عدد المشاهدات:
ولما كان الذكر هو سبب حياة القلب وتركه سبب موته ، وفي الحديث :"مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت". قال رضي الله عنه :
( مِنْ عَلاماتِ مَوْتِ القَلْبِ عَدَمُ الحُزْنِ عَلَى ما فاتَكَ مِنَ المُوافَقاتِ. وتَرْكُ النَّدَمِ عَلَى ما فَعَلْتَهُ مِنْ وُجودِ الزَّلّاتِ ).
موت القلب سببه ثلاثة أشياء : حب الدنيا ، والغفلة عن ذكر الله ، وإرسال الجوارح في معاصي الله ، وسبب حياته ثلاثة أشياء : الزهد في الدنيا ، والأشتغال بذكر الله ، وصحبة أولياء الله ، وعلامة موته ثلاثة أشياء : عدم الحزن على ما فات من الطابعات ، وترك الندم على ما فعلت من الزلات ، وصحبتك للغافلين الأموات ، وذلك لأن صدور الطاعة من العبد عنوان السعادة ، وصدور المعصية علامة الشقاوة ، فإن كان القلب حياً بالمعرفة والإيمان آلمه ما يوجب شقاوته ، وأفرحه ما يوجب سعادته ، أو تقول صدور الطاعة من العبد علامة على رضي مولاه ، وصدور المعصية علامة على غضبه ، فالقلب الحي يحس بما يرضيه عند مولاه فيفرح ، وما يسخطه عليه فيحزن ، والقلب الميت لا يحس بشيء قد أستوى عنده وجود الطاعة والمعصية ، لا يفرح بطاعة وموافقة ولا يحزن على زلة ولا معصية ، كما هو شأن الميت في الحس . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ومَن سرَّته حسنته وساءَتْه سيئته فهو مؤمن) . لكن لا ينبغي للعبد أن يغلب النظر إلى جانب الذنب فيقل رجاؤه ويسئ الظن بسيده كما أشار إليه بقوله :
(لا يَعْظُمِ الذَنْبُ عِنْدَكَ عَظَمَةً تَصُدُّكَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ باللهِ تَعالى).
الناس في الخوف والرجا على ثلاثة أقسام : أهل البداية ينبغي لهم تغليب جانب الخوف ، وأهل الوسط ينبغي لهم أن يعتدل خوفهم ورجاؤهم ، وأهل النهاية يغلبون جانب الرجاء . أما أهل البداية فلأنهم إذا غلبوا جانب الخوف جدوا في العمل وأنكفوا عن الزلل ، فبذلك تشرق نهايتهم "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" وأما أهل الوسط فلأنهم قد أنتقلت عبادتهم إلى تصفية بواطنهم فعبادتهم قلبية ، فلو غلبوا جانب الخوف لرجعوا إلى عبادة الجوارح ، والمطلوب منهم عبادة البواطن على رجاء الوصول وخوف القطيعة ، فيعتدل خوفهم ورجاؤهم ، وأما الواصلون فلا يرون لأنفسهم فعلاً ولا تركا ، فهم ينظرون إلى تصريف الحق وما يجري به سابق القدر ، فيتلقونه بالقبول والرضا ، فإن كان طاعة شكروا وشهدوا منة الله ، وإن كان معصية أعتذروا وتأدبوا ، ولم يقفوا مع أنفسهم إذ لا وجود لها عندهم وإنما ينظرون إلى ما يبرز من عنصر القدرة ، فنظرهم إلى حلمه وعفوه وإحسانه وبره أكثر من نظرهم إلى بطشه وقهره . قال تعالى : "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :" العامة إذا خوفوا خافوا ، وإذا رجوا رجوا ، والخاصة متى خوفوا رجوا ، ومتى رجوا خافوا . قال في لطائف المنن :" ومعنى كلام الشيخ هذا ، أن العامة واقفون مع ظواهر الأمر فإذا خوفوا خافوا إذ ليس لهم نفوذ إلى ما وراء العبارة بنور الفهم كما لأهل الله ، وأهل الله إذا خوفوا رجوا عالمين أن من وراء خوفهم وما خوفوا به أوصاف المرجو الذي لا ينبغي أن يقنط من رحمته ولا أن ييئس من منته ، فاحتالوا على أوصاف كرمه علماً منهم ما خوفهم إلا ليجمعهم عليه وليردهم بذلك إليه ، وإذا رجوا يخافون غيب مشيئته الذي هو من وراء رجائهم ، وخافوا أن يكون ما ظهر من الرجاء أختباراً لعقولهم،هل تقف مع الرجاء أو تنفذ إلى ما بطن في مشيئته ، فلذلك أثار الرجاء خوفهم ".
دخل الجنيد رضي الله عنه على شيخه السري فوجده مقبوضاً فقال له : "مالك أيها الشيخ مقبوضاً ؟ فقال: " دخل علي شاب فقال لي :ما حقيقة التوبة ؟ فقلت له : أن لا تنسي ذنبك ، فقال الشاب : بل التوبة أن تنسي ذنبك ، ثم خرج عني ، قال الجنيد : فقلت الصواب ما قاله الشاب لأني إذا كنتُ في حالة الجفاء ثم نقلني إلى شهود الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء ّ".
(فإنَّ مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ اسْتَصْغَرَ في جَنْبِ كَرَمِهِ ذَنْبَهُ).
