عدد المشاهدات:
وهذا اليوم يبدأ من تكوين الإنسان من سلالة الطين، ثم نطفة،
فعلقة، فمضغة، فعظاماً، فكسوة العظام لحماً، فإنشاءه خلقاً آخر، وذلك بشق السمع
والبصر واللسان والأنف، واليدين والرجلين، وما إلى ذلك من المعدة والأمعاء، والكبد
والطحال، والقلب والرئتين، والأوردة والشرايين وغيرها. ثم يأذن الله للروح أن تدخل
إلى هذا الجسم الذي تكامل خلقه، والسكن الذي تم بنيانه، فتبارك الله أحسن
الخالقين.
ثم يولد ويتدرج في طفولته إلى أن يبلغ أشده صبياً، فشاباً،
فرجلاً، فكهلاً، فشيخاً كبيرا، ثم تنتهي حياته بعد ذلك.
وهذه اليوم هو عمر الإنسان وحياته، وهو عصره وحظه ونصيبه من
الدنيا، وهذا اليوم هو يوم الاختبار والابتلاء من الله بالأوامر والتكاليف
والشرائع، وابتلاه فيه كذلك بالمحن والخطوب والأمراض وغيرها، واختباره أيضا في هذا
اليوم بالصحة والعافية، والمال والزوجة والأولاد، والشهوات والمتع واللذات.
وهذا اليوم من أخطر الأيام التي يمر بها الإنسان، إذ أنه
تتوقف عليه سعادته أو شقاؤه بعد ذلك، وأنه يوم العمل والحركة، يوم الجهد والاجتهاد،
ويوم الإيمان والإسلام والإيقان، ويوم يشتد ندم الإنسان عليه أن ضيعه، ويعظم أسفه
على فقدان جزء منه من غير فائدة، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم
الدنيا بقوله: {الدنيا كسوق انتصب ثم انفض ربح فيه من
ربح وخسر فيه من خسر}[1].
وهو يوم يغتر به أهل الغفلة والجهالة، ويغتنمه أهل الذكر
والنباهة، وقد أكثر الله من الحديث عن شأن هذا اليوم في القران الكريم، فقال
سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ﴾،
والمعنى الإجمالي لهذه الآيات الشريفة: أن الله عزَّ وجلَّ وضح لنا
شأن الحياة الدنيا بالنسبة للمفتونين بها والمخدوعين بحبها، وأنها لعب ولهو وزينة
وتفاخر بالآباء والقبائل، والعصبية والمناصب، والوظائف والجاه والمنزلة، والأثاث
والرياش واللباس والمراكب، والقصور والمزارع وما إلى ذلك، وتكاثر في الأموال والأولاد،
يعنى اجتهاد في جمع الأموال وتكثيرها وتكديسها واقتنائها، وكذلك تكاثر في الأولاد
يعنى كثرة التزاوج، وكثرة التناسل حتى يكون الإنسان مفاخر ومُدلاً على أقرانه وأنداده
بكثرة أولاده وذريته، ومباهيا من كان أقل منه في الأولاد والأموال كما قال الرجل
لصاحبه في القرآن الكريم: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا
وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾،
[34،الكهف].
ثم أراد الحق سبحانه أن يضع بين أيدينا صورة محسوسة، ومثلا
مرئيا ملموسا، يقرب لنا به حقيقة الحياة الدنيا، حتى لا تنطلي علينا ولا تخدعنا،
فذكر لنا أن شأنها كزرع أعجب الزراع شكله ومنظره، وفرحوا بخضرته ونضرته، وهيجانه
وثماره، فإذا به قد اصفر لونه، وذبل عوده، وصار حطاماً متهالكة وهشيماً دارساً.
وهذا المثل قد كشف الغطاء عن حقيقة الدنيا لكل عاقل نظر إليها من خلال القرآن
الكريم وبيان الله عزَّ وجلَّ لشأنها.
ولذلك يوضح الله أن الذين يعيشون في الدنيا من أجل هذه الأشياء
التي مر ذكرها، مخدوعون، ومغرورون بها، فإذا انتهت حياتهم هذه ندموا ندامتين ندامة
على ذهابها عنهم إلى غيرهم من الورثة، وضياعها من أيديهم، وندامة على معاناتهم
وشقائهم في جمعها من غير فائدة أخذوها من وراء ذلك، ومحاسبة الله لهم على ذلك.
وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، ثم أمر الله المؤمنين
بالتسابق والمسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة. والجنة والمغفرة هما في الحقيقة،
التوبة والإنابة والعمل الصالح الذي يؤهل الإنسان لمغفرة الله وجنته، قال صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟
قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى}[2].
والتسابق هو الإسراع والتعجل حتى لا تضيع الفرصة على
المؤمنين، لأن العمر قصير جدا، والمطلوب عظيم جدا. أما قصر العمر فإن الإنسان لا
يدري أيدرك الغد أم لا، فهو في شك في بقاءه ساعة أخرى بعد ساعته التي هو فيها. ومن
هنا كان العمر قصير جدا. وأما كون المطلوب عظيما جدا. فلأن طلب المؤمن هو المغفرة
من الله وجنته ورضوانه. ومن هنا أمرنا الله بالسباق والتسابق نحو تحصيل هذه الخطوة
في دار النعيم المقيم.
وتلكم الجنة ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرض﴾، وذلك معناه أن السموات
والأرض لاشك في وجودهما، وهما معروضتان أمامنا كما نرى، ونعيش فيهما نستظل بالسماء
وننتفع بما فيها، ونمشى على الأرض وننتفع بخيراتها، فكذلك الجنة التي عرضها الله
علينا في القران هي حق اليقين لاشك في تسخير السموات والأرض لنا – وذلك مستحيل، لأن
عرضهما علينا، وتسخيرهما لنا، من البديهيات التي لا يختلف عليها أحد، ومن المسلمات
عند كل الخلق مسلمهم وكافرهم – فإن الجنة بالنسبة للمؤمنين كذلك، والله على كل شيء
قدير.
وإن كُمَّل المؤمنين من أهل اليقين، إذا قاموا إلى عمل صالح،
وطاعة من الطاعات، وشهدوا أنهم قائمون إلى مغفرة الله وجنته، فتسابقت أعضاؤهم
ونواياهم، وعقولهم وقلوبهم ومشاعرهم، كل ذرة فيهم، إلى المغفرة والجنة، إذ أنهم
يرون طاعة الله ورسوله هي جنة النعيم فيسارعون إليها. ويرون المعصية هي نار الجحيم
فيهربون منها.
وتلك
الجنة ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾، وأُعِدَّت يعنى جهزت لهم. وأنها تنتظر قدومهم،
بل أنها تسعى في استقبالهم والحفاوة بهم، كما قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ
لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾، [31،ق].
والإيمان بالله ورسله عمل من أعمال القلوب الذي يشرق نوره
على الأجسام والجوارح فيشدُّها إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه
وسلم
، والتأسي به في أعماله وأقواله وأحواله، وأخلاقه ومعاملاته وعباداته.
والإيمان والعمل الصالح إنما يكون من الإنسان في فترة وجوده
في هذه الدنيا. وبذلك قد انكشف المراد من قوله عزَّ وجلَّ: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾، إلى آخر الآية الشريفة
فاللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، هي الحياة الدنيئة الرديئة
الهابطة الضائعة، وهي عمل لعمارة الدنيا بالحق والعدل والعلم والنفع العام والخاص.
ومن هنا كان يوم الدنيا للمؤمن يوم مغانم ومكاسب، ومنافع وأرباح
هائلة، وتحصيل للمكارم والأخلاق العالية، وأن أنفاسه في هذا اليوم أغلى من النفائس
والدرر والجواهر، وإنه يبخل بأصغر جزء من عمره أن يضيع في غير فائدة، لأنه يعيش
مرة واحدة في كل لحظة من عمره، فهو يعمرها بما يسعده عاجلا وآجلا. وقد قال العارف
بالله: (إن الكون رواية تمثيلية تمثل أدوار جد وكمال، وتحوى فصول هزل ونقص وضلال. وأبطال
التمثيل قسمان: قسم يدعوا إلى الحق، وآخر يهدي إلى الضلال، فالذين يدعون إلى الحق الأنبياء
المرسلون والعلماء العاملون، وأئمة الضلال فرعون وهامان وقارون والنمرود ويؤيد
دعواهم إبليس اللعين وكل مغرور بزخارف الدنيا ونسيان يوم الدين)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعمت الدنيا مطية المؤمن للدار الآخرة}[3].
وقال صلى
الله عليه وسلم: {الكيس دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه
هواها وتمنى على الله الأماني}[4].
والكيس يعنى العاقل، ودان نفسه يعنى حملها المسؤلية وطالبها بالسداد والوفاء،
واتهمها دائما بالقصور والتقصير، وحاسبها بصفة مستمرة على لك، حتى لا تطغى عليه،
ولا تقهره على معصية الله ورسوله. والعاجز هو الضعيف الجاهل الذي ترك نفسه تتبع
هواها وتتمادى فيه، ولم يقو على حبسها ومنعها، فهامت به في أودية الضلال والشهوات،
وتاهت به في أفعال السوء والظلم والمعاصي، فأوردته المهالك والأخطار الشديدة، وأخذ
يمنيها بالأحلام والأماني الباطلة، ويطلب من الله تحقيق هذه الأحلام والأماني بدون
حق: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ
عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾، [39،النور]. وهنالك يندم ويتحسر
ولا ينفعه الندم ويقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، [24،الفجر].
وقد
اقسم الله بالعصر، وهو يوم الحياة الدنيا، تبياناً لقدره وأهميته، وتنبيها على
شأنه وحرمته وقيمته. فقال سبحانه: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، [1-2،العصر]. والعصر هو عمر الإنسان، والمقسوم عليه هو خسران الإنسان
العاجز الغافل الذي لم يدر قيمة عمره وحياته، وأضاعها سدى﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، [3،العصر]. فقد خرجوا
من الخسران وغنموا المكاسب العظيمة في عصرهم، فآمنوا واجتهدوا في فعل الخيرات وعمل
الصالحات، واستمسكوا بالحق والصبر، ووصى بعضهم بعضا بهما، وعرفوا لعمرهم حقه
ومكانته، وانتهزوا فرصته ولم يضيعوا شيئا منه، فطوبى لهم وحسن مآب.
فكم من جأهل مات غما بحسرة، وكم من عالم نال حظا من
الخيرات. وان يوم الدنيا ينتهي بالموت. وأسال الله العلي القدير أن يوفقني وإخواني
المسلمين في هذا اليوم لما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل منا وأن يقبل علينا بوجهه
الكريم، إنه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.