عدد المشاهدات:
قوله تعالى :
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ).
بعد أن بين الله لنا بعض ما عليه أهل النفاق من الخديعة والسخرية والاقتدار على إخفاء الكفر فى قلوبهم وإظهار الإيمان لتسلم أنفسهم وأموالهم ويعيشوا متمتعين بين المؤمنين بما لهم من الحقوق . ضرب سبحانه لحالهم العجيبة مثلا ، والأمثال تكشف للعلماء الربانيين قال تعالى : )وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ(، فغير العلماء لا يعقلون عن الله سبحانه وتعالى . مثل حالهم العجيبة التى يحتار منها اللبيب بالنسبة لوضوح الحق لهم بما جاء به رسول الله تعالى من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وما بينه عليه الصلاة والسلام من أنواع العبادات والمعاملات والأخلاق التى بها نيل السعادة ، وبما كانوا علية من الكفر بالله تعالى ، ومن العقوق والقطيعة وعبادة الأحجار والصور والبهائم ومع هذا فإنهم أظهروا الإيمان وأخفوا الكفر فجمعوا بين الخبيثين : ظلمة الكفر ، وخبث النفاق . فكانوا بذلك فى الدرك الأسفل من النار لأن الكافر المجاهر بالكفر علمه المؤمنون فحصنوا أنفسهم من كيده وسلموا الأهل النفاق وعاملوهم معاملة أنفسهم فكانوا شراً علينا من أهل الكفر بالله . ولذلك فقد ضرب الله لهم هذا المثل فشبههم فى حالهم هذه مجال رجل استوقد ناراً فأضاءت أفقه ، واستبان بضوئها كل شىء حوله ووضحت له السبل ، ثم طفئت النار ، فعمته الظلمة وارتفع عنه كل شىء.وحذف الله من المثل جملا كثيرة تضمنها كلامه سبحانه السابق ، فكأنه يقول سبحانه مثل حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم وعملوا بأبدانهم عمل المسلمين أمام المؤمنين ، فأنزلهم المؤمنون مزلة أنفسهم فناكحوهم ووارثوهم ، وعاملوهم معاملة أخوة المؤمنين ، فسعدوا فى الدنيا بما أظهروه من الإيمان ، فلما ماتوا وجدوا أنفسهم من أهل العذب والخزى بما أضمروه فى قلوبهم من الكفر ، فشبه حالهم هذه بحال أوقد ناراً ، والنار التى أوقدها فى المشبه به ، هى الإقرار باللسان والعمل بالجوارح ، وإضاءة النار التى كشفت له ما حوله ، هى حسن معاملة المؤمنين له . ولما كانت المعانى مفهومة من سياق الكلام أتى سبحانه بالآية موجزة من كمال البلاغة . فانظر إلى فخامة قوله تعالى : )ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ(فأفرد المشبه به ، ثم جمع ليدل على إيجاز الكلام . وذهاب الله بنورهم إماتتهم وكانوا يعتقدون أنهم نجوا نجاة لا عقوبه بعدها ، على ما أضمروا من الكفر ، فأخبرنا الله عنهم أنهم يوم القيامة يعاملون الله تعالى معاملتهم للمؤمنين ، ويظنون نجاتهم بتلك المعاملة لجهلهم بالله تعالى ، قال تعالى مشنعاً عليهم : )يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم ْوَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ(– وتركهم فى الظلمات يوم القيامة ، يعنى تركهم فى النار لا يبصرون غيرها .ومعنى المثل : أن المنافقين لما رأوا قوة المؤمنين خافوا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، فأظهروا .
قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ.... ( 18 ) البقرة
الإيمان فحفظوا لأنفسهم كل شىء وأخفوا الكفر فى قلوبهم , وعاشوا مستضيئين بنور ما أظهروه من الإيمان , حتى ماتوا انكشفت الحقائق , فأرادوا أن يتخلصوا من عذاب النار بما تخلصوا به من عذاب الدنيا من الأَيمان الكاذبة , فكشفت الله لهم عن الحقيقة ما فى قلوبهم , وأمر بهم إلى النار بعد أن أقسموا له سبحانه على صدقهم فلم ينفعهم ذلك , إذا كانوا فى الدنيا منافقين . وإن تأويل بعض المفسرين هذه الآية بأنهم كانوا مؤمنين ،ثم كفروا . وقال بعضهم كانوا مؤمنين ثم نافقوا , ولا حجة فى الآية تقوم على ذلك , والحقيقة أنهم لم تسبق لهم إيمان أبداً . وأن تلك النار التى أضاءت ما حول الموقد إنما هى إقرارهم باللسان الذى نفعهم الله به فى الدنيا , وإن كان الله تعالى كشف الستر عن بعضهم فى الدنيا كعبد الله بن أُبىّ ابن سلول وكطعمة بن أبيرق الذى ثبتت عليه السرقة وهو من كبار المنافقين فقام بعض أقاربه يجادل عنه فنهاه الله عن ذلك بقوله :]وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ[- إلا أن المؤمنين كانوا يحبون الستر والمداراة , وهذا المثل بين حقيقة ما عليه كثير من منافقى أهل هذا الزمان , الذين يسارعون فى أعداء الله طمعاً فيما يفنى وخشية من أن تصيبهم دائرة , من عزل من وظيفة أو نفى أو سجن . وكذلك المنافقون الذين أوقدوا نار التستر بالعلم بظاهرة الحياة الدنيا , ثم تضىء لهم تلك النار , فيحسبوا أنهم على خير وهم الضالون , إذا ليس العلم بظاهرة الحياة الدنيا هو العلم النافع عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وعند العلماء الربانيين , لأنه صنعة لراحة الأبدان لا تكتسب منه الأرواح ذرة من الخير , وربما كان سبباً فى الكفر أو النفاق أو الجدل أو منازعة الأحكام الشرعية أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين.
قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَأَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيط ٌبِالْكافِرِينَp18i
بينت لك فيما سبق تمثيل الله حالة المنافقين بحسب ما اكتسبوا فى
قوله تعالى : ]مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّيُبْصِرُونَp17i
وكان هذا البيان يكاد يكون إجمالياً , فاشتاقت نفوس المؤمنين إلى تفصيل هذا الإجمال بما يشم منه رائحة التوحيد , فأشار سبحانه إلى شىء من عبيره لأهل النفوس الطاهرة بقوله : ]صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[فليس المراد صم الآذان , بل فقد القابل . ولا بكم الألسنة , بل حرمان التوفيق للنطق الصحيح بالإخلاص . لا عمى الأعين , بل محو القوى التى تبصر آيات الله فى مكوناته , فهم صم لا يعون الآيات الجليلة الواضحة , ولا يسمعون تسبيح الكائنات البينية , ولو بالتسليم للقرآن . و ]بُكْمٌ[فلا ينطقون بالحقائق التى تشير إليها الآيات من إبداع السموات والأرض . و ]عُمْيٌ[.
فلا يبصرون تلك الآيات إلا مادة فاعلة مختارة : قال تعالى : ]إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَوَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَوَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِوَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِنرِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌلِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[وهذه الآية مؤخرة عن تقدم لأن موضعها ]أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [- ]صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[إلى الهداية أبدا, وإن كان الكلام فى الآخرة فلا يرجعون إلى الدنيا .
ثم أتى سبحانه وتعالى بأو التفصيلية التى ليست للإباحة ولا للشك لتفيد تفصيل هذا المجمل فقال سبحانه : ]أَوْ كَصَيِّبٍ[والصيب : هو المطر الغزير . وليس هذا بعمل كسبهم ولكنه زواجَهُ ما يقتضى الفزع منه . والمراد بالصيب هنا الإيمان , ولكنه شبه بسحابة سوداء ذات مطر غزير فى ليلة ظلماء مصحوبة بظلمات ورعد وبرق , والرعد والبرق التكاليف الشرعية التى كلف بها العبد رغم أنفة , من صلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد , والصواعق هى الجهاد . فكان كلما أمروا بالجهاد أو الزكاة كرهوا سماع هذا الأمر , فجعل مثلهم فى ذلك مثل الفزع من الصواعق القتٌالة ولخوفه يضع أطراف أصابعه فى أذنيه , ومثال حالهم هذا مفصل لما انتابهم من سابقة السوءى أعاذنا الله تعالى .