بل من عرف ربه غاب عن رؤية ذنبه لفنائه عن نفسه بشهود ربه ، فإن صدر منه فعل يخالف الحكمة غلب عليه شهود النعمة ، قال تعالى : "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم " وأما قوله تعالى :" وأن عذابي هو العذاب الأليم " فإنما هو لمن لم يتب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو أذنبتم حتى تبلغ خطاياً كم عنان السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم ولو أن العباد لم يذنبو لذهب الله بهم ثم جاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم وهو الغفور الرحيم والله أفرح بتوبة عبده من الظمآن الوارد ومن العقيم الوالد ومن الضال الواحد " لكن لا ينبغي أن يصغر عنده ذنبه حتى يغتر بحلم الله ، وقال الجنيد رضي الله عنه :"إذا بدت عين من الكريم ألحقت المسيء بالمحسن "وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في حزبه : "إلهي معصيتك نادتني بالطاعة ، وطاعتك نادتني بالمعصية ، ففي أيهما أخافك وفي أيهما أرجوك ؟ إن قلت بالمعصية ، قابلتني بفضلك فلم تدع لي خوفا ، وإن قلت بالطاعة ، قابلتني بعدلك فلم تدع لي رجاء ، فليت شعري كيف أرى إحساني مع إحسانك ؟ ! أم كيف أجهل فضلك مع عصيانك ؟ " ومعنى كلام الشيخ رضي الله عنه : أن العبد إذا كان في المعصية شهد قهرية الحق وعظمته وضعف نفسه وعجزه ، اكتسب من المعصية انكساراً وذلاً لنفسه وتعظيماً وإجلالاً لربه ، وهذا أفضل الطابعات ، فقد نادته معصيته التي هو فيها بالطاعة التي يجتنيها منها ، وإذا كان في الطاعة ربما شهد فيها نفسه وقصد متعته وحظه فأشرك بربه وأخل بأدبه وهذه معصية ، فإذا كان في الطاعة نادته بهذه المعصية التي يجتنيها منها فلا يدري من أيهما يخاف وأيهما يرجو ، وقوله : إن قلت بالمعصية... إلخ أي : إن نظرت إلى صورة المعصية قابلتني بفضلك ، فامتحي أسمها واندرس رسمها ، وإن نظرت إلى صورة الطاعة قابلتني بعدلك فاضمحلت وأمتحت وبقي محض الرجاء من الكريم الوهاب الذي يعطي بلا سبب ويغطي بحلمه المناقشة والعتاب والله تعالى أعلم .
فتحصل أن العارف لا يقف مع معصية وأن جلت ولا مع طاعة وأن عظمت وهو معنى قوله :
(لا صَغيرَةَ إِذا قابَلَكَ عَدْلُهُ. وَلا كَبيرَةَ إِذا واجَهَكَ فَضْلُهُ).
الصغيرة هي الجريمة التي لا وعيد فيها من القرآن ولا من الحديث ، والكبيرة هي التي توعد عليها بالعذاب أو الحد في القرآن أو في السنة ، وقيل غير ذلك هذا كله بالنظر لظاهر الأمر ، وأما بإعتبار ما عند الله من أمر غيبه وبالنظر إلى حلمه وعدله فقد يبرز خلاف ما يظن قال تعالى : "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " فمن سبقت له العناية لا تضره الجناية ، " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " وإن كانت الأعمال علامات فقد تختلف في بعض المقامات ، فوجب استواء الرجاء والخوف في بعض المقامات والتسليم لله في كل الأوقات ، إذ قد تمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته ، فإذا قابلك الحق سبحانه وتعالى بعدله وجلاله لم تبق لك صغيرة وعادت صغائرك كبائر ، وإذا واجهك الحق تعالى بفضله وكرمه وإحسانه وجماله لم تبق لك كبيرة وعادت كبائرك صغائر ، قال يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه :" إذا أنالهم فضله لم تبق لهم سيئة ، وإذا وضع عليهم عدله لم تبق لهم حسنة " ولما ذكر رضي الله عنه علامة موت القلب ذكر الأعمال التي توجب حياته فقال :
(لا عَمَلَ أَرْجى لِلْقُلوبِ مِنْ عَمَلٍ يَغيبُ عَنْكَ شُهودُهُ ويُحْتَقَرُ عِنْدَك وُجودُهُ).
يعني أنه لا عمل أرجي لحياة القلوب من عمل يكون بالله ولله ، غائباً فيه عما سواه ، غير ملاحظ فيه حظوظه وهواه ، متبرءاً فيه من حوله وقواه ، فإذا أظهرته عليه القدرة غاب عن شهوده ، وصغر في عينه صورة وجوده لما تجلى في قلبه من عظمة مولاه فصغر عنده كل ما سواه ، فمثل هذا العمل تحيي به القلوب وتحظي بمشاهدة علام الغيوب ، وهو روح اليقين وهو حياة قلوب العارفين ، فإذا أراد الله أن يتولى عبده أنهضه للعمل وصغره في عينه ، فلا يزال جاداً في عمل الجوارح حتى ينقله إلى عمل القلوب فتستريح الجوارح من التعب ولا يبقي إلا شهود العظمة مع الأدب ، قال النهر جوري رحمه الله :" من علامات من تولاه الله في أحواله ، أن يشهد التقصير في إخلاصه ، والغفلة في أذكاره ، والنقصان في صدقه ، والفتور في مجاهدته ، وقلة المراعاة في فقره ، فتكون جميع أحواله عنده مرضية ، ويزداد فقراً إلى الله في قصده وسيره ، حتي يغنى عن كل شيء دونه ".
وإذا حيي القلب بمعرفة الله كان محلاً لتجلي الواردات الألهية ، وإلى ذلك أشار بقوله :"
(إنَّما أَوْرَدَ عَلَيْكَ الوارِدَ لِتَكونَ بِهِ عَلَيْهِ وارِداً).
الوارد نور إلهي يقذفه الله في قلب من أحب من عباده ، وهو على ثلاثة أقسام ، على حسب البداية والوسط والنهاية . أو تقول على حسب الطالبين والسائرين والواصلين .
القسم الأول : وارد االإنتباه ، وهو نور يخرجك من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة ، وهو لأهل البداية من الطالبين ، فإذا تيقظ من نومه وانتبه من غفلته استوى على قدمه طالباً لربه ، فيقبل عليه بقلبه وبقالبه ، وينجمع عليه بكليته .
القسم الثاني : وارد الأقبال ، وهو نور يقذفه الله في قلب عبده فيحركه لذكر مولاه ويغيبه عما سواه ، فلا يزال مشتغلاً بذكره غائباً عن غيره حتى يمتلأ القلب بالنور ويغيب عما سوى المذكور ، فلا يرى إلا النور فيخرج من سجن الأغيار ويتحرر من رق الآثار .
القسم الثالث : وارد الوصال ، وهو نور يستولي على قلب العبد ، ثم يستولي على ظاهره وباطنه ، فيخرجه من سجن نفسه ويغيبه عن شهود حسه . وقد أشار إلى القسم الأول وهو وارد الأنتباه بقوله : إنما أورد عليك... إلخ أي : إنما أشرق عليك نور اليقظة والإنتباه ، وهو الوارد لتكون بسببه وارداً عليه وسائراً إليه ، ولو لم يورد عليك هذا الوارد لبقيت في وطن غفلتك ، نائماً في سكرتك دائماً في حسرتك ، ثم أشار إلى القسم الثاني وهو وارد الأقبال ، فقال : أورد عليك الوارد ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار أي : إنما أورد عليك وارد الإقبال ليؤنسك بذكر الكبير المتعال ، فإذا اشتغلت بذكره وغبت عن غيره تسلمك ، أي أنقذك من يد لصوص الأغيار بعد أن شدوا أوثاقك بحبل هواك ، وسجنوك في سجن حظوظك ومناك ، وليحررك ويعتقك أيضاً من رق الآثار بعد أن ملكتك بما أظهرته لك من زخرف الإغترار ، فإذا تسلمت من بد الأغيار أفضيت إلى شهود الأنوار ، وإذا تحررت من رق الآثار ترقيت إلى شهود الأسرار، فالأنوار أنوار الصفات والأسرار أسرار الذات ، فالأنوار لأهل الفناء في الصفات والأسرار لأهل الفناء في الذات . ثم أشار إلى القسم الثالث وهو وارد الوصال فقال : أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك ، أي إنما أورد عليك وارد الوصال بعد أن أهب عليك نفحات الإقبال ، ليخرجك من سجن رؤية وجودك إلى فضاء أي اتساع شهودك لربك ، فرؤيتك وجودك مانعة لك من شهود ربك ، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه ، وجودك ذنب لا يقاس به ذنب. فالفناء عن النفس وزوالها أصعب من الفناء عن الكون وهدمه ، فمهما زالت النفس وهدمت انهدم الكون ولم يبق له أثر ، وقد يهدم الكون وتبقي في النفس بقية ، فلذلك قدم الشيخ رق الأكوان على سجن وجود الأنسان والله تعالى أعلم .
ثم فسر تلك الواردات فقال :
(الأنْوارُ مَطايا القُلوبِ وَالأَسْرارِ).
النور نكتة تقع في قلب العبد من معنى أسم أو صفة ، يسري معناها في كليته حتى يبصر الحق والباطل أبصاراً ، لا يمكنه التخلف معه عن موجبه . والمطايا جمع مطية ، وهي الناقة المهيئة للركوب ، والقلوب جمع قلب وهو الحقيقة القابلة للمفهومات والأسرار جمع سر ، وهو الحقيقة القابلة للتجليات ، والسر أدق وأصفي من القلب ، والكل إسم للروح ، فإن الروح ما دامت متظلمة بالمعاصي والذنوب والشهوات والعيوب سميت نفساً ، فإذا انزجرت وانعقلت اأنعقال البعير سميت عقلاً ، فما زالت تتقلب في الغفلة والحضور سميت قلباً ، فإذا اطمأنت وسكنت واستراحت من تعب البشرية سميت روحاً ، فإذا تصفت من غبش الحس سميت سراً لكونها صارت سراً من أسرار الله حين رجعت إلى أصلها وهو سر الجبروت . فإذا أراد الله تعالى أن يوصل عبده إلى حضرة قدسه ويحمله إلى محل أنسه ، أمده بواردات الأنوار كالمطايا ، فيحمل عليها في محفة العناية مروحاً عليه بنسيم الهداية محفوفاً بنصرة الرعاية ، فترحل الروح من عوالم البشرية إلى عوالم الروحانية حتى تصير سراً من أسرار الله لا يعلمها إلا الله (قل الروح من أمر ربي) فالأنوار التي هي الواردات مطايا القلوب تحملها إلى حضرة علام الغيوب ، وهي أيضاً مطايا الأسرار تحملها إلى جبروت العزيز الجبار فالسلوك هداية والجذب عناية ، فوارد الانتباه والإقبال حمله سلوك ووارد الوصال حمله جذب ، فالأنوار التي هي مطايا القلوب تحملهم على وجهة السلوك إلا أنهم محمولون فيه بحلاوة نور الإنتباه والإقبال ، فصار سلوكهم كأنه جذب .
وأما الأنوار التي تحملهم على مطايا الأسرار ، فإنها تحملهم على جهة الجذب ممزوجاً بسلوك فيكونون بين جذب وسلوك ، وهذا الحمل أعظم والله تعالى أعلم .
ثم بين كيفية السير على هذه المطايا وما يعوقها عن السير :
(النّورُ جُنْدُ القَلْبِ، كَما أَنَّ الظُلْمَةَ جُنْدُ النَفْسِ. فإذا أرادَ اللهُ أنْ يَنْصُرَ عَبْدَهُ أَمَدَّهُ بِجُنودِ الأَنْوارِ وَقَطَعَ عَنْهُ مَدَدَ الظُلَمِ وَالأَغْيارِ).
الظلمة نكتة تقع من الهوى في النفس عن عوارض الوهم فتوجب العمى عن الحق ، لتمكن الباطل من الحقيقة ، فيأتي العبد ويذر على غير بصيرة . قد تقدم أن النفس والعقل والقلب والروح والسر أسماء لمسمى واحد وهو اللطيفة الربانية النورانية المودعة في هذا القالب الجسماني الظلماني ، وإنما اختلفت أسماؤها باختلاف أحوالها وتنقل أطوارها ، ومثال ذلك كماء المطر النازل في أصل الشجر ثم يصعد في فروعها فيظهر ورقاً ثم نوراً وأزهاراً ، ثم يعقد ثمرة ثم ينمو حتى يكمل ، فالماء واحد واختلفت أسماؤه باختلاف أطواره ، فعلى هذا يكون تقابل القلب مع النفس بالمحاربة كناية عن صعوبة أنتقال الروح من وطن الظلمة التي هي محل النفس إلى وطن النور الذي هو القلب وما بعده ، فالقلب يحاربها لينقلها إلى أصلها ، وهي تتقاعد وتسقط إلى أرض البشرية وشهواتها ، فالقلب له أنوار الواردات تقربه وتنصره حتى يترقي إلى الحضرة التي هي أصله وفيها كان وطنه ، وكأنها جنود له من حيث أنه يتقوى بها وينتصر على ظلمة النفس.
ولما كان النور هو جند القلب لأنه يكشف عن حقائق الأشياء ، فيتميز الحق من الباطل فيحق الحق ويبطل الباطل ، فينتصر القلب بإقباله على الحق على بينة واضحة وتنهزم النفس بانهزام جند ظلماتها ، إذ لابقاء للظلمة مع وضوح النور كما أشار إلى ذلك بقوله :
(النورُ له الكشفُ ، والبصيرةُ لها الحكمُ ، والقلبُ له الإقبال والإدبار).
النور من حيث هو من شأنه أن يكشف الأمور ويوضحها حتى حسنها من قبيحها ، ومن شأن البصيرة المفتوحة أن تحكم على الحسن بحسنه وعلى القبيح بقبحه ، والقلب يقبل على ما يثبت حسنه ويدبر عن ما يثبت قبحه أو تقول يقبل على ما فيه نفعه ويدبر عما فيه ضرره ، ومثال ذلك رجل دخل بيتاً مظلماً فيه عقارب وحيات وفيه سبائك ذهب وفضة ، فلا يدري ما يأخذ ولا ما يذر ولا ما فيه نفع ولا ضرر فإذا أدخل فيه مصباحاً رأى ما ينفعه وما يضره ، وما يأمنه وما يحذره ، كذلك قلب المؤمن العاصي لا يفرق بين مرارة المعصية وحلاوة الطاعة ، فإذا استضاء بنور التقوى عرف ما يضره وما ينفعه ، وفرق بين الحق والباطل ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً " أي نوراً يفرق بين الحق والباطل ، وقال تعالى :" أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس" وقال تعالى :" أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه "وهذا النور الذي يكشف الأمور هو نور الواردات المتقدمة الذي هو مطايا القلوب إلى علام الغيوب ، أولها نور وارد الإنتباه ومن شأنه أن يكشف ظلمة الغفلة ، ويظهر نور اليقظة ، فتحكم البصيرة بقبح الغفلة وحسن اليقظة ، فيقبل القلب حينئذ على ذكر ربه ، ويدبر عما يغفله عن ربه ، وهذا هو نور الطالبين . الثاني نور وارد الأقبال ، ومن شأنه أن يكشف ظلمة الأغيار ويظهر بهجة المعارف والأسرار فتحكم البصيرة بضرر الأغيار وحسن الأسرار فيقبل القلب على بهجة الأسرار ، ويدبر عن ظلمة الأغيار ، وهذا هو نور السائرين . الثالث نور وارد الوصال ومن شأنه أن يكشف ظلمة الكون ورداء الصون ، ويظهر نور تجليات المكون فيقبل القلب على مشاهدة مولاه ، ويدبر عن الالتفات إلى ما سواه ، وهذا هو نور الواصلين وهو نور المواجهة ونور ما قبله نور التوجه .
وإن شئت قلت هو نور الإسلام والإيمان والإحسان ، فنور الإسلام يكشف ظلمة الكفر والعصيان ويظهر نور الإنقياد والإذعان ، فتحكم البصيرة بقبح الكفر والعصيان وحسن نور الإسلام والإذعان ، فيقبل القلب على طاعة ربه ويعرض عما يبعده من ربه ، ونور الإيمان يكشف ظلمات الشرك الخفي ، ويظهر بهجة الإخلاص والصدق الوفي ، فتحكم البصيرة بقبح الشرك وضرره ، وحسن الإخلاص وخيره ، فيقبل القلب على توحيد ربه ويعرض عن الشرك وشره ، ونور الإحسان يكشف ظلمة السوى ويظهر نور وجود المولى ، فتحكم البصيرة بقبح ظلمة الأثر وحسن نور المؤثر ، فيقبل القلب على معرفة مولاه ويغيب بالكلية عما سواه ، وإن شئت قلت هذا النور هو نور الشريعة والطريقة والحقيقة ، فنور الشريعة يكشف ظلمة البطالة والتقصير ، ويظهر نور المجاهدة والتشمير ، فتحكم البصيرة بقبح البطالة وحسن المجاهدة ، فيقبل القلب على مجاهدة الجوارح في طاعة مولاه ويدبر عن متابعة حظوظه وهواه ، ونور الطريقة يكشف ظلمة المساوي والعيوب ويظهر بهجة الصفاء وما يثمره من علم الغيوب ، فتحكم البصيرة بقبح العيوب وحسن الصفا وعلم الغيوب ، فيقبل القلب على ما يوجب التصفية ويدبر عما يمنعه من التخلية والتحلية ، ونور الحقيقة يكشف ظلمة الحجاب ، ويظهر له محاسن الأحباب ، أو تقول نور الحقيقة يكشف له ظلمة الأكوان ويظهر نور الشهود والعيان ، فيقبل القلب على مشاهدة الأحباب داخل الحجاب ، ويدبرعما يقطعه عن الأدب مع الأحباب ، جعلنا الله معهم على الدوام في هذه الدار وفي دار السلام آمين.
