آخر الأخبار
موضوعات

الاثنين، 13 أكتوبر 2014

- طريق الصوفية فى المعرفة

عدد المشاهدات:

الفصل الأول: معرفة الله تعالي
مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس، كما قال تعالى: (فصلت:53). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه فقد عرف ربه)(رواه أبو المظفر بن السمعاني عن يحيي بن معاذ الرازي، وقال النجم قلت وقع في: أدب الدين والدنيا للماوردي عن السيدة عائشة رضى الله عنها).

وروي عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أين الله؟ فى الأرض أو فى السماء؟ قال: (في قلوب عباده المؤمنين)(رواه الطبراني عن أبي عنبة الخولاني رضى الله عنه).

فخاصية الإنسان العلم والحكمة، وهو أشرف الأنواع، وفيه كمال سعادته، وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال، فالبدن مركب للنفس، والنفس محل للعلم، والعلم هو مقصود الإنسان، وحاجته التى لأجلها خلق، فخاصية الإنسان العلم بالله وصفاته وأفعاله، فكمال الإنسان، معرفة حقائق الأشياء، وجملة عالم الملكوت والملك، إذا أخذت دفعة واحدة، تسمي حضرة الربوبية، لأنها محيطة بكل الموجودات، إذ ليس فى الوجود شيء سوي الله تعالى، وأفعاله، ومملكته وعبيده من أفعاله، فما يتجلي من ذلك للقلب فهي الجنة، حسب سعة معرفته، وبمقدار ما تجلي له من الله وصفاته وأفعاله. أما طرق المعرفة، فهي علوم تحصيل فى القلب فى بعض الأحوال، وهي تارة تهجم على القلب، أي تكون بطريق الإلهام، وتارة تأتي عن طريق الاستدلال، والقياس، والشهود، وغيرها من طرق العلم فتكون مكتسبة، والقلب مستعد لأن تنجلي  فيه حقيقة الحق فى الأشياء كلها، لولا الحجب التى تحجب عنه هذه الحقائق، وقد تهب ريح الألطاف، وتنكشف الحجب عن أعين القلوب، فينجلي فيها بعض ما هو مسطور فى اللوح المحفوظ، ويكون ذلك تارة فى المنام، فيعلم به ما يكون فى المستقبل، ولكن ارتفاع الحجاب لا يتم إلا بالموت، كما يتجلي من قول على بن أبي طالب رضى الله عنه وكرم الله وجهه: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".

وهذه الحجب قد ترتفع أيضا فى اليقظة، بلطف خفي من الله تعالى، فيلمع فى القلب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم، تارة كالبرق الخاطف، وأخري على التوالي إلى حد ما، ودوام هذه الحال فى غاية الندور.


من ذلك تري أن الصوفية لم يحرصوا على دراسة العلوم وتحصيلها طلبا للحقيقة، وإنما أخذوا أنفسهم بالرياضة الروحية، والإقبال على الله، اعتقادا منهم بأن ذلك هو طريق المعرفة.

والاجتماع عندهم على أن الدليل على الله هو الله وحده، وسبيل العقل  عندهم فى حاجة إلى الدليل، لأنه محدث، والمحدث لا يدل إلا على مثله، وإذا سألتهم: ما الدليل على الله؟ قالوا: الله. فإن قلت: فما العقل؟ قالوا: عاجز، والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله.( العقل آله للعبودية لا للإشراف على الربوبية) فالعقل يجول حول الكون، فإذا نظر إلى المكون ذاب. ومن لحقته العقول فهو مقهور إلا من جهة الإثبات، ولولا أنه تعرف إليها بالألطاف لما أدركته من جهة الإثبات.

من رامه بالعقل مسترشدا                            طرحه فى حيرة يلهو
وشاب بالتلبيس أسراره                     يقول من حيرته هل هو

ولا يعرفه إلا من تعرف إليه، ولا يوحده إلا من توحد له، ولا يؤمن به إلا من لطف له، ولا يصفه إلا من تجلي لسره، ولا يخلص إلا من جذبه إليهن ولا يصلح له إلا من اصطنعه لنفسه، ومن تعرف إليه بمعني من تعرف الله إليه، ومعني من توحد له، أي أراه أنه واحد. وتدل الآيات كلها أن الله تعالى عرفنا نفسه بنفسه، فقام "شاهد المعرف من المعرفة بالمعرفة بعد تعريف المعرف بها".

