آخر الأخبار
موضوعات

الأحد، 3 أبريل 2016

- اليوم الرابع من أيام الله: يوم البرزخ

عدد المشاهدات:
وهذا اليوم يبدأ بالموت، ويستمر إلى يوم البعث. والبرزخ يعني الحجاب والفاصل الذي يفصل ويحجز بين شيئين. وقد حجز يوم البرزخ بين الحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة، وفصل بين يوم الدنيا ويوم البعث، أو أنه حجز بين الأحياء وبين الأموات فلا يكاد الأحياء يعرفون شيئا من أمر الأموات إلا ما أخبرنا الله ورسوله به عنهم.
والبرزخ هو الحجاب المعنوي الذي لا يدركه الحس، ولا يخضع للبحث والتجربة. قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾، [19-20،الرحمن]. وماء البحر وماء النهر ماديان مرئيان، ولكن البرزخ الذي بينهما معنوي لم يدر حقيقته أحد. لأنه من أسرار القدرة الإلهية العجيبة، أما الحواجز المادية فلا يقال لها برزخ وإنما يقال لها فاصل، حاجز، سدَّ إلى غير ذلك.
وقال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، [99-100،المؤمنون].
وهذه الآية الشريفة بينت حال الكافر عند الموت، وأنه يطلب من الله عند الاحتضار الرجوع إلى الحياة الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا، لأنه عاين الحق اليقين الذي كذب به من قبل، ورأى عذاب البرزخ الذي ينتظره، وشاهد الأهوال المقبل عليها، متمنى الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحاً، ولكن اجله قد انتهي، وعمره قد انقضى، ورجوعه مستحيل، لأن نظام الله في خلقه، وسنته في كونه لا تتبدل حتى لو رجع ما نفعه هذا الرجوع شيئا، لأن نفسه الشريرة لا تلبث أن تعود إلى ما كانت عليه من الكفر والظلم والعناد، وتلك هي فطرتها التي عاشت عليها عمرها وحياتها. قال الله تعالى وهو اعلم بهذه النفوس: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، [28،الأنعام]. في طلبهم الرجعة إلى الدنيا ليعملوا صالحا.
قال تعالى ﴿كَلَّا﴾، كلمة نفى الله بها صدق الكافر في طلبه الرجوع إلى الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا، ونفى بها أيضا رجوعه إلى الدنيا لاستحالته. ومعنى قوله تعالى:﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾، أي لابد أن يقولها ندما وتحسرا مع علمه أنه لا رجعة له، لأنه لم ير أحدا قبله رجع إلى الدنيا. ولكنه لما عاين عذاب البرزخ تمنى الرجوع بهذه الكلمة. والتمني هو طلب الأمر المستحيل. قال الشاعر: إن الأماني والأحلام تضليل.
قال الله تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، يرد الله على الكافرين المنكرين لحياة البرزخ، وعلى الذين تركوا أمر الحياة البرزخية وراء ظهورهم لا يعبأون بها ولا ينظرون في أمرها، بأنها حقيقة واقعية ولاحقة بهم لا محاله وعند الموت يرونها كما رآها صاحبهم هذا الذي طلب الرجوع إلى الدنيا عند معاينتها.
والحياة البرزخية هذه بينَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:{القبر إما روضه من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار}[1]
والمؤمنون يسمعون هذه الأخبار، فيؤمنون بها، والتصديق بحقيقته. لأن بيان رسول الله للغيبيات هو حق اليقين. قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، [44،النحل].
والقبر محسوس ملموس، ولكن ما يجري فيه لصاحبه لا يشهده ولا يراه إلا رسول الله الذي اخبرنا به. وقد مرَّ رسول الله على قبرين يعذب فيهما صاحباهما، فقال رسول الله {إن صاحبي هذين القبرين يعذبان، وما يعذبان في كبير ارتكباه. أما أحدهما فكان. لا يستبريء من بوله، وأما الآخر فكان يمشى بين الناس بالنميمة}[2]
وأن صاحبي القبرين معروفان لأصحاب رسول الله الذين يخبرهم، ولكنهم لو فتحوا القبرين ليروا بعين الرأس العذاب ما رأوه، لان العذاب يُوَصِّله الله لمن يستحقه بكيفية لا يعلمها إلا الله ورسوله، وقدرة الله فوق الشك والتُهَمِ، وكذلك كان رسول الله يخبر عن أصحاب النعيم في البرزخ، لأنه صلى الله عليه وسلم مبشرا ونذيرا، وشاهد على كل شيء: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، [2-3،النجم].
وأما المعذَّبون في البرزخ من عصاة المؤمنين، فإن الله سبحانه يعذبهم على قدر جناياتهم، ثم يعفو عنهم. وهناك مواسم للعفو الإلهي، يعفو الله فيه عن العصاة من المسلمين، مثل رمضان وأيام الجمعة، وأيام عرفة وعاشوراء، وأيام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها من مواسم الخير الإلهي.
هذا وإن عذاب القبر أنواع كثيرة، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، [38،المدثر]. ونعيمه كذلك درجات متفاوتة. قال تعالى: ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، [4،الأنفال]. فمنهم ومنهم ومنهم. أما أهل الكفر والعياذ بالله فإنهم معذبون في قبورهم حتى تقوم الساعة، جزاء وفاقا، وما ظلمهم الله شيئا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فانظر كيف طلب الكافر الرجوع إلى الدنيا عند الموت، وانظر كيف يستبشر المؤمن بالموت ويفرح بلقاء ربه الكريم، الغفور الرحيم..! فإن الملائكة الذين يتوفون المؤمنين يقولون لهم عند الموت: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، [32،النحل]. فيهنئوهم بالتحية والسلام، وبدخول الجنة والنعيم السرمدي، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، [32،النحل].  فليس بين المؤمن وبين الجنة إلا خروج الروح، وهنالك يفرح المؤمن بلقاء الله ويستبشر ويسر سرورا عظيماً بما أكرمه الله به، ويقول: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾، [26-27،يس].
أما الكافرون فانه ليس بينهم وبين عذاب النار إلا خروج الروح، وإن ملائكة العذاب تفزعهم وتهددهم بالإنذارات المؤلمة المحزنة، ويضربونهم ضربا شديدا وهم ينتزعون أرواحهم من أجسامهم  قال سبحانه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾، [27،محمد].
وبعد موتهم فورا يعذَّبون في قبورهم. قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾، [93،الأنعام].
فقوله تعالى: ﴿أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾،  يعنى يوم الموت تجزون عذاب الذُّل والهوان والنكال الشديد. ومعنى قوله تعالى: ﴿أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ﴾، تقريع وتهديد لهم، أي مالكم استسلمتم للموت وسكراته، فاخرجوا أنفسكم مما أنتم فيه من الخطوب والمصائب إن كنتم تملكون لها شيئا، فإنكم اليوم تلقون جزاءكم على سوء صنيعكم، وليس بينكم وبين هذا الجزاء الشنيع إلا خروج الروح من أجسادكم. قال الله في شأن قوم نوح عليه السلام: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾، [25،نوح]. فبمجرد إغراقهم في الطوفان دخلوا عذاب النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
وان الفاء من قوله تعالى (فادخلوا) تقتضى ترتيب ما بعدها على ما قبلها ووقوعه فورا وبدون مُهْلَه، وتسمى فاء الفورية كقوله تعالى: ﴿خَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾، [38-39،القيامة]. فإن الفاء عطفت هذه الأفعال على بعضها بدون تراخ.
ونود أن نشير إلى أن الموت الذي كتبه الله على كل حَيٍّ، إنما هو نهاية الحياة الكونية الجسمانية، التي تقوم بالغذاء والشراب والعلاج والتنفس، وإنما يكون الموت بخروج الروح من هذا الجسم، والروح سر من أسرار الله، وغيب من أمر الله، لم يدر حقيقتها أحد إلا الله، وإنما تقوم بتدبير هذا الجسم إلى الأجل الذي قدره الله للبقاء في الدنيا.
وإن الإنسان يدركه الموت أين كان وكيف كان. قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾، [78،النساء]. ومعنى بروج مشيدة يعنى قصور منيعة ومجهزة بكل أنواع المتع والزينة، وبعيدة عن أسباب الموت التي تعرفونها، فإن الموت يهجم على الإنسان بسبب وبغير سبب، لأن الأجل قدره الله بالأنفاس، فإذا انقضى آخر نفس خرَّ الإنسان ميتا ولو كان في ريعان شبابه وبكامل صحته وقوته، وبين أهله وعشيرته وخدمه وحشمه، فلن يغنى عنه كل ذلك شيئا. قال جل شأنه: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾، [61،النحل].
والساعة عند الله أسرع من لمح البصر. والمعنى إذا حضر أجل الإنسان لا يقدر أحد أن يؤخره لحظه ولا أقل ولا يقدر أحد أن يميت أنسانا قبل مجيء أجله بطرفة عين أو أقل. ذلك لأن الله نظَّم هذا الأمر وحده بمشيئته وقدرته، فلا دخل لأحد من أهل السموات والأرض فيه.