( مِنْ عَلاماتِ مَوْتِ القَلْبِ عَدَمُ الحُزْنِ عَلَى ما فاتَكَ مِنَ المُوافَقاتِ. وتَرْكُ النَّدَمِ عَلَى ما فَعَلْتَهُ مِنْ وُجودِ الزَّلّاتِ ).
موت القلب سببه ثلاثة أشياء : حب الدنيا ، والغفلة عن ذكر الله ، وإرسال الجوارح في معاصي الله ، وسبب حياته ثلاثة أشياء : الزهد في الدنيا ، والأشتغال بذكر الله ، وصحبة أولياء الله ، وعلامة موته ثلاثة أشياء : عدم الحزن على ما فات من الطابعات ، وترك الندم على ما فعلت من الزلات ، وصحبتك للغافلين الأموات ، وذلك لأن صدور الطاعة من العبد عنوان السعادة ، وصدور المعصية علامة الشقاوة ، فإن كان القلب حياً بالمعرفة والإيمان آلمه ما يوجب شقاوته ، وأفرحه ما يوجب سعادته ، أو تقول صدور الطاعة من العبد علامة على رضي مولاه ، وصدور المعصية علامة على غضبه ، فالقلب الحي يحس بما يرضيه عند مولاه فيفرح ، وما يسخطه عليه فيحزن ، والقلب الميت لا يحس بشيء قد أستوى عنده وجود الطاعة والمعصية ، لا يفرح بطاعة وموافقة ولا يحزن على زلة ولا معصية ، كما هو شأن الميت في الحس . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ومَن سرَّته حسنته وساءَتْه سيئته فهو مؤمن) . لكن لا ينبغي للعبد أن يغلب النظر إلى جانب الذنب فيقل رجاؤه ويسئ الظن بسيده كما أشار إليه بقوله :
(لا يَعْظُمِ الذَنْبُ عِنْدَكَ عَظَمَةً تَصُدُّكَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ باللهِ تَعالى).
الناس في الخوف والرجا على ثلاثة أقسام : أهل البداية ينبغي لهم تغليب جانب الخوف ، وأهل الوسط ينبغي لهم أن يعتدل خوفهم ورجاؤهم ، وأهل النهاية يغلبون جانب الرجاء . أما أهل البداية فلأنهم إذا غلبوا جانب الخوف جدوا في العمل وأنكفوا عن الزلل ، فبذلك تشرق نهايتهم "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" وأما أهل الوسط فلأنهم قد أنتقلت عبادتهم إلى تصفية بواطنهم فعبادتهم قلبية ، فلو غلبوا جانب الخوف لرجعوا إلى عبادة الجوارح ، والمطلوب منهم عبادة البواطن على رجاء الوصول وخوف القطيعة ، فيعتدل خوفهم ورجاؤهم ، وأما الواصلون فلا يرون لأنفسهم فعلاً ولا تركا ، فهم ينظرون إلى تصريف الحق وما يجري به سابق القدر ، فيتلقونه بالقبول والرضا ، فإن كان طاعة شكروا وشهدوا منة الله ، وإن كان معصية أعتذروا وتأدبوا ، ولم يقفوا مع أنفسهم إذ لا وجود لها عندهم وإنما ينظرون إلى ما يبرز من عنصر القدرة ، فنظرهم إلى حلمه وعفوه وإحسانه وبره أكثر من نظرهم إلى بطشه وقهره . قال تعالى : "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :" العامة إذا خوفوا خافوا ، وإذا رجوا رجوا ، والخاصة متى خوفوا رجوا ، ومتى رجوا خافوا . قال في لطائف المنن :" ومعنى كلام الشيخ هذا ، أن العامة واقفون مع ظواهر الأمر فإذا خوفوا خافوا إذ ليس لهم نفوذ إلى ما وراء العبارة بنور الفهم كما لأهل الله ، وأهل الله إذا خوفوا رجوا عالمين أن من وراء خوفهم وما خوفوا به أوصاف المرجو الذي لا ينبغي أن يقنط من رحمته ولا أن ييئس من منته ، فاحتالوا على أوصاف كرمه علماً منهم ما خوفهم إلا ليجمعهم عليه وليردهم بذلك إليه ، وإذا رجوا يخافون غيب مشيئته الذي هو من وراء رجائهم ، وخافوا أن يكون ما ظهر من الرجاء أختباراً لعقولهم،هل تقف مع الرجاء أو تنفذ إلى ما بطن في مشيئته ، فلذلك أثار الرجاء خوفهم ".
دخل الجنيد رضي الله عنه على شيخه السري فوجده مقبوضاً فقال له : "مالك أيها الشيخ مقبوضاً ؟ فقال: " دخل علي شاب فقال لي :ما حقيقة التوبة ؟ فقلت له : أن لا تنسي ذنبك ، فقال الشاب : بل التوبة أن تنسي ذنبك ، ثم خرج عني ، قال الجنيد : فقلت الصواب ما قاله الشاب لأني إذا كنتُ في حالة الجفاء ثم نقلني إلى شهود الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء ّ".
(فإنَّ مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ اسْتَصْغَرَ في جَنْبِ كَرَمِهِ ذَنْبَهُ).
بل من عرف ربه غاب عن رؤية ذنبه لفنائه عن نفسه بشهود ربه ، فإن صدر منه فعل يخالف الحكمة غلب عليه شهود النعمة ، قال تعالى : "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم " وأما قوله تعالى :" وأن عذابي هو العذاب الأليم " فإنما هو لمن لم يتب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو أذنبتم حتى تبلغ خطاياً كم عنان السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم ولو أن العباد لم يذنبو لذهب الله بهم ثم جاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم وهو الغفور الرحيم والله أفرح بتوبة عبده من الظمآن الوارد ومن العقيم الوالد ومن الضال الواحد " لكن لا ينبغي أن يصغر عنده ذنبه حتى يغتر بحلم الله ، وقال الجنيد رضي الله عنه :"إذا بدت عين من الكريم ألحقت المسيء بالمحسن "وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في حزبه : "إلهي معصيتك نادتني بالطاعة ، وطاعتك نادتني بالمعصية ، ففي أيهما أخافك وفي أيهما أرجوك ؟ إن قلت بالمعصية ، قابلتني بفضلك فلم تدع لي خوفا ، وإن قلت بالطاعة ، قابلتني بعدلك فلم تدع لي رجاء ، فليت شعري كيف أرى إحساني مع إحسانك ؟ ! أم كيف أجهل فضلك مع عصيانك ؟ " ومعنى كلام الشيخ رضي الله عنه : أن العبد إذا كان في المعصية شهد قهرية الحق وعظمته وضعف نفسه وعجزه ، اكتسب من المعصية انكساراً وذلاً لنفسه وتعظيماً وإجلالاً لربه ، وهذا أفضل الطابعات ، فقد نادته معصيته التي هو فيها بالطاعة التي يجتنيها منها ، وإذا كان في الطاعة ربما شهد فيها نفسه وقصد متعته وحظه فأشرك بربه وأخل بأدبه وهذه معصية ، فإذا كان في الطاعة نادته بهذه المعصية التي يجتنيها منها فلا يدري من أيهما يخاف وأيهما يرجو ، وقوله : إن قلت بالمعصية... إلخ أي : إن نظرت إلى صورة المعصية قابلتني بفضلك ، فامتحي أسمها واندرس رسمها ، وإن نظرت إلى صورة الطاعة قابلتني بعدلك فاضمحلت وأمتحت وبقي محض الرجاء من الكريم الوهاب الذي يعطي بلا سبب ويغطي بحلمه المناقشة والعتاب والله تعالى أعلم .
فتحصل أن العارف لا يقف مع معصية وأن جلت ولا مع طاعة وأن عظمت وهو معنى قوله :
(لا صَغيرَةَ إِذا قابَلَكَ عَدْلُهُ. وَلا كَبيرَةَ إِذا واجَهَكَ فَضْلُهُ).
الصغيرة هي الجريمة التي لا وعيد فيها من القرآن ولا من الحديث ، والكبيرة هي التي توعد عليها بالعذاب أو الحد في القرآن أو في السنة ، وقيل غير ذلك هذا كله بالنظر لظاهر الأمر ، وأما بإعتبار ما عند الله من أمر غيبه وبالنظر إلى حلمه وعدله فقد يبرز خلاف ما يظن قال تعالى : "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " فمن سبقت له العناية لا تضره الجناية ، " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " وإن كانت الأعمال علامات فقد تختلف في بعض المقامات ، فوجب استواء الرجاء والخوف في بعض المقامات والتسليم لله في كل الأوقات ، إذ قد تمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته ، فإذا قابلك الحق سبحانه وتعالى بعدله وجلاله لم تبق لك صغيرة وعادت صغائرك كبائر ، وإذا واجهك الحق تعالى بفضله وكرمه وإحسانه وجماله لم تبق لك كبيرة وعادت كبائرك صغائر ، قال يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه :" إذا أنالهم فضله لم تبق لهم سيئة ، وإذا وضع عليهم عدله لم تبق لهم حسنة " ولما ذكر رضي الله عنه علامة موت القلب ذكر الأعمال التي توجب حياته فقال :
(لا عَمَلَ أَرْجى لِلْقُلوبِ مِنْ عَمَلٍ يَغيبُ عَنْكَ شُهودُهُ ويُحْتَقَرُ عِنْدَك وُجودُهُ).
يعني أنه لا عمل أرجي لحياة القلوب من عمل يكون بالله ولله ، غائباً فيه عما سواه ، غير ملاحظ فيه حظوظه وهواه ، متبرءاً فيه من حوله وقواه ، فإذا أظهرته عليه القدرة غاب عن شهوده ، وصغر في عينه صورة وجوده لما تجلى في قلبه من عظمة مولاه فصغر عنده كل ما سواه ، فمثل هذا العمل تحيي به القلوب وتحظي بمشاهدة علام الغيوب ، وهو روح اليقين وهو حياة قلوب العارفين ، فإذا أراد الله أن يتولى عبده أنهضه للعمل وصغره في عينه ، فلا يزال جاداً في عمل الجوارح حتى ينقله إلى عمل القلوب فتستريح الجوارح من التعب ولا يبقي إلا شهود العظمة مع الأدب ، قال النهر جوري رحمه الله :" من علامات من تولاه الله في أحواله ، أن يشهد التقصير في إخلاصه ، والغفلة في أذكاره ، والنقصان في صدقه ، والفتور في مجاهدته ، وقلة المراعاة في فقره ، فتكون جميع أحواله عنده مرضية ، ويزداد فقراً إلى الله في قصده وسيره ، حتي يغنى عن كل شيء دونه ".
وإذا حيي القلب بمعرفة الله كان محلاً لتجلي الواردات الألهية ، وإلى ذلك أشار بقوله :"
(إنَّما أَوْرَدَ عَلَيْكَ الوارِدَ لِتَكونَ بِهِ عَلَيْهِ وارِداً).
الوارد نور إلهي يقذفه الله في قلب من أحب من عباده ، وهو على ثلاثة أقسام ، على حسب البداية والوسط والنهاية . أو تقول على حسب الطالبين والسائرين والواصلين .
القسم الأول : وارد االإنتباه ، وهو نور يخرجك من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة ، وهو لأهل البداية من الطالبين ، فإذا تيقظ من نومه وانتبه من غفلته استوى على قدمه طالباً لربه ، فيقبل عليه بقلبه وبقالبه ، وينجمع عليه بكليته .