ومعرفة الله تعالى و طاعته واجبة، بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل، خلافا لقول المعتزلة، فإن العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو: إما أن يوجبها لغير فائدة، وهو محال، فإن العقل لا يوجب العبث، وإما أن يوجبها لفائدة وغرض، وذلك لا يخلو: إما أن يرجع إلى المعبود، وذلك محال فى حقه تعالى،  وإما أن يرجع ذلك إلى غرض العبد، وهو أيضا محال، لأنه لا غرض له فى الحال، بل يتعب به، وينصرف عن الشهوات بسببه، وليس فى المآل إلا الثواب والعقاب.


إن السبيل الموصلة لمعرفة الله، هي معرفة صفاته وأفعاله، وإن معرفة الله الحقة، مؤدية إلى أن تعرف أن (الله أكبر)، وهذه المعرفة تصل بك إلى أن يكون رجاؤك فى الله وحده، وخوفك منه وحده، وعملك له وحده، وهذا يصل بك إلى أعظم مرتبة من مراتب التوحيد، وتصل بك إلى هذه المرتبة العظيمة، إلى ما هو أعظم منها، بأن ينكشف لك لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل شيء فى الوجود من الله، وبالله، ولله.


الفصل الثاني: العارف

الصوفية لا يطلقون (العارف) إلا على من توالي عليه العلم بالله وصفاته، والنظر إلى مصنوعاته، وغلب عليه ذلك، بحيث صار حالا له، حتى من عرف الله كل لسانه، أي شغلته معرفته به عن ذكر غيره، لأن من عرف الله لا يستغني عن النظر فى عبادته، لوقوعها بحسب ما طلب، وهذا حق، ولابد من دخوله قلبه، والشيطان عدو له، لا يسكت عنه، وذلك باطل، ولابد أن يدركه بقلبه، ثم يتقيه. فقد حكي الله تعالى عن كعب بن مالك وأصحابه، لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وهجروا، إلى أن نزل فيهم قرآن، أنهم  ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وذلك لمعرفتهم بالله، وعظمة رسوله، وتخلفهم عن الجهاد مع رسوله، فكل من عرف الجليل لا يحتمل قلبه الاشتغال بغيره، ولا البعد عنه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم.

الفصل الثالث: وسائل المعرفة

اختلف العلماء فى طريقة المعرفة، فمنهم من قال: إن معرفة تعالى بدليل العقل، ومن لا عقل له لا يعرف الله، وأنا أجاريهم فى قولهم قولهم، وأسألهم: ما هو العقل عندكم؟ هل هو القوة التى بها تدبير المنزل ومجتمعه، وبه اختراع المصنوعات، والغلبة بالسياسات، وتحصيل الفنون؟ فإن قالوا: هو، أنكرت عليهم بالبرهان  الناصع، لأن أكثر العقلاء من هذا النوع كفار بالله تعالي. وإن قالوا: المراد بالعقل، العقل الذي يعقل عن الله تعالى، المعبر عنه فى القرآن الشريف بالنور، فى قوله تعالى: (النور:40). هذا العقل لا يحتاج فى معرفة الله إلى بحث ودليل، ولكنه يحتاج إلى مذكر له بالله تعالى وبأحكامه سبحانه وبأيامه جل جلاله، قال تعالى: (الذاريات:55). وإنا لنري أكثر العارفين بالله من الذين لا يهتمون بما يهتم به العقلاء من الزخارف، وعلي هذا، فمعرفة الله تعالى فضل من الله تعالى، يتفضل به سبحانه على من يشاء من خلقه، وإن أكثر العارفين بالله تعالى هم من أهل التسليم، لا من أهل البحث والجدل، ولعل مولعا بهذا الموضوع يظن إنى  لا أحب طلب المعرفة، فأقول له : إن طلب المعرفة فريضة، قال صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)(رواه ابن ماجة فى مقدمة الباب 17، والمنذري).

وقال صلى الله عليه وسلم: (اطلب العلم ولو بالصين)(رواه ابن عدي والبيهقي من حديث أنس، وكذلك ابن عبد البر والديلمي والخطيب وغيرهم).