ولا تعجب يا أخى فإنك ترى فى زمنك هذا أناساً تعلموا العلم الدينى , وهم فى أثناء تعليمه فى معهده ترى نفوسهم تنزع إلى الإنكار والسخرية . وسبب ذلك سابقة القدر . قال تعالى : ]وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْقِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة بَعْضٍ[وهم هؤلاء .. لا فرق بين اليهودى والنصرانى والمسلم , وكم من يهودى لان قبلة لبعض الآيات !! وكم من نصرانى خلع ثوب النصرانية بمجرد فهم حكمة واحدة من حكم القرآن !!
كثير من الناس يقولون فلان عالم وفلان بن فلان حصل أمثال الجبال عالماً وأنا منفرداً أقول:وإنما هى النفوس لا الدروس . والنفس الزكية الطاهرة يكفيها قليل الحكمة , والنفس الخبيثة اللقسة كالقرحة لا يصدر منها إلا الصديد . فاحذر أخى أن تجالس أو تجانس أصحاب النفوس التى تنكر كرامات الأولياء , فضلا عن إنكار القرآن وإنكار الأحكام ]واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ[.
يجب على من وفقه الله لشرف خدمة تأويل القرآن أن يكون عالماً بمراتب العبودية ومقادير خطابها , وبساطة من عظمة الذات وكبريائها , وكمالها وجمالها , وبهائها وضيائها ونورها , لأن استغراق .
قوله تعالى : يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ... ( 20) البقرة
كل ذلك علماً مستحيل – ومن جهل نفسه فجهل ربه , وحصل أمثال الجبال من العلم الإنسانى وكتب على القرآن أخطأ ولو حكم له ألف عالم بأنه أصاب – قال تعالى : ]الرَّحْمَنُ.عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ.عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [.
]واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ[بالنسبة لهذا الميزان , أى أن الله تعالى هو القهار شديد البطش الذى إذا أخذ عبداً لم يفلته .
وليست الآية تدل على أن هناك محيطاً ظرفاً ومُحاطاً به مظروفاً , تنزه الله تعالى علواً كبيراً , ولو تتبعانا آيات القرآن المجيد فى أمثل تلك المعانى لوجدنا اسم القهار أو المنتقم أو شديد البطش يوضع موضع محيط . وكأن المعنى والله أعلم : والله محيط بكل وُجَهِهِم , أى آخذ عليهم كل مسالكهم فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه . ولذلك فالعارفون بالله بعد معرفتهم لأنفسهم فقدوا فى أعينهم كل شىء إلا دالاً على الله تعالى بما فيه من بدائع إبداع الحكمة , أو خاصية وضعها الله فى الكائنات , أو آية تغذوا أرواح المحبوبين بما فيها من غرائب القدرة وعجائب الحكمة , أو كتاباً صامتاً وهو القرآن المجيد والسنة , أو إنساناً بلغ وراثة رسول الله eناطقاً بما آتاه الله من فضله , فهذا الذى أثبت عند العارفين وجودها لمعانيها . وأما ما عدا ذلك من مادة يعبدها أهل الغرة بالله , أو جاه يتفانى فيه أهل الدنياٍ , أو رياسة بها تنفيذ كلمة الظلمة أو ذخائر إذا فارق صاحبها الحياة كانت سبباً فى الحرب بين ورثته , وسبباً لِكَبّه فى نار جهنم فلا تنفعه فى الدنيا لأنه كنزها , ولا فى الآخرة من الفقير المحتاج إليها منعها .
أما أهل المعرفة فإنهم جعلوا الدنيا المعبودة لأهلها , كما قال رسول الله تعالى: )تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة , إن أعطى رضى , وإن لم يعط سخط , تعس وانتكس , وإذا شيك فلا انتقش ) فإنهم أمدنا الله بروحانيتهم عاشوا غرباء , وإن أقبلت عليهم الدنيا قدموها لتكون لهم ذخيرة عند الله , وضعوا أموالهم وأولادهم وعقارهم فى موازينهم يوم القيامة , من غير عاطفة تفسد عليهم حالهم , فإنهم عرفوا أن الدنيا غرارة ضرارة مرارة وهى دار الخاسرين . ومن تذكر ما حصل لخير الرسل فيها منها بالقليل , وعمل فيها المسافر العجِل , والغريب الذى لا أهل له . وفقنا الله لما يحبه ويرضاه . وكما أن الله محيط بقهره وانتقامه وشدة بطشه وتفريده فى إيجاد كل شىء بالكافرين فهو كذلك محيط برحمته وحنانه , وفضله وإحسانه بالمؤمنين .
قوله تعالى : يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْوَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌp20i
يقرب البرق لشدة لمعانه أن يخطف أنوار عيونهم , والبرق هنا هو حجج الإسلام البينة التى
لا يقوى طالب احق على إدحاضها , ولكن صاحب الهوى وعمىّ البصيرة محكوم عليه بالقطيعة مهما كانت حالته , وكلنا نعلم أن الله خلق ناراً وخلق جنة , وأن أهل النار عبيد الله , وأهل الجنة أيضاً عبيد ه كأهل النار لأن الله تعالى خلق النار وخلق لها أهلا, وخلق الجنة وخلق لها أهلا ,ولم يقو أحد على أن يغير ما قدره الله عليه أزلا , وغاية ما فى الأمر أن الله أخفى عن العالم جميعاً سر القدر , ثم إنه سبحانه وتعالى أمر أبا بكر بالإيمان وكتب له فى الأزل الإيمان , وأمر أبا لهب بالإيمان , وكتب له فى الأزل الكفر والمعاداة , وكلتا الدارين من نار أو جنة يؤولان إلى مراد الله , فما فى النار مراد الله كما أن ما فى الجنة مراده , إلا أن الله أخلص الجمال والإحسان لأهل الجنة يوم القيامة , وجعل الجلال والعذاب لأهل النار فى هذا اليوم ولا مراد لقضاء الله , ومن ظن أنه يدرك الغيب المصون بعقله المعقول فقد جهل نفسه , وإلا فما هو الإنسان وإن علا ؟ أليس هو بولة بالها أبوه من ذكره وبالته أمه من فرجها ؟ وما مقدار رجل هو من بولتين ؟ فليتأدب لله ورسوله e, ولا يكون سبباً لنفسه فى لقاء عذاب لا قبل له به , ولا يكون كضلاٌل أوربا المغرورين بعلومها التى تلقوها عن أساتذتهم , الذين كانوا فى القرون الوسطى شراً من مجاهيل أفريقيا , ولولا الأندلس وسلب كتبها وترجمتها ونابليون وسرقته كتب الأزهر ووحوش الصليبية الأولى الذين كانوا أقل ظلماً من صليبية هذا الزمانفإنهم سرقوا الكتب من كل معاهد أفريقيا والشام ثم ترجمتها لهم بعض من لا خلاق لهم من المسلمين الذين تلقوها عن أساتذتها لكانوا كالبهائم فى بلادنا , ولعلك لا تنسى أن ابن رشد الأندلسى لما فر من الأندلس إلى فرنسا طلب منه كبارها أن يكون أستاذاً لهم , فقبل وفتح أول مدرسة فى فرنسا وترجم لها علوم المادة وعلوم الفلك والطب والهندسة وغيرها , فرحم الله الشرق ورحم آثار رجاله السالفين , وأعاد لنا ما سلبته أيدى الأعداء منا .
قوله تعالى : ]يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [كائن سائلا سأل – مَثّل ْ لنا حال هؤلاء القوم لنعلم ما كان عليه حال المنافقين؟ فقال سبحانه ]كُلَّمَا أَضَاء لَهُم[نوراً إقرارهم باللسان وحضورهم الصلوات مع الصحابة ]مَّشَوْاْ فِيهِ[, أى انتفعوا به , ]وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ [بذكر بعض السرايا التى كان يرسلها رسول اللهeأو طلب زكاة المال المفروضة أو التقرب إلى الله بما يصلح للجهاد ] قَامُواْ [ أى احتاروا : ولم يقمهم الله فى هذا المقام إلا ليزدادوا تعذيباً أو ليكشف عنهم ستره عندما يريد الانتقام منهم ، فتكون فضيحتهم شنيعة .
قال تعالى : ]وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[.
من اسرار القرآن للامام محمد ماضى ابو العزائم
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ).
بعد أن بين الله لنا بعض ما عليه أهل النفاق من الخديعة والسخرية والاقتدار على إخفاء الكفر فى قلوبهم وإظهار الإيمان لتسلم أنفسهم وأموالهم ويعيشوا متمتعين بين المؤمنين بما لهم من الحقوق . ضرب سبحانه لحالهم العجيبة مثلا ، والأمثال تكشف للعلماء الربانيين قال تعالى : )وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ(، فغير العلماء لا يعقلون عن الله سبحانه وتعالى . مثل حالهم العجيبة التى يحتار منها اللبيب بالنسبة لوضوح الحق لهم بما جاء به رسول الله تعالى من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وما بينه عليه الصلاة والسلام من أنواع العبادات والمعاملات والأخلاق التى بها نيل السعادة ، وبما كانوا علية من الكفر بالله تعالى ، ومن العقوق والقطيعة وعبادة الأحجار والصور والبهائم ومع هذا فإنهم أظهروا الإيمان وأخفوا الكفر فجمعوا بين الخبيثين : ظلمة الكفر ، وخبث النفاق . فكانوا بذلك فى الدرك الأسفل من النار لأن الكافر المجاهر بالكفر علمه المؤمنون فحصنوا أنفسهم من كيده وسلموا الأهل النفاق وعاملوهم معاملة أنفسهم فكانوا شراً علينا من أهل الكفر بالله . ولذلك فقد ضرب الله لهم هذا المثل فشبههم فى حالهم هذه مجال رجل استوقد ناراً فأضاءت أفقه ، واستبان بضوئها كل شىء حوله ووضحت له السبل ، ثم طفئت النار ، فعمته الظلمة وارتفع عنه كل شىء.وحذف الله من المثل جملا كثيرة تضمنها كلامه سبحانه السابق ، فكأنه يقول سبحانه مثل حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم وعملوا بأبدانهم عمل المسلمين أمام المؤمنين ، فأنزلهم المؤمنون مزلة أنفسهم فناكحوهم ووارثوهم ، وعاملوهم معاملة أخوة المؤمنين ، فسعدوا فى الدنيا بما أظهروه من الإيمان ، فلما ماتوا وجدوا أنفسهم من أهل العذب والخزى بما أضمروه فى قلوبهم من الكفر ، فشبه حالهم هذه بحال أوقد ناراً ، والنار التى أوقدها فى المشبه به ، هى الإقرار باللسان والعمل بالجوارح ، وإضاءة النار التى كشفت له ما حوله ، هى حسن معاملة المؤمنين له . ولما كانت المعانى مفهومة من سياق الكلام أتى سبحانه بالآية موجزة من كمال البلاغة . فانظر إلى فخامة قوله تعالى : )ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ(فأفرد المشبه به ، ثم جمع ليدل على إيجاز الكلام . وذهاب الله بنورهم إماتتهم وكانوا يعتقدون أنهم نجوا نجاة لا عقوبه بعدها ، على ما أضمروا من الكفر ، فأخبرنا الله عنهم أنهم يوم القيامة يعاملون الله تعالى معاملتهم للمؤمنين ، ويظنون نجاتهم بتلك المعاملة لجهلهم بالله تعالى ، قال تعالى مشنعاً عليهم : )يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم ْوَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ(– وتركهم فى الظلمات يوم القيامة ، يعنى تركهم فى النار لا يبصرون غيرها .ومعنى المثل : أن المنافقين لما رأوا قوة المؤمنين خافوا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، فأظهروا .
قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ.... ( 18 ) البقرة
الإيمان فحفظوا لأنفسهم كل شىء وأخفوا الكفر فى قلوبهم , وعاشوا مستضيئين بنور ما أظهروه من الإيمان , حتى ماتوا انكشفت الحقائق , فأرادوا أن يتخلصوا من عذاب النار بما تخلصوا به من عذاب الدنيا من الأَيمان الكاذبة , فكشفت الله لهم عن الحقيقة ما فى قلوبهم , وأمر بهم إلى النار بعد أن أقسموا له سبحانه على صدقهم فلم ينفعهم ذلك , إذا كانوا فى الدنيا منافقين . وإن تأويل بعض المفسرين هذه الآية بأنهم كانوا مؤمنين ،ثم كفروا . وقال بعضهم كانوا مؤمنين ثم نافقوا , ولا حجة فى الآية تقوم على ذلك , والحقيقة أنهم لم تسبق لهم إيمان أبداً . وأن تلك النار التى أضاءت ما حول الموقد إنما هى إقرارهم باللسان الذى نفعهم الله به فى الدنيا , وإن كان الله تعالى كشف الستر عن بعضهم فى الدنيا كعبد الله بن أُبىّ ابن سلول وكطعمة بن أبيرق الذى ثبتت عليه السرقة وهو من كبار المنافقين فقام بعض أقاربه يجادل عنه فنهاه الله عن ذلك بقوله :]وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ[- إلا أن المؤمنين كانوا يحبون الستر والمداراة , وهذا المثل بين حقيقة ما عليه كثير من منافقى أهل هذا الزمان , الذين يسارعون فى أعداء الله طمعاً فيما يفنى وخشية من أن تصيبهم دائرة , من عزل من وظيفة أو نفى أو سجن . وكذلك المنافقون الذين أوقدوا نار التستر بالعلم بظاهرة الحياة الدنيا , ثم تضىء لهم تلك النار , فيحسبوا أنهم على خير وهم الضالون , إذا ليس العلم بظاهرة الحياة الدنيا هو العلم النافع عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وعند العلماء الربانيين , لأنه صنعة لراحة الأبدان لا تكتسب منه الأرواح ذرة من الخير , وربما كان سبباً فى الكفر أو النفاق أو الجدل أو منازعة الأحكام الشرعية أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين.
قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَأَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيط ٌبِالْكافِرِينَp18i
بينت لك فيما سبق تمثيل الله حالة المنافقين بحسب ما اكتسبوا فى
قوله تعالى : ]مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّيُبْصِرُونَp17i
وكان هذا البيان يكاد يكون إجمالياً , فاشتاقت نفوس المؤمنين إلى تفصيل هذا الإجمال بما يشم منه رائحة التوحيد , فأشار سبحانه إلى شىء من عبيره لأهل النفوس الطاهرة بقوله : ]صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[فليس المراد صم الآذان , بل فقد القابل . ولا بكم الألسنة , بل حرمان التوفيق للنطق الصحيح بالإخلاص . لا عمى الأعين , بل محو القوى التى تبصر آيات الله فى مكوناته , فهم صم لا يعون الآيات الجليلة الواضحة , ولا يسمعون تسبيح الكائنات البينية , ولو بالتسليم للقرآن . و ]بُكْمٌ[فلا ينطقون بالحقائق التى تشير إليها الآيات من إبداع السموات والأرض . و ]عُمْيٌ[.
فلا يبصرون تلك الآيات إلا مادة فاعلة مختارة : قال تعالى : ]إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَوَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَوَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِوَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِنرِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌلِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[وهذه الآية مؤخرة عن تقدم لأن موضعها ]أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [- ]صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[إلى الهداية أبدا, وإن كان الكلام فى الآخرة فلا يرجعون إلى الدنيا .
ثم أتى سبحانه وتعالى بأو التفصيلية التى ليست للإباحة ولا للشك لتفيد تفصيل هذا المجمل فقال سبحانه : ]أَوْ كَصَيِّبٍ[والصيب : هو المطر الغزير . وليس هذا بعمل كسبهم ولكنه زواجَهُ ما يقتضى الفزع منه . والمراد بالصيب هنا الإيمان , ولكنه شبه بسحابة سوداء ذات مطر غزير فى ليلة ظلماء مصحوبة بظلمات ورعد وبرق , والرعد والبرق التكاليف الشرعية التى كلف بها العبد رغم أنفة , من صلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد , والصواعق هى الجهاد . فكان كلما أمروا بالجهاد أو الزكاة كرهوا سماع هذا الأمر , فجعل مثلهم فى ذلك مثل الفزع من الصواعق القتٌالة ولخوفه يضع أطراف أصابعه فى أذنيه , ومثال حالهم هذا مفصل لما انتابهم من سابقة السوءى أعاذنا الله تعالى .