القسم الثاني : وارد الأقبال ، وهو نور يقذفه الله في قلب عبده فيحركه لذكر مولاه ويغيبه عما سواه ، فلا يزال مشتغلاً بذكره غائباً عن غيره حتى يمتلأ القلب بالنور ويغيب عما سوى المذكور ، فلا يرى إلا النور فيخرج من سجن الأغيار ويتحرر من رق الآثار .
القسم الثالث : وارد الوصال ، وهو نور يستولي على قلب العبد ، ثم يستولي على ظاهره وباطنه ، فيخرجه من سجن نفسه ويغيبه عن شهود حسه . وقد أشار إلى القسم الأول وهو وارد الأنتباه بقوله : إنما أورد عليك... إلخ أي : إنما أشرق عليك نور اليقظة والإنتباه ، وهو الوارد لتكون بسببه وارداً عليه وسائراً إليه ، ولو لم يورد عليك هذا الوارد لبقيت في وطن غفلتك ، نائماً في سكرتك دائماً في حسرتك ، ثم أشار إلى القسم الثاني وهو وارد الأقبال ، فقال : أورد عليك الوارد ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار أي : إنما أورد عليك وارد الإقبال ليؤنسك بذكر الكبير المتعال ، فإذا اشتغلت بذكره وغبت عن غيره تسلمك ، أي أنقذك من يد لصوص الأغيار بعد أن شدوا أوثاقك بحبل هواك ، وسجنوك في سجن حظوظك ومناك ، وليحررك ويعتقك أيضاً من رق الآثار بعد أن ملكتك بما أظهرته لك من زخرف الإغترار ، فإذا تسلمت من بد الأغيار أفضيت إلى شهود الأنوار ، وإذا تحررت من رق الآثار ترقيت إلى شهود الأسرار، فالأنوار أنوار الصفات والأسرار أسرار الذات ، فالأنوار لأهل الفناء في الصفات والأسرار لأهل الفناء في الذات . ثم أشار إلى القسم الثالث وهو وارد الوصال فقال : أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك ، أي إنما أورد عليك وارد الوصال بعد أن أهب عليك نفحات الإقبال ، ليخرجك من سجن رؤية وجودك إلى فضاء أي اتساع شهودك لربك ، فرؤيتك وجودك مانعة لك من شهود ربك ، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه ، وجودك ذنب لا يقاس به ذنب. فالفناء عن النفس وزوالها أصعب من الفناء عن الكون وهدمه ، فمهما زالت النفس وهدمت انهدم الكون ولم يبق له أثر ، وقد يهدم الكون وتبقي في النفس بقية ، فلذلك قدم الشيخ رق الأكوان على سجن وجود الأنسان والله تعالى أعلم .
ثم فسر تلك الواردات فقال :
(الأنْوارُ مَطايا القُلوبِ وَالأَسْرارِ).
النور نكتة تقع في قلب العبد من معنى أسم أو صفة ، يسري معناها في كليته حتى يبصر الحق والباطل أبصاراً ، لا يمكنه التخلف معه عن موجبه . والمطايا جمع مطية ، وهي الناقة المهيئة للركوب ، والقلوب جمع قلب وهو الحقيقة القابلة للمفهومات والأسرار جمع سر ، وهو الحقيقة القابلة للتجليات ، والسر أدق وأصفي من القلب ، والكل إسم للروح ، فإن الروح ما دامت متظلمة بالمعاصي والذنوب والشهوات والعيوب سميت نفساً ، فإذا انزجرت وانعقلت اأنعقال البعير سميت عقلاً ، فما زالت تتقلب في الغفلة والحضور سميت قلباً ، فإذا اطمأنت وسكنت واستراحت من تعب البشرية سميت روحاً ، فإذا تصفت من غبش الحس سميت سراً لكونها صارت سراً من أسرار الله حين رجعت إلى أصلها وهو سر الجبروت . فإذا أراد الله تعالى أن يوصل عبده إلى حضرة قدسه ويحمله إلى محل أنسه ، أمده بواردات الأنوار كالمطايا ، فيحمل عليها في محفة العناية مروحاً عليه بنسيم الهداية محفوفاً بنصرة الرعاية ، فترحل الروح من عوالم البشرية إلى عوالم الروحانية حتى تصير سراً من أسرار الله لا يعلمها إلا الله (قل الروح من أمر ربي) فالأنوار التي هي الواردات مطايا القلوب تحملها إلى حضرة علام الغيوب ، وهي أيضاً مطايا الأسرار تحملها إلى جبروت العزيز الجبار فالسلوك هداية والجذب عناية ، فوارد الانتباه والإقبال حمله سلوك ووارد الوصال حمله جذب ، فالأنوار التي هي مطايا القلوب تحملهم على وجهة السلوك إلا أنهم محمولون فيه بحلاوة نور الإنتباه والإقبال ، فصار سلوكهم كأنه جذب .
وأما الأنوار التي تحملهم على مطايا الأسرار ، فإنها تحملهم على جهة الجذب ممزوجاً بسلوك فيكونون بين جذب وسلوك ، وهذا الحمل أعظم والله تعالى أعلم .
ثم بين كيفية السير على هذه المطايا وما يعوقها عن السير :
(النّورُ جُنْدُ القَلْبِ، كَما أَنَّ الظُلْمَةَ جُنْدُ النَفْسِ. فإذا أرادَ اللهُ أنْ يَنْصُرَ عَبْدَهُ أَمَدَّهُ بِجُنودِ الأَنْوارِ وَقَطَعَ عَنْهُ مَدَدَ الظُلَمِ وَالأَغْيارِ).
الظلمة نكتة تقع من الهوى في النفس عن عوارض الوهم فتوجب العمى عن الحق ، لتمكن الباطل من الحقيقة ، فيأتي العبد ويذر على غير بصيرة . قد تقدم أن النفس والعقل والقلب والروح والسر أسماء لمسمى واحد وهو اللطيفة الربانية النورانية المودعة في هذا القالب الجسماني الظلماني ، وإنما اختلفت أسماؤها باختلاف أحوالها وتنقل أطوارها ، ومثال ذلك كماء المطر النازل في أصل الشجر ثم يصعد في فروعها فيظهر ورقاً ثم نوراً وأزهاراً ، ثم يعقد ثمرة ثم ينمو حتى يكمل ، فالماء واحد واختلفت أسماؤه باختلاف أطواره ، فعلى هذا يكون تقابل القلب مع النفس بالمحاربة كناية عن صعوبة أنتقال الروح من وطن الظلمة التي هي محل النفس إلى وطن النور الذي هو القلب وما بعده ، فالقلب يحاربها لينقلها إلى أصلها ، وهي تتقاعد وتسقط إلى أرض البشرية وشهواتها ، فالقلب له أنوار الواردات تقربه وتنصره حتى يترقي إلى الحضرة التي هي أصله وفيها كان وطنه ، وكأنها جنود له من حيث أنه يتقوى بها وينتصر على ظلمة النفس.
ولما كان النور هو جند القلب لأنه يكشف عن حقائق الأشياء ، فيتميز الحق من الباطل فيحق الحق ويبطل الباطل ، فينتصر القلب بإقباله على الحق على بينة واضحة وتنهزم النفس بانهزام جند ظلماتها ، إذ لابقاء للظلمة مع وضوح النور كما أشار إلى ذلك بقوله :
(النورُ له الكشفُ ، والبصيرةُ لها الحكمُ ، والقلبُ له الإقبال والإدبار).
النور من حيث هو من شأنه أن يكشف الأمور ويوضحها حتى حسنها من قبيحها ، ومن شأن البصيرة المفتوحة أن تحكم على الحسن بحسنه وعلى القبيح بقبحه ، والقلب يقبل على ما يثبت حسنه ويدبر عن ما يثبت قبحه أو تقول يقبل على ما فيه نفعه ويدبر عما فيه ضرره ، ومثال ذلك رجل دخل بيتاً مظلماً فيه عقارب وحيات وفيه سبائك ذهب وفضة ، فلا يدري ما يأخذ ولا ما يذر ولا ما فيه نفع ولا ضرر فإذا أدخل فيه مصباحاً رأى ما ينفعه وما يضره ، وما يأمنه وما يحذره ، كذلك قلب المؤمن العاصي لا يفرق بين مرارة المعصية وحلاوة الطاعة ، فإذا استضاء بنور التقوى عرف ما يضره وما ينفعه ، وفرق بين الحق والباطل ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً " أي نوراً يفرق بين الحق والباطل ، وقال تعالى :" أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس" وقال تعالى :" أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه "وهذا النور الذي يكشف الأمور هو نور الواردات المتقدمة الذي هو مطايا القلوب إلى علام الغيوب ، أولها نور وارد الإنتباه ومن شأنه أن يكشف ظلمة الغفلة ، ويظهر نور اليقظة ، فتحكم البصيرة بقبح الغفلة وحسن اليقظة ، فيقبل القلب حينئذ على ذكر ربه ، ويدبر عما يغفله عن ربه ، وهذا هو نور الطالبين . الثاني نور وارد الأقبال ، ومن شأنه أن يكشف ظلمة الأغيار ويظهر بهجة المعارف والأسرار فتحكم البصيرة بضرر الأغيار وحسن الأسرار فيقبل القلب على بهجة الأسرار ، ويدبر عن ظلمة الأغيار ، وهذا هو نور السائرين . الثالث نور وارد الوصال ومن شأنه أن يكشف ظلمة الكون ورداء الصون ، ويظهر نور تجليات المكون فيقبل القلب على مشاهدة مولاه ، ويدبر عن الالتفات إلى ما سواه ، وهذا هو نور الواصلين وهو نور المواجهة ونور ما قبله نور التوجه .
وإن شئت قلت هو نور الإسلام والإيمان والإحسان ، فنور الإسلام يكشف ظلمة الكفر والعصيان ويظهر نور الإنقياد والإذعان ، فتحكم البصيرة بقبح الكفر والعصيان وحسن نور الإسلام والإذعان ، فيقبل القلب على طاعة ربه ويعرض عما يبعده من ربه ، ونور الإيمان يكشف ظلمات الشرك الخفي ، ويظهر بهجة الإخلاص والصدق الوفي ، فتحكم البصيرة بقبح الشرك وضرره ، وحسن الإخلاص وخيره ، فيقبل القلب على توحيد ربه ويعرض عن الشرك وشره ، ونور الإحسان يكشف ظلمة السوى ويظهر نور وجود المولى ، فتحكم البصيرة بقبح ظلمة الأثر وحسن نور المؤثر ، فيقبل القلب على معرفة مولاه ويغيب بالكلية عما سواه ، وإن شئت قلت هذا النور هو نور الشريعة والطريقة والحقيقة ، فنور الشريعة يكشف ظلمة البطالة والتقصير ، ويظهر نور المجاهدة والتشمير ، فتحكم البصيرة بقبح البطالة وحسن المجاهدة ، فيقبل القلب على مجاهدة الجوارح في طاعة مولاه ويدبر عن متابعة حظوظه وهواه ، ونور الطريقة يكشف ظلمة المساوي والعيوب ويظهر بهجة الصفاء وما يثمره من علم الغيوب ، فتحكم البصيرة بقبح العيوب وحسن الصفا وعلم الغيوب ، فيقبل القلب على ما يوجب التصفية ويدبر عما يمنعه من التخلية والتحلية ، ونور الحقيقة يكشف ظلمة الحجاب ، ويظهر له محاسن الأحباب ، أو تقول نور الحقيقة يكشف له ظلمة الأكوان ويظهر نور الشهود والعيان ، فيقبل القلب على مشاهدة الأحباب داخل الحجاب ، ويدبرعما يقطعه عن الأدب مع الأحباب ، جعلنا الله معهم على الدوام في هذه الدار وفي دار السلام آمين.