فالطلب شيء، والبحث عن دليل شيء آخر، أنما يبحث عن الدليل الجاحد، وإنما يطلب المزيد الواجد، وإن حضرة الإلهية لم ينكرها لله تعالى مجوسي ولا صابئي، ولا من أدني منهم، لأن الإنسان حيوان ديني بالفطرة، وإنما المجهول طريق الوصول إليه، وحقيقة الأدب له، وعلم ما يحبه من العبد من عقيدة وعبادة وقصود وإخلاص وصدق ونية، ولا سبيل إلى العلم بتلك الحقائق إلا بالله تعالى، وقد بعث الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

الفصل الرابع: مراتب المعرفة

العرفان من تفريق، ونقص، وترك، ممعن فى جمع صفات الحق للذات المريدة بالصدق منه إلى الواحد، ثم وقوف.. ومن آثر العرفان للعرفان فقد قال" بالثاني"، ومن وجد العرفان كأنه لا يجده، بل يجد المعروف به فقد خاض لجة الوصول، وهناك درجات ليست أقل مما ذكرنا، تجدها مفصلة فى كتاب (مقامات الصوفية)، على أننا هنا نؤثر الاختصار، فإن العبارة لا تشرحها، والكلام لا يوضحها، ولا يجعلها مفهومة، اللهم إلا من شرب من العين، وسبقت له الحسني، وبصره اليوم حديد، والحق أن الخيال مع خطورته، قد يكشف المقصود لمن صحبوا العارفين، ومن أحب أن يعرفها، فليتدرج فى هذه المنازل، إلى أن يصير من أهل المشاهدة بعين المشافهة، ومن الواصلين إلى العين دون الساعين للأثر، فإنهم ولا شك. فقد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد واجد، مصطلم مؤهل للوراثة، وهكذا دواليك، واحد بعد واحد، فلذلك كان ما يشتمل عليه هذا العلم، ضحكة للمغفل، عبرة للمحصل، ومن سمعه فاشمأز منه، فليتهم نفسه، أو عقله، لعلهما لا يتناسب معهما، وكل ميسر لما خلق له.

الفصل الخامس:مجاهدة العارفين
قد يمسك العارف عن الغذاء مدة طويلة، ويدل عليه وجهان إجماليان ووجه تفصيلي. الأول: أن البدن قد يبقي وقت المرض أياما طويلة بدون غذاء.

الثاني : أن شغول القلب بهم شديد، أو خوف عظيم قد تمر به الأيام، ولا يتذكر الغذاء.

وأما التفصيلي: وهو أن النفس إذا اشتد انجذابها إلى العالم العقلي صار ذلك عائقا لها عن تدبير البدن، فوقفت الأفعال الطبيعية المنسوبة إلى النفس النباتية، وكان الواقع من التحلل ههنا دون الواقع فى المرض، وكيف لا، والمرض الحار مسقط للقوة، وتحلل بحرارته أجزاء المادة، وكثرة حركاته مضعفة للقوة، محللة للمادة؟ أما ههنا مقوية للقوة، وغير محللة للحرارة، وسكونه البدني يقوي القوة، ولا يحلل المادة.

فالعارف أولي بعدم الحاجة للغذاء، وإن تناوله فهو ليقوي سفين الروح وهم الجسد، على أمواج الروح وشعشعان المواجهة اللامع، من إشعاعات القدس فى محيطه الكوني، تجليا بالأسماء، فكيف إذا كان من الذات؟.

وقد يطيق العارف فعلا، أو تحريكا، يخرج عن وسع مثله، والسبب فيه أن الإنسان يكون له حال اعتداله قدر من القوة، ثم يعرض لنفسه خوف أو حزن فيعجز عنه، وقد يعرض له هيئة مقوية، فيقدر على أضعاف ما كان قادراً عليه حالة اعتداله، لما يعرض له فى الغضب، أو المنافسة، أو الفرح، أو الطرب. فلا عجب لو عنت للعارف هزة كما يعرض عند الفرح، أو غشيته عزة كما يغشي عند المنافسة، فازدادت قوته، بل هذا يكون أعظم مما يكون عند الطرب والغضب، وكيف لا، وذلك بصريح الحق، ومبدأ القوي، وأصل الرحمة؟.

العارف قد يخبر عن الغيب، ويدل على إمكانه وجوه إجمالية. أحدهما: لما رأينا الإنسان قد يعرف الغيب حال المنام، لم يبعد أن يقع مثله فى اليقظة، كما هو مدون فى سير الأولياء الصاحين. وثانيهما: حصول ذلك لكثير بيننا فى اليقظة، وحادثة عمر(يا سارية الجبل) وغيرها. وثالثها: أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الحركات السماوية المستندة إلى النفس، التى هي عالمة بالكليات والجزئيات، فتلك النفس هي السبب لهذه الحوادث الأرضية، فليلزم من علمها بذاتها علمها بجميع هذه الحوادث، لما ثبت أن العلم بالسبب، ثم دلنا على أن النفس الناطقة جوهر مجرد، لها أن تنتقش بما فى العالم النفساني من النفس، بحسب الاستعداد، وزوال الحائل، فلا يبعد أن يكون بعض الغيب ينتقش فيه من ذلك العالم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم.