ولا تعجب يا أخى فإنك ترى فى زمنك هذا أناساً تعلموا العلم الدينى , وهم فى أثناء تعليمه فى معهده ترى نفوسهم تنزع إلى الإنكار والسخرية . وسبب ذلك سابقة القدر . قال تعالى : ]وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْقِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة بَعْضٍ[وهم هؤلاء .. لا فرق بين اليهودى والنصرانى والمسلم , وكم من يهودى لان قبلة لبعض الآيات !! وكم من نصرانى خلع ثوب النصرانية بمجرد فهم حكمة واحدة من حكم القرآن !!
كثير من الناس يقولون فلان عالم وفلان بن فلان حصل أمثال الجبال عالماً وأنا منفرداً أقول:وإنما هى النفوس لا الدروس . والنفس الزكية الطاهرة يكفيها قليل الحكمة , والنفس الخبيثة اللقسة كالقرحة لا يصدر منها إلا الصديد . فاحذر أخى أن تجالس أو تجانس أصحاب النفوس التى تنكر كرامات الأولياء , فضلا عن إنكار القرآن وإنكار الأحكام ]واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ[.
يجب على من وفقه الله لشرف خدمة تأويل القرآن أن يكون عالماً بمراتب العبودية ومقادير خطابها , وبساطة من عظمة الذات وكبريائها , وكمالها وجمالها , وبهائها وضيائها ونورها , لأن استغراق .
قوله تعالى : يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ... ( 20) البقرة
كل ذلك علماً مستحيل – ومن جهل نفسه فجهل ربه , وحصل أمثال الجبال من العلم الإنسانى وكتب على القرآن أخطأ ولو حكم له ألف عالم بأنه أصاب – قال تعالى : ]الرَّحْمَنُ.عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ.عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [.
]واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ[بالنسبة لهذا الميزان , أى أن الله تعالى هو القهار شديد البطش الذى إذا أخذ عبداً لم يفلته .
وليست الآية تدل على أن هناك محيطاً ظرفاً ومُحاطاً به مظروفاً , تنزه الله تعالى علواً كبيراً , ولو تتبعانا آيات القرآن المجيد فى أمثل تلك المعانى لوجدنا اسم القهار أو المنتقم أو شديد البطش يوضع موضع محيط . وكأن المعنى والله أعلم : والله محيط بكل وُجَهِهِم , أى آخذ عليهم كل مسالكهم فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه . ولذلك فالعارفون بالله بعد معرفتهم لأنفسهم فقدوا فى أعينهم كل شىء إلا دالاً على الله تعالى بما فيه من بدائع إبداع الحكمة , أو خاصية وضعها الله فى الكائنات , أو آية تغذوا أرواح المحبوبين بما فيها من غرائب القدرة وعجائب الحكمة , أو كتاباً صامتاً وهو القرآن المجيد والسنة , أو إنساناً بلغ وراثة رسول الله eناطقاً بما آتاه الله من فضله , فهذا الذى أثبت عند العارفين وجودها لمعانيها . وأما ما عدا ذلك من مادة يعبدها أهل الغرة بالله , أو جاه يتفانى فيه أهل الدنياٍ , أو رياسة بها تنفيذ كلمة الظلمة أو ذخائر إذا فارق صاحبها الحياة كانت سبباً فى الحرب بين ورثته , وسبباً لِكَبّه فى نار جهنم فلا تنفعه فى الدنيا لأنه كنزها , ولا فى الآخرة من الفقير المحتاج إليها منعها .
أما أهل المعرفة فإنهم جعلوا الدنيا المعبودة لأهلها , كما قال رسول الله تعالى: )تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة , إن أعطى رضى , وإن لم يعط سخط , تعس وانتكس , وإذا شيك فلا انتقش ) فإنهم أمدنا الله بروحانيتهم عاشوا غرباء , وإن أقبلت عليهم الدنيا قدموها لتكون لهم ذخيرة عند الله , وضعوا أموالهم وأولادهم وعقارهم فى موازينهم يوم القيامة , من غير عاطفة تفسد عليهم حالهم , فإنهم عرفوا أن الدنيا غرارة ضرارة مرارة وهى دار الخاسرين . ومن تذكر ما حصل لخير الرسل فيها منها بالقليل , وعمل فيها المسافر العجِل , والغريب الذى لا أهل له . وفقنا الله لما يحبه ويرضاه . وكما أن الله محيط بقهره وانتقامه وشدة بطشه وتفريده فى إيجاد كل شىء بالكافرين فهو كذلك محيط برحمته وحنانه , وفضله وإحسانه بالمؤمنين .
قوله تعالى : يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْوَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌp20i
يقرب البرق لشدة لمعانه أن يخطف أنوار عيونهم , والبرق هنا هو حجج الإسلام البينة التى
لا يقوى طالب احق على إدحاضها , ولكن صاحب الهوى وعمىّ البصيرة محكوم عليه بالقطيعة مهما كانت حالته , وكلنا نعلم أن الله خلق ناراً وخلق جنة , وأن أهل النار عبيد الله , وأهل الجنة أيضاً عبيد ه كأهل النار لأن الله تعالى خلق النار وخلق لها أهلا, وخلق الجنة وخلق لها أهلا ,ولم يقو أحد على أن يغير ما قدره الله عليه أزلا , وغاية ما فى الأمر أن الله أخفى عن العالم جميعاً سر القدر , ثم إنه سبحانه وتعالى أمر أبا بكر بالإيمان وكتب له فى الأزل الإيمان , وأمر أبا لهب بالإيمان , وكتب له فى الأزل الكفر والمعاداة , وكلتا الدارين من نار أو جنة يؤولان إلى مراد الله , فما فى النار مراد الله كما أن ما فى الجنة مراده , إلا أن الله أخلص الجمال والإحسان لأهل الجنة يوم القيامة , وجعل الجلال والعذاب لأهل النار فى هذا اليوم ولا مراد لقضاء الله , ومن ظن أنه يدرك الغيب المصون بعقله المعقول فقد جهل نفسه , وإلا فما هو الإنسان وإن علا ؟ أليس هو بولة بالها أبوه من ذكره وبالته أمه من فرجها ؟ وما مقدار رجل هو من بولتين ؟ فليتأدب لله ورسوله e, ولا يكون سبباً لنفسه فى لقاء عذاب لا قبل له به , ولا يكون كضلاٌل أوربا المغرورين بعلومها التى تلقوها عن أساتذتهم , الذين كانوا فى القرون الوسطى شراً من مجاهيل أفريقيا , ولولا الأندلس وسلب كتبها وترجمتها ونابليون وسرقته كتب الأزهر ووحوش الصليبية الأولى الذين كانوا أقل ظلماً من صليبية هذا الزمانفإنهم سرقوا الكتب من كل معاهد أفريقيا والشام ثم ترجمتها لهم بعض من لا خلاق لهم من المسلمين الذين تلقوها عن أساتذتها لكانوا كالبهائم فى بلادنا , ولعلك لا تنسى أن ابن رشد الأندلسى لما فر من الأندلس إلى فرنسا طلب منه كبارها أن يكون أستاذاً لهم , فقبل وفتح أول مدرسة فى فرنسا وترجم لها علوم المادة وعلوم الفلك والطب والهندسة وغيرها , فرحم الله الشرق ورحم آثار رجاله السالفين , وأعاد لنا ما سلبته أيدى الأعداء منا .
قوله تعالى : ]يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [كائن سائلا سأل – مَثّل ْ لنا حال هؤلاء القوم لنعلم ما كان عليه حال المنافقين؟ فقال سبحانه ]كُلَّمَا أَضَاء لَهُم[نوراً إقرارهم باللسان وحضورهم الصلوات مع الصحابة ]مَّشَوْاْ فِيهِ[, أى انتفعوا به , ]وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ [بذكر بعض السرايا التى كان يرسلها رسول اللهeأو طلب زكاة المال المفروضة أو التقرب إلى الله بما يصلح للجهاد ] قَامُواْ [ أى احتاروا : ولم يقمهم الله فى هذا المقام إلا ليزدادوا تعذيباً أو ليكشف عنهم ستره عندما يريد الانتقام منهم ، فتكون فضيحتهم شنيعة .
قال تعالى : ]وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[.
من اسرار القرآن للامام محمد ماضى ابو العزائم