تقولين ؟ فزادت مائة، قال : هو خير من ذلك حتى قالت أربعمائة، قال : هو خير من ذلك، قالت : تهزأ بي ؟ قال : هاتي رجلا ً يقومه فجاءت برجل فاشتراه أبو حنيفة بخمسمائة.
عرف عن الإمام أبو حنيفة عليه رحمة الله تعالى بأنه كان صوام النهار وقوام الليل، صديقا للقرآن الكريم، مستغفرا في الاسحار وكان من اسباب تعمقه في العبادة انه اقبل ذات يوم على جماعة من الناس فسمعهم يقولون، ان هذا الرجل الذي ترونه لا ينام الليل، فلما سمعهم قال: "إني عند الناس على خلاف ما أنا عليه عند الله تعالى.والله لا يتحدث الناس عني منذ الساعة بما لا أفعل، ولن أتوسد فراشا بعد اليوم حتى القى الله ".
 عرف عن الإمام أبي حنيفة انه صلى الفجر بوضوء العشاء نحو من اربعين سنة، ما ترك ذلك خلالها مرة واحدة وكان اذا قرأ(سورة الزلزلة) اقشعر جلده، وخاف قلبه ويقول:" يا من يجزي بمثقال ذرة خيرا فخير، ويامن يجزي بمثقال ذرة شرا شرا أجر عبدك النعمان من النار، وباعد بينه وبين ما يقربه منها".
جاء في(سير أعلام النبلاء) : عن الشافعي قال قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال نعم رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته.
                 
مرقد الامام ابو حنيفة في بغداد

ضريح الإمام أبو حنيفة
 قبره في الاعظمية ببغداد مزار معروف. روى الخطيب في تاريخه عن علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : اني لاتبرك بأبي حنيفة وأجي إلى قبره في كل يوم ـ يعني زائرا ـ فاذاعرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت الى قـبـره وسـالـت اللّه تـعـالـى الـحـاجة عنده فما تبعد[عني ] حتى تقضى.
وقـال ابـن الجوزي في المنتظم: في هذه الايام ـ يعني سنة(459) ـ بنى ابو سعد المستوفي الملقب شرف الملك مشهد ابي حنيفة، وعمل لقبره ملبنا، وعقد القبة وعمل المدرسة بازائه، وانزلها الفقها ورتب لهم مدرسا، فدخل ابو جعفر ابن البياضي الى الزيارة فقال ارتجالا :
         الم تر ان العلم كان مضيعا    فجمعه هذا المغيب في اللحد.
        كذلك كانت هذه الارض ميتة    فانشرها جود العميد ابي سعد.
 ثم قال ان بناء الضريح قد تم سنة ست وثلاثين واربعمائة هجرية.. .  وكان الشخص الذي انفق على البناء رجل تركي قدم الى بغداد حاجا. كذلك قام بعض امراء التركمان بالصرف على اتمام البناء. وقام (ا شرف الملك) باعادة البناء وتأسيس المشهد الحالي في القرن الخامس الهجري. ويقال انهم اضطروا لنقل بقايا الموتى الذين تم دفنهم حول الضريح، الى بقعة بعيدة. وقد تم حفر اساس القبة حتى سبعى عشر ذراعا في ستة عشر ذراعا حتى بلغوا الارض الصلبة.
وقال ابن خلكان في تاريخه : قبره مشهور يزار، بني عليه المشهدوالقبة سـنـة(459).وقـال ابـن جـبـيـر فـي رحـلـتـه(ص 180) : وبـالرصافة مشهد حفيل البنيان، له قبة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الامام ابي حنيفة(رض).
وقـال ابـن بـطـوطـة فـي رحـلته(1/142) : قبر الامام ابي حنيفة(رض) عليه قـبـة عظيمة، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الـطـعـام فيها ما عدا هذه الزاوية ثم عد جملة من قبور المشايخ ببغداد فقال : واهل بغداد لـهم في كل جمعة يوم لزيارة شيخ من هؤلا المشايخ، ويوم لشيخ آخر يليه، هكذا الى آخر الاسبوع.
 وقـال ابـن حجر في الخيرات: ان الامام الشافعي ايام كان ببغداد، كان يتوسل(يطلب الشفاعة) من الامام ابـي حـنـيـفـة، ويـجـي الـى ضـريحه يزور فيسلم عليه، ثم يتوسل الى اللّه تعالى به في قضاء حاجته.

الاثنين، 6 فبراير 2012

- أسس وضوابط المعاملات الإسلامية

- أسس وضوابط المعاملات الإسلامية
خلق الله ما في هذا الكون لمصلحة ابن آدم وسخر له ما في الأرض جميعا ..وهو خليفة الله في الأرض . • جعل الله الأرض كفاتا أحياء وأمواتا : تحمل الأحياء فوق ظهرها وتستر الأموات في بطنها. • وجعل الله في الأرض ما يحتاج إليه أهلها كما قال تعالى :{ وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين}. • وفاضل بين الناس في الأرزاق وجعل في يد كل واحد منهم ما بالآخر حاجة إليه ، وجعل سبحانه للحصول على ما بيد غيرك سبيلا شرعيا مباحا ، وطريقا ومنهجا في المعاملات حتى لا يبغي بعض الناس على بعض ؛ فشرع لهم العقود حتى يصل كل واحد منهم إلى مبتغاه من غير تعد ولا سرقة ولا غصب . • والمال في الحقيقة ملك لله والناس مستخلفون فيه ..ولذلك لا يصحب أحدا منهم بعد مماته شيء منه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يتبع الميت ثلاثة أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله ". • والربح في الحقيقة هو ما كان بعد نجاة ابن آدم من عذاب الله – بأخذ المال من حله ووضعه في محله – فالنجاة هي رأس المال ومن حفظ راس ماله بنجاته من عذاب الله فو الله لا يضره ما فاته من شؤون الدنيا. • وقد جعل الله القدر ركنا من أركان الإيمان وبين حكمته بقوله : { لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم }. • وقد حد الله دائرتين منفصلتين : إحداهما دائرة الحلال والأخرى دائرة الحرام ، وميز الله بينهما فأذن للإنسان في التصرف في دائرة الحلال وفق ضوابط :. • أهمها أن يعلم أنما يتصرف فيه ليس ملكا له ، وإنما هو ملك لله فليس له أن يفسد فيه ولا أن يضيعه.. وفي الحديث الصحيح " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ...ومنها ..عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ". • الضابط الثاني : أن لا يسرف فيه فإن الإسراف مذموم وقد حرمه الله وشنع على أهله فقال تعالى : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }. • قال العلامة محمد مولود ابن أحمد فال :* والسرف السرف إن السرفا* عنه نهى الله تعالى وكفى * ولا يحب المسرفين كافي * في كف كفك عن الإسراف* • الضابط الثالث : عدم التبذير والتبذير تبديد المال فيما لم يؤذن فيه ، وقد حذر الله منه تحذيرا شديدا فقال: { ولا تُبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}. • الضابط الرابع : أن يتعلم الإنسان حكم الله في المعاملات فمن لم يتعلم أحكام المعاملات لا يمكن أن يأتي بها على الوجه الصحيح وقد قال عمر رضي الله عنه " من لم يكن فقيها أكل الربا شاء أو أبى ". • و أخطر تلك المخالفات والمعاصي هو الربا وقد توعد الله أصحابه وأعلن الحرب على مرتكبه ، وبين أنه يمحقه محقا...وهو من الكبائر التي تعهد الله بإلحاق العقوبة بأهلها في الدنيا والآخرة . • الضابط الخامس: أن لا يكون في العقد ما يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل فإن ذلك مما حرمته الشرائع كلها . • الضابط السادس: أن لا تتضمن العقود ما هو مناف للإجمال في الطلب وفي الحديث "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب". • ...فإذا تقرر هذا فإن للرزق وجهين : وجها لتحصيله ووجها لصرفه " من أين اكتسبه و فيم أنفقه"...فاقتضى ذلك أن نعرف ضوابط جمعه وضوابط صرفه ...وقد وجدنا أن قواعد الجمع لخصها الله سبحانه وتعالى في آية من كتابه فكانت خمس قواعد ..وأن قواعد الصرف وردت في أثر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فكانت خمس قواعد : • أما قواعد الجمع فهي المذكورة في قصة قارون فإن الله يقول فيها: • -إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. • -وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ. • -وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا. • -وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ. • -وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . • وقد أفاض الشيخ -حفظه الله- في شرح هذه القواعد التي تضمنتها الآيتان من سورة القصص.. كما شرح القواعد الخمس التي وردت عن عثمان رضي الله عنه فاكتملت بذلك عشر قواعد لجمع المال وصرفه .

الجمعة، 3 فبراير 2012

- الإمام أحمد بن حنبل

- الإمام أحمد بن حنبل
الإمام أحمد .. نسبه وقبيلته
مسند الإمام أحمد بن حنبل هو أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني. قال ابن الأثير: "ليس في العرب أعز دارًا، ولا أمنع جارًا، ولا أكثر خلقًا من شيبان". وكان في قبيلة شيبان الكثير من القادة والعلماء والأدباء والشعراء، فالإمام أحمد عربي أصيل ينتمي إلى هذه القبيلة، وهي قبيلةٌ ربعيةٌ عدنانيةٌ، تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان. وكان الإمام أحمد (رحمه الله) رجلاً طوالاً رقيقًا، أسمر اللون، كثير التواضع. وقد وُلِد ببغداد سنةَ 164هـ/ 780م.

طفولته وتربيته
نشأ أحمد بن حنبل يتيمًا، وكسائر أترابه تعلم القرآن في صغره، وتلاه تلاوة جيدة وحفظه عن ظهر قلب، وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره بدأ يطلب العلم، وأول من طلب العلم عليه هو الإمام أبو يوسف القاضي، والإمام أبو يوسف - كما هو معلوم - من أئمة الرأي مع كونه محدِّثًا، ولكن مع مرور الوقت وجد الإمام أحمد أنه يرتاح لطلب الحديث أكثر، فتحوَّل إلى مجالس الحديث، وأعجبه هذا النهج واتفق مع صلاحه وورعه وتقواه، وأخذ يجول ويرحل في سبيل الحديث حتى ذهب إلى الشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراق وفارس وخراسان والجبال والأطراف والثغور، وهذا فقط في مرحلته الأولى من حياته. ولقد التقى الشافعي في أول رحلة من رحلاته الحجازية في الحرم، وأُعجِبَ به، وظلَّ الإمام أحمد أربعين سنة ما ييبت ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي. وقد حيل بين أحمد ومالك بن أنس فلم يوفَّق للقائه، وكان يقول: "لقد حُرِمتُ لقاء مالك، فعوَّضني الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة".

أهم ملامح شخصية الإمام أحمد وأخلاقه
ورعه وتقواه وتعففه

كان رحمه الله عفيفًا، فقد كان يسترزق بأدنى عمل، وكان يرفض أن يأخذ من صديق ولا شيخ ولا حاكم قرضًا أو هبة أو إرثًا لأحدٍ يؤثره به.

قال أبو داود: "كانت مجالس أحمد مجالس آخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قَطُّ".

ثبات الإمام أحمد رغم المحنة

كان الإمام أحمد على موعد مع المحنة التي تحملها في شجاعة، ورفض الخضوع والتنازل في القول بمسألة عمَّ البلاء بها، وحمل الخليفة المأمون الناس على قبولها قسرًا وقهرًا دون دليل أو بيِّنة.

وتفاصيل تلك المحنة أن المأمون أعلن في سنة (218هـ/ 833م) دعوته إلى القول بأن القرآن مخلوق كغيره من المخلوقات، وحمل الفقهاء على قبولها، ولو اقتضى ذلك تعريضهم للتعذيب، فامتثلوا خوفًا ورهبًا، وامتنع أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح عن القول بما يطلبه الخليفة، فكُبّلا بالحديد، وبُعث بهما إلى بغداد إلى المأمون الذي كان في طرسوس، لينظر في أمرهما، غير أنه توفِّي وهما في طريقهما إليه، فأعيدا مكبّلين إلى بغداد.

وفي طريق العودة قضى محمد بن نوح نحبه في مدينة الرقة، بعد أن أوصى رفيقه بقوله: "أنت رجل يُقتدى به، وقد مدَّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتقِ الله واثبت لأمر الله".

وكان الإمام أحمد عند حسن الظن، فلم تلن عزيمته، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته، فمكث في المسجد عامين وثلث عام، وهو صامد كالرواسي، وحُمل إلى الخليفة المعتصم الذي واصل سيرة أخيه على حمل الناس على القول بخلق القرآن، واتُّخذت معه في حضرة الخليفة وسائل الترغيب والترهيب، ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة، تؤيدهم فيما يزعمون، يقولون له: ما تقول في القرآن؟ فيجيب: هو كلام الله. فيقولون له: أمخلوق هو؟ فيجيب: هو كلام الله. ولا يزيد على ذلك.

ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم، لكنه كان يزداد إصرارًا، فلما أيسوا منه علَّقوه من عقبيه، وراحوا يضربونه بالسياط، ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليظة حتى أغمي عليه، ثم أُطلق سراحه وعاد إلى بيته، ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227- 232هـ/ 841- 846م)، لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232هـ/ 846م)، فمنع القول بخلق القرآن، وردَّ للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد.

شيوخ الإمام أحمد
هشيم، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى القطان، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن علية، وعلي بن هاشم بن البريد، ومعتمر بن سليمان، وعمر بن محمد ابن أخت الثوري، ويحيى بن سليم الطائفي، وغندر، وبشر بن المفضل، وزياد البكائي، وأبو بكر بن عياش، وأبو خالد الأحمر، وعباد بن عباد المهلبي، وعباد بن العوام، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي، وعمر بن عبيد الطنافسي، والمطلب بن زياد، ويحيى بن أبي زائدة، والقاضي أبو يوسف، ووكيع، وابن نمير، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، والشافعي، وغيرهم.

تلاميذة الإمام أحمد
البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابناه صالح وعبد الله، وشيوخه عبد الرزاق، والحسن بن موسى الأشيب. ومن تلاميذه أيضًا أبو بكر المروزي الفقيه، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو بكر الأثرم، وإبراهيم الحربي، ويحيى بن معين، وغيرهم كثير.

من مؤلفات الإمام أحمد
كتاب المسند، وهو أكبر دواوين السنة المطهرة، إذ يحوي أربعين ألفًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، انتقاها الإمام أحمد من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث.

وله من الكتب أيضًا كتاب الأشربة، وكتاب الزهد، وكتاب فضائل الصحابة، وكتاب المسائل، وكتاب الصلاة وما يلزم فيها، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب العلل، وكتاب السنن في الفقه.

منهج الإمام أحمد العلمي
اشتُهِرَ الإمام أحمد أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه، مع أنه كان إمامًا في كليهما. ومن شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط، وكان لا يكتب إلا القرآن والحديث، من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور؛ فكان لا يفتي في مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل، صحابيًّا كان أو تابعيًّا أو إمامًا. وإذا وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحدًا من هذه الأقوال، وقد لا يترجَّح عنده قول صحابي على الآخر، فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولان.

وهكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحدٌ ربه بالقياس أو بالرأي؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي "، وقال في الحج: "خذوا عني مناسككم".

وكان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق لله على عباده، وهذا الحق لا يجوز مطلقًا أن يتساهل أو يتهاون فيه. أما في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة والصلاح لكل بيئة وعصر، فقد تمسَّك أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك: "الأصل في العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص"، بينما عند بعض الأئمة الأصل في العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.

وكان شديد الورع في الفتاوى، وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث، فإذا رأى أحدًا يكتب عنه الفتاوى نهاه، وقال له: "لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من المعلوم فأغيِّر فتواي، فأين أجدك لأخبرك؟!".

ولما علم الله تعالى صدق نيته وقصده، قيَّض له تلامذة من بعده يكتبون فتاويه، وقد كتبوا عنه أكثر من ستين ألف مسألة. ولقد أخذ بمبدأ الاستصحاب، كما أخذ بالأحاديث المرسلة.

ما قيل عن الإمام أحمد
عن إبراهيم الحربي قال: "رأيت أحمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك ما شاء". وعن أحمد بن سنان قال: "ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيمًا منه لأحمد بن حنبل، ولا رأيته أكرم أحدًا كرامته لأحمد بن حنبل، وكان يقعد إلى جنبه إذا حدثنا، وكان يوقره ولا يمازحه، ومرض أحمد فركب إليه فعاده".

وقال عبد الرزاق: "ما رأيت أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل". وقال وكيع، وحفص بن غياث: "ما قدم الكوفة مثل أحمد بن حنبل". وكان ابن مهدي يقول: "ما نظرت إليه إلا ذكرت به سفيان الثوري، ولقد كاد هذا الغلام أن يكون إمامًا في بطن أمه".

وفاة الإمام أحمد
عن بنان بن أحمد القصباني أنه حضر جنازة أحمد بن حنبل فيمن حضر، قال: "فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة، وحُزِر (حَزَر الشيء: قدَّره بالتخمين) من حضرها من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفًا. رحم الله الإمام أحمد بن حنبل رحمةً واسعةً، وأسكنَه فسيح جناته.

الخميس، 2 فبراير 2012

- الإمام مسلم اسمه ولقبه

- الإمام مسلم اسمه ولقبه
اسمه:
 الإمام مسلم بن الحجاج هو أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري القشيري منهم والنيسابوري نسبته .
وهو كما يذكر بعض أهل العلم هو الإمام الوحيد من أصحاب الأمهات الست العربي الأصل وبقيتهم أعاجم وإن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين .
وكان جل الأئمة الذين حملوا راية هذا الدين جلهم من الأعاجم فالإمام البخاري أعجمي وأبو داود أعجمي والترمذي أعجمي والنسائي أعجمي وابن ماجه أعجمي والحاكم أعجمي والبيهقي أعجمي والإمام أحمد طبعا عربي معروف عندكم .
مثلا في اللغة الفيروزبادي صاحب القاموس المحيط أعجمي هكذا فالله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما يضع به آخرين فالإمام مسلم رحمه الله تعالى من فبيلة كما قلنا عربية نسبة إلى قشير بن كعب بن عامر بن صعصعة.
مولده:
 ولد الإمام مسلم بن الحجاج 204ه كما ذكر ذلك الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى في تهذيب التهذيب وفي تقريب التهذيب وكان مولد الإمام مسلم رحمه الله تعالى في السنة التي توفي فيها الإمام الشافعي رحمه الله وهي سنة 204ه.
 فالإمام مسلم لم يعمر كثيرا تجاوز الخمسين بقليل من عمره رحمه الله فلقد توفي نيسابور و سيأتي هذا بخمس بقين من شهر رجب 261ه وهو ابن خمس وخمسين سنة أو سبعة وخمسين سنة.
 ارتحل الإمام مسلم رحمه الله تعالى لطلب العلم في سن مبكرة وحج وهو ابن عشرين سنة وكان ولا يزال أمراد والتقى رحمه الله تعالى بمكة بمحمد بن مسلمة القعنبي وهو من أكابر شيوخه قرأ عنه أحاديث كثيرة  وروى عنه داخل الصحيح ولقد هاجر رحمه الله تعالى إلى العراق والحجاز والشام ومصر وغيرها من البقاع كل هذا الرحلات التي تطوف فيها بالبلاد شرقا وغربا كلها من الالتقاء بالشيوخ ومن أجل أن يطلب ويحصل منهم على العلم وأن ينال الأسانيد العالية فالذهبي رحمه الله في كتابه العظيم سير أعلام النبلاء عد للإمام مسلم رحمه الله تعالى 220 شيخا كلهم روى عنهم داخل الصحيح .
وأكبر شيوخه كما قلنا محمد بن مسلمة القعنبي سمع منه بمكة ولقد أكثر الإمام مسلم عن شيخه على بن الجعد لكنه لم يرو عنه داخل الصحيح شيئا وله شيوخ آخرون أخرج عنهم خارج الصحيح مثل على المديني وعلى بن الجعد كما قلنا ومحمد بن يحيي الذهلي ومحمد بن يحيي الذهلي وهو ثالث ثلاثة ممن خرجتهم نيسابور وهم فلذات كبدها كما بعض أهل العلم خرجت نيسابور ثلاثة من الأئمة محمد بن اسماعيل البخاري والإمام مسلم بن الحجاج ومحمد بن يحيي الذهلي .
ولكن كما قلنا :لم يخرج الإمام مسلم لمحمد بن يحيي الذهلي شيئا في صحيحه بل لم يخرج لمحمد بن اسماعيل البخاري وهو شيخه ما روى له ولا حديثا واحدا داخل الصحيح مع أن البخاري يعتبر هو المدرسة وهو الجامعة التي تخرج فيها الإمام مسلم رحمه الله.
 حتى قال الدار قطني : لو لا البخاري لما راح مسلم ولا جاء استفاد الإمام مسلم من شيخه البخاري استفادة عظيمة وكان يجله ويحبه ويحترمه ويقدره أيما تقدير حتى صح عنه أنه قال للإمام البخاري دعني أقبل رجلك يا أستاذ الأستاذين مش يدك بل رجلك فكان يحبه ويجله ولكن لمسالة واحدة حدثت بين الإمام محمد بن اسماعيل البخاري وبين محمد بن يحيي الذهلي وكان ذلك من خلقه شيخهما محمد بن يحيي الذهلي .
 كان الإمام مسلم أيضا من جملة تلاميذ محمد بن يحيي الذهلي أعني مسلم مع أنه من تلاميذ البخاري إلا أنه شارك الإمام البخاري في مشايخ عدة اشترك معه في كثير من الشيوخ وكان من إجلال الإمام مسلم رحمه الله تعالى للإمام البخاري كما قلنا يجله ويحبه كثيرا لكن حدثت قصة في مجلس محمد بن يحيي الذهلي وهي ما عرفت بقضية خلق القرآن كمنا تعرفون وكان الإمام محمد بن يحيي الذهلي لشدته في هذا الجانب طبعا معروف أن معتقد أهل السنة أن القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق منه بدأ وإليه يعود لكن كان حريصا كل الحرص أن يقطع الأبواب والسبل على كل من يريد أن يدخل ينفذ إلى باب القول بخلق القرآن فكان الإمام البخاري رحمه الله يرى ويعتقد أن كلام الإنسان بالقرآن كلامه ولفظه الذي يخرج من جوف الإنسان ومن أحباله الصوتية ومن لسانه يقول هذا مخلوق قال تعالى : ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) سورة الصافات آية (96).
 والكلام من عملنا فكيف يكون قولي يا أحمد و يا زيد و يا عمر مخلوق ولا يكون أيضا نفس اللفظ الذي أتلفظ به بالقرآن كذلك من جملة ما خلقه الله عز وجل فكان يقول الصوت صوت القارئ والكلام كلام الباري محمد بن يحيي الذهلي كان يمنع هذا الشيء ويقطع هذا السبيل لدرجة أنه كان يقول : من قال بما قال محمد بن اسماعيل البخاري فلا يقربن مجلسنا يخرج من المجلس وطرد فعلا طرد الإمام البخاري من مجلسه وكان يكرر هذه المقولة كل من يعتقد معتقد البخاري يخرج ومرة من المرات قام الإمام مسلم رحمه الله قام المجلس وأدرا ظهره وتوكل على الله وخرج لا بل رجع إلى البيت وحمل كل الكتب التي كان نقل فيها أحاديث وكتب  فيها أحاديث عن محمد بن يحيي الذهلي حملها فوق الجمال رجعها له .
قال: هذه أحاديثك مش للدرجة هذه العصبية كما نقول نحن هذا الرأي وهذا رأي لكن كلام البخاري كلام صحيح وفي محله أن ما نتلفظ به هي أصواتنا نحن كما كان متشيعا للإمام البخاري رحمه الله تعالى مع هذا عرف عن الإمام مسلم رحمه الله أنه كان فيه شيء من الحدة  في الطبع فبالرغم من أنه كان يتشيع للإمام البخاري ووقف معه في هذه المحنة لدرجة أنه خرج من حلقة محمد بن يحيي الذهلي حتى قيل : لو أن الإمام مسلما ما تنازع مع محمد بن يحيي الذهلي كان شيئا أخر غير ما هو عليه إلا أن أفضل ما هو عليه الآن فرجع الأحاديث قال :له خذ أحاديثك لا تمن علينا بها وليس المقصود أنه ضيع تلك العلوم إنما المقصود أنه هذه الأحاديث التي أخذها عنه كان قد أخذها من علماء أخرين لكن حدة طبعه وصلت لم يسلم منها و لمن تطل محمد بن يحيي الذهلي فقط فلم يخرج له ولكنه مع هذا طالت الإمام البخاري فلم يخرج للإمام البخاري رحمه الله تعالى شيئا في صحيحه لأنه شارك الإمام البخاري في الشيوخ فمن المعيب أن يتنزل في الأسانيد ويترك الأسانيد العالية فقد شاركه في مجموعة المشايخ لكن للإنصاف أن شدة الإمام مسلم طالت الإمام البخاري كذلك فقد ذكر في مقدمته التشيع الشديد على من يشرط لصحة الحديث السماع واللقاء وشنع عليه وقال: هذا ليس هو المعتمد وهو بالطبع يعرف من هو هذا يعرف أن صاحب هذا القول هو شيخه على بن المديني وشيخه التالي محمد بن اسماعيل البخاري .
وقال: هذا كلام في غاية من الشدة وليس صحيحا بل أن من روى بطريق العنعنة فقال فلان عن فلان وهو ثقة وليس بمدليس واللقاء ممكن بينه وبين شيخه فحديثه صحيح ومش على هذه الطريقة ولكن الصحيح أن مذهب الإمام البخاري ومذهب الإمام على بن المديني أقوى وأسد وأسلم للصدر وللنفس وإن كان ما ذهب إليه الإمام مسلم رحمه الله ليس ببعيد فمذهبه يمكن أن يكون مقبولا مع غير المدلسين فإن المدلس يشترط في حقه أن يصرح بالسماع من شيخه لكن الحاصل أن مذهب الإمام البخاري أسد وأقوى ولذلك قدم صحيح البخاري على صحيح مسلم كما قال بعضهم :
تنازع قوم في البخاري ومسلم لدي            وقــــــــــــــــــــــالوا أي ذيــــــــــن تقــــــــــــــــــــــــــــدم
فقلت لقد فاق البـــــخاري صــــــــــــــحة             كما فاق من حسن الصناعة مسلم
 هنالك شيوخ أكثر عنهم الإمام مسلم في صحيحه منهم : أبو بكر بن أبي شيبة فقد روى عنه 1540حديثا .
أبو خيثمة : زهير بن حرب روى عنه 1281حديث.
محمد بن مثنى العنزي روى عن 772 حديث .
 قتيبة بن سعيد روى عنه 668 حديث.
 محمد عبدالله بن نمير روى عنه 572 حديث
أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني روى القشيري النيسابوري عنه 362حديث.
 محمد بن حاتم الملقب بالسمين روى عنه 300 حديث
 علي بن حجر السعدي روى عنه 188 حديث .
هؤلاء أكثر عنهم الإمام مسلم رحمه الله وهم أيضا من مشايخ الإمام البخاري مباشرة  فقد روى البخاري عن تسعة منهم الإمام بن حاتم السمين قلم يروى عنه البخاري في صحيحه إلا بواسطة ولا بغيرها.
الإمام مسلم رحمه الله لما نظر في كثير من الكتب التي ألفت في زمنه وجد أنها خلطت الأحاديث الصحيحة بالأحاديث الضعيفة والموضوعة يعني أغضبه هذه الأمر.
 وقال: إن هذه الطريقة ليست صحيحة بل الواجب أن يفرد الحديث الصحيح في الكتب المتميزة وفي الكتب المستقلة وكان شيخه الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد سبقه إلى هذا فحذا حذوه وسار على دربه وعلى طريقته فألف هذا الكتاب كما سيأتي أيضا التطرق لهذا الأمر حقا.
تلاميذه:
 تلامذة الإمام مسلم رحمهم الله تعالى ورحمهم جميعا كثير جدا أيضا.
 منهم من روى عنه الكتاب هذا الصحيح الذي نحن في صدده ومنهم من روى عنه أحاديث آخرى فقد تتلمذ عليه محمد بن حامد الشرفي تتلمذ عليه أيضا الإمام الترمذي وتتلمذ عليه أبو بكر بن خزيمة صاحب الصحيح وغيرهم من الائمة وكان من جملة من روى عنه الصحيح الجلودي المعروف.
ثناء العلماء عليه:
 وأثنى العلماء على لإمام مسلم ثناء عطرا وذكروا في الكتب التي تحدثت في التراجم ولا يكاد يوجد كتاب من كتب التراجم التي تحدثت عن طبقة الإمام مسلم رحمه الله تعالى إلا ذكروه.
مؤلفاته:
أما المؤلفات التي ألفها الإمام مسلم رحمه الله فقد ألف كتبا كثيرة منها على سبيل المثال الكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال والجامع الكبير على الأبواب كتاب العلل وكتاب أوهام المحدثين وكتاب التميز وكتاب من ليس له إلا راو واحد أو الذي يسمى بالواحد وكتاب طبقات التابعين وكتاب الأسماء والكنى وكتاب الأفراد والأقران وكتاب سؤلات أحمد بن حنبل وكتاب حديث عمر بن شعيب وكتاب الانتفاع إلى أخره ومنها أيضا المسند الصحيح الذي عرف بصحيح مسلم .
 الإمام مسلم كغيره من الأئمة وكغيره من العلماء السابقين كانت لهم مهن وكانوا يطلبون العلم ويشتغلون في المهن والتي كانت معروفة في ذلك الزمان فهذا كان حدادا وهذا كان بزازا يبيع البز وهذا كان سماكا يبيع السمك وهذا كان زجاجا يبيع الزجاج وغير تلك المهن المعروفة ومنهم من كان يكتب الكتب يستنسخ الكتب ويبيعا فالإمام مسلم رحمه الله كان تاجرا كان صاحب تجارة كانت له أملاك كثيرة وثروة.
 من غرائب ما حصل للأمام مسلم رحمه الله تعالى وقيل هذا سبب التأليف لماذا ألف الإمام مسلم هذا الكتاب؟
سأله أحد تلامذته أن يكتب له كتابا يجمع فيه الأحاديث الصحيحة في أبواب متفرقة فأجابه إلى سؤله وكتب هذا الكتاب واستمر فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى فترة طويلة من الزمان وهو يؤلف هذا الكتاب.
 اعتنى الإمام مسلم بهذا الكتاب عناية شديدة فقد قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التميز بين صحيح الرواية وسقيمها وصفات الناقلين لها من المتقدمين أن لا يروى منها إلا ما عرف صحة مخارجه واستشار في ناقله وأن ينقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع هذه الحقيقة اثبتها في مقدمة صحيحه وأرشد إليها وهذا هو المنهج الذي سلكه الإمام مسلم في تأليفه للصحيح فقد بذل وسعه وشغل وقته في جمعه وترتيبه ومن الأدلة على هذا القول أن الخطيب البغدادي رحمه الله روى بإسناده إلى محمد الما سرجسي قال : سمعت مسلم بن الحجاج يقول رحمه الله : صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموع يعني انتقاه من ثلاثمائة ألف حديث سمعها عن شيوخه .
 وقال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ:
 قال ابن الشرفي : سمعت مسلم يقول ما وضعت في كتابي هذا المسند بحجة وما استطعت منه شيئا إلا بحجة يعني لو قلت له : ليش ذكرت هذا الحديث لقال حجتي كذا وكذا و ليش أسقت هذا الحديث ولم تذكره لقال : حجتي فيه كذا وكذا وقد مكت في التأليف خمس عشرة سنة قضها في التحري والعناية التامة بهذا المصد الأساسي لمعرفة الحديث و الصحيح جمعا وترتيبا.
 وساعده في كتابته بعض تلامذته طوال هذه المدة منهم أحمد بن سلمة قال أحمد بن سلمة كتبت مع مسلم رحمه الله في صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف بالمكرر فإذا قال : مثلا حدثني فلان وفلان هذان حديثان حدثني فلان وفلان قال حدثنا فلان هذان حدثيان.
أيضا : لم الإمام مسلم بهذه المدة التي قضاها كتابة هذا الحديث وهذا الانتقاء من أكثر من ثلاثمائة ألف حديث لم يكتف بهذا بل إنه عرض هذا المؤلف على جمع من الأئمة الذين اشتهروا بالنقد في زمنه.
قال مسلم رحمه الله :وهو يستشير جهابذة المحدثين وجهابذة المحدثين وجهابذة علماء الجرح والتعديل.
 قال: كما نقل الإمام النووي رحمه الله في مقدمة شرحه لصحيح مسلم عن مكي بن عبدان وهو أحد حفاظ نيسابور قال: سمعت مسلم بن حجاج يقول: عرضت وليس كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته.
 فالإمام مسلم بالرغم من أنه من الأثبات ومن العلماء الجرح والتعديل ومن النقاد إلا أنه لم يستنكف في أن يعرض ما كتبه وما ألفه على العلماء المعتبرين في زمنه من أجل الزيادة في التوطئة لهذا الكتاب.
كما فعل الإمام مالك رحمه الله ولذلك سمي كتابه الموطأ لأنه وطئه بعرضه على العلماء وليس غريبا بعد هذا كله ألا ينتقد من صحيح مسلم إلا النزر اليسير من الأحاديث وذلك النقد في غالبه لم يتم وإنما هو نقد في غالبه أوليس من النقد النقد الذي يقدح في صحة كما سيأتي إن شاء الله .
 كنت قد ذكرت لكم شيئا أو طرفا من غرائب ما حدث للإمام مسلم رحمه الله تعالى ولعل أشير إليها فيما بعد فذلك الموطن وفاته أنسب لهذه المسألة الغريبة التي حدثت له ها مقارنة بين صحيح مسلم والإمام البخاري كتاب الإمام مسلم منزلته عظيمة بن بالمؤلفات التي ألفت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام فهو يقع في المرتبة الثانية بعد صحيح البخاري مباشرة وهذا باتفاق الأمة فقد تلقت الأمة صحيحي البخاري ومسلم بالقبول منزلته عظيمة على كل حال بين الكتب قال الإمام النووي رحمه الله في مقدمة شرحه لصحيح مسلم وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقا الصحيحان للإمامين القدوتين أبي عيد الله محمد اسماعيل.
 وقال أيضا: اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العظيم الصحيحان .
 البخاري ومسلم وتلقتها الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة انتهى كلامه.
 وقد نقل عن أبي على النيسابوري شيخ الحاكم قوله ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج وقد نفهم من هذه العبارة تقديمه على صحيح وذلك خلاف ما صرح به العلماء من ترجيح البخاري عليه التوفر أسباب الترجيح فيه وقد أجيب عن هذه العبارة بثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: للحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ. فقال : بعد أن ذكر عبادة أبي علي النيسابوري .
قال: قلت لعل أبا علي ما وصل إلى صح البخاري لكن هذا بعيد و استبعد هذا الأمر الحافظ بن الحجر رحمه الله في مقدمة فتح البخاري.
 الجواب الثاني: قال أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث أن ذلك على سرد الصحيح منه دون أن يخرج بمثل ما في صحيح البخاري مما ليس على شرطه ولا يحمل على الأصحية يعني أن هذا محمول على أن الأمام مسلم ذكر في كتابه الحديث السرد.
 حديث النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر أقوال الصحابة أقوال العلماء ولا تفسيراتهم ولا شيء فهو محمول على هذا الكلام.
 وأحسن ذلك هو الجواب الثالث للحافظ بن حجر كما في شرحه لنخبة الفكر وحاصل كلامه أن عبارة أبي علي النيسابوري تقتضي أن صحيح مسلم في أعلى درجات الصحيح وأنه لا يقومه كتاب إما أن يساويه كتاب صحيح البخاري فذلك لا تنفيه العبارة لأنه قال: ما تحت أديم السماء كتاب أصح يعني يوجد يعني ما يساويه لكن لا يوجد من هو فوقه وهذا لعلها أحسن العبارات في تفسير كلام أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم .
أثنى العلماء على الإمام مسلم رحمه الله وأطلع على ما أودع فيه من الأسانيد وعلى ترتيبه حسن سياقة وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع ولاحتياط والتحري في الروية تلخيص الطرق واختصارها وانتشارها وكثرة اطلاعه وتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات علم أنه إمام لا يلحقه من بعده ممن جاء بعد عصره.
 وقال الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب قال : حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح البخاري وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ من غير تقطيع ولا رواية بمعنى .
 وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهاب .
 الإمام مسلم رحمه الله صنع مقدمة جيدة لكتابه أودع فيها كثير من علوم الحديث وهذه منقبة لمن تحصل للإمام البخاري رحمه الله تعالى  فالمقدمة التي ذكرها الإمام مسلم رحمه الله مقدمة فيها من العلوم والنفائس ما ليس موجودا في صحيح البخاري .
أما تسمية الكتاب بصحيح مسلم فإن الإمام مسلم  رحمه الله تعالى  لم ينص على تسميته كتابه بالصحيح وإن كان قد سماه بالمسند الصحيح وهو ينفس المعنى لكن اشتهر الكتاب بهذه التسمية ثم إن هذا الكتاب من أهل العلم من قال : إن الإمام مسلم عنون الكتب و لم يعنون الأبواب ومنهم من قال : حتى الكتب لم يذكرها وإنما سرد الأحاديث هكذا سردا فجاء العلماء من بعده فوضعوا عناوين للكتب وعناوين للأبواب إما الأبواب فأكثر أهل العلم يقولون: إنها ليس من صنع الإمام مسلم وإنما من صنع العلماء بعده والنسخة المتداولة هي من صنع الإمام النووي رحمه الله تعالى فهو الذي بوب وإذا كان بعض أهل العلم يقول: إن الإمام مسلم هو الذي وضع اسماء الكتب لكنه ترك التبويب للمتفقهين من العلماء وطلبة العلم لكنه رتب الأحاديث على نسق واحد في الغالب على اتساق محدد يستطيع المتفقه أن يستخرج التبويبات من كتاب إلى كتاب وهذا يدل على أن هذه التبويبات ليس من صنع مسلم وإنما من صنع الشراح ولهذا تتفاوت التبويبات بل هنالك تبويبات أحيانا تكون فيها شيء من الضعف أحسن هذه التبويبات تبويبات الإمام النووي رحمه الله تعالى .
لأن الرجل فقيه ولأنه مشتغل بالفقه وأحسن الشروح على كل حال هو شرح الإمام النووي رحمه تعالى إلا أن شرحه اعتنى بالألفاظ وبعض الملح  الإسنادية وشيء من الفقه والحقيقة بالرغم من أن شرح الإمام النووي رحمه الله تعالى يعد من أحسن الشروح لصحيح مسلم إلا أن صحيح الإمام مسلم لم يحظ لو لم يأخذ العناية التامة بالشرح مثل ما حصل لصحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى وبالرغم من أن صحيح الإمام البخاري قد اعتنى به أيضا في شروحاته فهل شروحات عدة إلا أن أجل هذه الشروحات وأحسنها وأعظمها ككتاب الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى وهو كما سماه هو فتح من الله تعالى فتح الباري شرح صحيح البخاري فقد أودعه من الفوائد الفقهية والنكات العلمية والملح الإسنادية وفوائد في علم الجرح والتعديل والعلل مالم يفعل ذلك أحد من الأئمة وإن كان الإمام الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى قد استفاد من العلماء قبله فكان ينقل أحيانا ربما بالصفحة وبالصفحة و النصف أحيانا عن بعض من سبقه ولا يعز ذلك إليهم ولا عتب ولا عيب في هذا الأمر لإلا أن شرحه كان مستوفيا حتى قيل :للشوكاني رحمه الله تعالى لو أنك شرحت صحيح الإمام البخاري .
فقال: لا هجرة بعد الفتح .
وصدق رحمه الله لا يمكن أن يأتي شخص بنفس القوة العلمية التي كان فيها الحافظ بن حجر رحمه الله على كل من جملة الشروح التي كان على صحيح مسلم شرح الإمام النووي رحمه الله الذي اسمه المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج .
 وهنالك كتاب للقرطبي رحمه الله وهو المفهم شرح صحيح مسلم وأيضا كتاب لأحد الأئمة من أئمة الهند وهو المفهم شرح الإمام مسلم وغيره.
 أما عدة الأحاديث فقد تفاوت للكتاب وأكثر هؤلاء أخذوا  العد عن أبي الفضل أحمد بن سلمة تقليدا ولهذا ذكر الإمام الصنعاني وقال :كل الذين عدوا أحاديث صحيح مسلم وكان هذا كأنه نقل عن الحافظ بن حجر .
 قال: كلهم اعتمدوا على عد أحمد بن سلمة .
 قال : إن عدد الأحاديث اثنا عشر ألف حديث بالمكر كما ذكرنا إذا قال: حدثني فلان وفلان.
 قالوا: حدثنا فلان هذه ثلاثة أحاديث .
 قال الإمام الحافظ بن حجر و نقلها عنه بن الأمير الصنعاني قال : كل هذا استرواحا واعتمادا على ما عدة أبو الفضل أحمد بن سلمة .
 لأن كان من جملة الذين اعتنوا بصحيح الإمام مسلم قال وهذا من شؤم التقليد لأن المقلد هكذا .
قال: كلهم قلدوه فأخطأوا وهذا غلط هذا وهذا غلط …
قال : وقد عدت بنفسي فعددتها حديثا حديثا فوجدت الأمر كما ذكر الحفاظ بن حجر رحمه الله .
قال : أن أردت أيضا أن لا أقلد حتى الحافظ بن حجر مع أنه من أهل الاستقراء والتتبع قال: لم اعتمد عليه فعدت من أجل أن لا أقع فيما وقع فيه غيرى فوجد الأمر كما ذكر الحافظ بن حجر وأحسن من اعتنى في عد أحاديث الإمام مسلم من المتأخرين الشيخ / محمد فؤاد عبد الباقي وذكر أنه بعد حذف المكرر أنه ثلاثة آلاف وثلاثين حديثا.
 وهذا العمل في الحقيقة لم يسبق إليه محمد فؤاد عبد الباقي فقط اعتنى بهذا الكتاب اعتناء شديدا وجعل له فهارس في مجلد صخم جميع أنواع الفهارس لصحيح مسلم وضعها في مجلد ضخم فإذا كان الصحيح طيع في أربع مجلدات فالفهارس في مجلد واحد ومن أخذ هذه الفهارس واستفاد منها فقد بلغ الذروة في الاستفادة من هذا الكتاب.
 ما هو شرط مسلم في صحيحه؟
 كما يقولون : على شرط مسلم هنا جاءت أقوال أهل العلم فمنهم من قال: إن شرط مسلم  كما ذكر الإمام النووي في مقدمة شرحه عن ان الصلاح قال: شرط مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد ينقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه من عير شذوذ و لا علة ولكن هذه العبارة وإن كان فيها شيء من الصحة إلا أنه لا مزية للحديث الصحيح الذي في مسلم والذي في سنن أبي داود وفي غيره من السنن ما في مزية فإن هذا هو شرط الحديث الصحيح أساسا أن يروي الحديث متصل الإسناد بنقل العدل عن مثله إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا هذا هو شرط الحديث الصحيح من حيث هو ومن هنا وقع الإمام الحاكم رحمه الله تعالى في شرط الصحيحين أنه قال : أن يرويه الثقة عن مثله إلى أخره ومن هنا أتى بأحاديث في الحقيقة فيها كلام لأهل العلم ونسبتها على أنها على شرط مسلم .
لكن ما هو شرط مسلم في صحيحه وما هو شرط الإمام البخاري في صحيحه؟
 لم يذكر البخاري ولا مسلم ما هو شرط في الصحيح نعم ذكر الإمام البخاري ما ذكرناه آنفا من أنه لا يصحح الحديث إلا إذا التقى التلميذ بالشيخ وصرح بالسماع منه لو مرة واحدة .
أما مسلم فإنه يقول في مثل هذا أنه يكتفي بالمعاصرة مع إمكان اللقاء.
 طيب ما هو شرط الإمام مسلم وشرط الإمام البخاري ؟
خلاصة ذلك ما ذكره الحافظ بن حجر في شرحه لنخبة الفكر أثناء تعداد مراتب الصحيح قال:
 ثم يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ما وافقه شرطهما لأن المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح فسلاسل الإسناد الموجودة في صحيح مسلم هي شرطه رجلا رجلا بنفس الطريقة فإذا قال: مثلا حدثنا عبد الله بن مسلمة قال :حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر ،هذا هو شرطه فإذا وجدت حدثنا خارج الصحيح بهذه الطريقة فهو على شرط ،لكن إذا وجدتها حدثني عبد الله بن مسلمة قال :حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر هذه لا تكون على شرطه.
 التعليقات التي في مسلم من الخصائص التي اختص بها مسلم على البخاري أنه ليس في صحيح مسلم إلا أربعة عشر حديثا معلقا والمعلق هو أن يخذف المصنف شيخه فأكثر فقد يقول مثلا وقال ابن عباس أو يقول وقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه أحاديث قليلة في صحيح مسلم أربعة عشر موضعا وهذه المواضع يذكرها معلقة ثم يذكرها أيضا بالإسناد بخلاف البخاري فهو ملئ بالأحاديث المعلقة .
 العلماء أثنوا على الرواة الذين خرج لهم الإمام مسلم وكذلك الإمام البخاري فقد حصل الاتفاق بتعديلهم بطريق اللزوم حتى قال أبو الحسن المقدسي كال رجل روى وأخرج عن صاحبا الصحيحين قال : هذا حاز القنطرة يعني و إن كان فيه شيء من الكلام فلا يلتفت إليه .
 ومن هنا أولئك الذين يشنشنون على البخاري ومسلم وعلى بعض رواتهما لا يلتفت إليهم لا من قريب و لا من بعيد هؤلاء الرجال الذين تلكم فيهم في صحيح مسلم عددهم 160 رجلا والكلام فيهم كما قلنا غير قادح ويعتذر عن تخريج الإمام مسلم لهؤلاء بأمور:
 الأول : أنه قد يكون القدح غير مؤثر أصلا.
ثانيا: أنه وإن كان القدح مؤثرا يحمل الإخراج عنه في الصحيح على أمور:
 الأول : أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد وهذا لا عيب فيه .
الثاني: أن يكون ضعف الرجل المحتج فيه بالصحيح طارئ قد يكون مثلا خرج له الإمام مسلم ثم حدث له الاختلاط لا عيب هنا فإن الخلل في هذا الراوي ما بعد الاختلاط لا ما قبل.
الأمر الثالث : أن يكون صاحب الصحيح تجنب ما أنكر عليه من الأحاديث بمعنى أنه انتقى له أحاديث كما فعل الإمام البخاري حينما انتقى بعض أحاديث شيوخه.
 أما انتقاء العلماء كالدار قطني لبعض الأحاديث الموجودة في صحيح مسلم فقد تكفل الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى في مقدمة الفتح بالرد على نوعين من الأحاديث المنتقدة ما كان في الصحيحين وما وكانت في صحيح الإمام البخاري وأغلب هذه الانتقادات انتقادات كما قلنا فنية لا تقدح في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم.
 أما الأحاديث التي انتقدت على مسلم فقد تكفل بالرد عليها الإمام النووي هذه الأحاديث عددها 210 أحاديث اشتركا في 32 حديثا وانفرد البخاري عن مسلم 78 حديثا وأنفرد مسلم عن البخاري ب100 حديث وفد رد البخاري كما قلنا على المتفق عليه وعلى ما في البخاري ورد الإمام مسلم على الأحاديث التي انتقدت على الإمام مسلم رحمه الله.
 أذكر بعض الخصائص لصحيح مسلم سريعا:
أولا: للصحيحين معا يتفقان على أنهما في أعلى درجات الصحيح .
ثانيا: يتفقان في أن العلماء تلقوها بالقبول.
 ثالثا : يتقفان في أن مؤلفيهما رحمهما الله الله سلكا طرقا بالغة في الاحتياط.
أما ينفرد به مسلم عن البخاري.
 فقد انفرد :
أولا : جمع طرق الحديث في مكان واحد في الغالب .
ثانيا : أنه إذا أسند الحديث فيه إلى جماعة من شيوخه عين من له الفظ كأن يقول مثلا حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان أو يميز بني طريقة السماع فقد يقول : حدثنا فلان وفلان وفلان قال: فلان حدثنا وقال فلان أخبرنا فيميز طريقة السماع .
ثالثا : أنه صدر كتابه بمقدمة.
أيضا انفرد مسلم بكثرة استعمال التحويلات في الإسناد حاول بعض المؤلفين إلزام الإمام مسلم بإخراج أحاديث لم يخرجها وهذا في الحقيقة لا يلزمه بل لا يلزم البخاري ولا مسلم فإنهم في الأصل لم يلتزما بإخراج كل الأحاديث الصحيحة باعترافهما بأنفسهما فإن الإمام البخاري رحمه الله تعالى قال : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتين ألف حديث غير صحيح أين يقيتها لم يخرجها .
والإمام مسلم رحمه الله تعالى قال : انتقيت هذا الكتاب من ثلاثمائة ألف حديث صحيح ومعنى هذا أنه ليس هنالك التزام اساسا منه ألا يخرج إلا الأحاديث الصحاح.
 على كل حال غريبة من الغرائب التي حدثت للإمام مسلم عقد له مجلس للسماع في آخر حياته هذا المجلس ذكر فيه عنده حديث فقيل له حديث كذا وكذا قال : ما أعرف قاله أحد الحاضرين هذا من أحاديثك يا شيخ كيف تقول ما تعرفه فاغتم واهتم كيف هذا من أحاديثي و لا أعرفه فأقفل الدرس وذهب إلى البيت وأغلق على نفسه الغرفة واسرج السراج فقيل له قد اهديت لك سلة من التمر .
قال: قربوها نزل الكتب والماء بجانبه وكذلك والتمر فكان يأكل تمرة ويشرب ماء ويبحث عن الحديث هذا دليل على الهمة كيف هذا الحديث يقال أنه من أحاديثي ولا اعرفه!!!
 طبعا هذا في أخر حياته واحد ربما يغيب عن الإنسان ليس بغريب هذا أن ينساه فبقي طول الليل حتى انفلق الصبح وهو يأكل التمر ويشرب الماء ويبحث ما أصبح الصباح و لا أذن لصلاة الفجر إلا ووجد الحديث أنه من أحاديثه فزادته غمة إلى غمته كيف فاتني هذا الحديث كيف نسيت هذا الحديث وتعرفون أنه يذكرون من خصائص التمر أنه حار وذكر الأمام الحاكم رحمه الله تعالى وذكر أنه مرض بعد هذه الأكلة مرضا شديدا وكانت سببا في موته رحمه الله .
 توفي الإمام مسلم رحمه الله عشية يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لخمس يقين من رجب 261ه ودفن رحمه الله تعالى بنصر أباد ظاهر نيسابور ومدة عمره قيل 55 سنة وقيل  57 سنة رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

الأربعاء، 1 فبراير 2012

- الحافظ ابن حجر العسقلاني

- الحافظ ابن حجر العسقلاني

احتل الحافظ ابن حجر العسقلاني مكانة مرموقة في تاريخ الفكر الإسلامي، وتعد مؤلفاته واحدة من أمهات الكتب والموسوعات العلمية التي تقوم عليها المكتبة الإسلامية، وابن حجر واحد من علماء المسلمين الموسوعيين الذين كتبوا في علوم الإسلام المختلفة، فنبغوا ووصلوا فيها إلى القمة.

نسب ابن حجر العسقلاني
هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد [1] بن حجر الكناني العسقلاني [2] الشافعي المصري القاهري المولد والمنشأ والدار والوفاة. المعروف بالحافظ ابن حجر العسقلاني.

مولد ابن حجر العسقلاني
ولد ابن حجر –رحمه الله- في الثاني والعشرين من شعبان سنة 773 هـ [3]، في منزل كان يقع على شاطئ النيل، بالقرب من دار النحاس والجامع الجديد، وظل ابن حجر –رحمه الله في بيته هذا حتى انتقل منه في أواخر القرن الثامن الهجري إلى القاهرة، حيث تزوج بأم أولاده فسكن بقاعة جدها منكوتمر المجاورة لمدرسته المنكوتمرية داخل باب القنطرة، بالقرب من حارة بهاء الدين، واستمر بها حتى مات [4].

أسرة ابن حجر العسقلاني
نشأ ابن حجر في أسرة تشتغل بالعلم وتشجع عليه، فقد اشتغل أبوه بالعلم والفقه ومهر بالآداب، موصوفاً بالعقل والمعرفة والديانة والأمانة ومكارم الأخلاق ومحبة الصالحين والمبالغة في تعظيمهم، وأما أمه فهي من بيت عُرف بالتجارة والثراء والعلم، ولابن حجر أخت اسمها (ست الرَّكب)، قال عنها ابن حجر: "كانت قارئة كاتبة أعجوبة في الذكاء، وهي أمي بعد أمي"، ويذكر ابن حجر –رحمه الله- أن له أخًا من أبيه، قرأ الفقه والفضل،وعرض المنهاج، ثم أدركته الوفاة، فحزن عليه والده حزنا شديدا، وذكر ابن حجر –رحمه الله- أن والده حضر إلى الشيح يحيى الصنافيري، فبشَّره بأن الله تعالى سيخلف عليه غيره ويعمره، فكان مولد ابن حجر- رحمه الله- بعد ذلك بقليل. وذكر السخاوي أن الشيخ الصنافيري بشَّر والد ابن حجر –رحمه الله- بقوله: "يخرج من ظهرك عالمٌ يملأ الأرض علمًا" [5].

نشأة ابن حجر العسقلاني
نشأ ابن حجر العسقلاني –رحمه الله- في أسرة تحب العلم وتشجع عليه، وهذا قدر الله له أن يهيئ له جوًا علميًا وبيئة صالحة تأخذ بيده إلى العلم، حتى صار له شأن عظيم بين الناس، وشاء الله -تعالى- كذلك أن ينشأ ابن حجر- رحمه الله- يتيمًا أباً وأمًا، فحُرم من عطف أبيه وعلمه كما حرم من حنان أمه، إلا أنه –رحمه الله- تغلب على ظروفه وكافح في حياته حتى نال السؤدد بين الناس بالعلم والحديث.

نشأ ابن حجر –رحمه الله- مع يتمه في غاية العفة والصيانة والرياسة في كنف أحد أوصيائه زكي الدين الخروبيّ، وهو من كبار التجار في مصر، ولم يألُ الخروبي جهدًا في رعايته والعناية بتعليمه، فأدخله الكتاب بعد إكمال خمس سنين، وكان لدى ابن حجر ذكاء وسرعة حافظة بحيث إنه حفظ سورة مريم في يوم واحد [6].

وأكمل ابن حجر حفظه للقرآن على يد صدر الدين السَّفطي المقرئ، وهو ابن تسع سنين. واصطحب الزكي الخروبي ابن حجر معه في الحج عند مجاورته في مكة أواخر سنة 784هـ، وفي سنة 785 هـ أكمل ابن حجر اثنتي عشرة سنة، ومن حسن حظه أن يكون متواجدًا مع وصيه الخروبي في مكة، فصلى بالناس التراويح في تلك السنة إمامًا في الحرم المكي. ويمكن أن نستقرأ من هذه الأخبار بوادر نبوغ الحافظ ابن حجر المبكرة، والتي تتمثل في إتمامه القرآن صغيرا وإمامته للناس في الحرم المكي وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وهو سن ربما يعتري الأطفال فيه رهبة وخوفا، إلا أن نبوغ الطفل الصغير وذكائه وحسن تربيته ونشأته أهلته لأن يكون كذلك في غاية النباهة والثبات.

وبعد رجوع ابن حجر –رحمه الله- مع وصيه الخروبي من الحج سنة 786 هـ حفظ عمدة الأحكام للمقدسي وألفية العراقي في الحديث والحاوي الصغير للقزوينبي ومختصر ابن الحاجب في أصول الفقه ومنهج الأصول للبيضاوي، وتميَّز ببين أقرانه بقوة الحفظ، فكان يحفظ الصحيفة من الحاوي الصغير من مرتين الأولى تصحيحا والثانية قراءة في نفسه ثم يعرضها حفظا في الثالثة ، ويذكر السخاوي أن حفظ ابن حجر –رحمه الله- لم يكن على طريقة الأطفال في المدرسة، وإنما كان حفظه تأمُّلا على طريقة الأذكياء.

وظل ابن حجر في كنف وصيه يرعاه إلى أن مات الزكيّ الخروبي سنة 787هـ، وكان ابن حجر قد راهق، فلم تعرف له صبوة ولم تضبط له زلة.

وفي سنة 790 هـ أكمل ابن حجر –رحمه الله- السابعة عشرة من عمره، فقرأ القرآن تجويدا على الشهاب الخيوطي، وسمع صحيح البخاري على بعض المشايخ، كما سمع من علماء عصره البارزين واهتم بالأدب والتاريخ. وفي هذه الفترة انتقل ابن حجر –رحمه الله- إلى وصاية شمس الدين بن القطان المصري فحضر دروسه في الفقه والعربية والحساب، وفي سنة 793هـ نظر في فنون الأدب، ففاق أقرانه فيها، حتى أنه لا يكاد يسمع شعرا إلا ويستحضر من أين أخذ ناظمه وطارح الأدباء. ونظم الشعر والمدائح النبوية [7].

وتمثِّل سنة 793 هـ منعطفا ثقافيا في حياة ابن حجر –رحمه الله، فمن هذه الثقافة العامة الواسعة واجتهاده في الفنون التي بلغ فيها الغاية القصوى أحس بميل إلى التخصص فحبّب الله إليه علم الحديث النبوي، فأقبل عليه بكليته، ويذكر السخاوي أن ابن حجر –رحمه الله- لم يكثر في طلب الحديث إلا في سنة 796 هـ، وكتب بخط يده: "رفع الحجاب وفتح الباب وأقبل العزم المصمم على التحصيل ووفق للهداية إلى سواء السبيل" [8]. فكان أن تتلمذ على خيرة علماء عصره، ويذكر السيوطي أن ابن حجر –رحمه الله- لازم شيخه الحافظ أبا الفضل العراقي عشر سنين، وبرع في الحديث وتقدم في جميع فنونه، وحكي أنه شرب ماء زمزم ليصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ، فبلغها وزاد عليها [9].

وهكذا فإن ابن حجر العسقلاني –رحمه الله- لم يبلغ من العمر خمسة وعشرين سنة حتى جمع من العلوم ما لم يجمعه أحد في عصره، في علوم القرآن والتفسير والفقه واللغة والأدب والتاريخ والحديث والنحو، وجمع بين علوم النقل والعقل، وأخذ عن عدد جمّ من المتخصصين في علوم المعارف كلها، ولا يتوفر ذلك إلا لشاب ذو همة عالية وعزيمة قوية ورغبة حقيقية في طلب العلم والانتفاع به، ولا نجد أبلغ تعبير عن هذه الدرجة من العلم والفقه من تلميذه السخاوي، حيث يقول واصفًا حال شيخه: "فجدّ بهمة وافرة وفكرة سليمة باهرة، في طلب العلوم منقولها ومعقولها، حتى بلغ الغاية القصوى، وصار كلامه مقبولا عند أرباب سائر الطوائف، لا يعدون مقالته لشدة ذكائه وقوة باعه، حتى كان حقيقًا بقول القائل:

                             وكان من العلوم بحيث يقضي *** له في كل علم بالجميع    [10].

زواج ابن حجر العسقلاني وأولاده
تزوج الحافظ ابن حجر –رحمه الله- من أنُْس خاتون، وكانت تحدث بحضور زوجها، وقرأ عليها الفضلاء، وكانت تحتفل بذلك وتكرم الحاضرين. وكان ابن حجر يكن لها الاحترام الكبير.

كما أن ابن حجر –رحمه الله تسرَّى من جارية زوجته واسمها خاص ترك، ووطئها فأنجبت له ولده بدر الدين أبي المعالي محمد. كما تزوج ابن حجر –رحمه الله- من أرملة الزين أبي بكر الأمشاطي بعد وفاته سنة 834 هـ، ومن ليلى ابنة محمود بن طوعان الحلبية سنة 836 هـ.

أما أولاده فهم خمسة، أربع بنات وولد واحد ذكر، فأما البنات فهن من زوجته الأولى أُنس: زين خاتون، وفرحة وعالية، ورابعة وفاطمة، وأما الولد الذكر من سريته خاص ترك، وهو: أبو المعالي بدر الدين محمد [11].

رحلة ابن حجر العسقلاني في طلب العلم
كان ابن حجر –رحمه الله- مع صغر سنه لا يألو جهدا في الرحلة إلى طلب العلم وتحصيله، مهما كلفه ذلك من بعدٍ عن أهله وأولاده وأصحابه، ومهما عانى من سفره من تعب ونصب. وقد عبَّر عن ذلك ابن حجر نفسه بقوله:

وإذا الديار تنكرت سافرت في *** طلب المعارف هاجرا لدياري
وإذا أقمت فمؤنسي كتبي، فلا *** أنفك في الحالين من أسفاري  [12]

فكانت أول رحلته إلى قوص وهو في العشرين من عمره، وبالتحديد سنة 793 هـ، حيث حطت رحاله في قوص في صعيد مصر [13].

وفي أواخر سنة 793 هـ كانت لابن حجر –رحمه الله- رحلة إلى الإسكندرية، والتقى فيها ابن حجر بمجموعة من المحدثين والمسندين، منهم ابن الخراط، وابن شافع الأزدي، وابن الحسن التونسي، والشمس الجزري. وقد أورد ابن حجر ما لقيه من العلماء وما سمعه منهم وما وقع له من النظم والمراسلات وغير ذلك في كتاب سماه "الدرر المضيئة من فوائد إسكندرية" [14].

ثم كانت له رحلة إلى بلاد اليمن، وقد طاف ابن حجر –رحمه الله- معظم بلاد اليمن طلبا للعلم وملاقاة لعلمائها، ومنهم شيخ اللغويين في زمانه الفيروزآبادي، وقرأ عليه أشياء، وأعطاه النصف الثاني من تصنيفه "القاموس المحيط"، لتعذر وجود باقيه حينئذٍ، وأذن له مع المناولة في روايته عنه. ويذكر السخاوي أن ابن حجر –رحمه الله- كانت له رحلة ثانية إلى اليمن وذلك سنة 806هـ، بعد أن جاور بمكة، فلقي فيها كثير من العلماء، فحمل عنهم وحملوا عنه [15].

وكانت لابن حجر رحلة إلى الحجاز للحج والمجاورة، حيث الفرصة سانحة للاشتغال والمذاكرة على ما يصادفونه هناك من العلماء والشيوخ والمحدثين والمسندين، وكان آخر حجة حجها –رحمه الله- سنة 824هـ، وفيها نزل بالمدرسة الأفضلية، أنزله فيها قاضي مكة المحب بن ظهيرة. والتقى ابن حجر –رحمه الله- في منى ومكة والمدينة جمعا كبيرا من العلماء والمحدثين والقضاة والأعيان، فقرأ عليهم وقرءوا عليه، وأخذوا عنه بعض تصانيفه، وأجاز لهم بالرواية عنه [16].

ورحل ابن حجر –رحمه الله- إلى بلاد الشام في سنة 802هـ، وحثه على الرحلة إليها شيخه محمد بن محمد بن محمد الجزري، وصحبه فيها قرينه الزين شعبان، وسمع بسرياقوس وغزة ودمشق ونابلس وبيت المقدس والخليل والصالحية، وغيرها من بلاد الشام، والتقى هناك بعدد غفير من العلماء والمسندين، وفي رحلته لبيت المقدس يقول:

إلى البيت المقدس جئت أرجو *** جنان الخلد نزلا من كريم
قطعنا في مسافته عقابا *** وما بعد العقاب سوى النعيم

وفد برهن الحافظ ابن حجر –رحمه الله- في رحلته إلى الشام على كفاءة نادرة تثير الدهشة، فلقد حصّل -مع قضاء أشغاله- ما بين قراءة وسماع من الكتب والمجلدات، منها: المعجم الكبير والأوسط للطبراني، والمعرفة لابن منده، والسنن للدارقطني، وصحيح ابن خزيمة وابن حبان، والاستيعاب لابن عبد البر وفضائل الأوقات للبيهقي ومكارم الأخلاق للخرايطي والطهور لأبي عبيد، ومسند أبي يعلى. وغير ذلك كثير [17].

شيوخ ابن حجر العسقلاني
قدّر للحافظ ابن حجر –رحمه الله- أن يجتمع له من العلماء والشيوخ والحفاظ ما لم يجتمع لأقران زمانه، وأدرك من الشيوخ جماعة كل واحد رأس في فنه الذي اشتهر به، "فالتنوخى في معرفَة القراءات، والعراقي في الحَدِيث، والبلقيني فِي سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، وابن الملقن في كثرة التصانيف، والمجد الفيروزآبادي صاحب القاموس في حفظ اللغة، والعز بن جماعة في تفننه في علوم كثيرة، بحيث كان يقول: (أنا أقرأ في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها)" [18].

وقد بلغ عدد شيوخه بالسّماع وبالإجازة وبالإفادة على ما بيَّن بخطه نحو أربعمائة وخمسين نفسا، وإذا استثنينا الشيوخ الذين أجازوا عموما فقد ترجم في "المجمع المؤسس" لأكثر من ستمائة شيخ، وذكر بعضهم أن عدد شيوخه بلغ ستمائة نفس سوى من سمع منه من الأقران [19].

تلاميذ ابن حجر العسقلاني
ظل ابن حجر –رحمه الله- في تفرده حتى أجمع العلماء على أنه حافظ الإسلام وأمير المؤمنين في الحديث، الذي انتهت إليه معرفة الرجال واستحضارهم، ومعرفة علل الحديث، وغير ذلك، وصار هو المعوّل عليه في هذا الشأن في سائر الأقطار [20]، فأقبل عليه طلبة العلم ينهلون من علمه ونهره، ولقد سرد السخاوي في الجواهر والدرر أسماء جماعة كبيرة ممن أخذوا العلم على يد ابن حجر –رحمه الله- دراية ورواية، وقد بلغوا ستمائة وست وعشرين اسما، وكان يذكر ما قرأه أو ما سمعه التلميذ على الحافظ ابن حجر –رحمه الله [21].

وأبرز ما يلاحظ على هذه الأسماء التي أوردها السخاوي وغيره، أنهم جاءوا من بقاع شتى من العالم الإسلامي، فمنهم المكي والشيرازي والهروي والغرناطي والبغدادي، فضلا عن الشاميين والمصريين. كما يلاحظ أنهم من مختلف المذاهب الفقهية، فمنهم الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، علمًا بأنه الحافظ ابن حجر شافعيّ المذهب.

ويمكن أن نبرز أشهر من تتلمذ على يد الحافظ ابن حجر –رحمه الله- وشاع علمه في الآفاق، ومنهم:
ابن قاضي شهبة (ت 851 هـ)، صاحب طبقات الشافعية.
ابن فهد المكي (ت 871 هـ) صاحب لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ.
ابن تغري بردي (ت 874 هـ) صاحب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة والمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي.
محمد الكافيجي الحنفي (ت 879 هـ)، صاحب المختصر في علم التاريخ، والتيسير في قواعد علم التفسير.
وأخيرا تلميذه الوفي النبيه شمس الدين السخاوي (ت 902 هـ)، صاحب الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، وكتاب الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، والجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر [22].

وظائف ابن حجر
تصدر ابن حجر –رحمه الله- للإقراء والإملاء والتدريس والخطابة والقضاء، على هذا النحو:

أولًا: الإملاء
شرع ابن حجر –رحمه الله- الإملاء في سنة 808 هـ، حيث أملى كتاب: ""الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع"، من حديثه عن شيوخه، في ستة عشر مجلسا بالشيخونية. وكان آخر مجلس أملاه سنة 850 هـ. بدار الحديث الكاملية، وجملة ما أملاه 1150 مجلسا، وبلغت عدد مجلدات ما أملاه عشرة مجلدات، أملاه من حفظه مهذبة محررة متقنة [23].

ثانيًا: التدريس
اختص ابن حجر –رحمه الله- بالتدريس في أماكن متعددة كانت محلا لتداريس في علوم شرعية، منها:
اشتغل بتدريس التفسير بالمدرسة الحسينية، والقبة المنصورية، وتدريس الحديث بالشيخونية، وقبة الخانقاة البيبرسية، والمدرسة الجمالية المستجدة، ودرّس الحديث كذلك بجامع ابن طولون سنة 833 هـ، والقبة المنصورية، ومشيخة الحديث بالمدرسة الزينية سنة 851 هـ.
وتدريس الفقه بالشيخونية والمدرسة الشرفية الفخرية ، والمؤيدية سنة 822 هـ، والمدرسة الخروبية البدرية بمصر، والمدرسة الصالحية المجاورة للإمام الشافعي سنة 846 هـ [24].

ثالثًا: الإفتاء والخطابة
ولي ابن حجر –رحمه الله- إفتاء دار العدل سنة 811 هـ، واستمرت هذه الوظيفة معه حتى مات، فكان إلى فتاويه النهاية في الإيجاز مع حصول الغرض، ولا سيما في المسائل التي لا نقل فيها. وكان يكتب في اليوم أكثر من ثلاثين فتيا، وكان يكتب فتاويه ويجب على الأسئلة حتى وهو على راحلته، دليل على تمكنه [25]. وأما الخطابة فقد تولى ابن حجر –رحمه الله- الخطابة بالجامع الأزهر سنة 819 هـ، عوضا عن خطيبه تاج الدين بن رزين، ثم تولى الخطابة بجامع عمرو بن العاص سنة 838هـ، وخطب بجامع القلعة بالسلطان، وخطب بـ الجامع الأموي بدمشق.

وكان لخطبه وقع في القلوب وتأثير بعيد المدى،جعل السخاوي يقول: "وأما خطبه فكان لها صدعا في القلوب، وتزداد وهو على المنبر في المهابة والنور.. ما لا أستطيع وصفه بحيث كنت إذا نظرت إليه وهو على المنبر يغلبني البكاء" [26].

رابعًا: القضاء
عرض على ابن حجر –رحمه الله- القضاء قبل انقضاء القرن، أي وله من العمر سبع وعشرون سنة، إلا أنه امتنع؛ لأنه حينئذ كان لا يؤثر على الاشتغال بالحديث شيئًا. وقد فوّض إليه الملك المؤيد القضاء بالشام مرارا فأبى وأصر على الامتناع [27]. بيد أن موقفه –رحمه الله- تغير نتيجة لإسناد بعض المهام المتعلقة بالقضاء إليه، وأيًا ما كان الأمر فقد تولى الحافظ ابن حجر –رحمه الله- القضاء نيابة، وثم ما لبث أن تولاه استقلالا في السابع والعشرين من المحرم سنة 827هـ ، وذلك بتفويض من الملك الأشرف برسباي [28].

فباشر ذلك الحافظ ابن حجر –رحمه الله- بنزاهة وعفة وتواضع زائد، واستجلاب لخاطر الصغير قبل الكبير، وتصميم في الأمور، وإحسان للفقراء والطلبة، لكن كان بنكدٍ وعنادٍ وتعب وكثرة مُعارض وقلة إنصاف. إلا أنه أحس بالندم بعد توليه القضاء؛ لأن أرباب الدولة لا يفرقون بين أولي الفضل وغيرهم، ويبالغون في اللوم حيث ردت إشاراتهم .. واحتياج القاصي إلى مداراة الكبير والصغير، بحيث لا يمكن مع ذلك القيام بكل ما يرومه على وجه العدل [29]. ولم تدم مدة ولايته الأولى هذه في القضاء، فقد صرف نفسه في ذي القعدة 827هـ، ويعلق ابن فهد المكي على ذلك فيقول: " ولو استمر على ذلك لكان خيرا له في دينه ودنياه" [30].

وعلى كلٍ فإن ابن حجر –رحمه الله- ظل يولّى ثم يُصرف في منصب قاضي القضاة، حتى صرف نفسه في السنة التي مات فيها، وذلك في يوم الاثنين الثامن من ربيع الآخرة سنة 852هـ [31].
تبيَّن لنا أنا الحافظ ابن حجر –رحمه الله- كان يقوم بدور إصلاحيّ كبير في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح ما أفسد في الحياة الاجتماعية والسياسية والعامة، كل ذلك يحمله شعور بالمسئولية عظيم، حتى أنه إذا رأى مع شخص وظيفة لا يستحقها اجتهد في استنزاله عنها، ويباشرها قليلا ثم يرغب عنها لمن يستحقها ممن يكون فقيرا [32].

جهود ابن حجر العلمية ومصنفاته
بدأ الحافظ ابن حجر –رحمه الله- في التصنيف في السنة التي جدّ فيها في طلب الحديث النبوي وفنونه، أي في سنة 796 هـ، وظل يصنّف حتى قبيل وفاته –رحمه الله. قال السخاويّ: "انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر"، أما تصانيفه فكثيرة جليلة، منها:

فتح الباري شرح صحيح البخاري - وتهذيب التهذيب - وتقريب التهذيب - ولسان الميزان - الإصابة في تمييز الصحابة - وإتحاف المهرة بأطراف العشرة - والنكت على مقدمة بن الصلاح - وأمالي الأذكار المسمى: نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار- وتغليق التعليق - تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس - الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية- نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر- شرح نخبة الفكر: نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر - الإيثار بمعرفة رواة الآثار - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه - نزهة الألباب في الألقاب - إنباء الغمر بأنباء العمر - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. رفع الإصر عن قضاة مصر - بلوغ المرام من أدلة الأحكام  - المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس، وغيرها كثير [33].

صفات ابن حجر العسقلاني الخَلْقِيَّة
كان ابن حجر –رحمه الله- ربعة، أبيض اللون، كثّ اللحية، ووجه صبيح، للقصر أقرب، وفي الهامة نحيف، جيد الذكاء، فصبح اللسان، شجي الصوت، صحيح السمع والبصر، صغير الفم، قوي البنية، عالي الهمة، خفيف المشية، عظيم الحذق لمن ناظره أو حاضره، هذا مع سكون ووقار وأبهة وثبات، تاركا لما لا يعنيه، طارحا للتكلف، كثير الصمت إلا لضرورة، شديد الحياء [34].

أخلاق ابن حجر العسقلاني
تمتع ابن حجر العسقلاني –رحمه الله- بجملة من الصفات والأخلاق كانت مثالًا ونموذجا للعالم العامل، فكان محلّ قدوة لتلاميذه ومريديه، وقد وصفه ابن تغري بردي في المنهل الصافي،فقال:
"وكان ذا شيبة نيرة ووقار وأبهة، ومهابة، هذا مع ما احتوى عليه من العقل والحكمة والسكون والسياسة والدربة بالأحكام ومداراة الناس، قبل أن يخاطب الشخص بما يكره، بل كان يحسن لمن يسيء إِلَيْهِ ويتجاوز عمن قدر عليه" [35].
وقد أفرد له السخاوي بابًا كاملا ذكر فيه أخلاق شيخه، ونذكر منها:

1- الورع عند ابن حجر
فقد روي أن عياله أحضروا له شيئا فأكله واستطابه، وقبل تمام أكله، ألقى الله تعالى في خاطره السؤال عنه، فذكروا له جهة لا يحب الأكل منها، فاستدعى بتشط، وقال: أفعل كما فعل أبو بكر الصديق –رضي الله عنه، ثم استقاء ما في بطنه [36]. ولا شك أن الورع خير ما يتخلق به العلماء.

2- الحلم في حياة ابن حجر
فقد روي أن بعض الشعراء هجاه وبالغ في هجاه، فما احتمل محبيه وتلامذته ذلك، فأحضروا الشاعر وأرادوا أن ينالوه منه، وبلغ ابن حجر –رحمه الله- ذلك، فتغيظ عليهم، وأمر بصرفه مكرما، بل أنعم عليه بشيء من الدنيا [37].

3- تواضع ابن حجر مع معرفته لقدر نفسه
فقد سئل –رحمه الله: هل رأيت مثل نفسك؟، فقال:قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32].
وسأله بعض أصحابه: أنت أحفظ أم الذهبي؟، فسكت –رحمه الله- تواضعا.
وكان رحمه الله- لا يتكثَّر بعلومه ولا يتبجح بها، ولا يفتخر، ولا يباهي بمعارفه، بل كان يستحي من مدحه ويطرق، ولقد قال له بعض تلاميذه مرة: يا سيدي، إن لك بفتح الباري المنة على البخاري، فقال له: قصمت ظهري [38].

4- أدب ابن حجر مع العلماء
وأما كثرة أدبه مع العلماء المتقدمين منهم والمتأخرين، فمشهور بحيث كان إذا تعقّب النووي –رحمه الله- بشيء، يقول: وعجبت للشيخ مع سعة علمه كيف قال كذا، أو ما أشبه ذلك من العبارات [39].

5- عبادة ابن حجر
فقد كان الحافظ ابن حجر –رحمه الله- ملازما للتهجد وقيام الليل في مقامه وسفره، ولم يترك قيام الليل حتى مرضه الذي مات فيه، فكان يتّكأ على ولده. وأما صومه، فكان –رحمه الله- يصوم يوما ويفطر يوما، محافظا على أوقات الفضائل في الصيام. وأما قراءته للقرآن فكان –رحمه الله- مكثرا من قراءة القرآن لا سيما في حال ركوبه، وعقب صلاة الفجر بتدبر وتأن وسكون، إذا مرّ بآية رحمة سأل، أو عذاب تعوّذ. وأما عيادته للمرضى وشهود الجنائز، فكان حريصا على ذلك، لا سيما من يلوذ به، ومن لم يتيسر له عيادته منهم، تفقده بشيء من الدنيا. وأما اتباعه –رحمه الله- للسنة فهو شيء لا يُسأل عنه؛ لأنها عنه تؤخذ ومنه تُعرف، ويحرص بلسانه وقلمه على جذب الناس إليها، وتحذيرهم من مخالفتها، حتى كان يتأثر من تأخير الفطر وتقديم السحور [40]. ولعل ما ذكرناه من جملة عبادته –رحمه الله- ما دفع ابن تغري بردي أن يقول فيه: "وبالجملة فإنه أحد من أدركنا من الأفراد" [41].

6- الموضوعية والإنصاف في البحث
على الرغم من أن علوم ابن حجر –رحمه الله- كانت سلفية، وغالب قضايا وتصرفات مجتمعه كانت كذلك، فإنه قد انسلخ بفكره من بيئته وصار سباقا لعصره في التحرر، والتحرز عن التعصب والانقياد للإجماع الخاطئ، الذي كثيرا ما أهلك العلماء، فكان الحافظ ابن حجر –رحمه الله- ميالا للحق بل والمعاداة فيه، منصفا في البحث ولو على نفسه، لا يستنكف من سماع الفائدة ولو من صغار الناس أو آحاد الطلبة، بل يستحسنها ويأمر الحاضرين بسماعها [42].

وفاة ابن حجر العسقلاني رحمه الله
بدأ المرض بالحافظ ابن حجر –رحمه الله- في ذي القعدة سنة 852هـ، ومع مرضه –رحمه الله- إلا أنه كان يواصل أعماله ويحضر مجالس الإملاء، يعلِّم الناس أحكام دينهم وأمور دنياهم، وفي يوم الثلاثاء الخامس عشر من ذي القعدة حضر مجلس الإملاء وقد زاد عليه الإرهاق والتعب، فتغيّر مزاجه وضعفت حركته، إلا أنه –رحمه الله- ما ترك صلاة جمعة ولا جماعة، ولكن مع مرور الأيام اشتد مرضه حتى ما استطاع أن يؤدي صلاة عيد الأضحى، إلا أنه صلى الجمعة التي تليه، ثم توجه إلى زوجته الحلبية، فاستعطف خاطرها في انقطاعها عنها، واسترضاها. وكان –رحمه الله- قد استشعر بالوفاة، فكان يقول: "اللهم حرمتني عافيتك، فلا تحرمني عفوك".

وقد تردد الأطباء عليه، وهرع الناس والقضاة والعلماء والصالحون أفواجا أفواجا لعيادته، واستغاثوا مبتهلين إلى الله تعالى في طلب عافيته. وقد طال مرضه –رحمه الله- شهرا، إلى أن كانت ليلة السبت الثامن عشر من ذي الحجة سنة 852 هـ، وبعد العشاء بساعة جلس حوله بعض أصحابه يقرءون (يس) مرة، ثم أعيدت إلى قوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، حتى فارقت الروح إلى بارئها.

وترك وصيته التي نقل السّخاوي نصها، عن سبطه يوسف بن شاهين، ومما ورد فيها أنه أوصى لطلبة الحديث النبوي والمواظبين على حضور مجالس الإملاء بجزء من تركته [43].
وكانت هذه ساعة عظيمة وأمرا مهولا، ودفن من الغد وصلى عليه بمصلاة بكتمر المؤمني بالرميلة، ومشى أعيان الناس من بيته داخل باب القنطرة إلى القرافة حيث دفن، وحضر السلطان الملك الظاهر جقمق الصلاة عليه، ومشى الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان، والقضاة، والعلماء، والأمراء، والأعيان بل غالب الناس في جنازته حَتَّى قيل أنه قُدّر من مشى في الجنازة بأكثر من خمسين ألفًا. وكان لموته يوم عظيم على المسلمين، حتى على أهل الذمة. وقيل صلى عليه الخليفة العباسي، وقيل صلى عليه قاضي القضاة علم الدين البلقيني. وأقيمت صلاة الغائب عليه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في مكة وبيت المقدس وحلب والخليل، وغيرها من بلاد المسلمين [44].

فرحم الله الحافظ شيخ الإسلام أبا الفضل شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، وجزاه الله خيرا على ما قدم للإسلام والمسلمين.

[1] يوجد اضطراب في الجد الرابع لابن حجر –رحمه الله، فتارة يتقدم (محمود) على (أحمد) وتارة يتأخر (محمود) أو يسقط، وهذا راجع إلى اضطراب ابن حجر نفسه عند ترجمته لنفسه، فقد قدّم (محمود) على (أحمد) في تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، تحقيق: محمد علي النجار، مراجعة: علي محمد البجاوي، الناشر: المكتبة العلمية، بيروت – لبنان – 1967م، جـ1/414، والمجمع المؤسس للمعجم المفهرس، تحقيق: يوسف عبد الرحمن الرعشلي، الناشر: دار المعرفة – بيروت، الطبعة: الأولى 1994م، المجلد الثالث، جـ1/196. وقدّم (أحمد) على (محمود) في: رفع الإصر عن قضاة مصر، تحقيق: الدكتور علي محمد عمر، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1998م، جـ1/61، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق: محمد عبد المعيد ضان، الناشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية - صيدر اباد/ الهند، الطبعة: الثانية، 1392هـ/ 1972م، جـ3/262، وجعل (محمود) بين (أحمدين) في إنباء الغمر بأنباء العمر، تحقيق: حسن حبشي، الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر 1389هـ، 1969م، جـ1/3. وما أثبتناه في المتن هو ما رجحه تلميذه السخاوي في الجواهر والدرر، حيث قال: (هذا هو المعتمد في نسبه).انظر السخاوي: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، تحقيق: إبراهيم باجس عبد المجيد، الناشر: دار ابن حزم، الطبعة: الأولى 1419هـ- 1999م، جـ 1/ 101.
[2] الكناني: نسبة إلى قبيلة (كنانة) العربية، والعسقلاني: نسبة إلى عسقلان، وهي مدينة بساحل فلسطين المحتلة. فالظاهر أن قبيلة ابن حجر –رحمه الله- استقرت في عسقلان وما جاورها إلى أن نقلهم صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله عنها عندما خربها على إثر الحروب الصليبية ما بين 580هـ - 583 هـ. أما عن اشتهاره بابن حجر، فاختلفت المصادر في اعتبار (ابن حجر) لقبا أو اسما، فقال السخاوي: (هو لقب لأحمد الأعلى في نسبه، وقيل بل هو اسم لوالده أحمد المشار إليه)، وفي ذلك يقول ابن حجر شعرا:
من أحمد بن علي بن محمد *** بن محمد بن علي الكناني المحتدِ
ولجد جد أبيه أحمد لقبوا *** حجرا وقيل بل اسم والد أحمدِ
انظر: السخاوي: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر جـ1/ 103- 106. محمد كمال الدين عز الدين: ابن حجر مؤرخا، الناشر: عالم الكتب، الطبعة: الأولى 1987م، ص15.
[3] اختلف المؤرخون في يوم مولده، على ثلاثة آراء، الأول: ذكر السخاوي: الجواهر والدرر جـ1/ 104، أنه ولد في 22 شعبان، وتابعه ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، حققه ووضع حواشيه: دكتور محمد محمد أمين، تقديم: دكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1984م، جـ2/17. الثاني: ذكر السيوطي: نظم العقيان في أعيان الأعيان، حرّره: فيليب حتي، الناشر: المكتبة العلمية – بيروت، 1927م، جـ 1/ 45، أنه ولد في 12 شعبان، وتابعه ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1406 هـ - 1986م، جـ 1/ 74. وكذلك الشوكاني :البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، الناشر: دار المعرفة – بيروت، جـ 1/ 87- 88. الثالث: ذكر ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، لناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى 1419هـ - 1998م، جـ1/211، أنه ولد في 13 شعبان.
[4] السخاوي: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر جـ1/ 104. شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى 1997، جـ1/ 52.
[5] ابن حجر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، جـ6/ 201. السخاوي: الجواهر والدرر، جـ 1/ 105.
[6] ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، جـ1/211.
[7] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ/ 121- 126. بتصرف. السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، الناشر: منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت، جـ 2/ 36. الشوكاني: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، جـ1/ 88. شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 54- 56.
[8] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 126.
[9] السيوطي: ذيل طبقات الحفاظ للذهبي، تحقيق: الشيخ زكريا عميرات، الناشر: دار الكتب العلمية، جـ1/ 251.
[10] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ 1/ 140.
[11] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ 3/ 1208- 1219. بتصرف. شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 67- 69. بتصرف.
[12] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 142.
[13] ابن حجر: إنباء الغمر بأبناء العمر، جـ1/ 419.
[14] السخاوي: الجواهر والدرر، جا1/ 145- 146.
[15] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 146- 151.
[16] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 151- 154. محمد كمال الدين عز الدين: التاريخ والمنهج التاريخي لابن حجر العسقلاني، الناشر: دار اقرأ للنشر والتوزيع-يبروت، الطبعة: الأولى 1984م، ص126-127.
[17] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 176- 190. شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 89- 91.
[18] البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، جـ1/88. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، جـ1/74.
[19] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 240. شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/93-94.
[20] ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 19. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، جـ1/ 74.
[21] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1064- 1179.
[22] شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 107- 108.
[23] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ 2/ 581- 584. شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 133.
[24] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 588- 600. محمد كمال الدين عز الدين: ابن حجر مؤرخا، ص58- 62.
[25] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 600، 614.
[26] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 605- 609، 617.
[27] ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، جـ 1/ 212.
[28] ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 20.
[29] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 620.
[30] ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، جـ1/ 212.
[31] ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 22.
[32] شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 156.
[33] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 660- 685. ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 23- 27. السيوطي: طبقات الحفاظ، جـ1/ 552- 553. السيوطي: نظم العقيان في أعيان الأعيان، جـ1/ 46- 50. الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر- مايو 2002م، جـ1/ 178.
[34] انظر: السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1053- 1054. ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 23.
[35] ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 23.
[36] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 980.
[37] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 992.
[38] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1023- 1024. شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 115.
[39] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1043.
[40] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1044- 1049.
[41] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، قدم له وعلق عليه: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى: 1992م، جـ15/ 259.
السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1044- 1049.
[42] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، قدم له وعلق عليه: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى: 1992م، جـ15/ 259.
محمد كمال الدين عز الدين: ابن حجر مؤرخا، ص105. بتصرف.
[43] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1203- 1207.
[44] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1185- 1197. السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، جـ2/ 40. ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 22. ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، جـ1/ 215. شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 118- 122.

الخميس، 5 يناير 2012

- شرح مبسط للزكاة فى الاسلام


تعريف الزكاة: ‏
‏ الزكاة في اللغة مأخوذة من الزيادة والنماء ‏

وفي الاصطلاح الشرعي:‏
‏ حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت معين لتحقيق رضا الله وتزكية النفس والمال في المجتمع. ‏

وجوب الزكاة وبيان فضلها: ‏
‎‎ الزكاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله. ‏

‎‎ فمن الكتاب:‏

‎‎ قال تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } [البقرة: 43].‏

‎‎ وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبد الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } [البينة: 5]. ‏

‎‎ وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [التوبة:103].‏

‎‎ ومن السنة:‏

‎‎ عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحـق الإسلام، وحسابهم على الله ) متفق عليه.‏

‎‎ وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: (لما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله؟!" فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعه. قال عمر، رضي الله عنه: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق ) متفق عليه.‏

‎‎ وعن أبي هريرة، رضي الله عنه: (أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته، دخلت الجنة. قال "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان" قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا. فلما ولى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ) متفق عليه.‏

‎‎ وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب، ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال: "ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار". قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: "ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها، رد عيه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: "الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر. وأما التي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر. وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج، أو روضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنّت شرفا أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها، وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر، فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات". قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: "ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } [الزلزلة: 7-8] متفق عليه. وهذا لفظ مسلم.‏



أهداف الزكاة والحكمة من تشريعها

‎‎ للزكاة أهداف إنسانية جليلة، ومثل أخلاقية رفيعة، وقيم روحية عالية. وكلها قصد الإسلام إلى تحقيقها وتثبيتها حين فرض الزكاة، يقول تعالى:‏

‎‎ ‏{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة: 103] . ‏

‎‎ وحين طبق المسلمون في العصور الإسلامية الزاهية فريضة الزكاة كما شرعها الله ورسوله، تحققت أهدافها الجليلة، وبرزت آثارها العظيمة في حياة الفرد والمجتمع. ومن أبرز أهداف الزكاة في الإسلام ما يأتي:‏

‎1. الزكاة عبادة مالية: ‏
‏ يعتبر إيتاء الزكاة استجابة لأمر الله ووفاء لعهده، يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة، ونماء المال في الحياة الدنيا بالبركة.‏

2. الزكاة طهارة من البخل والشح والطمع: ‏
‏ تعتبر الزكاة علاجاً شافياً لأمراض البخل والشح والطمع والأنانية والحقد. والإسلام يقدر غريزة حب المال وحب الذات، ويقرر أن الشح حاضر في النفس الإنسانية لا يغيب.‏

‏{‎ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ… } [النساء:128].‏

‎‎ فيعالج هذا كله علاجاً نفسياً بالترغيب والتحذير والحض وضرب الأمثال، حتى يتم له ما يريد، فيطلب إلى هذه النفس الشحيحة أن تجود بما هو حبيب إليها عزيز عليها.‏

3. إعانة الضعفاء وكفاية أصحاب الحاجة: ‏
‏ المسلم عندما يدفع زكاة ماله يشعر بمسؤوليته عن مجتمعه، وعن تكافله مع المحتاجين فيه وتغمره السعادة عندما يؤدي الزكاة ويأخذ بيد أخيه المحتاج ويرتفع به من ويلات مصيبة حلت به فأفقرته، وهو يستشعر في هذا كله قوله تعالى:‏

‎‎ ‏{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24)لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) } [سورة المعارج].‏

4. الزكاة تنمي الروح الاجتماعية بين الأفراد:‏
‏ يشعر المسلم الدافع للزكاة بعضويته الكاملة في الجماعة، فهو يشترك في واجباتها وينهض بأعبائها، فيتحول المجتمع إلى أسرة واحدة يسودها التعاون والتكافل والتواد تحقيقاً وتجسيداً لقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) متفق عليه.‏

‎‎ والزكاة تعبير عملي عن أخوة الإسلام، وتطبيق واقعي لأخلاق المسلم من جانب المزكي، وهي أيضاً تجعل الفقير يعيش في المجتمع المسلم خالية نفسه من أي حقد أو حسد، ذلك لأن حقه محفوظ في مال الغني، فتجده يحبه ويدعو له بالبركة وكثرة المال. يقول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا ً)، متفق عليه.‏

5. الزكاة تكفر الخطايا وتدفع البلاء:‏
‏ الزكاة تكفر الخطايا وتدفع البلاء، وتقع فداء عن العبد، وتجلب رحمة الله، قال تعالى ‎: ‏ {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ … } [الأعراف: 156].‏

‎‎ وها هي المجتمعات المادية تعيش حالة من الفوضى والضياع، ينمو فيها الحقد وتظهر الطبقية، ويكثر الوباء والبلاء، جرائم ترتكب، وسرقات ونصب واحتيال، ففي هذه المجتمعات وحدها تنمو الرذيلة وتقتل الفضيلة، وتنشأ العقد النفسية، ويكثر الجنون، أما في مجتمع الإسلام، مجتمع الزكاة فمحبة لله وطاعة وإنابة وتعاون وتكافل، تأتي بالرحمة والخير والسعادة والأخوة.‏

6. الزكاة مصدر قوي لإشاعة الطمأنينة والهدوء: ‏
‏ تعتبر الزكاة ضماناً اجتماعياً للعاجزين، ووقاية للجماعة من التفكك والانحلال، وهي مؤسسة عامة للتأمين التعاوني المنشود، إذ هي وسيلة من وسائل القضاء على الفقر والعوز والجوع والمرض… للفقير في أموال الزكاة ما يجعله شجاعاً وعزيزاً يواجه المستقبل بنفس راضية مطمئنة، فلا قلق ولا هم ولا حزن … والغني لا يبقى رهين الخوف من الإفلاس والفقر، لأن الله أرشده إلى وسائل تنمية المال. ولو عدت عليه العوادي وانقلبت الموازين وأصبح فقيراً بعد الغنى فإن له حقاً في مال إخوانه الأغنياء، يستطيع به أن يعيد ثروته بعد الكفاح والجد والمثابرة.‏

7. الزكاة تنمي شخصية المزكي: ‏
‏ الزكاة تحقق النماء والزيادة لشخصية المزكي وكيانه المعنوي، فالإنسان الذي يسدي الخير ويصنع المعروف، ويبذل من ذات نفسه ويده لينهض بإخوانه المسلمين، ويقوم بحق الله عليه، يشعر باقتدار في نفسه وانشراح في صدره، ويحس بالنصر المؤزر على نفسه وأثرته وشيطان شحّه وهواه.‏

8. الزكاة تطهير للمال: ‏
‏ الزكاة طهارة للمال، ذلك أن تعلق حقوق الفقراء في المال يجعله ملوثاً لا يطهر إلا بإخراج هذه الحقوق. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "بل إن مال الأمة كلها ليهدد بالنقص وعروض الآفات السماوية التي تضر بالإنتاج العام وتهبط بالدخل القومي، وما ذلك إلا أثر من سخط الله تعالى ونقمته على قوم لم يتكافلوا ولم يتعاونوا ولم يحمل قويهم ضعيفهم ، وفي الحديث (لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ) أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه ابن ماجه، وهو حديث ضعيف. إن تطهير مال الفرد والجماعة من أسباب النقص والمحق لا يكون إلا بأداء حق الله وحق الفقير من الزكاة ". انتهى كلامه.

‏9. ‏في الزكاة حث على العمل والجد والمثابرة:‏
‏ يعتبر نقل ملكية جزء من المال عن طريق الزكاة من الأغنياء إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وغيرهم حثاً لهم على العمل والجد والمثابرة والولاء للمجتمع، وبذلك تزيد كفايتهم الإنتاجية، ويكون مردود ذلك كله على المجتمع الذي تنحسر فيه البطالة، ويرتفع مستوى الدخل.‏
‏ ‏

شروط الزكاة


الشرط الأول: الإسلام:‏
‏ الزكاة لا تجب إلا على المسلم، أما غير المسلم فلا زكاة عليه، لكنه يحاسب عليها، لأنه مخاطب بفروع الشريعة على الصحيح.‏

الشرط الثاني : الحرية:‏
‏ لا تجب الزكاة على العبد والمكاتب، لأن العبد لا يملك شيئاً. والمكاتب ملكه ضعيف، لأن من شروط الزكاة الملك التام. ثم إن العبد وما ملك مُلكٌ لسيده، والسيد يزكي أمواله.‏

الشرط الثالث : النية:‏
‏ يشترط لصحة أداء الزكاة إلى مستحقيها نية المزكي بقلبه أن هذا المال المعطى لمستحقيه هو الزكاة المفروضة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ) متفق عليه.‏

‎‎ والزكاة عبادة لابد أن تكون مقرونة بالنية.‏

الشرط الرابع : الملك التام للمال: ‏
‏ والمراد بالملكية التامة هنا: أن يكون المال بيد الفرد، ولا يتعلق به حق لغيره من البشر، وأن يتصرف فيه باختياره، وأن تكون فوائده حاصلة له.‏

‎‎ وبهذا الشرط تخرج أموال كثيرة لا تجب فيها الزكاة لعدم تحقق الملك التام فيها، من ذلك ما يأتي:‏

1. المال الذي ليس له مالك معين، وذلك كأموال الدولة التي تجمعها من الزكوات أو الضرائب أو غيرها من الموارد فلا زكاة فيها، لأنها ملك جميع الأمة، ومنها الفقراء.‏

‎2. الأموال الموقوفة على جهة عامة كالفقراء، أو المساجد، أو المجاهدين، أو اليتامى، أو المدارس، أو غير ذلك من أبواب الخير، فالصحيح أنه لا زكاة فيها.‏

3. المال الحرام وذلك مثل: المال الذي يحصل عليه الإنسان عن طريق الغصب والسرقة أو التزوير والرشوة والاحتكار والربا والغش ونحوها من طرق أخذ المال بالباطل، إذ يجب على آخذه أن يعيده إلى أربابه أو إلى ورثتهم، فإن لم يعلمهم فيعطيه الفقراء برمته، ولا يأخذ منه شيئاً، ويستغفر ويتوب إلى الله، فإن أصر وبقي في ملكيته وحال عليه الحول وجبت فيه الزكاة.‏

الشرط الخامس : نماء المال:‏
‏ المقصود بالنماء هنا: أن يكون المال من شأنه أن يدر على صاحبه ربحاً وفائدة، أو يكون المال نفسه نامياً. وعلى هذا قسم علماء الشريعة المال النامي إلى قسمين:‏

1. نماء حقيقي: كزيادة المال ونمائه بالتجارة أو التوالد كتوالد الغنم والإبل.‏

2. نماء تقديري: كقابلية المال للزيادة فيما لو وضع في مشاريع تجارية، كالنقد والعقار، وسائر عروض التجارة.‏

‎‎ وبناء على ذلك فقد قرر الفقهاء رحمهم الله أن العلة في إيجاب الزكاة في الأموال هي نماؤها في الواقع، أو إمكانية نموها في المستقبل لو استثمرت. وعليه فلا تجب الزكاة في الأموال التي ادخرت للحاجات الأصلية كالطعام المدخر، وأدوات الحرفة وما يستعمله الصانع في صنعته التي تدر عليه ما يكفيه وما ينفق منه، ودواب الركوب، ودور السكنى، وأثاث المساكن، وغير ذلك من الحاجات الأصلية، وكذا الحلي المستعمل. والأحوط إخراج الزكاة فيه خروجاً من الخلاف لمن يقدر على ذلك.‏

الشرط السادس : بلوغ المال نصاباً:‏
‏ اشترط الإسلام في المال النامي الذي تجب فيه الزكاة أن يبلغ نصاباً، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحديد النصاب، وإعفاء ما دونه من الزكاة.‏

الشرط السابع : حولان الحول على المال: ‏
‏ وذلك بأن يمر على المال في حوزة مالكه اثنا عشر شهراً قمرياً، وهذا الشرط خاص بالأنعام والنقود والسلع التجارية، أما الزروع والثمار والعسل والمستخرج من المعادن والكنوز ونحوها فلا يشترط لها الحول.‏

الشرط الثامن: أن يكون المال فاضلاً عن حوائجه الأصلية:‏
‏ لأن المال الفاضل عن الحوائج الأصلية يتحقق به الغنى، أما المال المحتاج إليه حاجة أصلية فلا يكون صاحبه غنياً به، وبالتالي لو ألزمه الشرع بأدائه لغيره لما طابت بذلك نفسه، ولما تحقق الهدف السامي الذي ينشده الإسلام من وجوب الزكاة على الأغنياء ودفعها للفقراء، وقد فسر الفقهاء رحمهم الله الحاجة الأصلية تفسيراً علمياً دقيقاً فقالوا هي: ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقاً كالنفقة ودور السكنى وآلات الحرب والثياب المحتاج إليها لدفع الحر والبرد، أو تقديراً كالدين. فإن المدين يحتاج إلى قضائه بما في يده من النصاب، وكآلات الحرفة وأثاث المنزل ودواب الركوب وكتب العلم لأهله.‏‏

موقف الإسلام من مانعي الزكاة

‎‎ من أشد المصائب التي يبتلى بها الإنسان داء البخل الذي يجعله يظن أن بخله يحفظ أمواله من الضياع، أو أنه يزيده مالاً فوق ماله، مع أنه لو علم ما يصيبه من الخسران في دنياه بانفضاض الناس من حوله وكراهيتهم له، ثم ما يحيق به من العذاب في آخرته، فإنه لو أدرك ذلك لكانت حسرته على نفسه شديدة وأليمة، ويكفي أن يقرأ هؤلاء البخلاء ما جاء في كتاب الله العزيز عما أعد لهم من عذاب وهوان، فقد قال جل وعلا:‏

‎‎ ‏{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [آل عمران:180].‏

‎‎ ويقول تعالى في سورة التوبة:‏

‎‎ ‏{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ(35) }.‏

‎‎ ففي الامتناع عن أداء الزكاة إثم عظيم، وضررٌ كبير على الفقراء والمحتاجين، وتعرض لغضب الله وعاجل عذابه الذي لا يصيب الذين ظلموا خاصة، بل يعم الجميع والعياذ بالله.‏

‎‎ وقد شدّد الإسلام على مانعي الزكاة وأوقفهم عند حدهم، لأنهم يهدمون بناء المجتمع بطمعهم وجشعهم وأنانيتهم المفرطة. فمن امتنع من الأغنياء عن أداء الزكاة فإنها تؤخذ منه قهراً، ولو أدى ذلك إلى عقابه في النفس والمال، فإن كان الممتنع عن أدائها فرداً أو أفراداً لا سلطان لهم صح للإمام أن يؤدبهم ويعاقبهم حتى يؤدوها، وصح له أن يصادر عليهم نصف أموالهم سياسة شرعية زجراً لهم عن سوء صنيعهم.‏

‎‎ وإن كان الممتنع عن أداء الزكاة جماعة لهم سلطان وقوة، حق على الإمام أن ينذرهم عاقبة منعها، فإن لم يجُدِ فيهم الإنذار وجب عليه أن يقاتلهم حتى يؤدوا الزكاة، فإن لم يفعل أثم وعصى. ولقد قاتل أبوبكر رضي الله عنه والمسلمون معه مانعي الزكاة ـفي حروب الردةـ وكان معه في رأيه الخلفاء الثلاثة وسائر الصحابة رضي الله عنهم، فكان ذلك إجماعاً منهم على قتال مانعي الزكاة.‏

‎‎ وخلاصة موقف الإسلام من مانعي الزكاة :‏
‎‎ أن الإسلام يفرق بين الممتنعين حسب أحوالهم، فيتخذ موقفاً محدداً من كل قسم حسب حاله على ما يأتي:‏

1. الممتنع عن أداء الزكاة مع الإنكار لوجوبها : ‏

موقف الإسلام منه يختلف حسب حاله إن كان ممن لا يخفى عليه أمرها حكم بكفره وقوتل على منعها. فإن كان يخفى عليه أمرها، كمن أسلم حديثاً ونشأ في البادية فهذا لا يحكم بكفره، بل يعرف بوجوبها عليه وتؤخذ منه قهراً، فإن جحدها بعد ذلك حكم بكفره وقوتل عليها لقيام الحجة عليه.‏

2. الممتنع عن أدائها بخلاً بها مع اعترافه بوجوبها : ‏

فموقف الإسلام منه أنه لا يحكم بكفره، بل تؤخذ منه قهراً، ويعزر إن لم يكن له عذر، ويصرفها الإمام العادل في مصارفها الشرعية. أما إن كان له عذر، بأن كان الإمام ظالماً يأخذ أكثر من الواجب، أو يصرفها في غير مصارفها الشرعية فإنه يؤمر بإخراجها، ويحذّر عاقبة منعها، ولا يلزمه دفعها إلى الإمام الظالم.‏ 



شارك فى نشر الخير