الفصل السادس: الزهد والعابد والعارف

المعرض عن متاع الدنيا هو الزاهد، والمواظب على العبادات هو العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديماً شروق نور الحق فى سره هو العارف.

وقد يتركب بعض هذا من بعض .. الزهد عند غير العارف معاملة، كأنه يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة، وعند العارف تنزة عما يشغل سره عن الحق، والعبادة عند غير العارف معاملة، كأنه يعمل فى الدنيا لأجرة يأخذها فى الآخرة، وعند العارف تنزه عما يشغل سره عن الحق، والعبادة عند العارف معاملة، كأنه يعمل فى الدنيا لأجرة يأخذها فى الآخرة، وعند العارف رياضة لهممه وقوي نفسه المتوهمة والمتخيلة ليحررها بالتعويد عن جانب الغرور إلى جناب الحق، فتصير مسالمة للسر الباطن حينما يتجلي له الحق، لا ينازعه، فيخلص السر إلى الشروق الساطع، ويصير ذلك ملكة مستقرة، كلما شاء السر اطلع على نور الحق، غير مزاحم من الهمم، بل تتفجر له العيون، فينهل ويكون بكليته منخرطاً  فى سلك القدس، بعد التجريد والفناء والمحو والإثبات والتنزيه.


العارف يريد الحق سبحانه لا لشيء غيره، ولا يؤثر شيئاً على عرفانه، ويعبده له سبحانه فقط، ولأنه مستحق للعبادة، ولأنها نسبة الشريف إليه، لا لرغبة أو رهبة، وإن كانتا، فيكون المرهب منه، والمرغوب فيه هو المطلوب، وعند ذلك يكون الحق ليس الغاية، بل الواسطة، وهو دون مراتب العارفين، وعلي كل، فالمستحل وسط الحق معذور من وجه، فإنه لم يطعم لذة البهجة الإلهية فيستطعما، إنما معارفة مع اللذات "المخدجة" (الناقصة)، وقد جن إليها وهو غافل عما وراءها، وما مثله بالقياس إلى العارفين، إلا مثل الصبيان بالقياس إلى المحنكين، فإنهم كما غفلوا عن طيبات يحرص عليها البالغون، واقتصرت بهم المباشرة على طيبات اللعب، وصاروا يتعجبون من أهل الجد ازوراراً عنها، عائقين لها، عاكفين على غيرها، كذلك من غض بصره عن مطالعته بهجة الحق، أغلق كفيه بما يليه من الذات، فتركها فى دنياه عن كره، وما تركها إلا وهو يستأجل أضعافها، والمستبصر بهداية القدس فى شجون الإيثار، قد عرف اللذة الحقة، وولي وجهه سمتها، مترحماً على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضده، وإن كان ما يتوخاه بكده مبذولاً له بحسب وعده.

الفصل السابع: درجات حركات همم العارفين

أول درجات حركات العارفين الإرادة، وهي الرغبة فى اعتلاق العروة الوثقي، فيتحرك سره إلى القدس، لينال من روح الاتصال، ثم إنه يحتاج إلى الرياضة، والرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض:

أولاً: تنحية ما دون الحق عن الإيثار، ويعين عليه الزهد الحقيقي.

ثانياً: تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، لتنجذب قوي التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، فتصرفه عن التوهمات للواقع السفلي، ويعين عليه أشياء: العبارة المشفوعة بالفكرة، ثم ألحان الحكمة المستخدمة لقوي النفس، الموقعة لما يمر بها من الإلهام موقع القول من الأوهام، ثم نفثات الوعظ من العارف الذكي، بعبارة بليغة، ونغمة رخيمة، وسمت رشيد.

ثالثاً: تلطيف السر للتنبيه، ويعين عليه الفكر اللطيف، والعشق العفيف، الذي تأمر فيه شمائل المعشوق، لا سلطان الشهوة.

فإذا بلغت الرياضة حداً ما، عنت له خلسات من إطلاع نور الحق عليه، يلتذ بها، كأنها بروق من لوامع الحق تومض، ثم تخفي رحمة به، وهي المسماة أوقاتاً، وكل وقت يكتنفه وجدان، وجد إليه، ووجد عليه، ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن فى الارتياض، فكلما لمح شيئاً عاج منه إلى جناب القدس، فيكاد يري الحق فى كل شيء، ولعله إلى هذا الحق تستعلي عليه غواشيه، ويزول هو عن سكينته، وينتبه جليسه لاستيفازه عن قراره، فإذا طالت الرياضة لم تستفزه غاشية، وهدي للتلبيس فيه، ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وقته سكينة، فيصير المخطوف مألوفاً، والوميض شهاباً بيناً، ويحصل له مفارقة مستقرة، كأنها صحبة مستمرة، ويستمع فيها ببهجته، فإذا انقلب عنها انقلب حيران أسفاً، ولعله إلى هذا الحد يظهر عليه ما به، فإذا تغلغل فى هذه المفارقة قل ظهوره، فكان وهو غائب حاضراً، وهو ظاغن مقيماً، ولعله إلى هذا الحد تتسني له المفارقة أحياناً، ثم يتدرج إلى أن تكون له متي شاء، ثم إنه ليتقدم هذه الرتبة فلا يتوقف أمره على مشيئته، بل كلما لاحظ شيئاً عبره، وإن لم تكن ملاحظته للاعتبار فيسنح له تصريح من عالم الخلق إلى عالم الحق، مستقر ويتحف حوله الغافلون، ثم إذا وصل إلى المقصود صار سره مرآة مجلوة، فحازي بها شطر الحق، فكان له نظر إلى الحق، ونظر إلى نفسه، وكان بعد متردداً، ثم إنه ليغيب عن نفسه، فيلحظ جناب القدس، وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة، وهناك يحق الوصول، وعندها الالتفات إلى ما تنزه عنه شغل، والاعتداد بما طوع النفس عجز، والتبجح بزينة اللذات من حيث هي لذات وإن كان بالحق تيه، والإقبال بالكلية على الحق خلاص.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم.

الفصل الثامن: ذكر العارفين

العرف من كان قلبه للسانه، والذاكر من استشعر حياء العبودية وهيبة الربوبية عند ذكره
إذا علمت أن الله تعالى يعلم سر قلبك، ويري ظاهر فعلك، ويسمع نجوي خواطرك، فاجتهد أن تغسل قلبك بالأحزان، وتوقد فيه نار الخوف منه، حتى يزول حجاب الغفلة عن قلبك، وعندها يكون ذكرك به مع ذكره لك. قال تعالى: (البقرة: 152). ثم اعمل أن ذكر الله أكبر قال تعالى: (ولذكر الله أكبر) (العنكبوت:45).


ذلك لأن ذكره لك وهو غنى عنك، وذكرك له وأنت مفتقر إليه، عند ذلك يحصل الاطمئنان، قال تعالى: (الرعد: 28). فتحصل على مزيتين فى الذكر: اطمئنان القلب فى ذكر الله، ووجلك منه سبحانه فى حال الذكر، وقال تعالى: (الأنفال:2).

والذكر هنا .. إما ذاكر ذكراً خالصاً بموافقة اللسان للقلب، حتى لا تقع العين على غير الله، وإما ذكر أوصاف لفناء الهمة عن الذكر، قال صلى الله عليه وسلم: (سبحانك لا  أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) ( رواه مسلم فى كتاب الصلاة الحديث 222، وأبو داود فى كتاب الصلاة الباب 148، وكتاب الوتر الباب 5، والترمذي فى كتاب الدعوات الباب 75، 112، والنسائي فى كتاب الطهارة الباب 119، وكتاب التطبيق الباب 47، 71، وكتاب السهو الباب 89، وكتاب قيام الليل الباب 51، وابن ماجه فى كتاب الإقامة الباب 117، وكتاب الدعاء الباب 3، وأحمد فى الجزء الأول صفحة 96،118،150 والجزء السادس صفحة 58،1،20).


العارفون لهم مقام راقِ                      لم يدركن بالعقل والأحداقِ

شهدوا جمال الله بالعين التي               وهبت لهم من منعم خلاقِ

أهل الشهود همو الهداة                     قد جملوا بالحب والأخلاقِ

أسرارهم وهبت لهم من ربهم              والمصطفي الهادي لروي ساقِ

أهل العزائم أنجم  قد أشرقت               بالعلم والأحوال فى الآفاقِ

الشرع مشربهم ووجه حبيبهم              في "حيثما" كالشمس فى الإشراقِ

أهل العزائم نورهم من ربهم               فازوا بحب الله والأشواقِ

أحوالهم فوق العقول لأنهم                  شربوا الطهور بمنعم رزاقِ

من لحظة يرقي المريد مشاهداً             أنوار خير الرسل بالإشفاقِ

خصوا بحب المصطفي وبقربه            بشري لهم بمعية الخلاق

كم من مريد شاهد الوجه العلي            بالروح صرفاً فى مقام راقِِ

بالمصطفي نلنا الصفا بشري لنا           قد لاح للأرواح فى الآفا

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير