عدد المشاهدات:
إن "المعاملات" جانب واسع من جوانب الدين، قائم على أصول وخصائص، وله حكم وأسرار معجزة، ثم هو مبارك الثمار والآثار إذا طبق على وجهه الصحيح، ووضع في منـزلته التي وضعه الله عز وجل فيها.
ذلك لأن هذا الجانب -على سعته- يأتي في ختام برنامج الإسلام للحياة الإنسانية، إذ تسبقه -تربية وترتيباً- جوانب ثلاثة هي :
(العقائد، والأخلاق، والعبادات).
والتي تأتي "المعاملات" بعدها امتداداً لها، ومصبوغة بصبغتها، ومتشابكة بها اشتباك الفروع بالجذوع، والفصول بالأصول.
ولا سبيل إلى مقارنة مناهج البشر ومذاهبهم بالجوانب الثلاثة الأولى، لأنها شقة بعيدة لا تقطع، وذروة شاهقة لا تبلغ، وسيظل الإسلام أبد الدهر متفرداً فيها تفرد الحق عن الباطل، لأن ما عداه هنا لا يخرج عن لغو الأفكار، وسقط الأساطير.!!
وإنما يقع الاشتباه بين الإسلام، ومذاهب البشر الوضعية في ميدان : "المعاملات" بمعناها الواسع، بل تحول الأمر إلى صدام عات انتهى بالمسلمين -في عصور ضعفهم- إلى فتنة عارمة، فاستبدلوا بالوحي المنـزل قوانين وأحكاماً لم ينـزل الله بها سلطاناً، أو وقفوا موقف الدفاع عن دينهم على استحياء وارتباك، مع أن شرائعه في "المعاملات" هي أيضاً ضرب من الإعجاز المنفرد في بابه، ولا تدانيها في سموها وجلالها قوانين البشر، ولا أعراف الأمم، أو تقاليدها!!
ومن هذه الزاوية أكتب هذه الدراسة عن "المعاملات الإسلامية".
وقصدنا الأول هنا بيان أصولها التأسيسية، وخصائصها المتفردة، وحججها البالغة، وحِكَمها العالية، وأسرارها المعجزة التي تدل على مصدرها الإلهي الأعلى، والتي تتبدى بها للناس في كل موقف أو مقارنة، فيفيء إليها منكروها بالإجلال والإكبار بعد مرارة التجارب، وأهوال المعاناة !
وليس من قصدنا هنا التوسع في الجانب الفقهي المحض للمعاملات، والذي يعنى -في كل باب- بالتعريف والتقسيم، والشروط والأركان، وبسط المسائل المفردة؛ وبيان حكمها ودليلها الجزئي، لأنه جانب قد وفّاه علماؤنا -نضّر الله وجوههم وتاريخهم- في كتب الفقه ومبسوطاته : المذهبية، والمقارنة على سواء. وقد قسمت هذه الدراسة إلى قسمين :
• الأول (مدخل عام عن المعاملات الإسلامية) :
بينت فيه معناها، ومقابلتها لكل ما جاءت به القوانين المعاصرة، وخصائصها العامة، وما نص عليه الوحي منها، وما تركه للاجتهاد الشرعي بضوابطه وشروطه، والأسس التي تقوم عليها، وسعتها وشمولها من حيث مبادئها، ومن حيث تطبيقها قروناً عديدة في دولة عالمية، وكيف كان القائمون عليها فقهاء لا شارعين من دون الله، ومتبعين لا مبتدعين، ومع ذلك وجدوا في رحابة "المعاملات الإسلامية" ما يلبي حاجة مجتمعاتهم في هذه الدولة الشاسعة الأرجاء، والمتعددة البيئات واللغات، والمتنوعة المصالح والحاجات.
• الثاني : الواجب الأساسية في المعاملات الإسلامية :
ذلك لأن أبواب "المعاملات الإسلامية" كثيرة، ويمكن إرجاعها إلى جوانب جامعة هي :
1ـ الجانب الإنساني :
(ويدخل فيه من أبواب المعاملات ما يتعلق بحياة الإنسان الفردية والاجتماعية، كالنكاح، والرضاع، والحضانة، وتعدد الزوجات، والطلاق، والعدة.. الخ..).
2ـ الجانب الاقتصادي :
(ويدخل فيه البيع، والشركة، والصّرف، والسّلم، والرّبا، والميراث.. الخ..).
3ـ الجانب الجزائي :
(ويدخل فيه أبواب الحدود، والقصاص، والتعزير).
4ـ الجانب التنفيذي :
الذي يقوم على تطبيق الدين كله، وإنفاذه بين الناس خاصة في ميدان التعامل، الذي يكثر فيه التنازع.
وقد خصصت كل جانب منها ببحث خاص، يتناول كلياتها الجامعة، وأسرارها المعجزة، ويدحض ما يثار حولها من شبهات باطلة، وجل عقيم!!
ذلك لأن هذه الجوانب تعاب على الإسلام بلا علم ولا بينة، وهي في حقيقتها معجزات إلهية، وهدايات ربانية، كانت خليقة بالشكر والعرفان لما رُكّبت عليه من جوامع الحِكَم، ولما بُنيت عليه من إحاطة العلم، كما قال الله تعالى في شأن أصلها الجامع :
(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير)(هود: من الآية1).
وفي الجانب الجزائي -على سبيل المثال- يكثر العيب جهلاً على الإسلام، والتنديد بشرائعه العقابية المعجزة، مع أن البشر أنفسهم يتخبطون في هذا الجانب غاية التخبط، ويتقلبون بين الإفراط والتفريط، وهنا يتجلى فضل الله على عباده، ورحمته بهم في التشديد والتخفيف على سواء، وكل منهما وقد وضع بحسبان بالغ، وميزان رشيد، لحماية الناس من أهوال التجارب البشرية التي تسحق أجيالاً وأمماً، ثم لا تستبين جنايتها وضراوتها إلا بعد فوات الأوان!!
وحين نقرأ الإحصاءات الرهيبة، للجرائم المتعددة -في ظل القوانين الوضعية- نعلم علم اليقين مدى الفشل الذي مُني به "النظام العقابي" في العالم كله، بل مسئوليته الجسيمة عن اندلاع الجرائم، لا مقاومتها، لأنه نظام يجافي الفطرة الإنسانية ابتداء، ولأنه لم يسبق بمقدمات أصيلة تعمل عملها في تربية النفوس، وإشباع حاجاتها الروحية والمادية على سواء.
ومن هنا جاء شمول وسمو الشريعة الإسلامية، لأنها جاءت على غاية التمام والكمال، وتوافق فيها الشرع مع الطبع ليصلا بالإنسان إلى أقصى درجات الأمن والطمأنينة، وليحفظا عليه كل كريم من الأديان والأبدان، والعقول والأموال، والأعراض والدماء.
وإنها لآية بالغة أن تنجح هذه الشريعة باطّراد، في كل موطن تتهافت فيه القوانين والأعراف، وتتساقط النظم والمذاهب، ثم يثوب الناس بعد طول التجارب والمعاناة إلى مقررات هذه الشريعة الهادية، لأنها من لدن حكيم عليم، وهو بعباده رؤوف رحيم.
(يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:26-28) .
فهل آن لأمتنا أن تستفيق من سقطتها التاريخية المريرة؟ فتنبذ أضاليل الجاهلية، وقوانينها الوضعية، ومذاهبها الشاذة، وتعود إلى دين ربّها راضية مرضية، مؤمنة بأنها هديت بهذا الدين إلى سعادة الدارين، لأنه الحق المبين، وما عداه بهرج زائف، لم يزد أصحابه إلا غواية وضلالاً على الرغم من تقدمهم المادي البالغ..؟!!
اللهم اهدنا وأمتنا إلى صراطك المستقيم، واجعل الإسلام منتهى رضانا، وتقبل منا هذا الجهد في سبيلك، واجعل عملنا كله خالصاً لوجهك الكريم، واعف عنا، وغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين..
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.