عدد المشاهدات:
وقد جمع الله في هذا اليوم ذرية بني آدم كلهم، بعد أن
استخرجها من أصلاب آبائهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به
شيئا، وأشهدهم على أنفسهم. وليس هناك دليل أقوى من اعتراف الإنسان وشهادته على
نفسه، فالإقرار والاعتراف سيد الأدلة.
وقد اخبر الله عزَّ وجلَّ الناس
جميعا بشأن هذا اليوم ليذكروه ولا ينسوه، وليعلموا أن الله عزَّ وجلَّ تعهدهم من
بداية أن خلقهم، فعرَّفهم وعلمَّهم، واطَّلع عليهم بمعاني الربوبية، وخاطبهم
وسمعوا منه وأجابوه سبحانه مذعنين إليه، مؤمنين به.
وهذا الخبر من الله تعالى لعباده بمثابة الإعلان والإنذار
لهم، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدم
مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا
كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أو تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن
قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ﴾، [172-173،الأعراف].
وهذه الآية الشريفة قررت عمومية القرآن، وشمولية الرسالة
المحمدية لجميع بني البشر، لأن الله اخذ فيها العهد على كل الناس بتوحيده وعبادته.
وهي أيضا معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها
أخبرت عن غيب من غيوب القدر الإلهي الذي أجراه الله على جميع البشرية، وقد نسيته
بعد أن حجبت الروح بمادة الجسم الكثيفة المظلمة، فذكَّرها الله به على لسان رسوله صلى الله
عليه وسلم، ليوضح لنا أنه صلى الله عليه
وسلم
هو المذكِّر عن الله عزَّ وجلَّ، وهو نور العلم القدسي، وسراج العالم الروحاني
والعقلاني.
وفي الآية معان كثيرة جدا، نقتطف من رياض أزهارها ما
نستطيعه، لنشم أريجه الزكي، وعبيره الشذى، فقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدم
مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، معناها: وذكِّرهم يا محمد بهذه الحقيقة، وتلك
الحادثة، وهذا الوقت الذي أخذ فيه ربك ذرية بني آدم من ظهور آبائهم، وأشهدهم على أنفسهم:
وهذا شيء عجيب حقا، إذ أن هذا المشهد يختلف كثيرا عن مشهد يوم الميثاق السابق، فهذا
المشهد فيه ذرية أخذها الرب جلَّ جلاله من أصلاب الآباء، وهي
أمور مادية وكونية، وليست الأمور القاصرة على الأرواح فقط !! وذلك لنؤمن أن قدرة
الله لا تعجز عن شيء، فإذا أراد الله شيئا أبرزته القدرة على حسب مراد الله عزَّ وجلَّ.
ولم يكن المشهد أمرا تمثيليا، ولكنه حقيقة واقعية – لأن
التمثيل والتصوير والخيال إنما يتأتى ممن عجز عن إبراز الحقيقة وإيجادها، فيمثلها
ويصورها للخيال، ليستحضرها الخيال على قدر قوته. ولا يجوز ذلك على الله عزَّ
وجلَّ،
القادر الحكيم الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون – ولذلك أمر الله رسوله أن يذكر
بها ويوضح أمرها للناس أجمعين.
ولقد أقام الله هذه الذرية في هياكلها بين يديه عزَّ وجلَّ، وأقبل
عليها بوجهه الكريم، وأشهدهم على أنفسهم، وتجلى لهم بمعاني الربوبية، وخاطبهم وقال
لهم: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾،
والاستفهام هنا على حقيقته، ولكنه طلب الإقرار منهم بأنه
ربهم وخالقهم، ومالكهم ومدبر أمرهم، وهو استفهام تقريري كما يقول علماء اللغة، فإنهم
أقرُّوا وشهدوا على أنفسهم بأنه سبحانه ربهم، و ﴿قَالُواْ﴾، في اعترافهم بهذا ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾، أي نعم شهدنا على أنفسنا
بأنك أنت ربنا، لا إله غيرك، ولا شريك لك، ولا معبود سواك.
وهذا الاعتراف كان منهم في هذا المشهد وهم في عقل ووعى كامل،
لأنهم سمعوا الخطاب من الله عزَّ وجلَّ، وعقلوه وأجابوا
بهذا الجواب، الذي يشعر بأنهم لم يكونوا في حالة قهر أو خوف أو إزعاج، وإنما يشعر
بأنهم كانوا في هدوء واستقرار، وسلامة وأمن، وهذه هي الفطرة التي فطر الله الناس
عليها لو تركوا وشأنهم من غير أن يتدخل في أمورهم أحد. وهذا معنى قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: {كل مولود يولد على
الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}[1]
قال تعالى: ﴿ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾،
و﴿ أَن﴾، هنا حرف تعليل ونفي،
بمعنى حتى لا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا اليوم، وعن الإقرار والاعتراف
بوحدانيتك وربوبيتك، وعن شهادتنا على أنفسنا بذلك، غافلين – والغافل عن شيء هو الناسي له، أو المشغول عنه بغيره، حتى كأنه لم
يكن مطلوبا منه – أو كنا عن هذا المشهد كله، بما فيه من مخاطبة الله لنا، ومواجهته
إيانا بمعاني صفات الربوبية – من التربية والتعليم والتوجيه، ومن القدرة والسيطرة
والمراقبة والمحاسبة والإطلاع والإحاطة، ومن الإيجاد والإمداد والخلق والتصوير، والإعطاء
والمنع، والإحياء والإماتة، وما إلى ذلك من صفات الربوبية التي أشهدها الله للناس
يوم ألست – إنا كنا عن هذا كله غافلين.
قوله تعالى: ﴿أو تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا
ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾، يعنى لا ينبغي لكم أن تقولوا إنَّا كنا عن هذا
الإشهاد والإقرار به غافلين، ولا يجوز كذلك أن تقولوا إنما كفر آباؤنا وأشركوا من
قبلنا، ونحن كنا ذريتهم من بعدهم تبعا لهم، ونسير على مناهجهم الذي وجدناهم عليها،
ولم نكن نعرف شيئا، غير ذلك، ولم يأت إلينا رسول يبين لنا ما نحن عليه من شرك
وضلال، فليس لنا ذنب في هذا الكفر نستأهل الإهلاك والعذاب عليه، ولكنه ذنب الآباء والأجداد
الذين اتبعناهم، فلا تأخذنا بما فعل المبطلون.
لا يجوز ولا يصح لكم أن تقولو ذلك، لأن الإيمان بالله أمر
فطري، مقرر في النفوس وفي الطبائع البشرية، ولا يحتاج إلى رسول ولا إلى شيء غير
عقولكم التي ميزَّكم الله بها عن جميع الكائنات، فهي تدرك بداهة أن الله سبحانه وتعالى واحد لا
شريك له، ولكن الرسول ضروري ليعلمنا ما يطلبه الله منا من عبادة ومعاملة، وأخلاق
واعتقاد بالغيب. وبهذا تبطل حجة من كفر بالله أو أشرك به، لأن الإله الحق معروف بالبداهة
والفطرة للعقول، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾،
ومن رحمة الله بالإنسان أرسل إليه الرسل مذكرين ومعلمين،
ومبشرين ومنذرين، حتى يؤمن الإنسان بأن الله تعهده في كل طور من أطواره بالتربية والإرشاد،
والعناية والإمداد، لأن النسيان شيء يعترى النفس البشرية ويخالط فطرتها. وهناك
نفوس كاملة لم يتطرق إليها النسيان، وذلك لصفاء جوهرها، ونقاء فطرتها، فإنها تنظر
فيما حولها، بل في ذاتها، فترى الأدلة والآثار شاهدة على وجود الواحد الأحد الإله
الحق.
وقديما قال العربي قبل مجيء الإسلام، أثر الأقدام يدل على
المسير والبعرة تدل على البعير، وهذه أرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وسماء ذات أبراج،
وجبال راسيات، وكواكب سيارات، أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير، وهذه نفس قد
استجابت لفطرتها، ولم تنسى عهد الست بربكم. وقال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
من الست لم ننسى ما قد
شهدنا... من جمال الجميل إذ خاطبنا
وقد سئل الإمام على رضي الله عنه، فقيل له:
يا أمير المؤمنين أتذكر يوم الست بربكم؟. فقال: نعم أذكره وأذكر من كان عن يميني
ومن كان عن يساري.
وذلك لأن الله قرر الذرية في هذا المشهد على ما فطرها عليه
من توحيد وعدم الإشراك به، وهذا هو الإيمان في حقيقته. أما الإيمان ببقية القضايا الأخرى
فيحتاج إلى بيان الرسول وإرشاده، لأنه من الغيوب التي لم يطلب الله من الإنسان أن
يدركها بنفسه من غير معلم ومبين.
هذا وأن يوم الست بربكم تعيش الأرواح في ذكرياته إلى وقت أن
تلتقي بأجسادها في بطن الأم. ومن الملاحظ أن جميع الذرية أذعنت وأجابت وقالت: ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾، ولم يتخلف أحد، وذلك
لأن الاعتراف بالرب الخالق الرازق، والواحد الأحد، أمر لا يتأخر العقل عن إدراكه لأول
وهلة، ومن أول نظرة، وعند أول سؤال يطرح عليه (من ربك؟) لأنه أمر بديهي لا يحتاج إلى
تفكير.
ولماذا أخذ الله الذرية من الأصلاب وأشهدها على نفسها؟
لأن الأرواح شاهدة بالإلوهية والربوبية والوحدانية. بصفائها
ونورانيتها. ولكن الذرية المركبة من عناصر المادة هي التي تجحد وتنسى وتحجب،
فاحضرها الله وأشهدها وقررها. ولما اطلع الله عليهم، وظهر لهم في هذا اليوم بمعاني
الربوبية، وأشهدهم هذه المعاني العلية عيانا، من غير حجاب ولا سحاب ( قالوا بلى).
وإنما
تشهد معاني الربوبية بالعقل والقلب، والمشاعر التي في الإنسان، وهي الآلات والقوى التي
استودعها الله في الإنسان ليدرك بها الحقائق والمعاني الرفيعة. وهذه الآلات والقوى
هي قضية تكريم الله للإنسان التي ميزه بها على سائر المخلوقات. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾، [70،الإسراء]
وكانت مدة اليوم الأول والثاني من أيام الله بقدر
ما دار فيها من حديث الله عزَّ
وجلَّ مع أنبيائه،
وأخذ العهد عليهم والميثاق منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، ومن حديث الله مع ذرية بني آدم، وتقريرهم على
ربوبيته ووحدانيته. وبعد ذلك استمرت حقائق الأنبياء عليهم السلام في رعاية يوم
الميثاق، وفي الأنس بهذا المشهد إلى ماشاء الله، وإلى ابد الآبدين، حيث أنها أرواح
كاملة لا يتطرق إليها النسيان، ولا تحجبها الحياة الكونية، وكذلك استمرت أرواح ذرية
بني آدم في مراقبة وملاحظة عهدها في يوم الست بربكم حتى استقرت في أجسادها في رحم
الأم.
منقول من كتاب أيام الله
لفضيلة الشيخ محمد على سلامه
وكيل وزارة الاوقاف ببوسعيد