عدد المشاهدات:
الحكمة السادسة و الخمسون :
لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك ، و افرح بها لأنها برزت من الله إليك { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }
فرح المسلم بالطاعة التي يوفق لأدائها ، على نوعين اثنين :
نوع يستند إلى وجود موجب له ، فهو فرح مبرور و مأجور من الله عز و جل .
و نوع آخر لا مستند له إلا االتخيل و الوهم ، و لا يتسبب عنه إلا المقت و حبط الطاعة التي كانت مبعث الفرح .
أما النوع الأول : فيتمثل في فرح العبد بأن وفقه الله لأدائها . و معنى التوفيق أن الله شرح صدره لها ، و أطلق في كيانه أنواع القدرات و القوى للنهوض بها ، و صدّ عن سبيله إليه العوائق و الموانع ، ثم إنه جل جلاله قبلها منه ، على الرغم من النقائص و العيوب التي فيها ، و على الرغم من أنها ليست كفاء عظيم حق الله عليه .
و أما النوع الثاني : فيتمثل في فرحه بما يخيل إليه من القدرة التي يتمتع بها ، و قوة الإدارة التي أكسبته المضيّ فيها و الثبات عليها ، و التفوق بها على الأصحاب و الأقران الذين لا ينهضون ، أو لا يستطيعون النهوض بمثل عمله ، لا سيما عندما تكون الطاعة من الأعمال التي تتوقف على همّة عالية أو على دراية علمية منميزة أو على جرأة و إقدام و قدر كبير من المغامرة ضدّ المخاوف و الأخطار .
من الواضح أن الفرح الأول ، يزيد الطائع شعوراً بعبوديته لله ، و يزيده يقيناً بعجزه الكلي أمام عظيم تدبير الله و سلطانه ، و من ثم يزيده شكراً لله و شعوراً بعظيم منته عليه .. و من ثم يكون فرحه هذا مناط أجر إضافي يدّخره الله له بالإضافة إلى أجر الطاعة التي أداها له .
كما أن من الواضح أن الفرح الثاني لا يأتي إلا ثمرة لون من ألوان الشرك بالله عز و جل ، هيمن على كيان هذا الطائع و فكره . إذ إن هذا الفرح لا يطوف بنفسه إلا لغيابه عن معنى الكلمة القدسية التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و التي أمرنا أن نتشبع بمعناها و أن نكررها في كل مناسبة : (( لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم )) .
و ليس الشرك محصوراً في معناها السطحي المتمثل في عبادة الأصنام و ما سوى الله ، أو المتمثل في أن يتجه أحدنا بالدعاء إلى غير الله ، بل إن له معنى خفياً يتسرب بسبب خفائه إلى أفئدة و نفوس كثير من المسلمين دون معرفة له و لا شعور به ، و ذلك هو مصدر خطورته ، إذ لا يصادف عملاً صالحاً ، أو عبادة من العبادات ، أو نوعاً من أنواع الجهاد ، إلاّ أحبطه و أفقده قيمته و حوله من طاعة مبرورة إلى معصية و شرك . و صدق الله القائل : { و ما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ و هم مشركون } [ يوسف : 12 / 106 ] .
هذا الشرك الخفي ، هو أن يرى الإنسان من ذاته شيئاً ، هو مبعث القوة إن سار و تحرك ، أو مبعث الدراية و الفهم إن علّم أو تعلّم ، أو مبعث الملك و الغنى إن شبع و تنعّم ، أو مبعث الغلبة و القهر إن قدر و تحكّم .
هذه كلها أوهام تناقض الحقيقة التر ركب منها الإنسان ، و من ثم فهي تناقض التوحيد ، و تناقض حال من يزعم أنه موحّد ، من حملة هذه الأوهام ، مهما كرر و أعاد كلمة (( لا إله إلاّ الله )) .
إن كلمة قدسية واحدة تطير هذه الأوهام كلها ، ألا و هي (( لا حول و لا قوة إلا بالله )) .
و انظر الآن إلى الأثر الذي يتركه في نفسك كل من هاتين الفرحتين ، و إلى فرق ما بينهما .
عندما يستبد الفرح بنفسك للدافع الثاني - و لا أطيل في تكرير بيانه - لا بدّ أن يتكون من فرحك هذا نسيج يحجبك عن الله عز و جل ، و ينسيك قيوميته على ذاتك ، و يقصيك عن الشعور بتفضله و منته عليك . و عندئذ لا بدّ أن يتحول فرحك هذا إلى اعتداد وزهو بالنفس ، ثم إلى عجب و تسام على الأصحاب و الأقران ، ثم إلى يقين بأنك قد ضمنت لنفسك الأجر الذي تستحقه ، و إلى أمْنِِ من مكر الله بك و مواجهته لك بما لا تتوقع من وقائع انحرافاتك و تقصيرك في حقه !..
و عليك أن تعلم كيف أن سلسلة هذه النتائج المترابطة ، تقف من حقيقة عبوديتك لله موقف النقيض من النقيض .. و ليت شعري أسترحل غداً إلى الله معرضاً عن عبوديتك هذه اللاصقة بك ، حاملاً معك إليه سلسلة هذه النتائج و الأوهام ؟ إذن فأغلب الظن أنك تتوقع أن تكون أنت المحاسب له ، و لن يخطر منك على بال أن يكون هو، جل جلاله ، المحاسب لك!!.
أما عندما يطوف بنفسك الفرح للدافع الأول ، فلسوف يكون أثراً لشعورك بعظيم فضل الله و منته عليك ، و لسوف يحملك هذا الفرح على أن تضاعف من طاعتك له و برّك به ، شكراً له على أن جعلك موضع عنايته و توفيقه ، و أن وجه عقلك إلى معرفته ، و شرح صدرك للإيمان به و الدينوية لحكمه ، و أقدرك و نشّط أعضاءك للسعي إلى تنفيذ أوامره و النهوض بطاعاته ، و شرّفك بالمثول بين يديه و التوجه بالخطاب إليه ، و أعطاك .. ثم أثابك على الإنفاق .. فإذا لهج لسانك بالشكر له ، و أنطقت جوارحك و أعضاءك ، كلاً منها ، بمثل ذلك الشكر ، رجعت بأثقال أخرى من منن الله و عظيم فضله عليك . إذ تعلم أنه هو الذي أشعرك بوجوب شكره و أوحى إليك أن جزاء الإحسان ليس إلاّ الإحسان ، و هذبك بمشاعر هذا الذوق الإنساني الجميل ، ثم أقدرك على سلوك مسالك الشكر له بأنواعه المختلفة ، فرأيت على أعقاب ذلك أن شكرك لله عز و جل يحتاج إلى شكر آخر له أن يسّر لك السبيل إلى شكره و هذّبك بالذوق الذي أدركت به أن الإحسان الذي يفد من الله إلى العبد ، يجب أن يقابل بإحسان يصعد إلى الله من البعد . و لكن هيهات أن يعلو من العبد إلى الله إحسان إلاّ بفضل و توفيق من الله وحده .
إذن فالمحسن في كل الأحوال هو الله ، و المتفضل في كل التقلبات هو الله .. و العبد لا يملك أكثر من الاعتراف بهذا الفضل ، فإن زاد على ذلك ، فهو الافتقار إلى صفح الله و عفوه عن تقصيره .
و معنى توحيد العبد لربه ، لا يتجلى ( بعد التحلي بأركان الإسلام و الإيمان ) بأجلى من هذه المشاعر و التحلي بإدراك هذه الحقائق . كما أن معنى عبودية الإنسان لله يتحقق بأدق من هذه المعاني إذ تهيمن على عقله ثم وجدانه .
ثم إن صاحب هذه الحال الثانية ، لا يفضل نفسه على أحد من عباد الله المؤمنين به قط .. إذ هو يعلم أن مناط التفضيل عناية الله و ستره و جميل صفحه ، لا مظاهر جهود العبد و عباداته و سعيه .. و هو لا يعلم من هم الذين شاء الله تعالى أن يكونوا تحت جناح لطفه ، و أن يذيقهم برد إحسانه و إكرامه .. ما دام مقياس السعي الذاتي غائباً في هذا عن الإعتبار.
و لا تنس حديث رسول الله الذي ذكرتك به ، و الذي يقول فيه : (( لن يدخل الجنة أحداً عملُه الجنة ..)) إلى آخر الحديث.
و ما وقفت على ترحمة أي من العلماء الربانيين المشهود لهم بالإستقامة على الشرع ، و الاصطباغ بحقائق العبودية لله عز و جل ، إلا و يلغي طاعاته و قرباته مهما عظمت و كثرت و تنوعت عن الاعتبار ، و يرى أنه مثقل بالمنن التي لم يؤد إلى الله حقوقها ، و بالتبعات الكثيرة التي ينتظر بها مغفرة الله و صفحه .. ثم إنه ينظر إلى الناس من حوله ، فلا يشك أنه أسوؤهم و أنهم جميعاً خير منه . إذ هو يعلم طوايا نفسه و يطلع على ما انطوت عليه من سوء ، في حين أن الناس لا يرون منه إلا الظاهر ، و لا يرى هو الآخر منهم إلا الظاهر .
انظر ، و تأمل في هذه الكلمات التي يقولها الإمام الرباني الشيخ أحمد الرفاعي قدس الله سره : (( أي سادة : أنا لست بشيخ ، لست بمقدم على الجمع ، لست بواعظ ، لست بمعلّم .. حُشرتُ مع فرعون و هامان إن خطر لي أني شيخ على أحد من خلق الله ، إلا أن يتغمدني الله برحمته ، فأكون كآحاد المسلمين .. كل الفقراء و رجال هذه الطائفة خير مني . أنا أحيمد اللاش ، أنا لاش اللاش )) .. ثم يقول : (( أي أخي : أخاف عليك من الفرح بالكرامة و إظهارها . الأولياء يستترون من الكرامة ، كاستتار المرأة من دم الحيض )) .
و رأيت في ترجمة سيّدي الشيخ عبد القادر الجيلاني ، قدس الله روحه أنه رؤي ملتصقاً بالملتزم من الكعبة المشرفة ، و هو يناجي الله قائلاً : أي رب قضيت عليّ بأن لا تغفر لي زلاّتي الكثيرة يوم القيامة ، فاحشرني ذلك اليوم أعمى ، حتى لا أبصر أحداً من عبادك المغترين بي اليوم !..
فمن أي الفريقين تحب أن تكون ؟ و بأي الفرحتين تودّ أن ترحل إلى الله عز و جل و أن تقف بين يديه ؟
أعلى استعداد أنت أن تحمل إليه عز و جل دفاتر حساباتك ، فتعرض له ركعاتك التي ركعتها ، و قراءاتك التي قرأتها ، و صدقاتك التي أديتها ، و قرباتك التي قمت بها ، لتطلب منه لقاءها الأجر الذي تستحقه و الجنة التي وعدك بها ؟!.. ماذا ستجيبه إن قال لك : من أقدرك على ذلك كله ؟ و من الذي شرح صدرك له و ألهمك ما ألهمك من ذكره و دعائه و سائر طاعاته و قرباته ؟.. من الذي حبب إليك الإيمان و زينه في قلبك و كره إليك الكفر و الفسوق و العصيان ؟.. من الذي أقدرك على التجافي عن المضجع ، و جذبك إلى الوقوف بين يديه ، ثم الركوع فالسجود على أعتابه ؟ ألا تستحي من ذل عبوديتك و تمام مملوكيتك له ، إن أنت طالبته عز و جل بحقوق جهد هو مانحه لك ، و أعمال هو خالقها فيه ، و صدقات هو معطيها لك ؟!
إنك لتعلم يا أخي أنك أهون من أن تستعدّ لشيئ من هذا غداً يوم القيامة .
إذن ، فحدد منهاج رحلتك إلى الله من الآن .. كن عبداً لله في رحلتك إليه كما خلقك عبداً في واقعك الاضطراري ، كن عبداً له في الاستجابة لكل ما أمر و طلب .. ثم كن عبداً له في تبرئك من كل حول و قوة إلى حوله و قوته ..
توجه إلى الله ، بكل شراشرك ، للنهوض بكل ما يطالبك به ، فإذ قمت بما وفقك إليه من ذلك , فسجّل ذلك نعمة جديدة أنعم الله بها عليك ، و حمّل نفسك مسؤولية شكرها ، و طالب كيانك بواجب النهوض بحقها ..
و إذا ختمت حياتك على هذا المنوال ، فلسوف تعلم أنك تخرج من الدنيا فارغ اليدين إلا من الأمل برحمته و التعلق بجوده و مغفرته .. ثم إذا قمت غداً مع الناس لرب العالمين ، و أوقفت بين يديه ، فلن تشعر إلا بثقل المنن الإلهية قد تراكمت عليك ، و لسوف تجد نفسك أفقر من أن تقدم إليه بضاعة تملكها ، أو قربة أنت صاحبها ..
فإذا سألك : بم جئت إليّ ؟ سابقتك عبوديتك التي لازمتها و لا زمتك طوال رحلتك في فجاج الحياة الدنيا ، فأجابت على لسانك مدافعة عنك : أنا عبد ذليل و مملوك فقير ، أنى لي أن أمتلك شيئاً ، فآتيك به ، إنما جئت إليك اليوم ، كما كنت في الدنيا بالأمس ، بمسألتي لك و فقري إليك ، انتظر ما عودتني عليه من العطاء ، و أتأمل ما قد وعدتني به من جميل الصفح و المغفرة ، جئتك كما كنت في الدنيا : فقيراً سائلاً ، لا أملك إلا الرجاء بإحسانك و جودك .
لعلك تقول الآن مستشلاً : إذن ، فالإنسان مسير في سائر قربائه و أعماله .. إذ كما يصدق أن يقال : إن الفضل لله الذي وفق العبد لطاعته و شرح صدره لاتباع أوامره ، و أقدره على تنفيذها و أدائها على وجه المطلوب ، ينبغي أن يصدق القول بأن المسؤول عن الذنب هو الله الذي وجه عبده الآخر إليه ، و شرح صدره له ، و أخضع قدرته لممارسته و ارتكابه .. و إذن ، يغيب موجب الثواب و العقاب تحت سلطان هذا القسر الذي لا يملك العبد أمامه من أمر نفسه شيئاً .
و الجواب أن مناط الثواب في الطاعات و المعاصي التي تصدر من الإنسان ، لا يتمثل في في أعماله المادية التي تصدر منه ، و إنما في قصده إلى الفعل و توجهه القلبي إليه .
إذ الأعمال المادية ، بل المقومات المادية و المعنوية لفعل ما ، سواء منها الموجودة في كيان الإنسان أو المبثوثة من حوله ، كل ذلك بخلق الله عز و جل ، و ذلك بنص صريح واضح من قوله تعالى : { الله خالق كلِّ شيئ } [ الرعد : 13 / 16 ] . و الأعمال التي تصدر منها داخله في عموم الأشياء .
غير أن من الواضح أن تكامل المقومات المادية لفعل الإنسان ، لا يعني ولادة الفعل و وجوده على صعيد الواقع.
ذلك لأن ولادته تتوقف على انبعاث القصد إلى استخدام هذه المقومات لإيجاد الفعل و تنفذه ، و بوسعك أن تسمي هذا الإنبعاث عزماً أو توجهاً أو اختياراً أو صرفاً للقدرة إلى الفعل المطلوب .
فإذا اتجه قصد الإنسان إلى صرف قدرته للقيام بفعل ما ، و عزم على ذلك ، أخضع الله له مقومات الفعل الذي عزم عليه ، و أجرى ذلك الفعل على يديه . إذن فالله هو الذي خلق فعل الإنسان ، استجابةً لقصده و ما توجه إليه عزمه .
و لذا ذهب أهل السنة و الجماعة إلى أن الثواب و العقاب لا يكونان على الفعل المادي الصادر من الإنسان ، لأنه بخلق الله و بقدرته التي أمدّ و أكرم بها عبده ، و إنما يكونان على عزمه الذي توجه بالقصد إلى الطاعة او إلى المعصية .
و لعلك تقول : إن الله يقول : { و خلق كلَّ شيئِِ فقدَّره تقديراً } [ الفرقان : 25 / 2 ] . و الشيئ في أصح ما عرّفه به العلماء ، هو الموجود ، و القصد الذي يتمتع به الإنسان في تصرفاته الاختيارية موجود يقيناً إذن فهو الآخر لا يتم إلا بخلق الله .
و الجواب : أن قصد الإنسان إذ يتوجه منه إلى عمل ما ، جزئية تطبيقه يمارسها الإنسان ، استناداً إلى حقيقة كلية ، تتمثل في ملكية وهبها الله للإنسان و متعه بها ، نسميها : القدرة على اتخاذ القرار ، أو التمتع بحرية الاختيار ..
فهذه الملكة أو الطاقة الكلية ، إنما أورثك الله إياها و متعك بها ، فهي بلا شك من خلق الله و إيجاده . إنما الجديد الذي ينسب إليك هو ممارستك لهذه الملكة إذ تتوجه بها إلى العزم على فعل مّا .
إذن فملكة الاختيار بمعناها الكلي ( أي من حيث هي مجرد قابلية كامنة لديك ) مخلوقة من الله عز و جل ، و تعليقها التطبيقي بجزئيات الأفعال و التصرفات ، من ممارساتك المنسوبة إليك ، و هي حالة اعتبارية ، لا يصح أن يقال إن الله خلقها خلقاً مستقلاً عن الملكية الكلية التي تفضل عليك و متعك بها .
إذن فَخلق الله الأفعال الصادرة منك لا تعني أنه قد جعلك بذلك مكرهاً على صدورها منك ، شيت أم أبيت ، إذ إنه جعل خلقه لها تابعاً لما قد توجه إليه قصدك و عزمك ، من الأفعال و التصرفات التي يقع اختيارك عليها . و إنما الثواب و العقاب على هذا العزم الصادر منك ، و هو ما يعبر عنه القرآن بالكسب ، في مثل قوله تعالى : { كُلُّ نفسِِ بما كسبت رهينةُُ } [ المدثر : 74 / 38 ] .
لعلك تقول : فلماذا لا أفرح إذن لبروز الطاعات مني ، ما دام الثواب على القصد ، و ما دام القصد صادراً مني و عائداً إلي ؟
و الجواب أن توجهك بالقصد الذي متعك الله بملكته ، إلى جزئيات التصرفات و الأفعال ، صادر منك حقاً ، كما قد أوضحت قبل قليل ، و لكن فلتعلم أن قصودك المتجة إلى الطاعات و العمال الصالحة ، تأتي استجابة للفطرة الإيمانية التي فطر الله عباده عليها ، و التي حدثنا عنها بيان الله تعالى بقوله : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها } [ الروم : 30 / 30 ] .
إذن ، فالله هو المتفضل على عباده إذ وجههم إلى شرف الإيمان به و الخضوع له ، بالفطرة و التكوين ، قبل أن يأمرهم بذلك بالخطاب و التشريع .
صحيح أن أحدنا يستجيب ، فيما ينهض به من شؤون و أعمال ، لعزائمه القلبية ، و قراراته الإختيارية ، و لكن عزائمنا و قراراتنا هذه تأتي في الغالب إستجابة بالفطرة الإيمانية التي فطرنا مولانا و خالقنا عليها .
و إنما قلت : غالباً ، احترازاً عن الذين أيقظوا بين جوانحهم طبيعة الأنانية و الإستكبار ، ثم ركنوا إلى هذه الطبيعة و تعاملوا معها .. فهؤلاء حجبوا أنفسهم عن نداء الفطرة بالركون إلى العتو و الإستكبار .
و قد علمت مما قد ذكرته لك من قبل أن المعاصي مهما كثرت لا تحجب صاحبها ، بحد ذاتها ، عن التعرض لكرم الله و صفحه ، بل ربما دفعته إلى الإلتجاء إليه و الإنكسار بين يديه و الإستغفار مما قد بَدر منه .. و لكن الإستكبار هو الذي يحجب صاحبه عن التعرض لعفو الله و مغفرته ، و من ثم فإن من شأنه أن يسدل حجباً كثيفة بينه و بين نوازع الفطرة الإيمانية المغروسة في كيانه ، منذ أولى مراحل الخلق ، و أذكرك في هذا بقوله تعالى :
{ إن الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها لا تُفتح لهم أبواب السماء و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط } [ الاعراف : 7 / 40 ] .
إذن ، فالفضل كله في هداية العبد و توفيقه و التوجيه بالإنقياد إلى مولاه إنما هو لمولاه عز و جل .. فطره على هذا التوجه ، ثم أمره به و أعانه عليه .
و مسؤولية الشرود عن الهداية و الإنصراف عن أوامر الله عز و جل ، تعود إلى العبد الذي شرد و إنصرف عن سبيل الهداية ، بما أصّر على الركون إليه من الإستكبار على الله و تجاهل وقوع عبوديته لله .
و قد كان بوسعه أن لا ينحرف إلى الإستكبار الذي لن يكون الإنسان يوماً ما أهلاً له ، لو أنه التجأ إلى فطرة عبوديته لله و إستئناسه بخطاب الله و الحنين إلى التذلل لسلطانه و الرغبة في الإنقياد لحكمه ، أو لو حكّم في التعامل مع هذا الداء عقله .
و حصيلة هذا كله ، أنك مدعوُّ إلى أن تستجيب لنوازع فطرتك التي غرسها الله في كيانك ، مستعيناً بالقدرة التي متعك الله بها ، فتنقاد لأحكامه و تستجيب لتعاليمه ، ثم تعلق آمالك كلها برحمة الله و بفضله .
إذ هو بفضله و رحمته فطرك على حنين الإقبال عليه و التعرف إليه ، و بفضله و رحمته أقدرك على خطوات سيرك إليه ، و بفضله و رحمته يجعلك يوم القيامة من المقبولين لديه ..
إذن فاجعل ذلك وحده مصدر سرورك و فرجتك ، و صدق الله القائل : { قُلْ بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير ممّا يجمعون } [ يونس : 10 / 58 ] .
الللهم اجعلنا من عبادك المخلصين
ردحذف