هذا وأن المقتول ميت بأجله الذي حدده الله له، وإن كان القتل سببا في موته. وأن القاتل يحاسب على مباشرته أسباب القتل، وعلى قصده ونيته.
والموت سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وأنه آية من آيات الله عزَّ وجلَّ الدالة على كمال قدرته، وسيطرته وقهره لعباده، وتصريفه في خلقه وحده لا شريك له، له الخلق وله الأمر يحي ويميت وهو على كل شيء قدير. قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، [2،الملك]. فكما أن الحياة آية من آيات الله الكبرى الدالة على قدرة الله وإرادته وحكمته، فإن الموت كذلك، وقد خلق الله الموت لأنه آية الفناء والعدم لمظاهر الحياة التي خلقها الله في الأحياء.
وقد طلب بنو إسرائيل من سيدنا موسى عليه السلام أن يرفع الله عنهم الموت. وألحوا في هذا الطلب، فسأل سيدنا موسى ربه أن يرفعه عنهم خمس سنين، فاستجاب الله له، وفي خلال هذه السنين الخمس ابتلاهم الله بالأمراض الشديدة، وبالجدب وبالفقر، وموت الحيوانات والطيور، ومنع عنهم الغيث وجفَّ ماء العيون والآبار، حتى أكلوا الأخضر واليابس، والحشرات السامة والحيوانات الميتة، والكلاب والجيف، وضاقت  عليهم الأرض بما رحبت، واخذوا يتمنون الموت فلم يجدوه، وعلموا أن الموت هو رحمة من الله بخلقه، وإغاثة منه لعباده، فمرت عليهم السنوات الخمس كخمسين ألف سنة في شقاء وأمراض وجوع وويلات.
وقد يتمنى الإنسان الموت فلم يعثر عليه، وقد يكرهه الإنسان فيقع عليه رغم أنفه.
فكم من سليم مات من غير عله.. وكم من مريض عاش حينا من الدهر
ولله في خلقه حكم وشئون تخفى على أهل البصائر والقلوب وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
أما حياة البرزخ فهي تشبه إلى حد كبير حياة الرؤيا المنامية، ففيها إحساس معنوي، وإدراك روحي، بحيث يشعر الإنسان بالنعيم والسرور الذي يعيش فيه، أو بالعذاب والبؤس الذي يتقلب فيه.
وكل واحد من أهل البرزخ له حالة خاصة لا يحس بها غيره من أهل البرزخ، فقد يجمع القبر بين ضدين، وبين مؤمن وكافر، وبين صالح وطالح، بين تقي وفاجر، بين مظلوم وظالم، وكل منهم يعيش في عالمه وفي ملكوته، من روضات الجنة الهنيئة أو حفرة من حفر النار المتلهبة، ولا يحس احدهما بصاحبه وهما متلاصقان، فسبحان من خلط ماء البحر بماء النهر العذب، وجعل بينهما برزخا لا يبغيان.
فلو أن رجلين نائمان على سرير واحد، ورأي أحدهما في منامه أنه يتمتع في عيشة هنيئة، يأكل ويشرب، ويتفكر ويتلذذ بمشتهياته، بين خلانه وإخوانه، ورأي الآخر في منامه انه يمر بمحنة قاسية، وأن السباع تطارده والأفاعي تنتهشه، والنار تحرقه، وانه يستغيث ولا مغيث. فانظر كيف يعيش كل منهما في رؤياه ولا يحس أحدهما بصاحبه وهما في سرير واحد متلاصقان..!!
وحياة البرزخ كلها عجائب، ومن صفت من الأكدار سريرته، وطهرت من الأوزار علانيته، وتلقى علوم البرزخ بيقين وتسليم لله ورسوله، علمه الله ما لم يكن يعلم، وكاشفة بمعاني الأحاديث والآيات الواردة في شان الحياة البرزخية، فازداد يقينا وتسليما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾، [282،البقرة].
هذا وان الروح بعد خروجها من الجسد، تأخذ منه صورته وطباعه، وفطره وأخلاقه، وأعماله وأحواله، وتعيش بها في البرزخ. وذلك لأن الروح اكتسبت كل ذلك من الجسم أيام إقامتها فيه، حتى يتعارف مع نظراءه وأشكاله من أهل البرزخ، كما كان التعارف في الدنيا.
أسال الله عزَّ وجلَّ  أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، وأن يرزقني وإخواني جوار سيدنا رسول الله الأعظم في الفردوس الأعلى، انه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.




[1] البيهقي في السنن عن ابن عمر.
[2] البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
منقول من كتاب أيام الله
لفضيلة الشيخ محمد على سلامه 
وكيل وزارة الاوقاف ببوسعيد
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير